الاثنين، 29 يونيو 2015

تمهيد كتاب "الأدب والشر": جورج باتاي

ترجمة: محمد العرابي


    الجيل الذي أنتمي إليه ضاج بالصخب، جاء إلى الحياة الأدبية وسط ضجيج الحركة السريالية. ولقد طغى إحساس على السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، بأن الأدب يختنق ضمن قيوده. وبأنه كان يحمل، في طياته على ما يبدو، بذور ثورة ما.
   هذه الدراسات التي تفرض نفسها عليّ بانسجامها، ألّفها رجل ينتمي لمرحلة النضج. بيد أن معناها العميق يعود إلى ضجيج مرحلة الشباب، والتي تمثل صداها المكتوم. والشيء الذي يعطيها كبير دلالة في ناظري، ظهورها [على الأقل في صيغتها الأولية] في قسم منها في مجلة "نقد"، هذه المجلة ذات المنحى العلمي الجاد الذي تستمد منه كل غناها.
   علي أن أسجل هنا مع ذلك، إذا كنت أحياناً قد أرغمت على إعادة كتابتها، فإن ذلك يعود إلى أني لم أستطع، في غمرة الضجيج المستبد بعقلي، أن أعطي بداية لأفكاري إلاّ ضمن تعابير غامضة.
   إن الضجيج أساسي هنا، وهو يشكل معنى هذا الكتاب. لكن آن الأوان لكي نخرج به إلى وضوح الوعي. لقد آن الأوان... ويبدو لي أحياناً أنه لم يعد هناك من وقت. وعلى الأقل فالوقت يضغط.
تستجيب هذه الدراسات للمجهود الذي واصلت بذله لأستخلص معنى الأدب... فالأدب إمّا أن يكون معناه جوهرياً أو لا يكون. والشرّ –الشكل الحاد للشرّ– الذي يُعتبر الأدب تعبيراً عنه، يحظى بالنسبة لنا، على ما أعتقد، بالقيمة المطلقة. بيد أن هذا المفهوم لا يتحكم في غياب الأخلاق، بل يستوجب نوعاً من فائض الأخلاق.
   الأدب هو نوع من التواصل، والتواصل يحكم الصدق: والأخلاق القويّة توجد ضمن هذه الرؤية انطلاقاً من التواطؤ في معرفة الشرّ، مما يؤسس للتواصل المكثَّف.
   الأدب ليس بريئاً، فهو مذنب، عليه في النهاية أن يقرّ بأنه كذلك. والفعل وحده هو من يملك الحقوق. الأدب هو، ولطالما أردت ببطء أن أبيّن  ذلك، الطفولة المستعادة أخيراً. لكن الطفولة التي سوف تحكم، هل ستكون لها ثمة حقيقة؟ أمام ضرورة الفعل، تفرض استقامة كافكا نفسها، التي لا يتوافق معها أي من الحقوق. وكيفما كان الدرس المستفاد من  مؤلفات جان جينيه فإن مرافعة سارتر لصالحه لا يمكن قبولها، في النهاية يتوجب  على الأدب أن يترافع على أساس الاعتراف بالجريمة.

هامش:
    ما ينقص هذه الدراسات هي دراسة تتناول أغاني مالدورر لـ لوتريامون، بيد أن تصريحها بالشرّ يجعلها غير ضرورية. هل من المفيد القول إن نص لوتريامون: الأشعار تتجاوب مع موقفي؟ إن الأشعار، بل والأدب، «تترافع على أساس اعترافها بالجريمة». إنها تُدهش، بيد أنه إذا كان بالإمكان فهمها، ألا يكون ذلك انطلاقاً من وجهة نظري؟  

الأحد، 28 يونيو 2015

مقاربة الحب.. التجارب في مساءلة الآخر: بختي بن عودة

بختي بن عودة


«ضرورة هذا الكتاب تتعلق بالاعتبار التالي: الخطاب العاشق يوجد اليوم في عزلة قصوى، هو متحدث به من قبل ربما الآلاف من الذوات (من يدري؟) لكنه غير مساند: إنه مهمل تماماً من قبل اللغات المجاورة، أو متجاهل أو غير مرغوب فيه أو موضع سخرية من طرفها. إنه مفصول ليس فقط عن السلطة بل عن ميكانيزماتها» [علوم، معارف، فنون] (Fragments d’un discours amoureux) ص 5
رولان بارت






ثمة عنف رمزي [غيريّ] يفتكر العنف الضرير في ما تشاء اللحظة الآسرة، وربما ذهبنا بعيداً في ملامسة ما لا نعرفه. وحجة ذلك المناعة ضد الاهتبال بأساسات الصحو، اليقظة، العقلانية المحضة.
الغير بما هو زمن تتفكك أطرافه أمام مشهد القراءة، لأن العنف ذاك عربون مسافات، ترجمة لعسس اللاوعي ثقافة.
والسلطة [المشار إليها] ليست دائماً دليلاً على حبسة قاتلة لما بين الصلب والترائب. حبسة آدمية لنفرق منهجياً بين "سومولارك" السلطة وانفساخ مسارات أخرى كشراكة ضدّ الخيانة، خيانة الآخر كما لو أن وهم الذكورة هو النسيان نفسه لعقل الأنوثة وإدامة البطلان خارج البديهة.
نحب لنقتل كلّ أبوة مفترضة أو ممكنة، هي منسيّ (L’oublié) فردانية الواحد في ما وراء مبدأ الهوية المختزلة للجنس، الهوية بما هي أبهة الدال، عماوة التطابق، انسداد كلّ إقلاع لا يبين عن نيته الاختلافية. ما يستهوي الخطاب حول الهوية، أو ربما يعضد موضوعيته الملتبسة، هي كذلك كتقاطع ممكن للترددات إزاء سوء التفاهمات، هو عدم التساؤل حول طبيعة الخطاب نفسه. أي الكيفية التي يعاد بها تأسيسه كفرق ودود، فحوى تكوكب ظلاله اللامتجانسة، لذا فإن الإلتباس هو حد النظرية الضائع، المرغوب فيه لجني ثمار ذلك التحاب الذي يشدد عليه الطرح الخطيبي.
«قبل التحاب، كان يموقع المرأة بين الله والرجل. وسيطهما: وهم الملاك والعذراء. غير أن استعارة الملاك هي احتفال الجسد وتوابعه: حلية مثناة تحت هوى المرأة، أساطيرها، حركات بروزها، اختفائها وراء الظهر، وجه آخر يراكم. أوكل لكم حفل التحاب هذا»(1)
هي ورطة أكثر مما هو متصور، جموع دلالات تغتبط في أثناء الجريان اللغوي، كثافة تختفي في تعدد المرجع، كما لو أن المسألة تتعدى انخطاف التخوم تقليدياً أو ميتافيزقياً. أمكنة بها يسمى المنظّر ما يفكره، وبالشعر [هو الآخر] تلتحم التسمية وتترنح.
تعرب الورطة عن محمولاتها، تتجسد في الأطراف المسماة: المرأة، الله، الرجل، الملاك، ثم تختار مشيئة الانفتاح، أي التأويل.
«التحاب: كلمة سرية. لنحفظها قرب القلب، قرب حميميته»(2). هي عودة إلى حضرة الباطن، البصيرة، مالا نراه وهو معلوم في جذره اللاهوتي مبتهجاً وفاتحاً. هل يمر من هنا الخطاب؟ هل يفقد وعيه، هل ينسى أنه حالة تنقال ولا تنقال.
هي تهيئة معرفية تستدرج ما يجاورها هناك، بالقرب من الهم المشترك، الإشارة العليا، غيرية الكتابة، وليس هكذا دواليك.
مامعنى ذلك؟ معناه أن الملاك يحتل قارة لوحده، حكاية كاملة تزدهر عبر الاستعلامات والإنزياحات. وهاهو يثير والتير بنيامين القائل «الملاك يشبه كلّ ما وجدت نفسي مرغماً على مفارقته: يشبه الأفراد والأشياء بخاصة». لكنه "ملاك التاريخ"، ذاكرة النار المقدسة والقيامية. هو شبيه لكنه حضور، فاعلية، حدث بالكيفية التي تمنحه القدرة على «تفجير وبسوداوية دوامية الزمن، الإيمان الاجتماعي-الديمقراطي في التقدم، لصالح هيئة كارثية ويسوعية تحرر المستقبل المدفون في كل ماض وتبنيه مع الحاضر»(3). هذه الإحالة هنالك ما يثبت العكس في شفافيتها المتوازنة سوى ذلك الإئتلاف حول الملاك ذاته وقد نزل إلى الأرض.

الأربعاء، 24 يونيو 2015

تفكيك الأساطير: محمد أركون

ترجمة: سعيد بوخليط

محمد أركون
الإسلام والمسيحية واليهودية، كل واحدة من هذه الديانات التوحيدية الكبرى، لها كموضوع، أن تبرز القيم النوعية الخاصة بكل جماعة إنسانية، يؤكد محمد أركون. إذن، يتعلق الأمر، من الآن فصاعداً، بتنقية النصوص الكلاسيكية من "الأسطرة''، التي صنعها التاريخ، بغاية العثور على الهوية الأصيلة، وكذا خلق مساحات للحوار بين الجماعات البشرية.

كتب محمد أركون:
نكرر دائماً،أن اليهود والمسيحيين والمسلمين، ينتسبون روحياً إلى إبراهيم، ويؤمنون بإله حي وخالق، يتجلى لدى البشر، بواسطة الأنبياء: ممّا اقتضى الالتجاء إلى لغة ذات بناء أسطوري، توظف رموزاً متماثلة. لكن فرص التواصل التي تموضعت، سيتم تقويضها، بسبب ذاكرات تاريخية متضاربة: هكذا فالتاريخ الذي يعاش، سيتبلور عند كل جماعة بشرية، في إطار ''قيم نوعية''، غدت رهينة للتاريخ المكتوب. الأكثر خطورة، أنه إبّان قرون، انصب أساساً اهتمام كل ديانة، على تكريس –بالمعنى الأولي للكلمة- المعاملات الاقتصادية والسياسية لأتباعها. من هنا، الغموض القاتل للكلمة التي تحدد الممارسات الشعائرية والمعتقدات المترجمة لعلاقة الإنسان بالله، ثم في ذات الوقت، مجموع النظريات والتقنينات والعادات وكذا التقاليد، التي يطورها كل جسم اجتماعي. بالتالي، فإن اتساعاً مفرطاً للديني، خلق المجال لتقديس للدولة وكذا المؤسسات الإسلامية، مثلما حدث مع اليهودية والمسيحية. ممّا يدعو اليوم، إلى تسوية  قوية على طريقة تصور كارل بارت(1)، الذي قال: «لايمكن للدين أن يغير من كون، فعل الإنسان في هذا العالم، تم بدون إله. الدين، لايمكنه غير اكتشاف الإلحاد من خلال كل ازهراره، لأن الدين، هو جسد، حينما امتلكه وتصرف فيه الإنسان. يساهم في الاختلال، وكذا الطبيعة الدنيوية، عند كل إنسان. إنه أقصى حده وكماله، وليس بتجاوز أو تجديد له. بما في ذلك، دين المسيحيين الأوائل، أو دين أشعياء، أو المصلحين. ليس صدفة، أن تنبعث بالضبط رائحة الموت من قمم دينية: لقد أجاب زفينغلي(2) ، بوصفة من الليبرالية البورجوازية على مايحيط  به، وكيركجورد بمغالاة  تقوية ضارة، وديستويفسكي بتمزق هستيري… مأساة، أن قمماً دينية، لا تخلص إلا للدين! الدين لايحرّر، بل يعتقل في ظل أكثر الشروط فظاعة، قياساً لكل ما بوسعه، أن يعتقل».

الثلاثاء، 23 يونيو 2015

نقد النقد.. موريس بلانشو: تزفيتان تودوروف

ترجمة: زياد العوده

تزفيتان تودوروف
إن مؤلَّفات بلانشو الناقد على درجةٍ عالية من التألُّق بحيث تُفضي إلى طرحِ إشكالٍ معيّن؛ فجملُه الرائقة والحافلة بالأسرار في آنٍ واحدٍ تمارسُ جاذبية لاجدال عليها. ومع ذلك، فإن أثرها النهائي يصيبُ المرءَ بالشلَل: إن كلَّ محاولةٍ لتفسير بلانشو بلغةٍ غير لغته يبدو أنها مضروبة بحظر غير مُعلن؛ ويبدو أن الاختيار الذي يجد المرء نفسه مسوقاً إليه هو التالي: الإعجاب الصامت [الذهول] أو المحاكاة [التفسير المسهب، أو الانتحال]. إن عدداً من مجلّة "نقد"، للعام 1966، مكرّساً لمؤلفات بلانشو يمثّلُ جيداً للتنويع الثاني [باستثناء حالتين هما يوليه ودومان]؛ فـ بلانشو أيضاً هو الذي يبدو أنه يكتبُ بريشة ميشيل فوكو: «الغياب الذي لا يُقهر»، و«الفراغ الذي يستخدمه كمكان»، و«قانون لا قانون العالم»، و«الحضور الواقعيّ القصيّ تماماً، والوامض، وغير المرئي»، (الصفحات: 526-527)، أو، بريشة فرانسواز كولان: «الصمت الكلام، والذاكرة نسيان، والحقيقة ضلال»، (الصفحة: 562)، أو بريشة جان بفيفر: «إن اللامكان هو بشكل من الأشكال نهاية هذا الفضاء الذي لا نهاية له»، (الصفحة: 577). إن البعض يعلنون ذلك بصراحة: أخشى ألا يكون هذا التعليق أكثر من نوع من شرح مسهب [...]؛ فمن الصعب أن يتكلم المرء على بلانشو من غير أن يقع تحت تأثير سحر غريب، ومن غير أن يأسره صوت الكاتب نفيه»، (ج. ستاروبينسكي، الصفحة: 513). «إن كلّ شيء ينبغي أن يُقال هنا بصورة "الاحتمال"، كما يفعل بلانشو نفسه"، (ا، ليفيناس، الصفحة: 514). شرح مسهب أو صمت: يبدو أن هذا هو حظٌ كلّ أولئك الذين يحاولون أن يفهموا بلانشو. وتزكّي عبارة جميلة لـ روجيه لايورث الموقف الثاني في الوقت الذي تمارس فيه الموقف الأوّل.
«إذا ما تساءلنا، بعد أن نُغلق كتبَ بلانشو كافة: «وأخيراً فعما تكلّمنا مؤلَّفات بلانشو؟»، فإننا سنشعر حقاً بأنه من المتعذّر أن نجيب، وأنه ما من جواب على هذا السؤال. إن كلمة ما تتحدّثُ، ولكنها لا تقولُ شيئاً، وكلّ ما تفعلُه هو أن تتحدث كلام فراغ، ولكنه ليس كلاماً من الفراغ. إنه لا يدلّ على شيء، بل يشير، وهكذا، فمن خلال هذا الكلام ذاته يغدو المجهول مكشوفاً، ويظلُّ مجهولاً. (الصفحات 589-590).
بعد هذه الإيعازات الصريحة والضمنية، يشعر المرء مسبقاً بأنه مخطىء إذا ما حاول أن يحطّم «السحر الغريب، وأن يسعى لمعرفة ما يقوله بلانشو بالضبط عن الأدب وعن النقد. ومع ذلك؛ فاللغة ملك عام؛ فالكلمات والتراكيب النحوية لها معنى يتضمن شيئاً فردياً. يقالُ إن الشعر غير قابل للترجمة، غير أن الفكر ليس كذلك، والحق أنه لا بدّ أن يكون هناك فكرٌ لـ بلانشو، ضمن آلاف الصفحات النقدية التي نشرت تحت اسمه. ولسوف أقبل، والحالة هذه، القيام بدور الخادم القبيح، وتقديم ترجمة لذلك الكلام الذي لا يقول شيئاً مستخدماً عباراتي:
إن تفكير بلانشو على الأدب ينشأ من تفسير لبعض جمل مالارميه التي يذكّر بها على امتداد مؤلفاته كلّها.
لقد كتب مالارميه: «حالة مضاعفة للكلام، حالة خام أو فوريّة في هذا الموضع، وجوهرية في موضع آخر»، ويفسّر بلانشو قائلاً:
«فمن جهة، هناك الكلام المفيد، الأداة والوسيلة، ولغة الفعل، والعمل، والمنطق والمعرفة، واللغة التي تنقل البلاغ فوراً، وتختفي، شأن كلّ أداة جيدة، في انتظام الاستعمال، ومن جهة الأخرى، كلام القصيدة والأدب، وحيث لا يعود التكلّم وسيلة انتقالية، تابعة واستعمالية، بل يسعى إلى الاكتمال من خلال تجربة خاصة. (الكتاب الآتي، 1959، الصفحة 247).

السبت، 20 يونيو 2015

الأدب الإباحي: بياتريس دوروب

ترجمة: كاميليا صبحي


The first, nicolas pegon
لعل سرد تاريخ الأدب الإباحي هو شيء يتطلب توضيحاً. فإذا كان تعريف الأدب هو أمر في متناول كلّ من المؤرخ والناقد فإنه من الصعوبة بمكان إيجاد تعريف للأدب الإباحي أو إدراجه ضمن نظريات الأنواع الأدبية.
بعد أن كنت متيقناً من أن لقائي وجان جاك بوفير سيجلي لي بعض الحقائق بشأن هذا الموضوع، أصبت بدهشة عميقة، إذ أنني لم أبلغ حد اليقين ولم أصل إلى أي تعريف يذكر من ذلك الناشر المفترض منه المعرفة بالشيء. وكأن الأمر مجرد زبد من المعلومات غير المؤكدة. وسوف آخذ مثالاً أحد القصص التي رواها لي والتي نشرها في الجزء الرابع من "مبحث القراءات الإباحية" والذي يتناول فيه الفترة التي شهدت نشأة الكتابة وحتى قيام الثورة الفرنسية.
تروى احدى المدونات السومارية والتي تسمى أيضاً بالمسمارية نظراً لأن تلك الكتابة كانت تعتمد على إحداث شقوق متتالية على ألواح من الفخار بواسطة أعواد من البوص المبرى تروي حكاية احدى الآلهات التي انطلقت تلاحق إلها اغتصبها يروي الناشر أن تكرار الثقوب المحفورة في الفخار إنما يرمز إلى الأعضاء التناسلية للمرأة. ولكن من أين تأتى له أن ذلك الثقب يحمل هذا المدلول وحتى إن تاكد من ذلك فهل كان المقصود هو المهبل أو الرحم أم ورقة اللوتس؟ أم أنه كان يرمز إلى جنس المرأة بشكل عام؟ إن تعريف الأدب الإباحي يتطلب أن نتساءل قبل كلّ شيء عن طبيعة هذا الأدب. فهل هناك بالفعل نوع أدبي يمكننا تسميته بالأدب الإباحي؟

ازدراء الإله
يعرض جان جاك بوفير تاريخ الكتابات الإباحية الذي يتضمن دراسة تاريخية عن الإنسان وكذلك دراسة اجتماعية للفترات التاريخية التي كان يحظر خلالها الإمتاج الأدبي المشين.
ومن بين تلك الفترات ما جاء في مقدمة كتابه "مسافر ليل" الذي يقع في الجزء الثاني من مبحثه، إنه في القرن السادس عشر ومع نشأة الطباعة لم يكن حظر النشر يسري إلا على النصوص التي تمس العرش أو الكنيسة بسوء. أما الكلمات الفجة والتعبيرات الفاضحة فلم تكن قط من الممنوعات. أما القرن السابع عشر الملقب بالملك الشمس، الذي كان، حكم أخلاقي بالدرجة الأولى، دفع كل من بير بيتيه وتيوفيل دو فيو حياتهما ثمناً لكتابات اعتبرتها الكنيسة تدعو للفسق، بالرغم من أن الدافع الحقيقي وراءها كان سياسياً أكثر منه أخلاقياً، بينما شهدت نفس تلك الفترة ظهور الأدب الإباحي. «لقد ابتكر الكتاب الإباحيون الفرنسيون ما يسمى بالنص الجنسي على النحو الذي سيظل عليه لفترة طويلة، وهي بحق نصوص فاجرة مدمرة باحتقارهم للعادات الطيبة فإنهم بذلك يزدرون الإله أيضاً، بل وينفون وجوده باسم الإنسان».

الجمعة، 19 يونيو 2015

عبد الوهاب مؤدب : حالياً، القرآن رهينة

حوار: سفين أورتولي
ترجمة: سعيـد بوخليـط

عبد الوهاب مؤدب

في حوار، أجري معه سنة 2010، تقاسم معنا عبد الوهاب مؤدب الذي غادرنا مؤخراً (1946-2014)، عشقه لكتاب بقي يستحوذ عليه، منذ نعومة أظافره. تحدث، عن الأسئلة المتعلقة بإسلام اليوم، وتأويل القرآن، ثم وضعية المرأة، مروراً بالإسلاموية والإسلاموفوبيا، بحيث عرض لنا مقاربة أنثروبولوجية وأسطورية، بعيداً عن الرؤى الجذرية القديمة.





1-س- القرآن نص جميل، لكنه صعب، وينهض على التكرار، ويظهر غِلظة.
ج- يشكل غموض القرآن، معطى على الرغم مما يقوله القرآن عن نفسه: «بلسان عربي مبين». جميع فقهاء اللغة، أقروا بصعوبة لغته. ثم في وقتنا الحالي، تبدو تلك الكثافة أكثر خشونة، فالقارئ العربي الذي يقرأ القرآن، يعتقد أنه فهم كل شيء. عندما أستحضر طبيعة تلك اللغة، فإني أتكلم عن ''لغة أبوية''، كما اللاتينية بالنسبة لـ دانتي (Dante). لغة، تنسج ألفة غريبة، مع لغة الأمومة، فالعربية الدارجة التي بواسطتها يتحدد القارئ، كذات متكلمة، تغدو مستعدة كي تدرك سر ثنائية اللغة العربية، المحافظة على الهوة بين الكتابي والشفهي. لكن ماهو مكتوب، كما نتعلمه في المدرسة، يمثل لغة معاصرة بعيدة كل البعد، عن عربية القرآن التي تم تثبيتها لأكثر من قرن بعد وفاة الرسول، بين القرن الثامن والتاسع الميلادي. مع ذلك بين هاتين الحالتين للغة، يبقى جانب المعجم موضوع تثمين، والعبارات متعددة. من هنا، اللبس في الوضوح. طيلة فترة تعلمي القرآن، سنوات الطفولة، كنت مفتوناً بملاقاة  كلمات معروفة، ضمن جمل غامضة، لكنها مع ذلك، موحية، تجعلك تسافر: انطلاقاً منها، أبدعت نصي الخاص. التكرارات بالنسبة للاستذكار، هي مصدر للهذيان والتيهان. أيضاً، يثير القرآن الخوف والرعب، جراء التحولات القيامية التي يصفها، وكذا التهديدات التي يتحدث عنها، تناوبياً بجانب الوعود. ففي سورة الرحمن، مثلاً وإلى جانب مشاهد تحيل على فضاء الريف، نجد أيضا هذه «الكتلة  من النار» فـ: «يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران»(الآية) ، «فإذا انشقت السماء»(الآية)،و«يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام»(الآية)، ثم «يطوفون بينها وبين حميم آن»(الآية): هكذا، يمتزج الجمال بالسديم.

الأربعاء، 17 يونيو 2015

صوت جورج باتاي


ترجمة حسين عجة



في 21 ماي 1958، وبعد نشره لكتاب "الأدب والشر"  « La Littérature et le mal »، أجرى بيار دوميات (Pierre Dumayet) الحوار التالي مع جورج باتاي. إنه الحوار التلفزيونيّ الوحيد الذي قبل باتاي بإجرائه.





"الأدب والشر" عنوان كتاب جورج باتاي


بيار دوميات: بودي، يا سيد باتاي، فحص عنوان كتابكم أولاً، قبل الدخول في موضوع الكتاب نفسه، الذي سنطرح عبره بعض الأسئلة؛ هل يمكنك أن تقول لنا ما هو ذلك الشر الذي تتحدث عنه؟

جورج باتاي: أعتقد أن هناك نوعين متناقضين، من حيث المبدأ، للشر. يرتبط الأول منهما بضرورة سير الأشياء بطريقة طيبة، من الناحية الإنسانية، ومن ثم وصولها إلى الغايات المنشودة منها؛ فيما يكمن الآخر إيجابياً في كبح بعض المحرمات الأساسية، منع القتل، على سبيل المثال، وتحريم بعض الممكنات الجنسية.

 بيار دوميات: هل تريد القول إنه لا يمكن فصل الأدب عن الشر، وهما مترابطان بعضهما ببعض بصورة جذرية؟

 جورج باتاي: أجل، حسب قناعتي. بطبيعة الحال، قد لا يظهر ذلك بوضوح في البداية، لكن يبدو لي أنه إذا ما ابتعدَ الأدب عن الشر، فسرعان ما سيصبح مملاً. قد يبدو هذا الأمر مُدهشاً. ومع ذلك، أعتقد أنه يجب علينا بسرعة إدراك مسألة أن الأدب مطالب بوضع القلق على المحك، وأن القلق مؤسس دائماً على شيء يتجه نحو الشر، على شيء سوف يتحول بصورة مؤكدة إلى شر جسيم، يضع القارئ من ثم أمام أفق، أو على الأقل أمام إمكانية قصة تنعطف نحو الشرّ بالنسبة لمن يهتم بها، وسآخذ مثالاً، لتبسيط الموقف، عن الرواية، التي بوضعها القارىء أمام موقف كريه يثير التوتر، تجعل الأدب يتفادى ضجر القارىء.

بيار دوميات: وبالتالي يكون الكاتب، أو في مطلق الأحوال الكاتب الجيد، مذنباً دائماً عندما يكتب.

جورج باتاي: غالبية الكتاب لا تشعر بذلك. غير أنيّ مقتنع بتلك الخطايا العميقة. فالكتابة هي دائماً القيام بشيء ما مناقض للعمل. قد لا يبدو هذا من وجهة نظري منطقياً تماماً، ومع ذلك، فكلّ كتب التسلية هي بمثابة جهود تفلت من العمل.

الجمعة، 5 يونيو 2015

أمريكا.. شعر ألن جنسبرج

قصيدة: أمريكا
شعر وقراءة ألن جنسبرج

ترجمة محمد عيد إبراهيم



ألن جنسبرج: شاعر أمريكي طليعي، ولد في نيو جرسي 1962، وهو مؤسس حركة "Beat Generation" مع عدد من أهم الأصوات الشعرية الأمريكية. بدأت الحركة بنشر قصيدته "عواء" 1956، واعتُبرت نشيدَها الشعريّ. وقد أصبح جنسبرج المرشدَ الروحيّ للثقافات التحررية المضادة فترة الستينيات كلها. قال عنه النقاد "اقتنص جنسبرج المتع الحسيّة التي كان يتميز بها شعر "والت ويتمان"، لكن بروح القرن العشرين". وظلّ مناهضاً للنزعات الأمريكية المدمّرة حتى وفاته في 1997.


أمريكا وَهَبتكِ كلّ شيءٍ والآنَ لا شيءَ عندي.
أمريكا 2 دولار و27 سنتاً 17 يناير 1956.
أمريكا لا أتحَمّلُ عقلي.
أمريكا متى نُنهي حروبَ البشر؟
ضاجِعي نفسَكِ بقنبلتِكِ الذريّةِ
لا أحسّ الطمأنينةَ لا تُزعجيني.
لن أُسطّرَ قصيدتي حتى ينالَ عقلي عافيتَه.
متى تُصبحينَ ملائكية؟
متى تنزعينَ عنكِ ثيابَكِ؟
متى تنظرين لنفسكِ من منظورِ قبرٍ؟
متى تستحقّين مليونَ مسيحٍ؟
أمريكا لماذا تمتلئ مكتباتُكِ بالدموع؟
أمريكا متى تُرسلين بيضَكِ للهند؟
لقد سئمتُ طلباتكِ المجنونةَ.
متى تُعيدين اختراعَ القلبِ؟
متى تُصنّعين اليابسةَ؟
متى يقرأ الكاوبوي شبنجلر(1)؟
متى تُطلق سُدودكِ فيضانَ الدموعِ الشرقية؟

الأربعاء، 3 يونيو 2015

ميشال فوكو كما أتخيله: موريس بلانشو

ترجمة إدريس هواري



Michel Foucault, by Hélène Builly
في البداية بعض الكلمات الخاصة. لم تكن لي علاقة مباشرة مع فوكو، لم ألتق به إلاّ مرّة واحدة، ربما في يونيو أو يوليو، في باحة السوربون، في خضم أحداث ماي 68 [قيل لي إنه لم يكن موجوداً] حيث وجهت له بعض الكلمات، كان يجهل حينها من يتحدث إليه [رغم ما قاله المشنعون بماي، كانت لحظة جميلة بمكان أي فرد الحديث مع الآخر المجهول، وغير معروف، شخص بين الأشخاص، حيث تستقبل بدون أية سمة تميزك سوى وجودك كشخص]. صحيح أنه طيلة هذه الأحداث الرائعة كنت أتساءل دائماً: لماذا فوكو ليس موجوداً هنا؟ حيث أعيد له قوته الجذابة، متأمّلاً مكانه الفارغ الذي كان عليه شغله. فقدّم لي جواباً على شكل ملاحظة لم تكن تقنعني: إنه لا يحب الظهور، أو إنه في الخارج. لكن بالضبط مجموعة من الأجانب وحتى البعيدين منهم، مثل اليابانيين، كانوا حاضرين. هكذا ربما ضيعنا فرصة اللقاء.
غير أن كتابه الأول الذي جلب له الشهرة قُدم لي وهو لا يزال مخطوطاً بدون اسم. إن كايوا (R. CAILLOIS) هو الذي كان يحتفظ به، فاقترحه على مجموعة منا. أشدّد على دور كايوا، لأنني أعتقد أنه بقي مجهولاً. وكايوا نفسه لم يكن معترفاً به من طرف المختصين الرسميين. فهو يهتم بأشياء كثيرة: فهو محافظ ومبدع بشكل هامشي، لم ينتم إلى جماعة (SOCIETE) الممسكين بسلطة المعرفة المعترف بها. لكن الحاصل هو أنه صنع لنفسه أسلوباً بالغ الجمال، وفي بعض الأحيان مبالغ فيه حتى يُخيَّلُ إليك أنه أصبح ساهراً –ساهراً صعب المراس- على ما هو متعارف عليه من ألفاظ اللغة الفرنسية. إن أسلوب فوكو بجماله ودقته، وهما قيمتان كما هو واضح متناقضتان، تركته محتاراً. ألا يعرف أن هل هذا الأسلوب الباروكي يقضي على المعرفة المتفردة التي بعلاماتها المختلفة الفلسفية والسوسيولوجية والتاريخية تحيره وتقض مضجعه. ربما لاحظ في فوكو آخره الذي يسرق منه ميراثه. لا أحد يرغب أن يرى نفسه غريباً في مرآة، لا يميز من خلالها ذلك الشخص الذي يضاعفه والذي يجب أن يكونه.
إن الكتاب الأول لـ فوكو [لنفترض أنه الأول] رفع من قيمة العلاقة التي يجب تصحيحها فيما بعد مع الآداب. إن لفظ "الحمق" مصدر لغموض، لأن فوكو لا يعالج الحمق إلاّ بطريقة غير مباشرة، فما يهمه هي سلطة العزل التي في يوم من الأيام السعيدة أو الحزينة، وبقرار إداري بسيط بدأ العمل بتقسيم المجتمع ليس إلى أناس خيرين وأشرار لكن إلى عقلاء وخرقاء. وسيسمح هذا بالوقوف على العقل والعلاقات الغامضة التي تربط –وهي هنا السلطة الملكية- مع ما هو أساسي والذي يجعلها تعترف أنها لا تسود لوحدها.

رجل في خطر.
يجب التساؤل لماذا حافظ لفظ "الحمق" حتى عند فوكو على كل هذه القدرة على التساؤل. ففي مناسبتين يؤاخذ نفسه لكونه أعجب بفكرة وجود عمق للحمق، مما يشكل تجربة أساسية خارج التاريخ، ويكون الشعراء [والفنانون] شهوداً أو ضحايا أو أبطالاً. لكن إذا كان هذا خطأ فإنه كان لصالحه. إذ بفضله [وفضل نيتشه] وعى عدم محبته لمقولة الحمق، وسيتعقبه في الخطاب، والمعنى المستتر، والأسرار المغرية أي المعاني الثنائية أو الثلاثية التي لا يمكن القضاء عليها، إلا بالحط من المعنى نفسه، وكذا الألفاظ والمدلول وحتى الدليل.
وهنا أقول إن فوكو الذي صرح يوماً بتحد "متفائل محظوظ" كان يشعر بخطر يحدق به، وبدون أن يتباهى بما كان يعرفه، كان له حس حاد بالأخطار التي نتعرض لها. فتساءل لمعرفة ما يهددنا، ومع من يجب أن نؤجل الحرب. ومن هنا أهمية مقولة الاستراتيجية بالنسبة إليه. وعليه لو أراد اللعب بالفكر، وسمح بذلك القدر والحظ، لكان رجل دولة [مستشاراً سياسياً] أو حتى كاتباً -هذا اللفظ الذي كان يتحاشى استعماله بقدر من الحشمة والوقار- أو فيلسوفاً خالصاً أو عاملاً غير مؤهل، أي ذاتاً لا تعرف من هي ولا كيف هي.
على كلّ حال، إنه رجل يسير وحيداً، محتاطاً من امتيازات العمق، رافضاً شراكات الماهية، باحثاً عن إمكانية وجود خطب السطح التي تنعكس عليه، لكن بدون سراب وغير بعيد، كما أعتقد، عن البحث عن الحقيقة والمخاطر [وكم هي كثيرة] التي تهدد هذا العمل، وكذا علاقاته الملتوية بعُدّة السلط المختلفة.