ترجمة: عزيز نعمان
Jean Dubuffet, Dhôtel nuancé d'abricot |
في ليلة تنعدم فيها الصور، ترّجها أصوات حالكة،
ووسط أجسام جوفاء تسكنها في جميع الأحوال رغبة واحدة في الدوام سميت الدناءة فوق
الصفحة، التي رسمت عليها زخرفة أولئك الذين وهبوني هدية التنازل عبر ما فيهم من
فراغ. وأنا أعبر ناكرة جاوزت الألف سنة، جُرّد خيالها من هدف علمي ليتبع طيف
الديانات، رأيت تلك الدناءة تبسط ببشاعة -في نهاية المطاف- كامل سلطتها عبر الأدب.
إذا ما تم تقريب زاوية النظر فإن كل
أدب، على وجه الاحتمال، صيغة لتلك الكارثة التي يبدو أنها متجذرة -مهما تكن الظروف
الاجتماعية والتاريخية- في الخط الهش ("الحد الأدنى") الذي لا تكون فيه
الهويات (ذ١ت/موضوع)، أو لن تكون إلاّ هويات مضاعفة ومرتجة وغير متجانسة وحيوانية
وممسوخة ومبدلة ودنيئة.
إنّ عمل سيلين (Céline)[1] الذي يستمد من الحداثة المكابرة المهدمة، أو بالأحرى المكابرة
التحليلية، ويُبقي من الكلاسيكية الكفاءة البطولية المقرونة بالآفاق الشعبية أو
العامة ما هو في النهاية سوى مثال عن الدناءة على غرار أمثلة أخرى.
كان بإمكان بودلير (Baudelaire)[2]
أو لوتريامونت (Lautréamont)[3] أو كافكا (Kafka)[4] أو ج٠ باتاي
(G.Bataille)[5] أو سارتر
(Sartre)[6] (الغثيان -La Nausée-)،
أو كتاب محدثين آخرين أن يساهموا بطريقتهم في التسمية التي نزلت بها إلى الجحيم،
أي تسمية الهوية التي نقبل دلالة. لكن قد يكون
سيلين أيضاً مثالاً مميزاً ومن ثم سهلاً، ذلك أن فظاظته المتولدة عن
المأساة العالمية للحرب الثانية لم تستثن فضاء في فلك الدناءة؛ فلم تستثن ما هو
أخلاقي وسياسي وديني وجمالي، ولا استثنت ما هو شخصي أو عرفي بشكل أخص. وإن بين لنا
(سيلين) من خلال ذلك إحدى النقاط القصوى التي يمكن بلوغها، وهو ما يوافق
العدمية عند رجل الأخلاق، فإنه يكشف كذلك عن قدرة على التأثير تمارسها منطقة
البشاعة تلك على كل شيء بصورة ظاهرة أو خفية. وما يسعى هذا الكتاب** لإظهاره هو
معيار الذاتية (أعتقد أنه معيار كوني) الذي تستند إليه تلك البشاعة وكذا دلالتها
وسلطتها. وأنا أفترض أن يكون الأدب دالاً مميزاً لها، سأحاول أن أبين، على خلاف التصور
العام الذي يجعل منه هامشاً مصغراً لثقافتنا، أن ذلك الأدب -أو الأدب بصورة عامة- تشفير
نهائي لأعمق آلامنا ومصائبنا وأخطرها. وتتأتى من ثم سلطته الليلية "الدجنة
العظمى" أونجيل دو فويبو (Angèle de Folignojja)[7] -وتتولد
شبهة دائمة فيه: "الأدب والشر" (جورج باتاي)، كما يصير حاملاً
للشعلة المقدسة التي، وإن غابت عنا فإنها لن تمنحنا راحة البال وهي تستعين بسحرة استقدمتهم
من كافة آفاق الشر. إن الأدب، وهو يحتل مكانته ويستحوذ نتيجة ذلك على السلطة
المقدسة للبشاعة، قد يكون أيضاً مصباً لما هو دنيء لا محاولة أخيرة. إنه مصب الدناءة
وتفريغ لها عبر الكلمة المضطربة.
إن حالة عدم اليقين تلك، التي أسميها
الدناءة، وإن تأتت عن الأم -"الأمومة"- فإنها تصلح في إرشاد الكتابة
الأدبية بخصوص المعركة الأساسية التي على الكاتب (رجلاً كان أو امرأة) أن يخوضها دون
أن يطلق اسم الجنون على ما يُثبتُ أنه
ضِعْفٌ لصيق به وكذا آخر (الجنس المقابل) بشغله ويسكنه.
أيكون ما يتملكنا ونحن نكتب لبلوغ
حالة تطهير مجهولة هو غير الدناءة؟ لن يكون
ثمة سوى حركة نسوية راغبة في الإبقاء على سلطتها -وهي آخر الإيديولوجيات المطالبة
بالسلطة- للتنديد بالمغتصب أمام ذلك الفنان الذي يعد هازماً للنرجسية، حتى وإن جهل
ذلك، وكذا لكل هوية وهمية بما في ذلك الهوية الجنسية.
على الرغم من ذلك ما فائدة الإصرار
على صفة البشاعة في هذا الزمن الموشوم بأزمة تعاسة؟
بإمكان أولئك الذين اقتادهم مسار
تحليل كتابة و تجربة مؤلمة أو مثيرة إلى فض بكارة السر الجمعي الذي يتوارى خلفه حب
الذات والآخر قصد النظر إلى هوة الدناءة التي تكبلهم، بإمكانهم أن يقرؤوا هذا
الكتاب غير القراءة التي تجعل منه ممارسة فكرية، لأن الدناءة بعبارة مختصرة، هي
الواجهة الأخرى للشفرات الدينية والأخلاقية والإيديولوجية التي تبني عليها إغفاءة
الأفراد وهدوء المجتمعات النسبي. إن تلك الشفرات هي التطهير والكبت، لكن عودة ما
هو مكبوت فيها يشكل «كارثتنا» التي لا سبيل لنا فيها من الهروب عن التشنجات
المأساوية للصدمات الدينية.
يكمن اختلافنا الوحيد المترتب عن ذلك
في عدم رغبتنا في مواجهة الدنيء وجهاً لوجه. من يود أن يكون نبياً؟ لقد فقدنا
الإيمان بدال وصي (signifiant
Maître). نفضل التوقع أو الإغراء: التخطيط، التعهد بتحقيق شفاء أو
التزيين؛ ممارسة ضمان اجتماعى أو إنجاز فن دون الابتعاد عن وسائل الإعلام.
أسألكم— بوجيز العبارة- من يقبل أن
يقول إنه دنيء، وإنه موضوع الدناءة أو موضوع لها؟
لا شيء يُوجب على المحلل النفسي أخذ
مكان المتصوف؛ فلا تزال المنظومات المرتبطة بالتحليل النفسي تبدو قليلة التكيف،
طالما أن الفساد الأصلي الكامن فيها يوجهها إلى تحنيط ما يقع من تحول إثر عملية
إنتاج حالات جنونية صغرى (Mini-Paranoïaqnes) إن لم يكن الأمر مقتصراً
على حالات ضعف عقلي أحادية النمط ليس إلاّ. ومع ذلك، قد يكون بإمكان المحلل-إذا ما
استطاع الالتزام بالمكان الوحيد المخصص له وهو الفراغ أي ما لا يمكن تصوره من
الميتافيزيقا— بإمكانه أن يُصغِي أو يُصغَى إليه وهو يبني خطاباً حول خُصلة البشاعة
تلك أو السحر التي تنبئ بنقص حاصل عند الذات المتكلمة، لكنها إذا ما أدركت وكأنها
أزمة نرجسية في حدود ما هو أنثوي أنارت بشعلة ساخرة الادعاءات الدينية والسياسية
التي تسعى لمنح المغامرة الإنسانية دلالة. فمقابل الدناءة ليس للدلالة دلالة إلا
وهي مفككة ومرفوضة ومدانة: هزلية "إلهية"؛ "بشرية" أو "لمرة
أخرى"، لا تكون الكوميديا أو الخرافة إذن قابلة التحقق إلا بدءاً من المستحيل
القادم أو القاطع، لكنه هاهنا موضوع ومُثبَتٌ.
باعتبار المحلل - المقيد إلى الدلالة
مقدار تقيد ببغاء روسيل (R. Roussel)[8] بمربطه***-يؤول فإنه بكل تأكيد
واحد من الشاهدين النادرين على أننا نرقص فوق فوهة بركان. أن يستمد من ذلك الوضع
متعته الفاسدة، فله ذلك، شريطة أن يقوم بصفته رجلاً أو امرأة لا صفة له بتفجير
منطق وساوسنا وأحقادنا الأعمق دفناً. أيمكنه بذلك أن يصور البشاعة دون أن يغنم
بسلطة منها؟ أيمكنه أن يعرض البشع دون أن يلتبس به؟ من المحتمل أن لا يحدث ذلك،
لكن بمعرفة ذلك معرفة ملغمة بالسهو والمزاح، معرفة بشعة، فإنه(ها) سيقدم على اجتياز
أول تعمية (Démystification) كبرى للسلطة (الدينية، الأخلاقية، السياسية، العرفية) التي شهدتها
الإنسانية والمتولدة بالضرورة وسط حالة اكتمال الدين كبشاعة مقدسة هى بشاعة
التوحيد اليهودي- المسيحي. فليواصل في الوقت ذاته آخرون مسيرتهم الطويلة اتجاه
معبودات وحقائق من شتى الأصناف مجندين بإيمان لن يكون إلا إيماناً حقيقياً بالحروب
المستقبلية، حروب مقدسة بالضرورة...
أيكون ما ابتغيه لنفسي شاطئاً هادئاً
من التأمل حينما أضع البشاعة المغذية أسفل المساحات الدنيا والمستوية للحضارات التي
تعمل على إبعادها: بتطهير البشاعة الممنوحة وتنظيمها وتصويرها قصد بناء الذات
والاشتغال؟ أراه بالأحرى عمل تخييب وكبتاً وتفريغاً... إنه الوضع الوحيد على وجه
الاحتمال، الذي يحقق توازناً مع الدناءة. أما ما بقي -آثاره وتشكله- فما هو إلا
أدب: أوج نقطة تنهار فيها الدناءة بفعل انفجار الجميل الذي يغمرنا... و«ليفقد كل
شيء وجوده»(سيلين).
الهوامش:
*
ورد هذا النص في كتاب لجوليا كريستيفا، يحمل العنوان ذاته، ولمزيد من الاطلاع نقدم
فيما يلي المعلومات المتعلقة بالكتاب:
Julia Kristiva, Pouvoirs de l’horreur-Essai sur
l’abjection,Seuil, Paris, 1980 (De
la p.243 jusqu’à la p.248)
1)
لويس فريناند سيلين (Louis Ferdinand Céline)
(1894-1961): طبيب وكاتب فرنسي، حظيت أعماله الكثيرة بشهرة
عالمية. من بينها: "رحلة في جوف الليل". ((Voyage au
bout de la nuit)(1932)، "موت
مأجور" (Mort à crédit 1936)، "شمال"
( Nord)(1960)،
"جسر لندن"( Le Pont de
Londres)(1964) ،...
2)
الشاعر الفرنسي شارل بودلير (Charles Baudelaire)
(1821-1862)، صاحب ديوان شعر "أشعار ١لشر" (Les fleurs du mal) (1852).
3)
إسيدور لوسيان دوكاس ( 1870-1846)(Isidore Lucien
Ducasse) اشتهر باسم كونت دولوترمونت
(Comte de Laureamont)، وهو شاعر فرنسي
أوروغوايي، صاحب ديوان شعر "أغاذي مالدرور" (Chants de Maldoror) وكراستين: أشعار I (Poésie
I) واشعار
II .(Poésie II)
4) فرانتز كافكا (Frantz Kafka)
(1883-1924) كاتب تشيكي باللغة الألمانية، صاحب مؤلفات ثلاثة: "القضية" (Le procès)،
"القلعة" Le
château) )- "يوميات"
(Journal intime).
5)
جورج باتاي (Georges Bataille) (1892-1962)، كاتب
فرنسي، دارت أعماله في فلك الأدب والأنتروبولوجيا والفلسفة والاقتصاد وعلم الاجتماع وتاريخ الفن، ومن
أشهرها: "تاريخ ١لعين" (Histoire de l’œil)
(1928)، "السيدة إدوارده" (Madame Edawarda)
(1932)، "التجربة الباطنية" (L’expérience intérieure) (1943)، "النصيب
الملعون" (La part maudite) (1949)، "الأدب والشر" (La littérature le Mal ) (1952)، "١لمستحيل" (L’impossible)
(1962).
6)
جون بول سارتر (Jean- Paul Sartre) (1905-1980): فيلسوف وأديب (مسرحي و روائي و قاص) وناقد فرنسي،
أدرجت مفاهيمه الفلسفية ضمن ما عرف بالنزعة الوجودية. من أشهر أعماله: "الغثيان"
(La Nausée)، "جمهورية الصمت"( La
république du silence)،
"الذات والعدم" (L’ Etre et le Néant)،
"الذباب" (Les
Mouches)، "الكلمات"
(Les Mots)، "ما الأدب؟" (Qu’est-ce que la littérature?)
**
إشارة إلى الكتاب في كليته، لأن النص المقترح هو آخر النصوص (النص الحادي عشر).
7) أونجيل دوفولينيو
(Angèle de Foligno) (1248-1309) امرأة دين ايطالية عدت من أولى المتصوفات التي اعترفت
بها الكنيسة الكاثوليكة الرومانية. يعد نصها الذي عرف تحت عنوان: "كتاب
أونجيل دوفولينيو" (1285-1298) من كبار الأعمال المندرجة ضمن ها يعرف بالكتابة
الصوفية.
8)
ريموند روسيل (Raymond Rousse) (1822- 1933): كاتب ومسرحي وشاعر فرنسي.
يعد من أوائل الكتاب السرياليين. من أعماله: "روحي" (Mon Ame)
(1894)، "الازدواجية" (La doublure)
(1892)، "خواطر من إفريقيا" (Impressions d’Afrique)
(1910). "خواطر جديدة من إفريقيا" (Nouvelles Impressions d’Afrique ) ، "كيف ألفت بعضا من كتبي".
(Comment j’ai écrits
certain de mes livres)
(1935).
*** تلمح كرستيفا إلى بيت من قصيدة
الشاعر .."روسييل".. (خواطر جديدة من إفريقيا) القصصية قصد تقريب السياق
إلى ذهن القارئ. نورد فيما يلي بعض أبيات القصيدة- مترجمة ترجمة حرة ومتبوعة
بأصلها الفرنسي-:
S’il peut
rire, chanter, siffler, faire des frais
|
إذا ما استطاع الضحك والغناء والتغريد والكلام
|
C’est que le
perroquet se fait vite a la chaîne
|
فذلك
لأن الببغاء يألف القيد بسلام
|
Qui-lui qui
sait vieillir comme vieillit un chêne
|
هو
من يعرف الكبَر معرفة القرو الهرَم
|
Quand nul
n’est au persil des mets où son bec mord
|
لما
ينخدع فُوه بما لا يمنح لسواه من طعام
|
Le rive à son
perchoir et l’y rivera mort
|
نعلق
بمجثمه فيثبت ميتا على الدوام
|
ينظر:
Raymond Roussel, Nouvelles Impressions d’Afrique,
HIBOUC, France,
المصدر: مجلة الخطاب المغربية، العدد 7، 1 يونيو 2010، صص 263-268
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق