الثلاثاء، 23 يونيو 2015

نقد النقد.. موريس بلانشو: تزفيتان تودوروف

ترجمة: زياد العوده

تزفيتان تودوروف
إن مؤلَّفات بلانشو الناقد على درجةٍ عالية من التألُّق بحيث تُفضي إلى طرحِ إشكالٍ معيّن؛ فجملُه الرائقة والحافلة بالأسرار في آنٍ واحدٍ تمارسُ جاذبية لاجدال عليها. ومع ذلك، فإن أثرها النهائي يصيبُ المرءَ بالشلَل: إن كلَّ محاولةٍ لتفسير بلانشو بلغةٍ غير لغته يبدو أنها مضروبة بحظر غير مُعلن؛ ويبدو أن الاختيار الذي يجد المرء نفسه مسوقاً إليه هو التالي: الإعجاب الصامت [الذهول] أو المحاكاة [التفسير المسهب، أو الانتحال]. إن عدداً من مجلّة "نقد"، للعام 1966، مكرّساً لمؤلفات بلانشو يمثّلُ جيداً للتنويع الثاني [باستثناء حالتين هما يوليه ودومان]؛ فـ بلانشو أيضاً هو الذي يبدو أنه يكتبُ بريشة ميشيل فوكو: «الغياب الذي لا يُقهر»، و«الفراغ الذي يستخدمه كمكان»، و«قانون لا قانون العالم»، و«الحضور الواقعيّ القصيّ تماماً، والوامض، وغير المرئي»، (الصفحات: 526-527)، أو، بريشة فرانسواز كولان: «الصمت الكلام، والذاكرة نسيان، والحقيقة ضلال»، (الصفحة: 562)، أو بريشة جان بفيفر: «إن اللامكان هو بشكل من الأشكال نهاية هذا الفضاء الذي لا نهاية له»، (الصفحة: 577). إن البعض يعلنون ذلك بصراحة: أخشى ألا يكون هذا التعليق أكثر من نوع من شرح مسهب [...]؛ فمن الصعب أن يتكلم المرء على بلانشو من غير أن يقع تحت تأثير سحر غريب، ومن غير أن يأسره صوت الكاتب نفيه»، (ج. ستاروبينسكي، الصفحة: 513). «إن كلّ شيء ينبغي أن يُقال هنا بصورة "الاحتمال"، كما يفعل بلانشو نفسه"، (ا، ليفيناس، الصفحة: 514). شرح مسهب أو صمت: يبدو أن هذا هو حظٌ كلّ أولئك الذين يحاولون أن يفهموا بلانشو. وتزكّي عبارة جميلة لـ روجيه لايورث الموقف الثاني في الوقت الذي تمارس فيه الموقف الأوّل.
«إذا ما تساءلنا، بعد أن نُغلق كتبَ بلانشو كافة: «وأخيراً فعما تكلّمنا مؤلَّفات بلانشو؟»، فإننا سنشعر حقاً بأنه من المتعذّر أن نجيب، وأنه ما من جواب على هذا السؤال. إن كلمة ما تتحدّثُ، ولكنها لا تقولُ شيئاً، وكلّ ما تفعلُه هو أن تتحدث كلام فراغ، ولكنه ليس كلاماً من الفراغ. إنه لا يدلّ على شيء، بل يشير، وهكذا، فمن خلال هذا الكلام ذاته يغدو المجهول مكشوفاً، ويظلُّ مجهولاً. (الصفحات 589-590).
بعد هذه الإيعازات الصريحة والضمنية، يشعر المرء مسبقاً بأنه مخطىء إذا ما حاول أن يحطّم «السحر الغريب، وأن يسعى لمعرفة ما يقوله بلانشو بالضبط عن الأدب وعن النقد. ومع ذلك؛ فاللغة ملك عام؛ فالكلمات والتراكيب النحوية لها معنى يتضمن شيئاً فردياً. يقالُ إن الشعر غير قابل للترجمة، غير أن الفكر ليس كذلك، والحق أنه لا بدّ أن يكون هناك فكرٌ لـ بلانشو، ضمن آلاف الصفحات النقدية التي نشرت تحت اسمه. ولسوف أقبل، والحالة هذه، القيام بدور الخادم القبيح، وتقديم ترجمة لذلك الكلام الذي لا يقول شيئاً مستخدماً عباراتي:
إن تفكير بلانشو على الأدب ينشأ من تفسير لبعض جمل مالارميه التي يذكّر بها على امتداد مؤلفاته كلّها.
لقد كتب مالارميه: «حالة مضاعفة للكلام، حالة خام أو فوريّة في هذا الموضع، وجوهرية في موضع آخر»، ويفسّر بلانشو قائلاً:
«فمن جهة، هناك الكلام المفيد، الأداة والوسيلة، ولغة الفعل، والعمل، والمنطق والمعرفة، واللغة التي تنقل البلاغ فوراً، وتختفي، شأن كلّ أداة جيدة، في انتظام الاستعمال، ومن جهة الأخرى، كلام القصيدة والأدب، وحيث لا يعود التكلّم وسيلة انتقالية، تابعة واستعمالية، بل يسعى إلى الاكتمال من خلال تجربة خاصة. (الكتاب الآتي، 1959، الصفحة 247).

إن كلمة اللغة اليومية «معمول بها، وصالحة للاستخدام ومفيدة، بواسطتها نكون موجودين في العالم، ونكون موفدين إلى حياة العالم، هناك، حيث تتكلّم الأهداف ويفرض نفسه همّ الانتهاء منها [...]، أما الكلام الجوهري فهو في ذلك على النقيض. إنه بحدّ ذاته، جليلٌ، ويفرض نفسه، غير أنه لا يفرضُ شيئاً.» (الفضاء الأدبي، 1955، الصفحة 32).
إن الكلمات، في الشعر، لا ينبغي أن تُستخدم للدلالة على شيء، ولا أن تجعل أحداً يتكلّم، بل إن لها غاياتها في ذاتها»، (المرجع السابق، الصفحة: 34).
إن الكلام الشعري كلام لازم ليس له استخدام، وليس له دلالة، بل هو موجود وتكمن ماهية الشعر في البحث الذي يقوم به عن أصله. تلك هي الأفكار العامة. الرومانسية التي يقرؤها بلانشو عند مالارميه، والتي سوف تهيمن على المذهب المعروض في "الفضاء الأدبي"، وفي "الكتاب الآتي".
إن فكر بلانشو يتقولب هنا على صورة تاريخية تستلهم الهيغلية؛ فمنذ قرنين من الزمن، يخضع الفن لتحوّل «مضاعف؛ فلقد فقد قدرته على حمل المطلق، وعلى أن يكون سامياً، غير أن خسارته لهذه الوظيفة الخارجية قد عوّضتها كما يبدو وظيفية جديدة داخلية؛ فالفن يقترب أكثر فأكثر من ماهيته؛ فماهية الفنّ، بتحصيل الحاصل، هي الفن نفسه. أو، على الأصحّ، إمكانية الإبداع الفنّي نفسها، والتساؤل على الموضع الذي ينبثق منه الفنّ [ومن هنا فإن هذه الفكرة تنتمي أيضاً إلى المذهب الرومانسي الذي يثمن في الفن عالياً. نتاجه وصيرورته]، فتصبح كلمات بلانشو المفتاحية، والحالة هذه هي أصل، بداية، بحث. فاليوم فقط، وبعد أن كان الفنّ إلهياً وبشرياً، ولم يعد بإمكانه أن يكون كذلك، فإنما يصبح ذلك التقصي المثابر عن أصله.
أما اليوم.
فما يريد الفنّ أن يؤكده هو الفن، إن ما يبحث عنه، وما يحاول إنجازه، هو ماهيّة الفن [...] وهذا اتجاه يمكن تأويله بالعديد من الصور المختلفة، ولكنّه يكشف بقوّة عن حركة تجتذب كافة الفنون إلى ذواتها، حسب أشكال خاصة،  وتركزها في همّ ماهيتها الخاصة، وتجعلُها حاضرة وجوهرية. (الفضاء الأدبي، الصفحات: 228-229). إن كافة الأدباء المحدثين حقاً، وكلّ أولئك الذين يؤلفون آلهة بلانشو، يتميزون بهذه الصفة بالتحديد. إن هوليدرلان، وجوبير، وفاليري، وهوفمانستال، وريلكه، وبروست، وجويس، ومان، وبروش، وكافكا، وبيكيت، الذين اجتمعوا فجأة، بشأن المعاصرين الذين اجتمعوا لدى سارتر، يؤكدون شيئاً واحداً ووحيداً، ويشبه بعضهم البعض الآخر بصورة محزنة. إنهم يردّدون أن الفن بحث عن أصل الفن.
إن ما يدهش في هذه الصورة، ليس هشاشتها التجريبية القصوى فحسب، والتي هي أكثر أيضاً من هشاشة التاريخ الأدبي الذي يعرضُه سارتر، بل أيضاً تلك السمة الأخرى الهيغيلية حقاً، والتي هي الامتياز المفرط الممنوح للزمن الحاضر، وهو الامتياز الذي يدافعُ عنه بلانشو بصراحة، من غير أن يشكّك به قطّ. وهو يكتبُ اليوم: «أن الفن يتبدى للمرة الأولى باعتباره بحثاً يتعرض شيء أساسي منه للخطر»، (الصفحة: 229). وفي موضع آخر:
أما اليوم، فالمسألة تدور بصورة جليّة على تغيّر أكثر أهمية حقاً [من التغيّر الذي حدث في الثورة الفرنسية، والذي أتت لتتجمع فيه كلّ الاضطرابات السابقة، وهي الاضطرابات التي حدثت في زمن التاريخ، لكي تستدعي القطيعة مع التاريخ، (الحديث اللانهائي، 1969، الصفحات 394-395).
إن اللحظة الحاضرة هي اللحظة التي يبلغ فيها التاريخ كلّه قمته، ومنها بالذات يُلغي نفسه... إن لزوم الكلام، والمؤلف الذي يندار نحو أصله الخاص، لعلّ هذه هي ميزات نتاج أدبي معين، خلال مرحلة معينة من أوروبا الغربية، إنها ميزات ثقافية معينة ينتمي بلانشو إليها؛ فلماذا لا يعير انتباهه إلى أولئك الذي يشبهونه، وهو الذي يحب أن يُعلن فضلاً عن ذلك ضرورة الاعتراف بالآخر. إن الأمثلة التي تعترض على هذا الوصف للأدب شديد الوفرة، وهي تحضر بسهولة بالغة إلى الذهن بحيث لا يغدو ضرورياً أن نوردها. فلماذا لا يلاحظ بلانشو أن الرواية سوف تشهد تغيرات جديدة ومدهشة، تضعها بعيداً عن الكلام اللازم، كما تضعها بعيداً عن البحث الصرف عن أصلها ذاته، في حين كان يُعلن أن الرواية «من لا مستقبل له» في مناطق أخرى من العالم، وحتى في هذه المناطق نفسها؟ إن كلّ ما يمكن قوله هو أن مؤلفات بلانشو تقوم ضمنياً شاهداً على قبول هذا المثل الأعلى، وليس سواه. لأنها تغدو بذاتها كلاماً لازماً، وسؤالاً يُثار بلا كلل، ولكنه لا يُحلّ قط، ويعلن هذا السؤال جهاراً بأننا [ولكن من "نحن"؟ الغربيون؟ أم الأروبيون؟ أم البارسيون؟ نحن اللحظة التاريخية التي لا يمكن تخطيها في التاريخ. وإذا ما افترضنا أن وصف زمننا الذي يقدّمه بلانشو وصف أمين، فلماذا يكون الحاضر هو الزمن الأسمى؟ أليس في هذا الأمر ربما أثر مما يسميه علم نفس الطفولة "وهم التمركز على الذات"؟ لم يكتف بلانشو بممارسة النقد، أو بأن يرجع إليه بصورة عابرة؛ وقد كرّس له أيضاً نصاً مقتضباً عنوانه: "ماذا عن النقد؟" وقد نُشر في مقدمة كتابه: "لوتريامون وساد، 1963- الطبعة الجديدة). وهو ينطلق فيه ممّا يعتبره أمراً بديهياً، وذلك لأن المثل الأعلى للتفسير هو أن يجعل المفسّر نفسه غير منظور، وأن يضحي بنفسه على مذبح فهم المؤلَّف. إن تجربة كهذه تتضمن، كما يمكن أن نظنّ، عدم تواصل جذريّ بين الأدب والنقد –فأولهما يُثبت، والآخر يمحي- ويحظر على الناقد أن يضطلع بصوت يكون خاصاً به. ولعلّها تكون تجربة مألوفة بالنسبة لـ بلانشو، والنقد التاريخي، في مطلع القرن [لانسون: نريد أن نكون منسيين، وألاّ يرى الناس إلا مونتيني وروسو»] وكما هي مألوفة، بالنسبة لألوان الوصف العلمي التي تجري في أيامنا حيث يسودُ الظن بأننا نستبعد كلّ ذاتية، من خلال استبدال الصياغات بالكلمات، وإذا كان ثمة اختلاف في المثل الأعلى بين ناقد ونقّاد آخرين، فهذا الاختلاف كامن في الأناقة التي يعبّر بها بلانشو: فهو يقول مثلاً، إن النقد كالثلج الذي، إذا تساقط، يجعلُ جرساً يهتزّ، وأنه يجب أن يمّحي ويختفي ويتلاشى، إن الناقد لا يصنعُ شيئاً، لاشيء سوى أن يجعل أعماق المؤلَّف تتكلم. (الصفحة: 10)، إن الكلام النقدي الذي لا ديمومة له، ولا واقع، يودُّ أن يتبدّد أمام الإثبات الإبداعي فليس على الإطلاق هو الذي يتكلّم، حين يتكلّم، (الصفحة:11).
ولكن بلانشو لا يرى أن النقد متميّز عن الأدب تميُّزاً جذرياً، مع أنه يحمل المثل الأعلى ذاته («إنه حضوريّ ورومانسي»)، والذي يحمله المؤرّخ أو "رجل العلم"- بل على العكس من ذلك، إنه لا يكتفي، شأن سارتر، بأن يكتب كتباً نقدية جميلة كجمال الروايات. فهو يصنع النظرية أيضاً من هذه الاستمرارية. ولئن كانت نقطة الانطلاق هي نفسها عند الآخرين جميعاً من "الحضوريين"، في حين أن النتيجة مختلفة تماماً، فذلك لأن الفكرة التي يكوّنها عن الأدب هي كذلك فكرة أخرى جذريّاً. ففي نظر "الحضوريين" ليس هناك أية مشكلة: فـ روسو «يعني شيئاً ما، وهذا هو المطلوب إيضاحه. أو أن "إيلويز الجديدة"(1) في كلّ الحالات، ذات بنية يجوز لنا أن نصفها، والحق أن المؤلّف. في نظر بلانشو، كما رأينا، ليس بحثاً عن المؤلّف. إنه ليس شيئاً يكشف عن امتلاء بالمعنى، مهما كان امحاء الناقد ضئيلاً»، ولكنّه امّحاء بحدّ ذاته، و"حركة اختفاء" (الصفحة: 12)، إن اثباتات المؤلَّف وهم، وحقيقتها غيابُ كلّ انشغال بالحقيقة، فيحلّ محلّه تقصّ عن أصله الذاتي. إن الأدب والنقد يلتقيان في هذه الحركة، والنقد، شأن المؤلَّف، «يرتبط بالبحث عن إمكان التجربة الأدبية» وهو، نتيجة لذلك «يتماسك نفسه في داخل المؤلّف، لفرط اختفائه فيخ، وكأنه احدى لحظاته الجوهرية. (الصفحة: 13-14).
وإذا لم نشاطر بلانشو مفهومه عن الأدب، فلن يكون ممكناً أن نكتب مثله: «النقد -والأدب- يبدو لي...»، (الصفحة: 15)، ولكننا، حتى ولو لم نفعل ذلك، يمكننا أن نبقى على وصفه للفعل النقدي باعتباره ملازماً للمؤلّف المحلل ملازمة تامة، وأن نبني عليه مقتضى آخر موجّهاً إلى النقد الأدبي والذي هو: التخلّي عن كلّ تعال، ونتيجة لذلك، عن كلّ رجوع إلى القيم [وهذا اقتضاء يشترك فيه بلانشو من جديد مع مشروع الاتجاه التاريخي ومشروع البنيوية]. ومع ذلك، فالمشروعان متضامنان عند بلانشو، وذلك لأن الرواية أو القصيدة [تسعى إلى توكيد نفسها بمعزل عن أية قيمة»، ولأنها تُفلتُ من كلّ منظومة للقيم»(الصفحة: 14)، ولأن النقد يجب أن يكون كالأدب الذي يحدّد بلانشو له هذا البرنامج: ينبغي للنقد أن يكون مشاركاً في احدى المهام الأكثر صعوبة، والأكثر أهمية في عصرنا [...]: إنها مهمّةُ المحافظة على فكرة مفهوم القيمة وتحريرها» (الصفحة: 15).
إن هذه الجملة تجعلني أغرق في التأمل [إذا افترضنا، بطبيعة الحال، أن جمل بلانشو تقول شيئاً بدلاً من ألاّ تقول شيئاً، ولكني لا أرى لماذا نشكّ بذلك، بالنتيجة. أما أن تكون الـ(قيم) قد اهتزّت في أيامنا، فهذه حقيقة واقعة. ويمكن أن ننظر إلى حالة الأشياء هذه على أنها غير قابلة للارتداد، وأن نمتثل للعجز، أو أن نحاول السير بعكس التيار، وأن نبحث عن قيم جديدة، قد يكون بالإمكان الإيمانُ بها. إن تهديم القيم ليس صعباً في شيء: إنه يجري أمام أعيننا كلّ يوم. أما أن نتصور القيم باعتبارها طاغية ينبغي أن نحرّر منه فكرنا، وأن نصنع من هذا التحرير المهمة أكثر أهمية للنقد وللأدب، فهذا ما يكشف عن مثل أعلى فريد حقاً.
تؤكد كتابة بلانشو ذاتها في كل لحظة هذا الهمّ، همّ تحرير الفكر من كلّ رجوع إلى القيم والحقيقة، ومن كلّ فكرة، كما يمكن أن يُقال، وغالباً ما قيل عنه: «إن الأدب يمكن أن يُصنع في الوقت نفسه الذي يبقى فيه باستمرار مليئاً بالنواقص»، «إنه العمق وغياب العمق كذلك.»، يكتب هنا (الصفحة 13 و14)، وفي موضع آخر: [الكتاب الآتي]: «الامتلاء الخاوي» (الصفحة: 16)، و(«دما ينتظر مجيئه»، و«انقضى زمنه على الدوام»، (الصفحة: 17)، و«الفراغ باعتباره امتلاء» (الصفحة: 30). و«مساحة لا مكان لها». (الصفحة: 100)، و«وجه شاسع نراه ولا نراه» (الصفحة: 105)، و[الاكتمال غير المكتمل] (الصفحة 176)، و«مع ذلك، فالذات لا يشبه الذات، (ص: 271)، وهكذا دواليك، بلا نهاية. [لقد رأينا أنه بهذه الطريقة إنما كان من الأسهل محاكاة "بلانشو"]، غير أن تأكيد (أ) وليس (أ) في الوقت نفسه، يعني وضع البُعْد الجزميّ للّغة موضع تساؤل، واتخاذ خطاب يتعدّى فعلاً الصحيح والخاطئ والخير والشرّ.
ذلك لأنه من الواضح أن "القيم" التي يهاجمها بلانشو ليست القيم الجمالية الوحيدة. إنه لا يطلبُ من النقد ببساطة أن يتخلّى عن إعداد لوائح بالجوائز. اللّهم إلاّ إذا كان ذلك هو إحدى المهمات «الأكثر أهمية في زمننا»، ولا تزال هذه العدمية تكشف بوضوح أكبر قليلاً انتماؤه العقائدي، حين يقترح بلانشو أن يضع محلّ الرجوع إلى الحقيقة، وإلى القيم «نوعاً آخر [...] من التأكيد مختلفاً تماماً (الصفحة: 15).
وفي هذا الاقتضاء، لا نجد شيئاً مستحدثاً بصورة خاصّة: إنه يرتبطُ بالتقليد النيتشوي، ومن قبله بالتقليد السّاديّ الذي يثمن القوة على حساب الحق [إن ساد ونيتشه مؤلفان أثيران عند بلانشو].
ويمكن أن نقول كلّ شيء عن الأدب؛ فذلك لا يصدم أحداً قط. والشعراء أشياء زائلة، يُسمح لهم بكلّ شيء، غير أن جمل بلانشو هذه تتجاوزُ الإطار الأدبي، وهذا بلا شك هو السببُ الذي يثير غضبي من أجله؛ ففي زمننا، بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد انكشاف الحقائق عن النازية، نكتشفُ بذعر إلى أين يمكن للبشرية أن تصل إذا ما تخلت عن القيم الشاملة التي تصنع مكانها إثبات القوّة؛ ففي تلك الفترة من التاريخ، إنما يعلّق بلانشو أنه لا ينبغي أن نأسف على تدمير القيم فحسب، بل ينبغي أيضاً أن نجند الأدب والنقد لهذه المهمّة النبيلة وهي: أن ندوس هذه القيم أكثر بقليل أيضاً. سيُقال لي أني أُدخل بصورة متعسفة اعتبارات سياسية في ذلك الموضع الذي لا يدورُ الأمر فيه إلاّ على أمور غير مؤذية كالأدب. بيد أن الانتقال قد حدث مسبقاً في نصّ بلانشو. ونحن نعلم أنّ بلانشو، قبل الحرب، كان قد جعل من نفسه ناطقاً بلسان نزعة معادية للسامية. ولقد تخلّى عن ذلك فيما بعد، وليس هذا هو الذي نأخذه عليه هنا. ولكنه، بعد الحرب، [إنّما يقترح علينا أن ننخرط في المعركة ضدّ القيم. إن انكشاف الفظاعات النازيّة لم يهزّ تلك القناعة، حتى ولو أنّ بلانشو، إضافة إلى ذلك، يتكلّم بقوّة ونبل عن معسكرات الإبادة: إن ردود فعله العاطفية والأمينة تبقى مُسقطة على مبادئه، وثمّة نصوص أخرى لـ بلانشو تُظهره بصورة خاصة متسامحاً تجاه الشمولية السوفييتية، وبما أنه يدرك الاستمرارية بين "موت الفلسفة" الأثير لديه، وثورة أوكتوبر، فهو يفضّلُ أن يقبل بهذه الثورة على أن يتخلّى عن تلك الفكرة [موت الفلسفة].
إن ثورة أوكتوبر ليست تجلياً للخطاب الفلسفي وحسب، تعظيماً له، ورؤيا نهائية، بل هي تحقيق له يدمره [...]؛ فمنذ قرن ونصف القرن، وتحت اسم الثورة، كما تحت اسم هيغل ونيتشه وهيدغر تثبتُ الفلسفة نفسها أو تحقق نهايتها الذاتية(02).
وبروح التخلّي عن القيم الشاملة، إنما يأخذ بلانشو على ياسبيرز أنه قد وضع الخطر النووي والخطر الشمولي على المستوى نفسه. في حين يتكلّم الفيلسوف الليبرالي، من غير معاينة ولا نقد، على الشمولية، ويتكلّم معه قسم كبير من الناس، هناك آخرون، ومعهم قسم كبير من الناس، يتكلّمون على التحرر، واكتمال الجماعة البشرية في جملتها. (الصفحات: 121-122).
إن بلانشو لا يحكمُ لصالح المدافعين عن الشمولية، ولا لصالح خصومها، بعد أن يرفض، "القيم القديمة"؛ ففي غياب كلّ معيار شامل، يصبح الأمر مسألة وجهة نظر؛ فالبعض يتكلّم على هذا النحو، والبعض الآخر على نحو مخالف [ولنتغاض عن حقيقة أن سكان العالم السوفييتي الذين، في نظر بلانشو، يفكرون جميعاً حسب العقيدة الرسمية، في حين أن ياسبيرز ما كان له أن يطلق إداناته، إلاّ لأنه لم يجر فحصاً نقدياً حقاً.
ذلك إذن هو الوجه السياسي لنظرية بلانشو الأدبية، فإذا ما قبل المرءُ هذه النظرية، فلابدّ له من أن يتحمّل تبعات ذلك الوجه. وتجد العقيدةُ النسبية والعدمية عنده نوعاً من مآل معين، ونصوصه التي لا تُعتبر مُعرضة عن أي قول، تقولُ علانية ما كان يمكن أن يبقى مضمراً في مواضع أخرى. إنها ليست نصوصاً غامضة، بل هي ظلامية. إن بلانشو حقاً ناقد-كاتب، ولكنه من نوع ينتمي، في نظري، إلى الماضي.

الهوامش:
(1)    إيلوز الجديد: مؤلف لجان- جاك روسو. (المترجم)
(2)    النادر لا حكم له. وأنا أسمح لنفسي بأن أُحيل، حلو مسألة "موت الفلسفة"، هذه وحول بعض المسائل الأخرى التي ترتبط بها، إلى مقالة حديثة العهد لـ: ل. فيريّ وا. أرنو، عنوانها: "هل نتفلسف بعد نهاية الفلسفة؟"، المناقشة رقم 28، 1984، الصفحات 137-154.


المصدر: تزفيتان تودوروف، النقاد-الكتاب (سارتر، بلانشو، بارت)، ترجمة زياد العوده، مجلة الآداب الأجنبية، العدد رقم 101-102، 01 يناير 2000، صص 142-150.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق