ترجمة فؤاد أعراب
جوليا كريستوفا |
لماذا تمنع الكنيسة الكاثوليكية الرهبان من الزواج؟ لماذا تفرض
بعض التيارات الاسلامية على النساء ارتداء الحجاب؟ كيف يمكن تفسير كل هذا الخوف من
الرغبة وهذا الإنكار للجسد؟ هل يتعارض الإلهي مع الجنس؟ ماهو موقف القوى الوثوقية التي
استقطبت العديد من الأتباع، من المسألة الجنسية؟ أكيد أن كل الديانات اهتمت بالجنس،
لكنها اختلفت في طريقة تأويله، إذ لم تكن كلها تبث الخوف من الجنس في نفوس معتنقيها،
ولم تجمع كلها على رفض اللذة، أو اعتبار المرأة مصدراً للفوضى أو مجرد وسيلة للانجاب.
في هذه المقالة، تحاول المفكرة الفرنسية ذات الأصل البلغاري جوليا
كريستيفا التأريخ لمسار الجنسانية في علاقتها بمختلف الأنساق الدينية المؤطرة للوجود
وللتاريخ الإنسانيين. وتفترض أن المسألة الجنسية لا ينبغي أن تدرس في صورتها الخامة،
كما دأب على ذلك بعض علماء البيولوجيا أو القانونيين الذين غالوا في تفسير الظواهر
الانسانية تفسيراً إمّا بيولوجياً أو قانونياً، وأهملوا الأبعاد النفسية والاجتماعية
والثقافية... كما أن المعاني والرموز الثقافية والدينية التي تشكلت عبر السيرورة الزمنية
الطويلة والمعقدة لايمكن تفسيرها بالقراءة الظاهرية للنصوص الدينية، بل بتأويل هذه
الأخيرة واستحضار التحولات الجذرية التي عرفتها العلاقة رجل-امرأة والتي انعكست بشكل
أو بآخر في الطقوس الدينية المنظمة للمجتمعات. حسب كريستيفا يندمج السلوك الجنسي
مع المعاني الدينية في إطار اتحاد أزلي بحيث لايمكن فصل أحدهما عن الآخر. علماً أن
المؤسسات الدينية ظلت منذ القديم راعية للجنسانية بصيغ مختلفة وتراوحت إجراءاتها بين
المنع والقمع الصارم أو السماح بالطقوس الاباحية في المعابد.
*********
الإنسان كحيوان ناطق هو في الحقيقة حيوان اجتماعي، لكنه على الخصوص
كائن شبقي. تدرك الأديان هذا الأمر، لذلك تجعل من الشبقية موضوعها وماهيتها، في أحسن
الأحوال وأسوئها. فهل تشكل بذلك آلات لإنتاج الأخلاق بغاية قمع الجنس؟ هل هي خبيرات
وضالعات في الشبقية؟ علماً أن هذه الأخيرة تبرز في طقوسها، تندس بين ثنايا الكتابات
الصوفية وتغذي لاوعي أتباعها من خلال الفنون التي تحتفي بها مع و ضد النزعات الدوغمائية.
هل هي منبع نفسي و بين- ثقافي (interculturelle) للمساءلة في زمن القلق في
الحضارة؟
بعد أن أرهقتهم «الجنسانية» الخاضعة للنزعتين البيولوجية والقانونية،
المرفوعة إلى درجة النجومية، المرتدية قناع الضحية والمبتذلة، يشن الحداثيون في الغرب،
وأيضاً خارجه، هجوماً ليتسوقوا الروحانيات «المخوصصة» هي أيضاً. وفيما تنغلق السلطات
الدينية على الذات حول الأصوليين، نجد أن «القاعدة» تبدو أكثر تسامحاً تجاه «الظرفاء»،
«الآخرين»، المثليين، النساء... هل هو أفيون جديد للشعب؟
لقد سعت علوم الإنسان والمجتمع جاهدة إلى قطع أواصر هذا «التقليد»
ونزع قداسة الانسان الديني (homo religiosus) منذ إنسان النيونديرتال (neanderthal) إلى الإنسان الحديث، لكنها
لم تلغ شيئاً من الإغراء الذي يمارسه الديني، باعتباره المنعطف الغريب الذي تلتقي فيه
الرغبة مع الممنوعات.
على الفور، وخلال الحقبة التاريخية ماقبل البشرية، تم تجاوز الإثارة
الجنسية من طرف «الكبت الاصلي» [فرويد] كما أن التوالد البشري ذاب في صيغة عشائر،
أسر: في المغارات نجد الشطحات الشامانية، وعلى السطح نصادف القواعد الأولية للقرابة
المرافقة لمنع زنا المحارم: وجهان لعملة واحدة، بحيث لاوجود لأحدهما من دون الآخر.
وبعد أن كانت الجنسانية في الجوهر لااجتماعية، تمت مصادرتها في جميع صورها من طرف الإلهي:
لقد أصبحت مقدسة. وحتى تحت قبة اللذة السوداء، فإن الخجل، باعتباره الدرجة الصفر من
الحياة النفسية، وكذا الموت، رفيقه المهاب والمؤله، حافظاً على الإشارة المحتفلة بالقداس.
لا يشعر إنسان لاسكو (Lascaux) ، شوفيه (Chauvet) أو بيش ميرل (Pech-Merl) بالندم، بل يسجل حضوره برسوم،
بعقد (noeuds) و«بأيادي سلبية». بإسقاط دوافعه على سباق الخيول أو على الماموثات
(mamouths)، وعلى هذا الفرج الأنثوي الضخم الذي يعلوه رأس ثور البيسون (bison)، كما في مغارة شوفيه (chauvet) [32000 سنة ق.م]. منزوع من المجتمع الذي ينبض بالحياة الذي يتركه على السطح، يرسم
هذا الإنسان سر فظاعته الاصلية يصرخ، يغني، يرقص ويرسم ليجعل من نفسه حيواناً وامرأة.
و«يموت من أجل ألا يموت»- كما تشهد على ذلك تيريز دافيلا (Thérèse
dAvila)، بالإضافة
إلى التمارين الروحية لـ إغناس دي لويولا (Ignace
de Loyola) التي تتصل
بآلام المسيح عن طريق توظيف الحواس.
ثابتة
انتروبولوجية
كجهد لايطاق بين الهوى والتوالد، يتحالف الفضاء النفسي المحتال
للإنسان العاقل والديني (Homo sapiens et
religiosus) [الذي لايشعر
قط بالإرتياح]، مع المستحيل [الموت، الإختلاف الجنسي]، ويخلد ويعدل ذاته على مر العصور
الدينية.
يعثرالتحليل النفسي في الشبقية على ثابتة أنتروبولوجية: الحاجة
إلى الإيمان مقترنة مع الحاجة إلى المعرفة. لقد ألح جورج باطاي (Georges
Bataille) [1897-1962] على هذه المسألة في كتابه
الشبقية (Erotisme) [1957]، لكن هاتين الحاجتين أصبحتا في مهب الريح في ظل الإنسانية مابعد-
التوتاليتارية ومابعد الذرية، التي تورطت مسبقاً في هذا الإنكار للشبقية التي اختزلت
إلى جنس ليبرالي ومسير. إقرأوا، أنصتوا، شاهدوا: إعلاء الدوافع هو الذي يعد شبقياً،
ووحده تطهير الإستيهامات في دقة الرموز والعلامات يقود المتعة إلى السمو. تلك هي الحقيقة
التي تشتغل في التجربة الدينية وتنفصل عنها، منذ الرسوم الجدارية ماقبل التاريخية إلى
الأناشيد القداسية لـ باخ (Bach)، من ريشة بيكاسو (Picasso) إلى أريكة فرويد (Freud). جنباً إلى جنب مع الدناءة
التي، عندما تنفجر في البيدوفيليا أو في عقوبة الرجم، لا تفسر فقط بشطط المؤسسات، لكنها
تكشف عن الحدود والأخطاء الكامنة في التعايش الإلهي مع الجنس.
تدين العلمانية عن صواب التجاوزات القمعية والظلامية للأديان،
النزعة التمييزية للمؤسسات الدينية بين الجنسين، المغالاة في التعاطف مع رغبة «الأب»،
والإثارة، الإغراء، الخوف، التحرش، أو اضطهاد المرأة والأم. يحل الزمن الذي سيضيف إلى
هذا الصراع صراعاً من نوع آخر، ليس أقل قساوة وذا نفس عميق: «قلب القيم» [نيتشه]
المحطم للتقاليد، عن طريق بلوغ جوهر هذا الإغراء للشبقية الذي تجيده وتبرع فيه التقاليد.
بالتأكيد، تحتفل المجتمعات ذات البقايا القوية للنسب الأميسي
بآلهة نسائية، كما هو الشأن بالنسبة للهندوسية والتنترية (tantrisme)، حيث يتم تمجيد الثنائية
القطبية الكونية في طقوس العربدة لينغا يوني (linga-yoni)؛ كما يسمح اليين-يانغ (yin-yang) في الديانة الطاوية بممارسة
طقوس زواج الآلهة (rites hiérogamiques)، وقد تسربت هذه الأخيرة كذلك
الى الكنفوشيوسية؛ وتوجد أيضاً مجتمعات «بدون أب أو زوج»: قبائل النا (Na) في الصين الحالية. في حين
أن الحقيقة العليا، البراهما (le brahman)، هي من طبيعة محايدة؛ أما
البوذية، التي تنصح باجتناب الزهد وتلتزم بالإمتناع عن الرغبة التي تفسر كمصدر للألم،
فتنفصل عن الحياة وعن الحب وتبدو في العمق محتقرة للنساء (misogyne). إن ممارسة وضبط الشبقية
الجنسية هي في جميع الأحوال من اختصاص الرجال.
يتجلى الأزلي ذاته كذكر وكأب. لكن، في بداية التوراة؛ يجسد الله
المذكر والمؤنث: الحكمة، كبعد أنثوي وأمومي، تحمي عرش وحميمية الرب (Yahvé)، إله التوراة؛ واتحاد آدم
معه (demouth) يمنح نوعاً من الثنائية الجنسية للإنسان الأول [فيما حواء «الحياة»
تندس في السلط القهرية للملكات التوراتية، وتنتظر قدوم الحركة النسوية]. يجد آدم الأرضي
(adamah) نفسه، بسرعة مالكاً لمرأة خلقت من ضلعه، لتكون أنيساً له وتقوده إلى
الخطأ: حواء المحاورة، رغم أنها عون ومقابل ضروري، فهي مجرد ثغرة (nékéva)**. بواسطة الختان، لا يختار
الرب إلا الرضيع الذكر؛ بينما تظل الفتيات والنساء وراء الستائر أو في شرفة الكنيس.
هذا الإختلال ليس أقل عرضة للضبط والتأطير من طرف عقد الزواج الذي يرفع الجنسانية إلى
درجة الروحانية، إن الإتحاد مع الرب هو على صورة الإتحاد بين الأزواج. وباحتضانه لهذه
الشبقية المباركة، يفتح الزوج اليهودي الطريق أمام تحول الأهواء التناسلية إلى عشق
للقراءة والتفسير: من منفى إلى منفى، «معرفة الذات» تطابق «التحدث إلى الذات» و«ممارسة
الحب»، بينما الروحانية الأكثر خضوعاً للاستبطان والمميزة جنسياً لنشيد الأناشيد المقدسة
(Cantique des cantiques) تكشف عن ذاتها بلسان امرأة: لاسولاميت (La
Sulamite).
الكلمة
والجسد
يواصل المسيحيون الذين ينعتون بأنهم «الشعب الذي يعشق الجسد»،
بطريقة مغايرة تحليل هذه العقدة الشبقية التي تتجلى في الحضور المشترك للجسد والمعنى
لدى الكائنات الناطقة: أصبحت الكلمة جسداً، إنها «فضيحة بالنسبة للإغريق، جنون بالنسبة
لليهود». وبطريقة أفضل من أية ديانة، تكشف المسيحية عن الحب حتى الموت بين الأب والإبن،
من أجل قيادته إلى الإنتصارات الثيولوجية وإلى الإعلاءات الفنية التي صنعت مجده. يهيمن
الهوى المسيحي، في حين تبقى الأحشاء الامومية لمريم وحدها مقدسة، وفي ظل هذه العذرية
يتأسس الزواج المسيحي كحاجز وكعلاج ضد خطيئة الجسد. لكن سيعترف بالمساواة بين الجنسين
لأول مرة مع القديس بولس (saint Paul) الذي سيمنح للمرأة حقوقاً
على جسد زوجها أكثر من حقوق هذا الأخير على جسدها. إلا أن القديس جيروم (saint
Gérôme) والقديس
انسيلم (Saint Anselme)، الذين ألهمتهما رواقية كريسيب (Crysippe) وسينيكا (Sénèque)، أصدرا قراراً أثر على مدى
قرون مفاده أن «لاشيء يبعث على الخجل أكثر من السقوط في حب الزوجة، بمثل الهوى الذي
يخالجنا في الزنا». ضد هذه الروحانية المنفصلة عن الجسد، وارتكازاً على الإتحاد المقدس
بين الكلمة والجسد- كاتحاد معتنى به، مستور، مغتال ومتجدد على الدوام على يد بعض الصوفيين،
في إطار رفض داخلي للدوغمائيات الرسمية، و مروراً ببزوغ عصر النهضة وانفجار الفن الباروكي،
سيتمكن تحرر النساء أيضاً من الإقلاع والتحقق، قبل أن يعرف انطلاقته القوية مع عصر
الأنوار.
وسيعمق بروز الشبقية الأنثوية في أيامنا هذه أزمة المؤسسات الدينية،
خاصة تلك التابعة للديانات التوحيدية، وسيظل مصدر تهديد لأسس جميع الديانات في الجوهر،
الأمر الذي سينتج عنه تنامي ردود الفعل الأصولية. وتعتبر الشهوة الجنسية هبة من الله
من وجهة نظر القرآن، وهي أيضاً بالنسبة لـ محمد من دون شك، وبالنسبة للرجال
متعددي الزوجات من بعده، وكذلك داخل الشبقية اللامتناهية التي طبعت الشعر العربي الصوفي
الكبير. لكن هذا الأمر ليس ممنوحاً للنساء، إذ يخضع شكل الحجاب لتقدير الإمام، الأب،
الأخ أو الأسرة. ونظراً لأن الحرية معرضة للخطر، فإن كثيراً من الناس -بمن فيهم النساء-
يفضلون إخفاء الوجه (se voiler la face) بالمعنى الحقيقي والمجازي
للكلمة، ليحلموا بأن أماناً وهمياً وظرفياً يمكن أن يضمن دورهم في عملية الإنجاب والحفاظ
على النوع.
الاستيلاء
المقدس على الجنسين
على النقيض من ذلك، تتجلى قوة الله الواحد (Un) والثالوثي (trinitaire)، وضداً على نزعاته الأصولية،
في بناء الذات في الإنسان. وبما أن الرجل والمرأة مرتبطان عن طريق الصلاة بهذه الأبوة
الرمزية، التي تضمن القانون والحب في التوراة والأناجيل، فإنهما مدعوان ليصيرا شخصاً:
إنه تماسك ذاتي مثير للمشاعر بحثاً عن الكونية والحقوق. يلزم هنا ملاحظة أن حقوق الشخص،
الخاضعة للنزعة العلمانية، تقدم اليوم باعتبارها النموذج الكوني الوحيد، القادر على
تدبير التعدد الثقافي المنبعث.
هل تعتبر الأبوة الرمزية التي تجذب هذا التميز ضرورة بنيوية أم
تسوية انتقالية لبنيات القرابة في غمرة إعادة التوليف؟ تسعى الشبقية الذكورية اليوم
لإعادة خلق الأبوة الرمزية من جديد، سواء مع أو أبعد من موجة الإباحية أو الأسرة المثلية
(homoparentalité). الحركة مابعد النسوية ذاتها منشغلة بها، رافضة الهيمنة القضيبية
(phallocrate)، لكنها تفضل على ما يبدو الاختلاف الساحر بين كلا الجنسين، على المساواة
السطحية رجل-امرأة. خلال هذه المدة الزمنية يتساءل بعض المتخصصين: لماذا لا «يصنع»
الاسلام ذواتاً، وإنما فقط جماعات (communautés)؟ ربما بحجة حماية العري الأنثوي
المقدس (sacro-sainte) فإن المتعة والإبداع الأنثوي داخل الإتحاد جسد-معنى هو ما نخشاه،
نشتاق اليه، نحتجزه ونضطهده.
لاتستطيع العلمانية مواجهة تحدي الأديان إلا بالإعتراف وبإعادة
التفكير في السيطرة الدينية على الجنسين. وهذا ما يلقي على عاتقنا مسؤولية إعادة كتابة
رواية الشبقية.
الهوامش:
* Sessualité: في الأصل "sex(sens)ualité" وهي كلمة مركبة من:
جنس ""sex ومعنى "sens"، وقد تم إضغامهما في
مفهوم واحد للتأكيد على ارتباطهما واتحادهما. ارتأينا ترجمتها بالجنس (معنى) انية التي
تدل حسب كريستيفا على استحالة تناول الجنس من دون استحضار مختلف أشكال التأويل التي
تمنحه معان مختلفة في سياق حضاري معين.
** Nékéva: كلمة عبرية تشير إلى الأنثى،
وتدل على الثغرة، الفجوة، الثقب. مشتقة من الفعل "nakav" أي يجعل ثقباً، يسم
بعلامة. تعني الأنثى التي تحفر أو تنادي بينما الذكر (zakhar) يتذكر. فالمرأة تنادي والرجل
يتذكر هذا النداء. تفترض كريستيفا أن المرأة في التراث اليهودي وكذا النصوص الدينية
المسيحية والاسلامية تحتل مرتبة أدنى من الرجل فهي مجرد مكمل لشخصية الرجل.
المرجع:
Julia Kristeva, Lݎrotisme, entre chair et sens in Le
Point- Références, 28 octobre 2010, pp. 7-10.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق