الأربعاء، 25 سبتمبر 2013

ضدّ اليوميات؛ جورج باتاي: عدنان مبارك


عن كتابة جورج باتاي قيل مرة أنها "جرح عُريه". بالفعل كان العري هاجسه، وسِكّينه أيضا. واضح أن لا صلة البتة لأدبه، بالآخر "المتفق عليه" سواء أكان تقليديا أم محدثا. هواجسه كلها كانت موزعة بين العقلاني واللاعقلاني. كاتب يصعب القول عنه بأنه "مع الأدب" بل هو من القلائل في العالم والذين يمكن تسمية عملهم بـ "ضد الأدب". قطع باتاي الصلة بالتقاليد ولغرض واحد: خلق تقاليد جديدة، نماذج جديدة في التفكير. امتيازه الأكبر أنه كان متحرّراً تماماً من الأوهام. بحث عن حالات الانبهار في عالم انهار فيه، بفعل الدين والحضارة، كل شيء تقريباً، وقد يكون ما بقي هو القدسية! 
كان مناوئاً لمثالية الغرب. فلسفته ذات تفرعات تكاد تطوّق الوجود بكامله. إلا أن الجسد كان مملكته الأولى. وشعارها: الشده ecstasy الذي له نسقه: التجربة -الدمار -تخطي الحدود -التضرع -الضحك (كان من أصدقاء برغسون الذي عرض عليه في أول لقاء أن يقرأ كتابه المعروف "الضحك"...) ثم النزوة. بحث طويلاً في ممالك الجسد وأحوال شِدّته وغشيته trance وإيروسيته وذلك "الإلتصاق الشبيه بالموت" والتدنيس واللمس والتدمير وكل المراتب الأخرى التي أخذ بها مؤلف "قصة العين Histoire de l'œil" من عام 1928، عند كلامه عن جسدية الإنسان. هناك توقفه الطويل عند الغيبيات والمقدس. العناوين الداخلية لعدد من كتبه تكشف عن عراكاته مع "جحيم" الجسد : "المعنى الديني للإيروسية"، "الاستمرارية تربط الإيروسية بالموت"، "العري والخجل" "فوضى التعرّي"، "الجمال المميت"، "أن توقظ، أن تدمر وليس بلوغ الإشباع"، "الفحش obscenity الديني" ، "الحرية وذنوب الجسد" ...
هناك من وجد أن نصوص باتاي الشعرية هي تسجيل لـ"هزيمته" بوجه كل شيء تقريباً: الكيان العضوي، الوجود، الله، الكون. كما أنه شهادة على وجود صلات غير مرئية، ولايمكن قطعها، بين اللغة والثقافة. كان باتاي مدركاً تماماً لهذه الحقيقة، ففي مؤلفه "التجربة الداخلية L'Expérience intérieure" من عام 1943 كتب أن الشعر، بكامله على وجه التقريب، هو شعر ساقط، إنه شعر التلذّذ بالصور المنتزعة -وهو محق هنا- من منطقة الخدمات سواء أكانت مدفوعة أو غير مدفوعة "أي الشعر كتسام واحتفال"  لكنها الصادة للخراب الداخلي الذي يكونه اجتياز المجهول. بالفعل كان شعر باتاي هكذا، كان تسجيلاً لتلك الأرض المعروفة -المجهولة التي تكونها الإيروسية، فالصورهنا قد تكون في النهاية غروتسكية مختنقة بالمبالغة بل تناطح اللاممكن في التعبير، إذ ليس أمامها غيرهذه اللغة "المعترف بها". أكيد أن الغثيان أوالهزء ينتاب شعراءنا وغيرهم من عصابيي الأخلاق والعاطفة (أو صنفهم الآخر الأسوأ المتظاهر بالشجاعة حين يضع قدمه الوجلة على عتبة الإيروسي) إذا قرأوا قصيدة باتاي "رصيف دانيدا" مثلاً. المقصود هنا الأسطورة اليونانية عن الملك دانانوس وبناته الخمسين حين أمرهن بقتل أزواجهن في ليلة الزفاف، ولقين في الترتار "الجحيم" عقاباً شبيهاً بعقاب سيزيف: كان عليهن أن ينقلن الماء بمناخل الى برميل كي يمتليء:
يا عاهرتي/ يا قلبي/ أحبك أيتها المتغوطة/ احشري المؤخرة في الفم/ أنت المحاطة بالبروق/ هي الصاعقة ترهز فيك/ المخبول يزعق في الليل/ الذي ينتصب كما عند الوعل/ أيها الموت أنا وعل/ إلتهمته الكلاب/ يقذف الموت بدل المني دماً.
ناقد استنجد هنا بكلمات لـ ستندال الذي كان محافظاً فيما يتعلق بلهيب الإيروسية: "المرء يدمّر الشعور، ولكم هو رقيق، حين يروي التفاصيل". إلا أن قصد باتاي كان آخر: أدق تسجيل لما شعر وفكر به عند الانجراف مع الإيروسية.
آخر تصدى لهزء المنافقين بالاستشهاد، وهذه المرة، ببطل غوغول في "المفتش العام": "من أي شيء أنتم تضحكون؟ من أنفسكم. أُف، أنتم!! ...".
وفي القصيدة الأخرى المعنونة "الوحدة" جاء "فحش" آخر:
الإبهام في الفرج/ كأس القربان المقدس monstrance على الثديين العاريين/ مؤخرتي تلوّث شرشف المذبح / فمي يتوسل الى المسيح/ من أجل رحمة شوككِ.

*****

انهالت الإتهامات على باتاي بأنه يفتعل عملية تحويل للشخصية عبر الحب والجنس بمختلف أنواعه، وكانت أشد الهجمات ضد "هرطقته" حين هاجم تقاليد الأدب. في أشعار أخرى يترك وراءه كل أجيال الشعراء الملعونين :
مثل زبّ منفوخ هو لساني/ في حنجرتك الوردية، حنجرة الحب/ فرجي هو مسلخي/ دم أحمر مسكوب منيّاً/ المني يعوم بالدم/ في جواربي البنفسجية رائحة التفاح/ بانثيون العير القسّيسي/ مؤخرة الكلبة مفتوحة على قدسية الشارع./ حبّي، حب ساق، الكثيف الشعر/ بانثيون المني/ أنامُ/ الفم مفتوح بانتظار/ الزب الذي سيخنقني/ القذف الشبيه بالغثيان، القذف اللزج/ الشده الذي يحرقني في المؤخرة هو رخام القضيب الملطخ بالدم/ ولكي أستسلم للقضبان/  ارتديتُ / الفستان الذي يمزق النفس...
هناك تفسير لمثل هذا الشعر وقد لا يكون محروماً من الإثارة: كل أنواع أفعال البورنو هي انتقام بمعنى ما. فأحد المبادي الأساسية لميكانيكا الكم التي صاغها فيرنير هايزنبيرغ يفيد بأن الشيء موضع المراقبة يتبدل تحت تأثيرها. فيما يتعلق بفعل الكتابة يتبدل المعنى بالاعتماد على هوية القاريء:
يجمد قلبي، أرتعشُ/ من قعر الألم أناديك، بصرخة لا بشرية/ كما لو أني أخذت ألدُ/ أنت تخنقيني كما الموت / أعرف هذا وكلي رثاء/ لا أعثر عليك إلا حين تحتضرين/ أنت جميلة مثل الموت/ الكلمات كلها تخنقني.
واضح أن باتاي كان محقاً حين كتب "قضيب الحقيقة ينتصب كما ينتصب عندي"، فأمام جسد فعلي في وضع إيروسي فعلي، في تلك اللحظة حين تهيمن الغريزة على مشيّدات الثقافة، وتنطفيء جذوة العقل وتتسيّد علينا شياطين الرغبة والشبق نكون في أصدق تطابق مع النفس. ولا أحد بمكنه أن يبدل الحال، فكلما كنا "خارج" النفس نكون الأكثر أمانة لها. وتسجيل تلك اللحظات هو ما سحر باتاي. ففي شعره العنيف الساعي الى الجمع بين الإثنين: المقدس والآخر المدنَّس يكون تمثيلاً صادقاً لهارمونية النقيضين. لكنه كان هو القائل أيضا: أنا نفسي حرب ٌ...

*****

باتاي الناقد والفيلسوف مثير أيضاً، وله ثقله. سأجمع ملاحظاتي عنه. نثره قريب جداً من شعره. يكتب في "علبة البودرة":
كم من مرة أردتُ أن تحشر الخراء في فمي، فأنت تعرف كم أحب امتلاك فرج طري، نظيف بالشكل الرائع وله رائحة الخزامى. هذا شيء غير محتشم أكثر من غيره (وكما أعتقد). ومرة حين داعبتُ بين الردفين رأس قضيبك الأعرج، فسيتٌ برقّة وإنقلبت ُكي أشم الرائحة، رأس القضيب كريه الرائحة، كان حلوى لينّة للمصّ، أنت تعرف أني مغرمة بهذا. لكن الرائحة! حتى أن الحمرة علت وجهي، ولكم أعجبني هذا. تذكرْ: غاستون كان هناك. أشرتُ إليه كي يجامعني من الخلف، كنتُ راكعة، وأفهمته بما أريد مشيرة بالإصبع الى ثقبي في المؤخرة. وهكذا ثقب َهو أحشائي. أوه! حين أفكر بالأمر يرتجف كل شيء فيّ، يرتجف ويصرّ، وفي القلب مجزرة، وأنت تعرف حين أقف عارية أمام المرآة أحب أن يمتطي فرجي علبة البودرة. أسفاً على أنك لا ترى القرد على الكرسي وساقاه في الهواء مفتوحتان، ولا بودرة هناك...
البودرة والمني يوائم بوداعة أحدهما الآخر. في هذه اللحظات أخذتني عارية عدا معطف الفراء، الى الشوارع، ولكم كان حلواً حين نكتني في الزوايا المظلمة. آه، تأتيني رعشة القمة بسبب هذا... وأفوقُ ... يا رب، كم هو طيب امتلاك فرج معصور بالمني.
وجهي المعصور،
رائحة الضراط والفرج المحاط بالشعر، وعلبة البودرة والمني، والخصيتين الغارقتين بالعرق.
المني ذو الرغوة من كل الجهات كما الشامبان المصبوب.
كنا أربع أو خمس فتيات، أنيقات جداً في فساتين السهرة الممزقة حتى الخاصرة. رقصنا ونحن متماسكات فوق المؤخرات ونطقنا كالمجنونات.
رأيته على رصيف المترو.
قلْ لي، هل تحب القضبان الذكورية؟
لم أتحرك، لكنه رآني جيداً: رأى كيف تشبعتُ بالهواء، جامدةً بمنخارين مفتوحين واسعاً، بكليتين خاويتين.
كنت عازمة على التظاهر بأني دجاجة وقبول سوقيته، لكني صررت على أسناني، وهو شيء لا تفعله الدجاجة، وتعمدت اللامبالاة:
- هل انتصب عندك؟

*****

إشمأز باتاي من الأخلاقيات المسيحية الرافضة للحياة على الأرض ولأنها غالبا تقود الى الضياع. باتاي يقترح البديل: الدعوة الى الهوى وحب المغامرة، الى الشده والخوف والضحك. ووفقه يكون الإنسان ليس بالكائن العقلاني فحسب. فالأخذ بالعقل هو أحد أبعاد وجود الإنسان والعالم. وحصرُ الإنسان في بعده العقلاني يقود إلى "تقحيل الحياة"، الى العجز عن تحقيق الإتصال. فما يميز العقلاني هو العمل وفق المشاريع والخطط التي تحقق أغراضاً ملموسةً ونفعيةً، وفي ذلك خطرها على تكامل شخصية الإنسان. البديل عند باتاي هو "الرجوع" الى الحياة بكل بؤسها وفرحها ولامعقوليتها أيضاً...

*****

وكنت قد ترجمت أيضا شذرات لـ باتاي مستلّة مما كتبه :

- رفض الاتصال هو وسيلة اتصال أقل ودّية لكنها الأقوى.
- العقل يتحرك في عالم غريب مؤلفاً من الخوف والشَدَه.
- لا وجود للكينونة في أيّ مكان...
- الشعر يقود من المعروف إلى المجهول.
- الموت يشفي الرغبة في اللا-معرفة.
- الناس ذوو العواطف الباردة أو الأبرياء وحدهم يجزمون بأن العادات تعمي الحواس.
- ما يبكي فيّ ويغتاظ هو رغبتي في أن أغفو بهدوء، وأصاب بالسعار حين أفكر بأنهم يحولون دوني وذلك.
- في أسس حياة الإنسان يوجد مبدأ عدم الإكتفاء.
- جعلت من صمتي أمراً لايطاق، وهذا بالضبط ما حررني من واجب الصمت.
- وجودنا هو محاولة يائسة لإكمال الوجود.
- التملص من الوجود ليس في أن أموت بل في أني قد متُّ.
- أن تحيا بتجربة حسّاسة وليس بشَدَهٍ منطقي.
- بدا لي أني سأموت مساء اليوم بسبب اللذة، إنها قاتلتي وليس الخوف.
- إن حضورك يا سيدي كحضورعلني وفعلي يحصل فقط عند فصله عن جسمه و"دمه". أنت حاضر يا سيدي فعليا لكن بهيئة موتك.
- الزمن لايعني إلا هروب الأشياء التي كانت تبدو حقيقية.
- في اللحظة التي يقدم الموت فيها سأكون واثقاً من معرفتي جلية الأمر.
- نحن لسنا كل شيء، وفي هذا العالم هناك أمران مؤكدان، الأول ما ذكرته والثاني هو أننا نموت.
- في الموت يمضي الإنسان في هذا الطريق ومن دون سبب - والى الأبد.
- للوصول الى نهاية الشَدَه حيث نفقد النفس في اللذة علينا، وبالصورة المؤقتة، رسم حدودها التي هي الرهبة.
- الحب البشري هو أكبر المفارقات، فالمخلوق المختار يصبح بفضل قيمته التي يملكها للمحب فقط.
- محبة الله هي الأكثر خداعاً. من اللزوم معاملتها كشعار يتحول من فكرة لامعة الى صمت أصم.
- مصير الناس الأحرار هو خضوع واع.
- إذا كان على الإنسان كي يصل النهاية ويغمى على عقله ويموت الله لا يمكن أن تكفي ألعاب الكلمات غير الصحية أكثر من غيرها.
- لاشيء بشرياً يعجزعن خدمة الناس كمصيدة.
- لا يمكن البحث عن الخير إلا حين ينسى واحدنا الحياة وشروطها.
- ينبغي امتلاك شجاعة فائقة كي لا نخضع للهموم ونواصل البقاء.

*****


كان جورج باتاي مدهشاً حقاً في استقامته الفكرية، فكتابته بكاملها تعرّي الكتابة الأخرى التي تتجاهل أو تناور، في الجوهر، "الشرّ". وكان هو القائل بأن ما يبرر فعل الأدب هو القهر/ الارغام/ الانتهاك وحده، أما الكتاب فهو أداة لفتح الجروح أو انتاج للتمزق...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق