الأربعاء، 2 مارس 2016

بروست: صمويل بيكيت




بروست
تأليف صمويل بيكيت
ترجمة حسين عجة


تصميم الغلاف نصر سامي




المقدمة
تأليف إديت فورنييه
ترجمة ميلود خيزار (كاتب جزائري)

باريس، 1930، يُنهي صمويل بيكيت سنته الجامعية الثانية بعمر الرّابعة والعشرين، كقارئ للإنجليزية في  المدرسة العليا (l’Ecole normale supérieure) شارع «Ulm».
وكان قبل ذلك بثلاث سنوات قد أنهى دراساته العليا في كلية «Trinity Collège» بـ"د وبلن"، حيث نال ميدالية ذهبيّة إضافة إلى حصوله على دبلوم « Bachelor of Arts»، المعادل لشهادة ليسانس آداب. فرع لغات رومانية: فرنسيّة، إيطالية، إسبانية. ويباشر، علاوة على ذلك، و بدءاً من 1925، دراسته للّغة والأدب الألمانيّين. فيما تَصوّر له أستاذه الخاصّ «Thomas Rudmose Brown» مساراً مهنياً كأستاذ بمعهد «Trinity» للآداب. كما حثّه على ترتيب بعض الإقامات في فرنسا وإيطاليا أثناء عطل الصيف لعامي 1926 و1927 في مدينتي "تور"  ثمّ "فلورنسا". و كان ثمة تبادل للقراءات بين معهدي: المدرسة العليا و «Trinity Collège».
نهاية سنة 1927 حصل الأستاذ «Thomas Rudmose Brown» لفائدة صمويل بيكيت، على منصب قارئ للأدب الإنجليزي لسنوات 1928 - 1930. و بتشجيع من أستاذه، خطّط بيكيت، مستغلاً تواجده في باريس، لإنجاز أطروحته، ورأى أنه من الأفضل أن تكون حول شاعر ربما كان فيرهارن (Verhaeren) أو بيير جون جوف ( Pierre Jean Jouve) الذي كان يتأرجح بين الرّمزية والصّوفيّة. كان عملاً مرغوباً أن يكون صمويل بيكيت قد أنجز عملاً أكاديمياً وهو عائد إلى دوبلن. في انتظار استلامه لمنصبه في باريس، كان صمويل بيكيت يدرّس الفرنسية في «Campbell Collège» في بيلفاست. أثناء السنة الدراسية لعام  1927- 1929. يخوض تجربة التّدريس الأولى لكنها لم ترُق له، و بشعور بالفرج يباشر عمله بتعيينه كقارئ للأدب في أكتوبر 1928 بـ:"المدرسة العليا"
الشاب ذو الاثنتي والعشرين سنة والذي يستقر بشارع «Ulm»، صار يملك رصيداً ثقافياً كبيراً، متحفّظاً وساكتاً في أغلب الأحيان، كان يحدث له أن يشارك في تلك النّقاشات الطّويلة. كان زملاؤه في الدراسة، ومنهم جون بول سارتر وريموند أرون، يدركون سعة معارفه وذكائه أيضاً. إنهم يخالطون عقلاً استثنائياً، وفريداً. لم تكن ثمّة مدرسة تستهوي صمويل بيكيت ولا أيّة حركة، ظلّ مرتاباً من كل شيء، يلاحظ، يستمع، يتحدث ويشارك لكنّه يقف بمنأى عن كلّ منتدى. يلتقي في «l’Ecole normale»  بقارئ آخر، إنّه توماس ماك غريفي  (Thomas McGreevy) الحاصل على دبلوم من «Trinity Collège» والذي يكبره بعشر سنوات ويقيم بالعاصمة منذ 1926 ويعرف جيداً أوساط أيرلنديّي باريس، عن طريقه تعرّف صمويل بيكيت إلى جيمس جويس، وأُعجب، للوهلة الأولى، بذكائه وموهبته. إلى خريف 1928 لم يكن صمويل بيكيت قد نشر شيئاً بعد، فمنحه جيمس جويس هذه الفرصة، بمشروع إنجاز عمل مشترك: «Work in Progress»، و الذي بدأ جيمس جويس بكتابته في 1922 [متمّماً ومنقّحاً، لكنّ العمل لم يصدر العمل كاملاً إلاّ   في عام 1939 تحت عنوان: «Finnegans Wake»].
ولعلمه بتذوّقه للأدب الإيطالي وتحديداً أعمال دانتي، يقترح جيمس جويس على صمويل بيكيت دراسة تأثير  دانتي وبرونو وفيكو في كتاب «Work in Progress»، فيصدر صمويل بيكيت مقالته: "دانتي برونو جويس" التي ستصدر في 1929، تزامناً، متضمّنة في عملهما المشترك:   
«Our Exagmination Round his Factification for Incamination of Work in Progress (Paris, Shakespeare and Company).»
و في مجلّة:  «Transition»(عدد16 – 17 جوان 1929) والتي نشرها أوجين جولاس باللغة الإنجليزية في باريس. يفرد صمويل بيكيت نصف مقالته ذات الخمس عشرة  صفحة لدراسة عمل فيكو: "العلم الجديد"، مهتماً تحديداً بتصوّره للكلام وللشّعر، بينما لا يذكر برونو إلا بشكل عابر. ويكرّس النصف الثاني من مقالته لدراسة مقارنة بين دانتي وجويس والذي ينعته بـ: «بيولوجي الكلمات».  ["دانتي... برونو... جويس" سيعاد طبعه في «Disjecta»، لدى «John Calder» بلندن عام 1983] .
في العدد ذاته (16-17) لمجلّة  «Transition»ينشر أوجين جولاس قصّة قصيرة لـ صمويل بيكيت بعنوان: «Assumption». إنها أوّل ما يُنشر له في علم الخيال. متبوعة بأهجوّة قصيرة «Che Sciagura»، نشرت باسم غريب ومستعار «D.E.S.C» في «Trinity Collège Dublin Weekly» بتاريخ 14 نوفمبر 1929. وتطلبُ مجلّة أخرى: «This Quarter»، ناطقة بالإنجليزية صدرت في باريس عن « Putnam » و« Titus »، من صمويل بيكيت أن يترجم لها بعض النصوص الشعرية الإيطالية. وتصدر  ترجماته لـ مونتال، فرانكي وكوميسّو في عددها إبريل–ماي- جوان من سنة 1930،  في الفترة ذاتها يقوم بترجمة نصوص شعريّة لـكروفال وبول ايلوار إضافة إلى نصوص نثرية و شعرية لـ أندري بريتون والتي ستنشر    في المجلّة ذاتها لعام 1939، وهذه لم تكن ترجماته الأولى عن الفرنسيّة: فقد سبقتها ببعض الوقت ترجمته لـ"المركب السّكران" لـ رامبو (والذي انتهى منها في 1932، ولم تنشر إلاّ في 1976). و دائماً في بداية الثلاثينات يباشر محاولة في ترجمة مقطع من: Work in Progress،«Anna Livia plurabelle» .  ثمّ، ينشر، و في مجلّة «Transition» (عدد 19– 20 ماي - جوان 1930 )، إحدى قصائده «For future reference».
بداية جوان، وفي اليوم ذاته الذي يصادف آخر أجل، يعلم صمويل بيكيت بخبر إجراء مسابقة شعريّة موضوعها الوقت، في نصّ لا تتجاوز مئة بيت، مقترحة من طرف ريتشارد أندلسون ونانسي كونار. اللذين يشرفان على منشورات «Hours Press» في باريس. و في ساعات قليلة يكتب  «Whoroscope»وهي قصيدة في 98 بيتاً تتناول حياة ديكارت كما وصفها أدريان بايلي (Adrien baillet) في 1691. يُنهي كتابة النص آخر اللّيل ويدسّه في صندوق بريد نانسي كونار قبل طلوع الصباح ويفوز بالمسابقة.  وتصدر «Whoroscope» في شكل كتيّب في سبتمبر 1930 وتكون أولى المنشورات الفرديّة لـ صمويل بيكيت.
ولعلمهما بنيّة دار نشر «Chatto & Windus» في لندن وضمن سلسلة «Dolphin Books» بإصدار سيرة ذاتية لـ بروست، يقترحان الفكرة على صمويل بيكيت فيوافق.
السنة الجامعية تنقضي وعلى بيكيت أن يغادر الغرفة القذرة لشارع "أولم" والعودة إلى دوبلن بـ أيرلندا وإلى العائلة والتفكير في منصب الأستاذ الذي ينتظره في «Trinity Collège».
ويتذكّر«Thomas Rudmose Brown»، مشروع الأطروحة وكلّ المنسيّ في دوّامة حياة فكريّة مكثّفة بعيداً عن الاهتمامات الجامعيّة.
الأدب ألقى بـ صمويل بيكيت في الحيّ اللاتيني، والفلسفة التي درسها سابقاً في دوبلن صارت هنا رفيقاً مألوفاً.
أعاد قراءة ديكارت، عمّق دراسته لـ أرنولد غيلينكس (Arnold Geulincx)،لـ ليبنيز (Leibniz) (الذي يقرأه في لاتينيّته)، لـ ويتجينستاين، (Wittgenstein)، لـ شوبنهاور (Schopenhauer) لـ يونغ، لـ نيتشه(Nietzsche)، واستوعب طاليس وأرسطو وبيثاغور. قاده فلاسفةُ ما قبل سقراط إلى هذه التّخوم حيث تتجاور الطّبيعة مع الميتافيزيقا وحيث للمنطق والرياضيات نبرة شعرية. يكتشف أعمال فريتز موتنير (Fritz Mauthner) الذي قرأ له بالألمانيّة وعلّق على تلك التحليلات الدقيقة للكلام. لكنّه كان قد قدّم نفسه سابقاً في مجلة «Transition» «كشاعر وقاصّ أيرلندي»: كشاعر أوّلاً بنشره قصائد عديدة ضمن تلك التي ستنشر تحت عنوان:  «Echo’s Bones» (باريس 1935)  وكتبت أثناء العامين الأخيرين.
تأليفه لكتاب عن مارسيل بروست هو، في النهاية، فرصة ليجعل من ميوله الأدبيّة وذائقته الفلسفية وحبّه للشّعر، عملاً أدبيّاً.
في "دانتي... برونو... فيكو، جويس"،أثرٌ من حماسة الطّالب الشّاب، المتحكّم بصعوبة بفوران عبقريّته ومرتبكاً ربّما بروابط صداقته لـ جيمس جويس: فكلاهما يرى «أنّ الشّكلَ مضمون والمضمونَ شكل»، لكن إذا كان جويس منغمساً في الكلام فإنّ صمويل بيكيت يعدّ بهذا الخصوص ناسكاً.
في "بروست"، لأوّل مرّة، يعبّر عن نفسه ككاتب ناجز. لا يقوم صمويل بيكيت بعمل نقديّ أدبي هنا. إنه يتهجّي عن طواعيّة عبارة: "نقققققققد" (crrritique) وسيقول ذات يوم عن عمليّات النقد التي يمارسها إنّها: «عمليات استئصال لأرحام باستعمال المِسجّة». ولا ينصرف كذلك إلى تحليل أكاديمي مطابق.
أثناء عودته إلى أيرلندا،خريف عام 1930، وفي محاضرة ساخرة متلاعبة ( لزوم الحنين إلى "أولم")  يقول عن كاتب من اختراعه: «مجرّد فكرة تمجيد ما، واختصار ماهيّته إلى مجرّد  فُواق أكاديمي-ما يسمّيه:  «reductio adobscenum»، يُشنّج أعصابه ويبعثرها.إنّه لا يفهم الفهمَ بهذا المعنى».
 كتاب "بروست" هو فعل فهم حيث يَبرزُ، في الوقت ذاته، العملُ الأدبي المفهوم والذي فهمه، في هذا الفهم يشاركُ الإدراك، كلّهُ، الحساسيّةُ، الحدْسُ والفكاهة. تتدخّل الفكاهةُ تحديداً في الأسلوب، بكونها محمولة على محيط البحث. يترك صمويل بيكيت الاضطرابَ يُهدهدُ جملتَه، بالوتيرة ذاتها التي لدى بروست: في الوقت ذاته إشارة وطريقة في فهم       ما يتحدّث عنه بشكل أفضل. ثمة فهمٌ أيضاً في الانتقاء الذي يقوم به بيكيت بالترجمة الشخصية لاقتباسات بروست، بالرغم من توفّر ترجمات سكوت مونكريف (Scott Moncrieff) منذ 1922. و يبرز صمويل بيكيت هنا كممرّر للكلمات غير الاعتيادية التي سيُعترفُ له بها لاحقاً.
سنستغرب لكون صمويل بيكيت، الذي صار الكاتب المزدوج الذي نعرفه، مترجماً ومبدعاً جديداً لأعماله بهذه أو بتلك اللّغة، لم يترجم هو ذاته كتابه عن "بروست" إلى الفرنسيّة. قيل مراراً إنه كان ينكر دائماً هذا العمل الذي أنجزه في شبيبته. في الحقيقة، إن هذا الترفّع تجاه عمله ثابت لديه. فبمجرّد انفصالها عنه، تصبحُ هذه الأعمال مزعجة له: صفحاتٍ مطويّة، آثارَ زوبعةٍ رمليّة.
  "بروست"، إذن، ليس تلك البطّة الحقيرة التي احْتضنَها. كلّ عصافير صمويل بيكيت الصغيرة تتحوّل في نظره بسرعة إلى  طيور قبيحة، وكم كان يُبذَل من جهد لتذكيره بإحدى تلك الأعمال القديمة غير المنشورة أو غير المترجمة بعدُ أو تلك التي طُلب منه مراراً إخراجُها بعد كتابتها، وكثيراً ما حدث له، حين يذكر "بروست"، أن يشير بحركة استذكار. تماماً كما يبدي لـ كرابّ (Krapp) انزعاجه لسماع أشرطة صوتيّة من زمن شبيبته وهو يردّد: «من الصّعب التّصديق أنّني لم أكن ذلك الشابّ الغبيّ». لكن "كرابّ" لم يكن غافلاً عن انزعاجه: «أخيراً، ربّما كان على حقّ»، يقول عن نفسه: «كم هي مشؤومة أعمالُ النّبش هذه لكنّي أجدُها غالباً [...] ضرورية قبل أن أنطلق في [ يتردّد] ... عودةٍ جديدةٍ إلى... الوراء».
هذه العودة إلى الوراء و التي اقتضتها ترجمةُ "بروست"، قام بها، بدون شكّ، صمويل بيكيت، كما قام بها في "مورفي" (Murphy) وفي "وات" (Watt) وفي الأعمال الأخرى التي ترجمها أو نشرها بعد وقت طويل من كتابتها.
في الواقع، هو لم يكن يرفض هذا النّظرَ إلى الوراء، «ربّما بالإضافة -كما أتمنّى- إلى بعضٍ من نظرتي القديمة إلى الآتي»، لكن، ترجمة "بروست" الفرنسيّة كانت، في نظره، تمثّل عقبة كبيرة، إنّه عمل أكاديميّ متواضع من حيث أنّه لا يحتوي على مراجع للعديد من اقتباساته النصيّة أو غير المباشرة في البحث [والأمر ذاته حدث مع اقتباسات عن كتّاب آخرين كـ سانكتيس، كـالديرون، ليوباردي، راسين،بودلير، هيغو إلخ... و الذين لا يظهر حتّى مجرّد أسمائهم، عدا دانتي].  ولا نكاد نقرأ، في الكتاب كلّه، سوى ستّ ملاحظات أسفل الصّفحات، إضافة إلى كونها وضعت للمقارنة لا كمراجع.
نُشرَ كتابُ "بروست" بلُغاتٍ عديدة، لكنّ اقتباسات مارسيل بروست ظلّت في كلّ مرّة  تُترجم انطلاقاً من ترجمات صمويل بيكيت، وكان من المستحيل طبعاً القيامُ بذلك بالطّريقة ذاتها في التّرجمة الفرنسيّة. كان يجب العثور تحديداً على الاقتباسات، التلميحيّة غالباً، في عمل مارسيل بروست، لاستعادة عمل هذا الأخير. ولم يكن صمويل بيكيت مستعدّاً للخوض في عمل إعادة البناء هذا، فيما رأى الكثير منّا إنّه كان بإمكانه، فعلاً، القيامُ بأفضل من ذلك.    
خلال سبتمبر 1930 وأثناء انقضاء الخريف، يشقّ مارسيل بروست وصمويل بيكيت مساراً خارج الزّمن. إنهما يتشاركان تصوّرات أساسيّة للـ "أنا" المتعدّدة وغير القابلة للإدراك، للذّات المتحرّكة والموضوع المتلاشي. وللعادة -هذه "الكاتمة" الكبيرة- لأوّليّة الإدراك الغريزي. كانت كلّ هذه التصوّرات موجودة سابقاً لدى صمويل بيكيت. وبمرافقته لـ بروست، صارت أكثر وضوحاً، إنّها الآن تبحث عن عبارات جديدة، سيمنحها إيّاها صمويل بيكيت.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق