ترجمة: كاميليا صبحي
The first, nicolas pegon |
لعل سرد تاريخ الأدب الإباحي هو شيء يتطلب توضيحاً. فإذا كان تعريف الأدب
هو أمر في متناول كلّ من المؤرخ والناقد فإنه من الصعوبة بمكان إيجاد تعريف للأدب
الإباحي أو إدراجه ضمن نظريات الأنواع الأدبية.
بعد أن كنت متيقناً من أن لقائي وجان جاك بوفير سيجلي لي بعض
الحقائق بشأن هذا الموضوع، أصبت بدهشة عميقة، إذ أنني لم أبلغ حد اليقين ولم أصل
إلى أي تعريف يذكر من ذلك الناشر المفترض منه المعرفة بالشيء. وكأن الأمر مجرد زبد
من المعلومات غير المؤكدة. وسوف آخذ مثالاً أحد القصص التي رواها لي والتي نشرها
في الجزء الرابع من "مبحث القراءات الإباحية" والذي يتناول فيه الفترة
التي شهدت نشأة الكتابة وحتى قيام الثورة الفرنسية.
تروى احدى المدونات السومارية والتي تسمى أيضاً بالمسمارية نظراً لأن تلك
الكتابة كانت تعتمد على إحداث شقوق متتالية على ألواح من الفخار بواسطة أعواد من
البوص المبرى تروي حكاية احدى الآلهات التي انطلقت تلاحق إلها اغتصبها يروي الناشر
أن تكرار الثقوب المحفورة في الفخار إنما يرمز إلى الأعضاء التناسلية للمرأة. ولكن
من أين تأتى له أن ذلك الثقب يحمل هذا المدلول وحتى إن تاكد من ذلك فهل كان
المقصود هو المهبل أو الرحم أم ورقة اللوتس؟ أم أنه كان يرمز إلى جنس المرأة بشكل
عام؟ إن تعريف الأدب الإباحي يتطلب أن نتساءل قبل كلّ شيء عن طبيعة هذا الأدب. فهل
هناك بالفعل نوع أدبي يمكننا تسميته بالأدب الإباحي؟
ازدراء الإله
يعرض جان جاك بوفير تاريخ الكتابات الإباحية الذي يتضمن دراسة
تاريخية عن الإنسان وكذلك دراسة اجتماعية للفترات التاريخية التي كان يحظر خلالها
الإمتاج الأدبي المشين.
ومن بين تلك الفترات ما جاء في مقدمة كتابه "مسافر ليل" الذي يقع
في الجزء الثاني من مبحثه، إنه في القرن السادس عشر ومع نشأة الطباعة لم يكن حظر
النشر يسري إلا على النصوص التي تمس العرش أو الكنيسة بسوء. أما الكلمات الفجة
والتعبيرات الفاضحة فلم تكن قط من الممنوعات. أما القرن السابع عشر الملقب بالملك
الشمس، الذي كان، حكم أخلاقي بالدرجة الأولى، دفع كل من بير بيتيه وتيوفيل
دو فيو حياتهما ثمناً لكتابات اعتبرتها الكنيسة تدعو للفسق، بالرغم من أن
الدافع الحقيقي وراءها كان سياسياً أكثر منه أخلاقياً، بينما شهدت نفس تلك الفترة
ظهور الأدب الإباحي. «لقد
ابتكر الكتاب الإباحيون الفرنسيون ما يسمى بالنص الجنسي على النحو الذي سيظل عليه
لفترة طويلة، وهي بحق نصوص فاجرة مدمرة باحتقارهم للعادات الطيبة فإنهم بذلك
يزدرون الإله أيضاً، بل وينفون وجوده باسم الإنسان».
ولقد شهد القرن الثامن عشر قدراً كبيراً من حرية السلوك كذلك أطلق الثوار
سراح سبعة سجناء من الباستيل كما أفرجوا عن عدّة ألوف من الكتب الممنوعة من
التداول. وما أكثر الكتب التي تناولت الحياة الجنسية للملك والملكة في تلك الحقبة.
وعلى صعيد آخر يعدّ كتاب "جوستين الجديدة" للـ مركيز دي ساد
كتاباً تعليمياً عن التنشئة الجنسية لدى الشابات. ومن ناحيته، أقرّ نابليون
الرقابة مرة أخرى، كما قامت الحركة الإصلاحية في البلاد بتشديد الرقابة على إصدرات
الصحف وأدين الناشرون الذين قاموا بإصدار كتاب "الراهبة" لـ ديدرو
و"العلاقات الخطرة" لـ لاكلو بزعم أنهم بذروا آفة الثورة. وكذلك
كان الأمر بالنسبة لشعر بودلير الذي اعتبر عام 1857 أنه «يؤدي
إلى تهييج الحواس بواقعيته الفجة الخادشة للحياء».
أما رواية "الطفيلي" لـ جول رونار التي صدرت عام 1890 فلقد أحدثت
جلبة كبيرة. وقد نشر هوسمان عام 1891 في بلجيكا كتاباً جاء فيه: «أن
الجانب الداعر والحسي بالكتاب ليدعو حقاً للاستنكار» وقد
حظيت تلك الرواية التي امتزج فيها الجنس بالروحانيات والسحر بنجاح مدوّ. أما قائمة
الكتب المحظور تداولها فلقد امتدت طوال فترة الجمهوريات المتلاحقة.
ولقد امتدح الشاعر الفرنسي أبولينيير أعمال ساد وبذل ما في
وسعه لتهيئة القارئ وحثه على قراءة كتاباته ومساندة مؤلفاته الإباحية. وقد جاء في
حيثيات حكم قضية ساد أن «الهدف
من المرسوم الصادر بشأنه بتاريخ 29 يوليو/ جويلية عام 1993 هو حماية الآداب العامة
ضدّ ذلك العرض الفاحش للفجور الجنسي، وضدّ التعبير عن الفكر بأية صورة من الصور
حينما يتخطى كلّ الحدود وينتهك قواعد اللياقة والاحتشام المتعارف عليها.»
أما فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية فيبدو أنها ارتضت نظاماً أخلاقياً
مختلفاً عن ذلك الذي انتهجه ماريشال، مما أحدث تغيرات وتقلبات كثيرة
للناشرين والكتاب.
فـ ميلر، الذي صدر له كتاباً في فرنسا في فترة ما بين الحربين إلى
جانب كتب كلّ من جويس وكولات وجيد الذي كان يمتدح الشذوذ
الجنسي، كان في تلك الفترة مطارداً. كذلك كان الحال بالنسبة لـ بوريس فيان
بسبب كتابه "سوف أبصق على قبوركم". ولقد صدر عام 1954 كتاباً لـ بولين
رياج تمّ تداوله سراً تحت عنوان "حكاية أو" وكذلك طبعت 220 نسخة في الخفاء
من كتاب "جسدي، ذلك الشيطان العذ" لـ بيار ماسو عام 1953. أما برنار
نويل فقد أدين لانتهاكه الآداب العامة بسبب كتابه "قصر السان".
إباحية
بالأمس.. أدب اليوم
إذا كانت حيثيات الإدانة الموجهة لهؤلاء الكتاب توضح أن كل ما يمس الجسد
ويصدم الحياء يعتبر شهوانياً وإباحياً فهل ينطبق ذلك على الإصدارات السرية التي
يتم تداولها في الخفاء وعلى الكتب المحظور نشرها، وهل كبت الحريات الإباحية سيحدد
إذا كان هذا الأدب إباحي أو جنسي؟ فما أدين بالأمس أصبح اليوم ينشر في "دار
البليياد" أحد أرقى دور النشر، أي أن ما كان إباحياً بالأمس أصبح أدباً
اليوم؟
عموماً إذا أقرّ القانون شيئاً وجعله قاعدة وحكماً فلا يسعنا نحن أن نقول
قولاً آخر.
و«قديماً،
كان نظام الرقابة يجعل من الخصم شخصاً مسالماً تماماً بحرمانه من أساليبه
التعبيرية. أما النظام الجديد فإنه يعمد إلى تسطيح المعنى وإفراغه من المضمون حتى
يفتقر تماماً إلى أية مقدرة هجومية. وهو إجراء أشدّ صرامة، ويتم في تكتم شديد».
[من كتاب "قصر السين" لـ برنار نويل].
ويمكن إرجاع تعريف الكاتب جورج باتاي للجنس بأنه «الرضا
بالحياة حتى في الموت»،
إلى نظرية فرويد حول غريزة الموت ومدى ارتباطها الوثيق بمبدأ الحياة
وديناميكية البقاء. وفي ضوء التطور الفكري الذي طرأ علينا لن يصبح الأدب الإباحي
هو ما يمس الجسد ويخدش الحياء ولكنه سوف يرتبط بما يجذب في الجنس إلى الموت وتدمير
الجسد. يقول باتاي «إن
أعضاءك التناسلية هي أقتم وأدمى نقطة في جسدك... ولهذا يجب عليك أن تستمع إلى ذلك
الصوت المتوحش المتحشرج الآتي من أعماق أحشائك». إن
أنشودة أيروس تدعو الآن إلى التوحش والعنف وتضع الأدب في جانب التجربة المحيرة،
تجربة الآلام والقتامة والدناءة والجنون، وأما القراءة فتضعها في جانب الاختناق
الداخلي. وبهذا ينفتح الأدب الإباحي كانفتاح صمام داخلي، ليخلق نوعاً من الفصام
الفكري إذ يعبّر عن نشوة الجسد.. ولكن.. بلغة مبتورة. «الآن
أكتب بلغة اغتصابي..» [ب.
جويوتا، من كتاب العيش]
المصدر: نماذج من الفكر الفرنسي المعاصر، ترجمة د. كاميليا
صبحي، دار الثقافة للنشر والتوزيع القاهرة، 1998، صص 24-29
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق