ترجمة: محمد ميلاد
جان -لوك نانسي |
ما
يمكن أن نقوله عن الحضور المتغيّب هو دائماً أمر واحد من أمرين: إمّا حقيقته أو
تاريخه. وبالطبع يجدر أن يتعلّق الأمر بتاريخه الحقيقيّ. ولأن الحضور قد انسحب ليس
من المتأكّد البتّة أن أي تاريخ يخصّه صادقٌ تماماً: ذلك أنه لا حضور يمكن أن يشهد
به. ما يتبقى ينقسم إذن اثنين: التاريخ والحقيقة. لكليهما المصدر نفسه كما يتعلقان
بالشيء ذاته: الحضور نفسه الذي انسحب ويتجلّى انسحابه إذن كالخطّ الذي يفصل
الاثنين: التاريخ والحقيقة. نسمّي موتوس [muthos] رواية الأحداث والأهواء [passions] الإلهية التي يوجد دائماً من ضمنها ما يَنظر إلى العالم وسيره
وإلى الإنسان ومصيره. تعني كلمة "موتوس" القول الخاص بشيء ما، ما يتم
التعريف بالشيء بالقضيّة: باللاتينية يعني ذلك سَرْدَه [narrotio] وهو المعرفة الخاصة به. في
انسحاب الآلهة، لا يمكن لتاريخهم أن يكون ببساطة حقيقياً ولا أن تُروى حقيقتهم
ببساطة. ما ينقص هو الحضور الذي يشهد بوجود ما يروى وكذلك بصدق الكلام في ما
يُروى.
ما
يُروى هو جسد الآلهة: يظلّ أوزيريس ممزّق الأعضاء، قد مات البان الأكبر(1). ما
ينقص هو الجسد الذي ينطق بنفسه بحقيقته: تمثاله الملطّخ بدم الضحايا، المشبّع
بأبخرة البخور أو الغابة المقدّسة التي يسمع فيها خرير العين التي ينهمر منها
حضورٌ باطني.
ما
ينقص هو هذا الجسد الناطق، يتبقّى ما يمكن أن يقال –وقد أصبح المُنقال لا
جسدياً مثل الفراغ والمكان والزمان. إنها الأشكال الأربعة للاجسدي، أي للمسافة
التي يمكن أن توجد فيها أجساد لكنها ليست جسداً أبداً. إن خاصية المسافة الفاصلة
هي الانفتاح والانقسام. المُنقال لا يُعطي، هو ملتحم مع الجسد الإلهي،
صلاةٌ في شفتيه: ينفصل عن نفسه ويتمدد (لوغوس).
تنفصل
الحقيقة والسرد عن بعضهما إذن. يرسم انفصالهما الخطُّ نفسه الذي يُسطّر تحت انسحاب
الآلهة. جسد الآلهة هو ما يتبقى بين الاثنين. يبقى هناك مثل غيابه الخاص. يبقى
جسداً مرسوماً، جسداً مجازياً، جسداً محكيّاً: لكن لا مواجهة مقدّسة جسداً لجسد.
بين الأدب والفلسفة ينقص هذا التشابك، هذا الاحتضان، هذا التلاحم المقدّس بين الله
والإنسان أي مع الحيوان والنبات والصاعقة والصخرة. التمييز هنا هو فصل التشابك
وحلّ الارتباط. ويقطع الالتحام المنفصل بالشفرة الأكثر حدّة: غير أن الانقطاع يحفظ
ارتباطات التشابك إلى الأبد. بين الاثنين يوجد ما يتعذّر فصله.
تنفصل
الحقيقة والسرد إذن عن بعضهما بحيث أن انفصالهما هو الذي يُنشئ كليهما. ودون
انفصال لن تكون هناك حقيقة أو سرد: سيكون ثمة جسد إلهي.
ليس
السرد مؤّهلاً لافتقاره للحقيقة أو متّهماً بذلك فقط بل إنه محروم منها مبدئياً
بما أنه محروم من الجسد الحاضر كنطقه الخاص وظهوره الخاص. هذا الحرمان هو أيضاً
الحرمان الخاص بالحقيقة والحقيقة هي مبدئياً معزولة وفي حالة انسحاب، غير قابلة
للتصوير وللسرد. تصبح الحقيقة نقطة استهراب(2) تزيغ لتصبح نقطة استفهام. تصبح
الحقيقة "ما الحقيقة؟" ومع ذلك يظلّ تخطّي السؤال والتحرّر منه نقطة
استهراب وأفق التصور اللانهائي لما يسمّى اللوغوس.
يعرض
السردُ صوراً: يتم اختلاقه مثل تشكيل الصور عموماً، أي رسم التعرجات التي يتميّز
بها جسد ما ويبرز كجسد أولاً. لكنه رسمٌ يبقى ملتبساً إذا كان الجسد الذي يحصر
خطوطه حقيقياً. يعرض التخطيط السردي ظهوراً للجسد هو غير متأكّد من أنه جسد بيّنٌ
بشكل مماثل. أو أ متأكّد من أنه ليس كذلك؟: إن السرد إذ يرسمه يعلن غيابه. إنه
الرسم نفسه الذي صنع الإله ذاتَه –عبر الاحتفال بالقدّاس لرأس ابن آوى أو قطرة
صُمغ في خاصرة شجرة- ويشكّل الآن صورته. لكن هذا التخطيط ينقسم بذاته: لا حضور
للجسد الإلهي.
يستهدف
إذن تصور الحقيقة هذا الغياب بوصفه المكان لما يرغب فيه والذي يسعى إلى إبراز
غيابه. بإبراز الغياب –وذلك عبر الصورة ذاتها والتقليد والتمثيل والترميز
والأساطير والأدب- يقول هذا التصور الحقيقة: يقول إنه نقيصته وإنه في وضع غير
ملائم (الخطأ، الوهم، الكذب، الخداع). وهذا التصور عندما يقول هذه الحقيقة فهو لا
يقول مع ذلك إلاّ نصف ما هو حقيقيّ: ما ينقص هو الحضور من الجانب الآخر للصورة أو
في الصورة ذاتها. لكن خطاب الحقيقة يعلن أن هذا الحضور موجود وراء الكائن. ويدفع
هذا الخطاب نفسه إلى تخوم هذا الماوراء حيث يغرق في ضوء غامر، في انبهار تتهدم فيه
كل صورة ممكنة.
بين
الصورة والانبهار يظلّ الجسد الإلهي غائباً. يبقى جسدٌ متفرّد للغياب يمتدّ إليه
السرد وتصوّر الحقيقة من كل جانب. يصف الأوّل أشكال الجسد ويرسم الثاني تجويفه.
بين الموصوف والمرسوم، المكتوب وحده رمز خطّي لا نهائي محفور في رصاص ختم معلّق في
مكان الانسحاب. يؤدّي المشهد حول قبر فارغ، حول مومياء جوفاء، حول بورتريه لا يشبه
أحداً: حول جسد يصبح منتجاً ومنطوقاً به كـ "جسد" أي، كخارج غائب. لكنه
مشهدٌ وهو يؤدي بالفعل. هو مشهد يتزامن فيه المأتم والرغبة: الفلسفة والأدب، كلّ
منهما في حداد ومسكون بالرغبة بالنسبة إلى الآخر لكن كلاًّ منهما ينافس الآخر في
الحداد والرغبة. إذا انتصر الحداد وأصبح سجين الشعور بالتخلّي الرباني إلى ما لا
نهاية يغرق أحدهما في الحزن العميق ويخنقه الجسد الضائع. لكن هذا الأخير هو في آن
صورة الآخر بالنسبة لأحدهما. تختنق الفلسفة بالأدب المستحيل –بأدب هو مستحيلها
الخاص بها- أو العكس.
إن
الأدب أحياناً هو الذي يقود الحداد الذي تعيشه الفلسفة أو تنفيه. كما أن
الفلسفة هي التي تدعم أحياناً الغياب الذي يطلبه الأدب بمساحيقه. لكن
إيماءة أحدهما يمكن أن تكون أيضاً صنيع الآخر. هكذا يمكن وجود قصيدة فلسفيّة
تُستنفذ في رغبة الآخر: يصرخ زرادشت في النهاية: هل أبذل إذن قصاراي من أجل السعادة؟
إنني أبذل قصاراي من أجل ما أنجزه من أثر كما يمكن أن يكون هناك تفكير مرتبط دون
تديّن في أبياته بفينوس ينهي على هذا النحو قصيدته عن الطبيعة وهو يصف الطاعون:
«على المحرقات الذي أُعدّت لآخرين/ يضع رجال بشراً من دمهم وعم يصرخون عالياً/
يقرّبون المشعلة، يخوضون صراعات/ دموية ولا يهجرون الأجساد».
عدم
التخلّي عن الأجساد وربما بالرغم من الأثر [œuvre]، تلك هي المهمة. عدم التخلّي عن
أجساد الآلهة دون رغبة في التذكير بحضورهم. عدم التخلّي عن واجب الحقيقة أو عن
واجب الصورة دون ملء البون الذي يفصلهما مع ذلك بالمعنى. عدم التخلّي عن العالم
الذي يصبح دائماً عالماً أكثر فأكثر ويخترقه الغياب أكثر فأكثر ويتباعد أكثر فأكثر
ويصبح لا جسدياً دون إشباعه بالدلالة والكشف والإعلان أو فكرة النهاية. إن غياب
الآلهة شرط الاثنين الأدب والفلسفة وهو الما بين الاثنين الذي يقرّ شرعيّاً بكليهما
باعتبارهما لا لاهوتيين بصورة لا تقبل الانعكاس –لكن من واجب كليهما الاعتناء بما
بين الاثنين: إبقاء الجسد منفتحاً ومنحه فرصة هذا الانفتاح.
الهوامش:
*)
ماغزين ليترير، نوفمبر 2000.
1) Pan هو إله الرعاة من أركارديا
(اليونان) حيث انتشرت عبادته أولاً ثم في اليونان عامة كرمز للخصوبة. جُعل منه في
مصر القديمة (بالرجوع إلى معنى اسمه في اليونانية) رمز للسكون. واعتبرت فيما بعد
الصيحة الواردة في مارواه بلوتارخس: "قد مات البان الأكبر" قولاً يُنبئ
عن موت الوثنية.
2)
الاستهراب: نقطة تلاقي الخطوط المتوازية (في الرسم المنظوري)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق