السبت، 25 يناير 2014

بين الإيروسية والاقتصاد العام، باتاي: هبرماس(1)

ترجمة: فاطمة الجيوشي


إليكم كيف يتحدث ميشيل ليريس (M. Leiris)، رفيق الدرب منذ تاريخ بعيد، عن صديقه جورج باتاي الذي توفي عام 1962: "بعد أن كان الرجل المستحيل الذي أُخِذَ بما كان يتاح له اكتشافه من الأمور الأكثر استعصاء على القبول (...)، يوسع رؤيته (وفقًا لفكرته القديمة بتجاوز كلمة لا! يقولها طفل وهو يضرب الأرض بقدميه). ولأنه يعرف أن الإنسان لا يكون إنسانا بشكل كليّ إلّا إذا بحث عن أبعاده في تجوزه لكل مقياس، جعل من نفسه إنسان "المستحيل"، المتعطش إلى بلوغ النقطة حيث –في الدوار الديونيزي، يختلط الرفيع بالمبتذل وحيث تُلغى المسافة بين الكلّ واللاشيء."(1) إن صفة "المستحيل" "تعبر عن إعجاب يحيل، في المقام الأول، إلى كاتب "المؤلف الفاحش" المواصل للأدب الملعون في كتابات الماركيز دو ساد (Marquis de Sade) ولكن أيضًا للفيلسوف ولرجل العلم الذي حاول إدارة الإرث المستحيل لنيتشه –بوصفه ناقدًا للإيديولوجيا.
قرأ باتاي نيتشه في وقت مبكر نسبيًّا، عام 1923 أي بعام واحد قبل أن يقدمه ميشيل ليريس للحلقة التي كانت تدور حول أندريه ماسون (A. Masson)، وقبل تعرفه على زعماء السوريالية. من المؤكد أن باتاي يطبع القول الفلسفي للحداثة باتجاه مماثل للاتجاه الذي يعطيه هيدجر إلا أنه يختار دربا مغايرًا تمامًا ليستقيل من الحداثة. ينمي باتاي مفهومًا عن المقدس انطلاقًا من نقد المسيحية يجد أسسه في الانتروبولوجيا ويشكل ملحقًا لكتاب "نسب الأخلاق" الذي صاغه نيتشه؛ فهو لا يطرق نقدًا داخليًّا ومحايثًا للميتافيزيقا. ومذ ننظر لحياة باتاي المزدوجة، فهو المسؤول عن الأرشيف في المكتبة الوطنية وفي الوقت ذاته كاتب بوهيمي، معروف على المسرح الثقافي الباريسي؛ يظهر بشكل واضح كلّ الوضوح أنه لم يعش على الكوكب نفسه الذي عاش عليه أستاذ الفلسفة في ماربورغ (Marbourg) وفي فريبورغ (Fribourg en Brisgau). إن ما يفصل بينهما بشكل أساسي تجربتان مركزيتان –تجربة فنية، صيغت في اضطراب السوريالية، وتجربة سياسية اكتسبها من الصلة مع راديكالية اليسار.
في نهاية العشرينات انفصمت الرابطة حول مجلة "الثورة السوريالية" (La Révolution surréaliste) فبروتون (Breton) يوجه في بيانه السوريالي الثاني (Second Manifeste Surréaliste) لومًا بالغ القسوة إلى المنشقين الذين يردون عليه بهجوم مضاد جماعي.
ومنذ تلك اللحظة (تُعلن الحرب بين "رابطة بروتون"، و"الحلقة الشيوعية الديمقراطية" لباتاي. خلال هذه الفترة ذاتها يؤسس باتاي مع ميشال ليريس وكارل اينشتاين (C .Einstein) مجلة "وثائق" الشهيرة (Documents)، حيث تُنْشر المقالات الهامة التي حرّرها مديرها. وفيها يُنمّي باتاي بشكل خاص "مفهوم المغاير أو المختلف" (L’hétérogène) ويشير بهذا المفهوم إلى مجموع العناصر التي تجابه التكيّف مع أشكال الحياة البورجوازية، وروتيم الحياة اليومية، في الوقت الذي يتجنب فيه الهيمنة المنهجية للعلوم. بهذا المفهوم يكثف باتاي التجربة الأساسية لكتّاب وفنّاني السورياليين الذين في تصديهم لمقتضيات المنفعة، والسلوك السوي، والصبر، كانوا يرمون إلى نشر قوى الثمالة، والحلم والاندفاع بشكل عام ليقلبوا رأسًا على عقب ما صاغته المواضعة في أساليب إدراك العالم ومعاناته. فملكة المُغاير لا تنفتح إلّا في اللحظات المتفجرة لرعب مسحور عندما تنحل المقولات التي تضمن للذات تعاملًا مألوفًا مع الذات والعالم. والحقيقة، طبّق باتاي، ومنذ البداية، مفهوم المغاير على هؤلاء المستبعدين والمهمشين؛ على تلك العناصر التي استُبعِدت من حدود السوي الاجتماعي والتي تشكّل عالمًا موازيًا صار مألوفًا لدينا منذ بودلير، أتعلّق الأمر بفئة المنبوذين (Parias)، والنجسين المحظور لمسهم (Intouchable) والمومسات أو البروليتاريا الرثّة، والمجانين، والمتمردين، والثوريين، وشعراء البوهيمية والموجودين على هامش المجتمع. وهكذا سيصير هذا المفهوم المستوحى من الفن، أداة تحليل للفاشية الإيطالية والألمانية. وهكذا ينسب باتاي لقادة الفاشية وجودًا مغايرًا.
إن التعارض بين سيرهما الذاتية، والتعارض بين الخيارات السياسية لكلّ منهما، والفروق الصارخة بين الأدب الإيروسي والمقالة العلمية من جانب، ومن الجانب الآخر البحث الفلسفي وصوفية الوجود، كلّ هذا يشكل جملة التباينات، تجعل من الصعب للوهلة الأولى، إدراك مشروع مشترك يجمع بين باتاي وهيدجر، ومع ذلك يبحث كلاهما الافلات من الأسر الذي تفرضه الحداثة، والهروب من العالم المغلق الذي صاغه العقل الغربي بانتصاره على صعيد التاريخ العام. كلاهما يريد التغلّب على النزعة الذاتية المتطرفة (Subjectivisme) التي ترهق العالم بعنفها المشِّيء وتعمل على تثبيت صورته في كلية الأشياء التي يمكن أن تستخدمها التقنية ويستثمرها الاقتصاد يتفق المفكران على هذا المشروع إلى درجة أن ما يقوله فوكو عن فكرة باتاي الخاصة بانتهاك الحدود يصبح قوله أيضًا عن مفهوم التعالي (Transcendance) العزيز على هيدجر: "هل اللعبة الآنية بين الحدّ والانتهاك هي في أيامنا الاختبار الأساسي لفكرة "الأصل" التي نذرنا نيتشه لها منذ بداية عمله –فكر بشكل مطلق وفي الحركة ذاتها سيكون نقدًا وانطولوجيا، فكرًا يفكر بتناهي الوجود"(2) وفي الجملة التالية، بإمكاننا أن نستبدل اسم هيدجر باسم باتاي بلا إشكال: "إلى كلّ هؤلاء الذين يسعون جاهدين قبل كلّ شيء لصون وحدة الوظيفة النحوية لدى الفيلسوف (...)، يمكننا أن نضع في مواجهتهم الصورة التي تعهدها باتاي الذي لم ينفك عن تقطيع سيادة الذات المتفلسفة في نفسه بضراوة. وبهذا كانت لغته وتجربته أداة تعذيبه. تمزيق أولي ومتفكر لكلّ من يتكلّم لغة فلسفية. بعثرة النجوم التي تحوط ليلة وسطى ليترك فيها كلمات بلا صوت"(3).
لكن ثمّة فروق هامة. فروق تنجم بشكل خاص من كون باتاي لا يهاجم العقل انطلاقًا من أسس العقلنة "المعرفية"، انطلاقًا من الافتراضات الانطلوجية للعلم والتقنية بوصفها مُمَوْضعة (Objectivante). إنه، على خلاف ذلك، يركز على أسس العقلنة الأخلاقية التي جعلها نظام الاقتصاد الرأسمالي ممكنة، حسبما يرى فيبر، مخضعا بذلك الحياة الاجتماعية بمجملها لضرورات العمل المستلب والسيرورة التراكمية فباتاي لا يغرس مبدأ الحداثة في وعي ذات يتمتع باستقلال لا أساس له اكتسب امتداده بشكل سلطوي، بل يغرسه بالأحرى في اشراط نمط من الفاعلية بالنجاح، باعطاء أفضل ربح يتيح بلوغ أهداف ذاتية في كلّ مرّة. إنها النزعات نفسها التي يخشاها هيدجر وباتاي ويريان فيها –الأول- الفكر  المموْضع (Pensée objectivante) –والآخر- الفاعلية الغائية التي تنشر سلطانها التاريخي؛ النقد وحده ومهمته تناول الشر من جذوره، سيسلك دربا مختلفًا عند كلّ منهما هيدجر بوصفه يعمل على نقد الميتافيزيقا يحفر الأرض المتجلدة للذاتية المتعالية، ليسلط  الضوء في أقصى الدهليز الذي حفره بهذا الشكل، على الأسس الحقيقية لأصل تبعثر في الزمان. باتاي من جانبه ليس عليه أن يغوص في أعماق الذاتية، وبما أنه يسلك درب نقد الأخلاق، فإن مشكلته هي، خلافًا لذلك، انتزاع هذه الذاتية من حدودها، وموضوعه هو هذا الأسلوب في الخروج من ذاته الذي يعيد حتمًا الذات المغلقة على ذاتها، إلى حرارة المجمّع الحي الذي صار غريبًا عن ذاته، مستبعدًا من حدوده، المعزول والممزق. مع فكرة "اللاتحديد" ينفتح لباتاي أفق يختلف كليًّا عن أفق هيدجر. وبالفعل الذاتية هنا في انتهاكها لذاتها، لا تخلع من مكانها ولا من سلطانها لصالح مصير الوجود الأساسي بشكل فائق، إنها، على العكس، تستعيد عفوية الدوافع التي حلت عليها اللعنة. والانفتاح لمجال المقدس لا يعني الرضوخ لسلطة مصير غير محدّد لا تقوم هالته إلا بالتبشير به؛ إن انتهاك الحدود للمضيّ نحو المقدس لا يعني الاستقالة المذعنة للذات، بل يعني انعتاقها وطريقها إلى السيادة الحقّة.
لئن أعطيت الكلمة الأخيرة إلى "السيادة" لا إلى الوجود (Etre) فإن ذلك لم يحدث صدفة. يوجد هنا تقارب مع المفهوم النيتشوي عن الحرية وتوكيد الذات عند الانسان المتفوق (Surhomme)، مفهوم من وحي فني يتعذّر التفكير فيه عند هيدجر. لدى باتاي، كما لدى نيتشه، يوجد لقاء بين إرادة القوة –بوصفها تزاود على ذاتها وتحقق المعنى- والقدر المغروس في النظام الكوني الذي يمثله العود الأبدي للمثيل. يلتقي باتاي مع نيتشه بالمكون الفوضوي الأساسي نفسه لهذا الفكر بقدر ما هو موجّه ضدّ كلّ سلطة –بما فيها وضدّ المقدس بوصفه سلطة- يجب فهم نظرية موت الإله على أنّها نظريّة ملحدة بشكل دقيق. وفي اللحظة التي يستعيد هيدجر فيها هذه الفكرة بلهجة السيد الكبير، فإنها تفقد عنده كلّ جذريتها. فهو لا ريب ينكر الإله كموجود أونطيقي (Ontique) غير أنه في "ترجمته" الانطلوجية، يحدّد حدث وحيه –وذلك بأسلوب بالغ الدلالة- الحيز النحوي الذي تركه القضاء على إضفاء الله خاويا؛ لا ينقصنا إذن سوى اللغة لنسمي ذاك الذي يستحيل لفظ إسمه. ولهذا يصبح سؤال فوكو: "ما معنى اغتيال الله إذا لم يوجد، اغتيال الله الذي لا يوجد؟"(4) يصلح لدى باتاي لا لدى هيدجر. يدرك فوكو أن باتاي في اللحظة التي يفكّر فيها في المقدس ضمن منظور ملحد بشكل دقيق، عليه أن يذهب إلى البحث عن الإفراط الخاص بالذاتية المنتهكة لذاتها، في تجربة الايروس. وتدنيس المقدس هو، بلا ريب، نموذج الانتهاك، ولكن باتاي لا يَهِم نفسه: لم يبق في الحداثة ما ينتهك، ومهمّة الفلسفة لا يمكنها أن تزود ببديل تافه (Ersatz) منطلقة من صوفية ما للوجود. ينشيء باتاي إذن صلة داخلية بين الأفق الذي تحمله التجربة الجنسية وما يقال عن غياب الإله- "لا لإنها تقدّم مضامين جديدة لحركات سحيقة القدم، بل لأنها تجيز التدنيس بلا موضوع، تدنيسًا خاويًا منطويًا على نفسه لا تتوجه أدواته إلّا إلى ذاتها"(5).
وبناء على ذلك سأبين أولا معنى تحليل الفاشية، الذي قاده باتاي بعون مفاهيم عناصر اجتماعية "مغايرة" أو "متجانسة" في بناء الحداثة. يرى باتاي الحداثة على أنها مدككة داخل تاريخ للعقل بوصفه مسرح الصراعات حيث تتجابه قوى السيادة وقوى العمل. ينطلق تاريخ العقل من البدايات القديمة للمجتمع القدسي لينتهي في عالم السلطان الاقتصادي المشيّأ كليًّا لدى السوفييت، ومن حيث انتزعت الآثار الاقطاعية الأخيرة للسيادة. يبقى مع ذلك أنه، بهذا الانفصال الكامل للعناصر المتباينة والعناصر المتجانسة، ينفتح أفق تشكيل اجتماعي يوفق بين المساواة الاجتماعية وسيادة الفرد. إن التفسير الانتروبولوجي الذي يقدّمه باتاي عن "المُغاير" على أنه الجزء الملعون، المرمي خارج الحدود، ينقطع في الحقيقة عن كل وجوه الديالكتيك. ولهذا يطرح السؤال لمعرفة كيف أراد باتاي شرح الانتقال الثوري لمجتمع أصابه التجمّد، مُشَيَّأ كليًّا إلى تجدّد السيادة. من الممكن فهم مشروع اقتصاد عام موسّع لاقتصاد قائم على الطاقة للطبيعة بمجملها بوصفه إجابة عن هذا السؤال. يبقى مع ذلك إن هذا المشروع لم يتخلّص من المفارقات الخاصة بكل نقد ذاتي المرجع للعقل. ولهذا تأرجح باتاي في نهاية الأمر، بين إعادة الصلة مع المشروع الهيجلي لجدل العقل، صلة تفتقر إلى التماسك من جانب، وتعايش بلا وساطة بين التحليل العلمي وصوفية اللغة من جانب آخر.

II

إن انتصار الحركة الفاشية في إيطاليا واستيلاء الحركة القومية-الاجتماعية على الحكم في الامبراطورية الألمانية شكَّلا، (قبل أوشفيتز) ظاهرة لم تثر أمواجا من الغضب فحسب، بل أثارت أيضًا أمواجًا من الهيجان الأخّاذ. لم تبق نظرية واحدة بقدر ما برهنت عن حساسية ما إزاء تاريخ عصرها، إلّا وتأثرت بأعمق ما فيها من القوة المدوّية للنازية. ويصحّ هذا، قبل كلّ شيء، على النظريات التي كانت آنذاك في طور تشكّلها (نهاية العشرينات –مطلع الثلاثينات)، أي يصحّ على الانطولوجيا الأساسية لهيدجر، كما رأيناها، ولكن أيضا يصحّ على علم المغاير (Hétérologie) لدى باتاي أو النظرية النقدية لدى هوركيمر(6) في تشرين الثاني 1933 بالتحديد الفترة التي كان هيدجر يُلقي فيها خطبه الانتخابية لصالح الفوهرر، نشر باتاي تحقيقه حول "البنية النفسية للفاشية". وخلافا لمحاولات التفسير التي قدمتها الماركسية، يركز باتاي انتباهه، لا على الأسباب الاجتماعية، البنيوية والاقتصادية التي كانت تسمح النظرية باستخلاصها، بل بالأحرى على الظواهر المرتبطة بالحركات السياسية الجديدة وبشكل خاص على الجوانب التي تخص علم النفس الاجتماعي. إن ما يثير اهتمامه هو، بشكل خاص الرابطة التي توحّد الجماهير المعبأة على نحو استفتائي، والوجوه المؤثرة (كاريزما) للقائد وبصورة عامة حجم المشهد الخاص بالهيمنة الفاشية (الذي يذكرنا به فيلم جواشيم فيست عن هتلر)، الإجلال الشعائري للقادة الذين يُنظر إليهم كأشخاص مقدسين، الطقوس الجماهيرية المنظمة بفن بالغ الاتقان في الاخراج، ولكن أيضًا العنف المتجلي، التنويم المغناطيسي، ازدراء الشرعية، بله العزوف عن مظهر الديمقراطية والأخوة: "إنّ المدّ الوجداني الذي (...) يربط بين القائد ومريديه –والذي يتخذ شكل توحّد (...)- يرتبط بالوجدان المشترك للسلطة وللطاقات التي يشتدّ عنفها، ويزداد خروجها عن كلّ حدّ والتي تتحكم في شخصية القائد وتغدو في حوزته بلا تحديد"(7)
لقد كان باتاي آنذاك ماركسيًّا بما فيه الكفاية حتى لا يجهل الشروط الموضوعية لأزمة لم تقم الفاشية إلّا باستثمارها. لقد كان من الضروري في البداية أن تنفصل الرأسمالية بتناقضاتها الداخلية" عن آلتها الانتاجية قبل أن يتسرب إلى الخلل الوظيفي شكل من العنف لا يربطه أي تناغم مع المجتمع القائم. إن مبدأ حرية الاختيار كان فعلا، ملازمًا للدستور الديمقراطي للرأسمالية الصناعية بالنسبة للمتعهدين وبالنسبة للمنتجين كما بالنسبة للمواطنين (الذي يمرون في الخلوة قبل التصويت: "إن الوعي النامي لبعض الرأسماليين الألمان بالخطر الذي يحيق بهم من جراء هذه الحرية الفردية في الفترات الحرجة ينبغي بالطبع أن يوضع في أصل ظواهر الغليان وانتصار القومية الاشتراكية"(8)إن الضرورة الوظيفية للالغاء الكلاني لمبدأ الحرية الفردية، المأخوذ لذاته يظل "رغبة ما تزال فارغة"، من المستحيل بيان كل المصادر التي تتغذى منها الفاشية –أي الثراء الذي لا ينضب للأشكال الخاصة بكل حياة عاطفية" بمصطلحات وظيفية. هي إذن واقعة القوى التي تلعب بها الدولة المتسلطة وتجد أصلها في مجال مغاير عن المجتمع القائم ستدفع باتاي لاستكشاف هذا العنصر المغاير. لا يكتفي باتاي بمحاولات التفسير التي يقدمها التحليل النفسي لاحقًا لدراسة فرويد "سيكولوجية الجماهير وتحليل الأنا" فهو في الواقع، على يقين بأن الفاشية تستمد جذورها من قطاع أعمق من اللاشعور يمكن بلوغه بقوة التحليل والتفكير الذاتي، إن النموذج الذي يفكر باتاي وفقًا له باللحظة التي ينفصل فيها المغاير عن المجانس ليس النموذج الفرويدي للكبت، بل نموذج الاستبعاد وتنظيم الحدود التي لا يمكن تخطيها إلا بالتطرّف، واذن بشكل عنيف. إن ما ينشده باتاي هو البحث عن اقتصاد لنظام الاندفاعات على صعيد المجتمع بمجمله، وستكون مهمته شرح لِمَ تلجأ الحداثة، دون أن تترك مجالا للاختيار، إلى استعدادات تعرض الحياة للخطر، ولم الأمل بجدل "العقل" (Raison) الذي رافق مشروع الحداثة حتى الماركسية الغربية هو أمل لا جدوى منه: "إنه عجز المجتمع المتجانس عن العثور في ذاته عن سبب للوجود والعمل مما يضعه في تبعية القوى الآمرة (التي يستعبدها)"(9).
يتخذ باتاي مكانه في خط مدرسة دوركهايم. فهو بالفعل، يرجع الوجوه المغايرة للحياة الاجتماعية، كما وجوه الحياة النفسية والفكرية يرجعها إلى المقدّس كما عرَّفه دوركهايم بوضعه قبالة العالم اللاديني: إن الأشياء المقدسة معبأة بقوة جلال تجذب بني البشر وتخضعهم في الوقت ذاته تغرقهم في الرعب وتبعدهم عنها. إن المساس بهذه الأشياء يثير تظاهرات فظة والواقع الذي تمثله هو من مستوى آخر. مستوى أعلى –فهي لا تُقاس بالأشياء اللادينية وتفلت من المعالجة المجانسة التي تحيل المجهول إلى المعلوم وتفسّر بالمألوف ما هو غير متوقّع. غير أن باتاي يرى أيضًا في المقدّس عنصر تبديد غير منتج، فالعالم المغاير يظهر مقابل العالم اللاديني على أنه شيء لا ضرور له –منطلقًا ليس وحسب من النفايات ومن البراز إلى التصورات المتمرّدة القابلة للنقل، مرورًا بالانخطافات، والانحرافات الجنسية والأحلام ولكن المنطلقة أيضًا من البذخ الظاهر إلى آمال موسومة بالهيجان المفتون ومن متعاليات مقدسة. وعلى العكس، يكون التجانس ووحدة الشكل نتيجة تبادل مع طبيعة خارجية مقاومة. إن ما يأخذه المجتمع الرأسمالي في الحساب هو، في المقام الأول، العمل الذي يقاس بالزمن والمال بشكل مجرّد، أي العمل المأجور بوصفه قوة مجانسة، الأمر الذي يزداد بروزًا بالتأليف بين العلم والتقنية. فالتقنية هي الحلقة التي تصل العلم بالانتاج، وكما هو الحال عند آدورنو، نقرأ عند باتاي إن "القوانين المؤسسة بالعلم تنشئ علاقات تماثل بين العناصر المختلفة لعالم مدروس وقابل للقياس"(10).
في عالم معقلن بهذا الشكل يندلع زعماء الفاشية تصحبهم الجماهير المنوّمة. يتحدث باتاي عن الوجود المغاير لهؤلاء الزعماء، بأسلوب لا يخلو من نوع ما من الإعجاب. على خلفية ديمقراطية الجمهور الملتفتة إلى الفائدة، يظهر هتلر وموسيليني على أنهما ظاهرة مختلفة تمامًا. فهو مأخوذ "بالقوة التي تضعهم فوق الناس، فوق الأحزاب، وحتى فوق القوانين: "قوة تحطم المجرى النظامي للأشياء، التجانس الهادئ، ولكنه التجانس الممل والعاجز عن الحفاظ على ذاته"(11). تحت سيطرة الفاشية، يسلك خليط العناصر المغايرة والمتجانسة دروبًا جديدة –ومن جهة الصفات التي تنتمي للمطالب الوظيفية للمجتمع المتجانس، مثل صفة الاجرائية، الانضباط، حب النظام، ومن جهة أخرى الجماهير المسحورة وسلطة الزعيم حيث يمكن التعرّف على شعاع سيادة حقيقية. فالدولة الفاشية تتيح الوحدة الكلية بين العناصر المغايرة والعناصر المتجانسة، إنها السيادة صارت دولة. (إنها دولة الفاشية) تجني إرث هذه السيادة الذي كان موجودًا في المجتمعات التقليدية، بشكل ديني وسكري، وهما بعدان يوجدان مختلطين في سيادة الزعيم. في الفاشية بلغ العامل الأساسي لسيطرة الإنسان على الإنسان نقاءه إن صح التعبير. إن جلال الزعيم يضمن له عند الجماهير ولاء متحرّرًا من كلّ إلزام بالشرعية. وعلى غرار كارل شميت (C. Schmitt)، يفسر باتاي هذا الانتماء اللامشروط بواقع أن قوّة السيد هي في أعماقها قوّة أخَّاذة، أي متجذّرة في المُغاير: "إن مجرّد واقع سيادة السيد على أمثاله يتضمن اختلاف السيد، في أقلّه لكونه السيد: وبقدر ما يرجع إلى طبيعته، إلى صفته الشخصية، على أنها تسويغ لسلطته، يشير إلى أن هذه الطبيعة مختلفة كليًّا، دون أن يتمكن من تسويغها بشكل عقلاني"(12). يحيل باتاي ما يقتنص الحواس، وما ينوِّم في ممارسة الحاكم الفاشي لسلطته إلى سلطة، يضعها في حساب الصدق؛ وبهذا تختلف نظرية باتاي اختلافًا بيّنًا عن نظرية في الفاشية مشابهة في طريقة معالجتها –لنظرية هوركيمر وآدورنو-.
شأن باتاي، يركز هوركيمر وآدورنو –في كتابهما "عناصر مناهضة السامية"(13) على أية حال- على الجانب النفسي للفاشية، إنهما يقرآن في التنظيم المتقن إلى أبعد الحدود الطقوس التي تشرف على إخراج تظاهرات الجماهير، "الكاريكاتور المزيف للمحاكاة المخيفة" (D.R., P.191) وبالتالي استفاقة نموذج رجعي قديم ومعالجته.
تستفيد الفاشية، من أجل غاياتها الخاصة من سلوك محاكاة، هجرته الحضارة. وبشكل ساخر يتخذ قمع الازدواج القديم، الذي يجمع بين الهرب والاستسلام، بين الرعب والافتتان شكلا تفكريًّا: "في الفاشية الحديثة، بلغت العقلنة حدًّا لا تكتفي عنده بمجرد قمع الطبيعة. فالعقلنة فيها تستغل الطبيعة باستيعاب قوى التمرّد المحتملة في هذه الطبيعة ذاتها ضمن نظام خاص"(14). حتى هذه اللحظة يمكننا الاستمرار بترجمة باتاي في إطار النظرية النقدية، ذلك لأنه بالنسبة لهذه الأخيرة تكون الوظيفة الوحيدة الفاشية، في نهاية المطاف، هي مواءمة ما يتمرد في الطبيعة الداخلية ضدّ هذا الشكل من العقل مع مقتضيات العقل الأداتي. ولكن يبقى فرق حاسم بين الطرفين يتبين في أسلوب تعريف الجزء المضطهد –الجزء الملعون- من الطبيعة الذاتية. عند هوركيمر وآدورنو، يصحب الاندفاع المحاكي وعد "سعادة بلا قدرة"(15) –بينما ترتبط السعادة عند باتاي بالعنف ضمن المغاير برباط لا يقبل الحل، فهو يحتفل بالايروسية كما المقدس، "بعنف بدائي"(16). وباستناده إلى شكل الفكر ذاته يمنح الفاشية ما نجده معبّرًا عنه لدى كارل شميت بمفهوم السيطرة اللامشروطة السيطرة "الخالصة" والتي يضع هوركيمر وآدورنو مقابلها مفهوم سلطة المحاكاة بتصميم حي إلى أقصى الحدود.
في احدى مقالاته الأولى، بنجامين نفسه، عندما يذكر أسطورة الإضراب العام العزيز على سورل (Sorel) ويبدو بهذا بالذات أنه إرهاص بباتاي ومفهومه عن القوة الحاكمة النقية يتمسك بالرجوع إلى وفاق مضمون بعلاقات لا عنف فيها بين الذوات. إن العنف – الذي يمكن تشبيهه بقوة المصير- الذي تخفيه الأعمال الثورية،  هذه الأعمال التي تضع الحق، هي فوضوية بماهيتها ومع ذلك هي التي توجد وراء مؤسسات الحرية (وعليها أن تبقى ماثلة فيها) تتيح لبنجامين صوغ مشروعه لسياسة "الوسائل التقنية والبسيطة". مثل هذه السياسة لا يكاد يختلف عما يشاء عنف فاشي أن يكونه، بيد أن بنجامين يبين جيدًا أن هذا العنف الذي ليس له من غاية خارج ذاته، والذي لا يكون أداة للعدالة، بل هو على نقيض ذلك، التجلي والإنجاز، يرجع، على الدوام، إلى دائرة وفاق لا عنف فيها. هذه الدائرة التي تتيح الاتفاق بين البشر، تظلّ "اللغة-الدائرة الخاصة بالوفاق"(17) لدى بنجامين. إنها فكرة يفرضها عليه النقد المنقذ حيث التزم بنجامين إلى حد أنه يريد أن يقدم لاعنف "الوسائل التقنية البسيطة" بالاضراب العام للبروليتاريا على أنه نموذج هذه الوسائل.
في غياب نقطة الارتكاز هذه التي تتعالى على العنف، يعاني باتاي حكمًا من صعوبات في بيان ما يهمه فوق كلّ شيء، أي الفرق بين الثورة واستيلاء الفاشية على السلطة، حيث لا يقوم تشابهها مع الثورة إلا على تشبيهات. كان بنجامين يقول بأن هدف المشروع السوريالي بمجمله كان "كسب قوى الثمالة لجانب الثورة"(18)، هذا أيضا ما يشغل باتاي الذي يحلم بسياسة جمالية، شعرية خُلّصت من كلّ مكوناتها الأخلاقية. هذا هو بالذات ما يغريه في الفاشية: "إن ظاهرة الفاشية، التي وضعت، وجود الحركة العمالية ذاته موضع السؤال، يكفي لبيان ما يمكن انتظاره من لجوء مناسب إلى قوى انفعالية متجدّدة"(19). وعندها يطرح السؤال: بما يختلف التعبير المتمرّد والعفوي، في المرجع الأخير، عن التوجيه الذي تفرضه الفاشية على مثل هذه القوى؟ على أية حال، لئن رأينا، كما يرى باتاي، أنه يجب أن نتمكن من بيان الفرق بين الأشكال السياسية، دون أن يترتب علينا انتظار النتائج، فإن هذا السؤال المزعج. يحاول باتاي في نص له من عام 1933، أن يقيم حدودًا في قلب عالم مغاير بين ما هو أعلى وما هو أدنى. هذه المحاولة تفتقر إلى إجرائية إلى حدّ أن باتاي يكتفي، في نهاية المطاف، باقتراح إدخال العصيان في عمل السياسة الفاشية التي يحاربها. ومن أجل هذا يوصي بإنشاء علم للمغاير "يسمح بتوقع الاستجابات الانفعالية الاجتماعية التي تسري في البنية العليا. وربما إلى حدّ ما، وضعها تحت تصرفنا. (...) إن منظومة معارف تتناول الحركات الاجتماعية للجذب والنبذ (أي ازدواجيات الانفعالية التي يثيرها المغاير) يتقدّم بالشكل الأكثر بساطة بمثابة سلاح. وعندما تتجابه في اضطراب عنيف واسع النطاق، ليس بالدقة الفاشية والشيوعية، بل أشكال جذرية آمرة والتمرد العميق" سيكرس باتاي العقود الثلاثة التالية لوضع الخطوط الكبرى لهذا العلم. سأبدأ بالاهتمام بالأسلوب الذي يطرد فيه باتاي الحداثة كفيلسوف تاريخ لأتناول فيما بعد الإقتصاد العام، الذي كان يأمل منه الإجابة عن السؤال الذي بقي مفتوحًا: كيف يمكن للتفكير تحويل التشيء إلى سيادة؟

الهوامش:
(1) M.Leiris « De Bataille l’impossible Documents, in Critique, « Hommage à Georges Batalle », n.195-196, 1963, P.693
(2) M. Foucault, « Préface à La Trangression », in Critique Op. cit., P. 757
(3)   M. Foucault, Op. cit., P. 753
(4) M. Foucault, Op. cit., P. 753
(5) M. Foucault, Op. cit., pp. 751-752
(6) H. Dubiel, Wissenschaftsorganisation und Politische Erfahrung, Francfort 1978, et ID., « Die Aktualitat der Gesellsch afts theorie Adornos », L.v. Freidburg et J. Habermas (éd), Adorno Konfernz, Op. cit., P.293
(7) G. Bataille, La Structure Psychologique du fascisme, in La Critique Sociale, no. 10 et no. 11 1933-1934 repris in œuvres complétes, t. I (O.C.I), Paris 1970, P. 348
(8) G. Bataille, La Structure… Op. cit., P. 367
(9) G. Bataille, La Structure… Op. cit., P. 353
(10) G. Bataille, La Structure… Op. cit., Note P. 340
(11) G. Bataille, La Structure… Op. cit., P. 348
(12) G. Bataille, La Structure… Op. cit., P. 351
(13) M. Horkheimer, et th. Adorno, Dialectique de la raison, trad. E. Kaufholz, Paris 1983, P. 177
حول إمكان وصف الفاشية على الصعيد الاقتصاد السياسي، على أنها "رأسمالية الدولة" ارجع إلى A. Sollner, H. Dubiel
(14) M. Horkheimer, L’éclipse de La Raison, op. cit., PP. 129-130
(15) M. Horkheimer, et th. Adorno, Dialectique de la raison. Op. cit., P.181
(16) G. Bataille, L’Erotisme, in O. C. 10, P.94
(17) W. Benjamin, Zur Kritik der Gewalt in Gesammel te Schriften, op. cit., II, 1, P. 192, en francais in L’Homme, le Langage, La Culture, op. cit., P.40.
(18) W. Benjamin, « Der Surrealismus », in G. S., II, 1? P. 307
(19) G. Bataille, La Structure… O. C. I, Op. cit., P. 371

المصدر: هبرماس؛ القول الفلسفي للحداثة، ترجمة فاطمة الجيوشي، دمشق وزارة الثقافة، 1995، ص ص325-341




السبت، 18 يناير 2014

ميشال ليريس: تقاطعات الأدب والأنثروبولوجيا، عبد الله عبد الرحمن يتيم




استطاعت الأنثروبولجيا الفرنسية -بالنظر لعلاقاتها الوطيدة بالأدب والنقد والفلسفة- أن تُلفت أنظار مختلف المدارس الأنثروبولجية إلى أهمية المفاهيم والنظريات التي تكتنزها تلك الحقول من المعرفة، وإلى وظيفة تلك المفاهيم والنظريات في الحقول الاجتماعية والثقافية من الدراسات الأنثروبولجية.


وهذه الدراسة تهدف، إلى إماطة اللثام عن دور أحد أبرز الشخصيات الفرنسية خلال القرن العشرين، ألا وهو ميشيل ليريس؛ تلك الشخصية التي أدت وظيفة بارزة في تاريخ تلك العلاقة التقاطعية، كان من نتائجها انفتاح الأدب والنقد والفلسفة على المفاهيم والنظريات الأنثروبولجية.





المصدر: موقع الباحث الأنثروبولوجي البحريني الدكتور عبد الله عبد الرحمن يتيم

السبت، 11 يناير 2014

عندما يهاجم "باطاي" المبدأ الميتافيزيقي للاقتصاد: جان بودريار


ترجمة: د. محمد عجينة

 إن الاستمرارية، والسيادة والحميمية والرحابة المحايثة (immensité immanente) جميعها تشكل لدى باطاي فكرة واحدة، فكرة أسطورية واحدة من وراء مصطلحات متعددة: "أنا من أولئك الذين ينذُرون البشر لأمور أخرى غير الإنتاج المتزايد دون توقّف، ومن الذين يُحرّضونهم على الرعب المقدّس."
إن المقدس هو مجال "الجانب اللعين" بأتم معنى الكلمة (المقالة المركزية لهذا المجلد السابع من مؤلفات باطاي) مجال البذل قربانا (dépense sacrificielle) والترف والموت؛ هو مجال اقتصاد "عام" يتضارب و كافة مُسلّمات الاقتصاد بالمعنى الحقيقي (هو اقتصاد إذ يتعمّم يتجاوز حدوده، ويتجاوز حقا حدود الاقتصاد السياسي، وهو ما يعجز عنه الاقتصاد السياسي، والفكر الماركسي برمّته وفق المنطق الداخلي للقيمة). وهو أيضا مجال اللامعرفة.
ومن باب المفارقة أن الأعمال المجموعة هنا هي بوجه من الوجوه "كتاب المعرفة الواجبة" (Le Livre dû Savoireلباطاي، ذلك الكتاب الذي فيه يحاول أن يقيّم دعائم رؤية، هي في نهاية الأمر في غير حاجة إلى دعائم، بل ينبغي لاندفاعها نحو المقدس، في توهجه الهدّام، حتى إنكار ذلك النمط من التمجيد ومن العرض الخطابي الذي هو "الجانب اللعين"  و"نظرية الدين". "يتأسس موقفي الفلسفي، فيما يتعلق بالمجموع، على اللامعرفة لأن المعرفة لا تتعلق البتة إلا بالتفاصيل". لذلك يتعيّن قراءة تلك الشذرات التمجيدية  بشأن جانبي كل من المعرفة وعدم المعرفة.

المبدأ الأساسي

تتمثل الفكرة المركزية في أن الاقتصاد الذي يتحكم في مجتمعاتنا ناجم عن انحراف مُخلّ عن المبدإ الإنساني الأساسي، الذي هو المبدأ الشمسي المتمثل في الإنفاق (البذل). يتصدى فكر باطاي مباشرة، من وراء الاقتصاد السياسي المحض (الذي ينتظم، من حيث جوهره، حول قيمة التبادل) إلى المبدأ الميتافيزيقي للاقتصاد: أي المنفعة. والمنفعة هي المستهدفة من حيث أصلها -وهي المبدأ الإيجابي ظاهرا من رأس المال: أي المراكمة، و الاستثمار، والإهلاك، وهو ما كانت تشهده جميع المجتمعات السابقة، وهو عجز لا يُصدّق، يقطع الكائن البشري عن كل سيادة ممكنة. فالاقتصاد بتمامه وكماله  يقوم على ما لا يمكن إنفاقه ولا يعرف كيف يتم إنفاقه، على ما لا يمكن أن يصبح موضوع  قربان-وإذن فهو كلّه بقية باقية، وهو ظاهرة اجتماعية محدودة، وما أراده باطاي هو الوقوف ضد الاقتصاد  بصفته ظاهرة اجتماعية محدودة - هذا هو مبدأ الاقتصاد العام.
إن مبدأ المنفعة (قيمة الاستعمال) يستوي والطبقةَ البورجوازية، تلك الطبقة الرأسمالية التي يعرّفها "باطاي" (على عكس ماركس) تعريفا سلبيا: فهي التي لم تعد تعْرف كيف تنفق. كما أن أزمة رأس المال، وحتميته المتنامية، ونهايته المحايثة ليست مقترنة كما هو الشأن عند ماركس بتاريخ ما، وبحوادث جدلية معينة، ولكن بذلك القانون الأساسي المتمثل في العجز عن الإنفاق، الذي يُسلّم رأس المال لسرطان الإنتاج وإعادة الإنتاج اللامحدود. لا وجود لمبدإ ثورة عند باطاي: "إن رعب الثورات لم يتسبب إلا في إخضاع الطاقة البشرية أكثر فأكثر للصناعة." ولكن يوجد مبدأ التضحية -وهو مبدأ السيادة الوحيد الذي يجعل انحراف البورجوازية ورأس المال بالتاريخ الإنساني قاطبة يمرّ من المقدس المأساوي إلى النافع الهزلي.
إن هذا النقد نقد غير ماركسي، وهو نقد أرسطوقراطي. لكنه يستهدف المفيد، والغاية الاقتصادية باعتبارها مسلّم المجتمع الرأسمالي. وفي حين أن النقد الماركسي ليس إلا نقدا لرأس المال متأتيا من صميم الطبقات الوسطى والبورجوازية الصغرى، التي كانت لها الماركسية منذ قرن إيديولوجيا كامنة: هذا نقد لقيمة التبادل، ولكنه تمجيد لقيمة الاستعمال- وإذن فهو في آن واحد نقد لما كان لا يزال يجسم عظمة رأس المال التي تشارف الهذيان، ولِما بقي ضمنه من ديني أضفيت عليه صفة الدنيوي(1): ألا وهو الاستثمار مهما كان الثمن، حتى على حساب قيمة الاستعمال. أمّا الماركسية، فهي تبحث عن استعمال سليم للاقتصاد. وإذن فهي ليست سوى نقد بورجوازي صغير محدود، وخطوة إضافية نحو تتفيه الحياة، نحو "الاستعمال الجيد" للمجتمعي! أمّا "باطاي" فهو على عكس ذلك، يكنس كامل ذلك الجدل العبودي من وجهة نظر أرسطوقراطية، جدل السيد المتصارع مع موته. ويمكن أن ننعت هذا المنظور بأنه سابق  للماركسية أو لاحق لها. مهما يكن من أمر فليست الماركسية سوى أفق رأس المال المتحرّر من الوهم -لأن كل ما هو سابق أو لاحق لها أكثر منها جذرية.
وما يظل محل ريبة عند باطاي (ولكنها ريبة لا يمكن التخلّص منها)، هو معرفة ما إذا كان الاقتصاد (رأس المال)، الذي يجد توازنه على أساس من نفقات عبثية (Absurde)، ولكنها لا تخلو البتة من فائدة، وليس لها البتة طابع التضحية أو القربان (أي الحروب، والتبذير/الإتلاف gaspillage ..) لا تخترقها مع ذلك من أقصاها إلى أدناها دينامية قربانية؛ أفليس الاقتصاد السياسي في نهاية الأمر سوى تحوّل مناقض للقانون الكوني الوحيد الذي هو قانون الانفاق؟ ثم أوليس تاريخ رأس المال سوى انحراف كبير نحو هلاكه الشخصي، نحو نهايته الخاصة بصفته قربانا؟ لأنه لا يمكننا في نهاية الأمر أن لا ننفق. ولعل دوامة أطول تجرّ رأس المال إلى ما وراء الاقتصاد نحو تدمير قيمه الخاصة، أم تُرانا إلى الأبد في نطاق ذلك الإنكار للمقدّس، في دُوار المخزون، الذي يعني انفصام التحالف (أي التبادل الرمزي في المجتمعات البدائية) وانقطاع السيادة؟
كان باطاي مولعا بالتطور الراهن لرأس المال نحو تعويم القيم (الذي ليس تحويلا لها) وانحراف الغايات (الذي ليس، على العكس من ذلك، عدم الجدوى على الإطلاق أو مجانية الضحك العبثية والموت.) إلا أن مفهومه، مفهوم الدفاع لم يسمح بتحليله على نحو جيّد: فهو ما يزال مفرطا من حيث طابعه الاقتصادي، ومفرط القرب من الصورة المناقضة للمراكمة، تماما كما أن الاختراق مفرط القرب من الصورة المناقضة للمحظور(2). ففي ظلّ نظام ليس نظام النفعية، ولكن في نظام للقيمة عشوائي، لا يكفي الإنفاق المحض للتحدي الجذري، مع الاحتفاظ بالسحر الرومنسي للعبة مناقضة لما هو اقتصادي-مرآة مكسورة للقيمة التجارية، ولكنها عاجزة ضد المرآة التائهة للقيمة البنيوية. يؤسس باطاي اقتصاده العام على "الاقتصاد الشمسي" الذي بدون مقابل، على الهبة التي تهبنا إياها الشمس من جانب واحد: إنها نظرية في نشأة عالم الإنفاق، تنتشر على أنثروبولوجيا دينية وسياسية. ولكن باطاي قرأ موس قراءة غير سليمة: فالهبة من جانب واحد لا وجود لها. وليس ذلك قانون الكون. فقد كان يتعيّن عليه هو الذي أحسن استكشاف التضحية البشرية لشعب "الأزتاك" أن يعرف مثلهم أن الشمس لا تهب شيئا، وينبغي تغذيتها بالدم البشري حتى تشعّ. يجب تحدّي الآلهة بواسطة القربان حتى تستجيب بتقديم الخيرات الوفيرة. بعبارة أخرى، فإن جذر التضحية/القربان والاقتصاد عامة ليس البتة محض الإنفاق ومجرد الإنفاق، أو ما لست أدري من دوافع الإفراط يأتينا من الطبيعة، ولكن هو عملية تحدّ مستمرة.

لقد "طبعن" (naturalisé) باطاي موس

إن "فرط الطاقة" ليس مصدره الشمس (من الطبيعة) ولكن مزايدة مستمرة لعملية التبادل- وهو عملية رمزية واضحة لدى "موس"، ليست الهبة (لأن تلك هي الصوفية الطبيعانية التي يسقط فيها باطاي) ولكن من الهِبَة المضادة -وهي العملية الوحيدة الرمزية حقا، وتقتضي فعلا الموت بصفته ضربا من الإفراط الذي يبلغ أقصاه- ولكن ليس باعتباره نشوة فردية، إنما باعتباره المبدأ الأقصى للتبادل الاجتماعي. وبهذا المعنى، يمكن أن نُآخذ باطاي على أنه قد "أضفى صبغة طبيعية" على موس (ولكن ضمن دوّامة ميتافيزيقية هي من العِظم والروعة بحيث لم تعد المآخذة مآخذة)، وعلى أنه جعل من التبادل الرمزي ضربا من الوظيفة الطبيعية للكَرَم، هي في آن واحد دينية إلى حد الإفراط في ما تتسم به من مجانية، وقريبة إلى حد الإفراط، في المقابل من مبدإ المنفعة ومن الصعيد الاقتصادي الذي تجتهد في خرقه دون أن يغيب عن نظرها البتة.
في "مستوى مكافئ للموت" (à hauteur de mort) نعثر على باطاي ويظل السؤال الحقيقي المطروح هو: ترى لماذا شعُر البشر جميعهم بالحاجة وشعروا بضرورة قتل كائنات حية على نحو طقوسي؟ وبسبب عدم استطاعتهم الإجابة عنه، ظل جميع البشر جاهلين لماهيتهم (dans l’ignorance de ce qu’ils sont) وتوجد إجابة عن ذلك تحت نص باطاي وفي تضاعيفه ولكن حسب رأيي ليس  في مفهوم الإنفاق، ولا في ما حاوله من ذلك النوع من إعادة البناء الأنثروبولوجي  انطلاقا من المعطيات "الموضوعية" التابعة لزمانه: أي الماركسية، وعلم الأحياء، وعلم الاجتماع والأثنولوجيا، والاقتصاد السياسي، وقد حاول رغم كل شيء تجميع إمكاناتها الموضوعية، ضمن منظور ليس على وجه التحديد بالجينيالوجيا (علم الأنساب) ولا بالتاريخ الطبيعي، ولا بمجموع هيغلي، ولكن بعض من كل ذلك.
إلا أن اقتضاء المقدس، لا خلل فيه ضمن ما يطرحه من إثبات إسطوري، والإرادة الجدلية تخرقها على الدوام رؤية باطاي الباهرة، و "موضوع معرفة" دوما في "درجة الغليان"، يجعل أن الاعتبارات التحليلية أو التوثيقية نفسها تتسم دوما بتلك القوة التي للأسطورة والتي هي قوام قوة الكتابة الوحيدة باعتبارها قربانا.

الهوامش:

(1) إن الرغبة البروتستانتية العارمة في الأعمال "(إنما المال المكتسب مال لإعادة الاستثمار...لا قيمة له ولا معنى إلا في ما  يُلزم به من إثراء لا نهاية له )، فيما تتضمنه من ضرب من العته والتحدي والرغبة التي لا تقاوم في الفعل على نحو كارثي- هي ضرب من الرغبة العارمة الصوفية، تتعارض مع العمل، والاستعمال السويّ للعمل والاستفادة من ثمرته.
(2) إن الإتلاف (حتى المجاني)، هو دوما غامض، بما أنه الصورة المعاكسة للإنتاج، ويندرج ضمن الاعتراض على أن الإتلاف يقتضي أولا الإنتاج، وهو ما لا يمكن لـ"باطاي" أن يعترض عليه إلا بالشمس.

* جورج باطاي . المؤلفات الكاملة .مجلد VII. ط غاليمار،618 ص


المصدر: ترجمة خاصة بالمدونة من Jean Baudrillard, La Quinzaine littéraire n°234, juin 1976

السبت، 4 يناير 2014

جورج باتاي يناظر المركيز دو ساد عن "الأدب والشرّ": ترجمة وتقديم محمد عيد إبراهيم


رواية "جوستين" التي كتبها المركيز دو ساد هي مجرد كابوس طويل، ينطلق بمشاهد عنف وتعذيب وانحراف مغاير. لكن هناك ما يشبه الحلم بهذا الكتاب؛ يبدو أن المركيز المشؤوم قد ترجم تقريباً خيالاته المحمومة عن الألم إلى ضرب من الأدب. هو كتاب مريب، كتاب مثير يستحثّ العقل، كما أنه كتاب مريع. لم يقرأه أحد وعاد كما كان، لأن "جوستين"، ككلّ أدب عظيم، تصبح جزءاً من تجربة القارئ، وإن صدف وقرأها فسيملكه فَهمٌ أشدّ مضاء لقوى الرعب التي تحكم العالم.  
كتب "ساد" عشرات الروايات، بدءاً من "120 يوماً في سدوم" (1785). مع ذلك كان أول ما نُشر منها هو "جوستين"، أو "محنة الفضيلة"، كما ظهرت في يونيو 1791. وقد ثار في فرنسا وقتئذ عهد الإرهاب(*) وطاحت فيه الأخلاق برمتها. وحتى بهذا الزمن المسعور، لم يشعر "ساد" أنه بمنجىً ليصدر أول طبعة باريسية منها، فحملت صفحة عنوانها "نُشرت في هولندا" ـ مع أنها صادرة فعلياً في مطبعة باريسية وبإشراف مباشر من المؤلف.     
لم يرض "ساد" قطّ عن "جوستين" بصورتها الأصلية. فأعاد بعد سنين خمسة كتابتها ووسّع فيها حتى صارت عملاً ضخماً من أربعة مجلّدات أسماه "جوستين الجديدة"، وقد طُبع 1797. ولم يصدر هذا العمل مرة أخرى قطّ واختفت نسخه. فظلّت لطبعة 1791 من "جوستين" الأصلية شعبيةً سريةً مدة طويلة من الزمن(**).    
لرواية "جوستين" وجود محموم. كتب أديب فرنسيّ 1797 "يودّ الجميع معرفة كنه العمل المسمّى (جوستين)، يشغفهم حيازة أو استعارة؛ فطباعته محظورة". ثم قام نابليون بحظر توزيع الكتاب إجمالاً 1801، وأمر بمصادرة نسخه وإتلافها، فاستحالت طبعاته الأولى نوادر. كما أمرت الحكومات الفرنسية المتعاقبة بمصادرته: 1815، 1825، 1843. مما حفز الحاجة للكتاب طبعاً.   
وصادفت ترجمات الكتاب المصير عينه. في إنجلترا والولايات المتحدة أحرق ضباط الجمارك آلاف النسخ من "جوستين" منذ منتصف القرن التاسع عشر، مع أنه لم تصدر أية أحكام من أية محكمة بأنه كتاب "فاحش". وبعد رفع بلدان أوربا الحظر عن أعمال "ساد"، ظلّ العالم السكسونيّ يمنعها، على رغم ظهور الساديّة في أعمال كتّاب متواضعين: يان فلمنج، ميكي سبيلان؛ مفعمة بأية دعاوى غير مأثرة الفنّ، لكن لم يصدر أمر برقابتها بل نالت مديحاً من أوساط حكومية عليا.  
هي أشياء تحدث في الحياة. وتحدث أقلّ بالروايات السيّارة، حيث النهايات السعيدة مهما كانت فهي متملّقة، ولا تحدث قطّ في هوليوود أو التلفزة. لقد قلبَ ساد الأخلاق المصطلح عليها للراوي الموصوف. فهو يطرح بهذا الكتاب المعتم الكئيب نسخة مقلوبة على عقبها للعالم، كترياق مفعم لما ينتجه معظم الكتَبَة من توافه غبية. 
رواية "جوستين" مجرد خيال طبعاً. فهي نتاج رجل مختلّ مستوحش منحلّ مريض، تصادف أنه كان عبقرية أدبية. فما من صفحة تُبدي مرض ساد الواضح إلا وتُبدي عبقريته أيضاً. لكن هذا الكتاب المعذِّب والمعذَّب قطعة فنّ خالص بالقدر ذاته. فهو يضمّ مكافآت للقارئ القدير، كما يقدّم نظرات سيكولوجية ثاقبة لمن يودّ فهم تجليات الشرّ لا تجاهلها(***). 


(*) عهد الإرهاب بالثورة الفرنسية (مارس 1793 ـ يونيو 1794) أُعدم فيه ساسة ومواطنون. (م)  
(**) يقارب عمر الرواية الآن (2014) حوالي ربع ألفية (223 سنة). (م)      
(***) عن مقدّمة الناقد الأمركيّ: لـ. ر. ودورد، صاحب كتاب "السادية"، ومترجم رواية "جوستين". (م)        
***

وقد نشر صنوه، فيلسوف الشرّ، جورج باتاي، فصلاً في أحد كتبه "الأدب والشرّ"، بعنوان "ساد"، يقول فيه إن الاعتراف بأدبية "ساد" جاء مؤخراً، من ناتج سمعة "ساد" عبر عشرات السنين. ونستعرض الآن كثيراً من مقاطع هذه المقالة التي كتبها باتاي في حقبة الخمسينيات من القرن الماضي: 

إن حياة ساد وأعماله ترتبط واقعياً بالحوادث التاريخية، لكن بأغرب طريقة. فلم يكن الإحساس بالثورة من معطيات أفكاره، إن كانت ثمة علاقة بين الدمار وبعض الصخور، أو بين الليل والصمت. كما أن بعض الحوادث لها قيمة رمزية أكثر من عاصفة "الباستيل". فلا توجد ثمة رمزية احتفالية أكبر من التدمير المتمرد لأحد السجون، وهو التمرد الذي يعدّ جوهر الانعتاق، من جذور ملكية متعنّتة. وإن نقص عنصر المصادفة، أو قَلّ عنصر النزوة، لما كانت للحدث مثل هذه الأهمية؛ والسبب أنه رمزيّ، مختلف عن الصيغة المجرّدة.  
حينما قرّر الناس حدثاً سيرجّ العالم، إن لم يحرّره، كان أحد المحرَّرين المشؤومين من هذا السجن هو مؤلّف رواية "جوستين"، الكتاب الذي سيعرض أمامنا مسألة عويصة تستغرق حوالي قرن من الزمان للردّ عليها. سُجن "ساد" سنوات في "الباستيل"، وهو واحد من أكثر الكتّاب تمرّداً وغضباً حينما يتكلّم عن التمرّد والغضب، باختصار هو "وحش" مسكون بفكرة التحرّر المستحيلة.  
وكانت مخطوطتا "جوستين" و"120 يوماً في سدوم" مهملتَين في زنزانة فارغة. لكن الرجل الذي يرزح تحت الأصفاد من عشر سنين منتظراً إطلاق سراحه من زمن طويل، لم تحرّره غضبة الدهماء. فقد يحدث أن يسمح لنا حلم بإطلاق لمحة مكروبة عن إمكانية تكشف لنا في اللحظة الأخيرة جواباً محيّراً يُرضي رغبتنا الساخطة.   
حين دخل الدهماء، محطّمين القُفلَ على المركيز، لم يجدوه، فقد نُقل بتعليمات من آمر السجن، كما فُقدت المخطوطات المبعثرة من مؤلفّاته، تلك التي كانت تعبّر عن الغضب الحقيقيّ داخله والذي كان يحاول التحكّم فيه بل يخفيه. وبدلاً من تحرير المؤلّف، أضاع الدهماء في "الباستيل" المخطوطات، مما عُدّ التعبير الأول عن الرعب الكامل من الحرية. ومع أنه قد تمّ العثور على هذه المخطوطات فيما بعد، ونُشرت، إلا أن الماركيز نفسه ظنّ أنها راحت إلى الأبد، مما ملأه باليأس، فكتب "هي أكبر محنة كانت السماء تجهّزها لي". ومات، من دون أن يعي أنهم سيصادفونها فيما بعد، وتُنشر ضمن "آثار خالدة من الماضي".  
لا يعدّ المؤلّف وكتابه من نتائج فترة الطمأنينة. ويرتبط كلّ شيء، في هذه الحالة، بعنف الثورة، كما تنتمي شخصية المركيز دو ساد إلى تاريخ الأدب. لقد ودّ أن يدخل التاريخ كأيّ شخص آخر، لكنه يئس بعد فقدان مخطوطاته. إن المصير الذي أراد أن يكتبه، وبفقدانه عمله، شابه عنصر الحقيقة فيما كان عليه عمله، فهو يضمّ الأنباء السيئة عن المصالحة بين الأحياء ومن يمارس قتلهم، بين الخير والشرّ، وقد نقول، بين الصرخة الأعلى والصمت. 
يقول الماركيز بشأن وصيته: "حينما يمتلئ القبر، انثروا عليه من ثمر البلّوط، حتى تتغطّى الأرض، في المستقبل، بالخَضار، وتصبح الجِيفة كثيفةً كما كانت، ثم تختفي آثار قبري من سطح الأرض، كما آمل أن تتلاشى ذكراي من ذاكرة البشر".  
ليست المسافة بين "دمع من الدم"، الذي سال على فقدانه المخطوطات، وهذه الحاجة للعدم، أكبر مما هي بين السهم والهدف. ولا شيء أكثر عقماً من أن نتّخذ "ساد" أدبياً، بجدّية. فمن أيّ زاوية نناظره، يروغ منا. أما عن الفلسفات العديدة التي بثّها في شخوصه، فلا يمكن استبقاء أيّ منها. فقد كان يدرس أحياناً، عبر مخلوقات رواياته، لاهوت الكائن الشرير إلى حدّ فائق.    
وبأحيان أخرى كان ملحداً، لكن من دون قلب بارد: فإلحاده يتحدّى الإله ويفرش تدنيساً للمحرّمات؛ مستعيضاً بالطبيعة في حالة من الفكرة الدائمة عن الله. وبحالات أخرى يكون ورعاً، وبأخرى مجدّفاً. يقول "يدها البربرية، تخلق الشرّ فقط؛ لذلك يسُرّها الشرّ؛ وأظنّ أنه يتوقّع أن أحبّ هذه الأمّ! لا! بل أُحاكيها، بل أَبغُضها. سأستنسخها، هي من يريد، لكني سأمقتها في الوقت عينه".
مفتاح هذه المتناقضات في مقطع يضمّ جوهر فكرة "ساد"، نستلّه من رسالة سطّرها في 26 يناير 1782، "من زنزانة ينسين"، بتوقيع "دي أولنيه" ـ حيث كان اسم "ساد" الحقيقيّ متّهماً بدوافع أخلاقية. هتف: أيها الإنسان! أمِن أجلك نقول ما الخير، أو ما الشرّ؟... تريد أن تحلّل قوانين الطبيعة وقوانين قلبك... قلبك الذي حفروه، هو نفسه معضلة ليس لك أن تجد لها حلاً... هو الذي لم يأن له فعلياً أن يرتاح وهناك ثلّة من المبادئ يجب أن يحافظ عليها.  
مع أنه ماديٌّ قطعاً، إلا أنه لم يحلّ مشكلته؛ الشرّ الذي يعشقه، والخير الذي يُدينه. في الحقيقة، عجز "ساد" الذي يعشق الشرّ، والذي قصد من أعماله أن يجعل الشرّ مرغوباً، أن يُدينه أو يبرّره. بطريقته وصّف الفلاسفة الغاوين، الذين يفتنهم، وهم لا يفتنونه، عثر على مبدأ يستخرج الخاصّة اللعينة من أفعالهم التي تفيد مما يمتدحون. الخاصّة اللعينة التي ينشدون من هذه الأفعال. المسألة الوحيدة التي أيقن منها "ساد" أنه لا شيء يستحقّ العقاب ـ أو على الأقلّ عقاباً بشرياً. يقول "القانون بارد في حدّ ذاته، لا يمكن نيله بالعواطف التي تسوّغ فعل القتل العنيف".
يبدو لي من تمعّني في دراستَي بيير كلوسوفسكي(*): "ساد والثورة" و"صورة النظام عند ساد"، أنه قد رسم صورة مبدعة لمؤلّف "جوستين"؛ لم تكن غير نظام مفصّل، به استعمال ماهر لمظاهر الجدل، التي سعى عبرها لتوريط الربّ، والمجتمع الثيوقراطيّ، وثورة الإقطاعيّ الكبير الذي يريد أن يستبقي امتيازاته منكراً التزاماته. بشكل ما كانت دراستا كلوسوفسكي هيجليتين، لكن تنقصهما دقّة هيجل. يؤسّس كتاب هيجل الشهير "ظاهرانية الروح"، الذي يحمل متشابهات مع الظواهر الجدلية، لكلٍّ جمعيّ دائريّ يتبنّى التطوير الكامل للروح عبر التاريخ. بينما يستنتج كلوسوفسكي متعجّلاً من مقطع باهر في "الفلسفة في غرفة النوم"، أن "ساد" يدّعي أنه يؤسّس لدولة جمهورية قائمة على الجريمة. إن التشريع لتأسيس إعدام الملك، على أنه إعدام للربّ الإله، لأمر مغوٍ في الحقيقة ـ فهو مفهوم اجتماعيّ قائم على اللاهوت، مسترشد بالتحليل النفسيّ، متعلّق بأفكار جوزيف دي ميستر(**). تحليلٌ هشٌّ قليلاً. فلم تكن كلمات "ساد" أكثر من إشارة منطقية، وأحد البراهين الألف من أخطاء البشرية التي لم ترتكب نفسها لأجل التدمير والشرّ. مع ذلك أدار المركيز ظهره لكثير من التخمينات المستحقّة؛ فالمشكلة الحقيقية مختلفة كلياً.    
يؤكّد جون بولون(***) "حين أنظر حولي وأرى كثيراً من الكتّاب يكرّسون أنفسهم لرفض الحِيَل الأدبية لخدمة الحدث الذي يمكن سرده بمشقّة، نتذكّر، كونه إيروتيكياً ومفزعاً في آن ـ كتّاباً يشغفهم دائماً أن يتّخذوا المنحى المضادّ للإبداع، مصمّمين على إيجاد السامي في الشائن، والعظيم في المدمّر، وهو ما يحتاج من كلّ كلمة أن ترتكبه وتفضح مؤلّفه إلى الأبد... أتساءل إن كان علينا ألاّ نرى على الإطلاق فزعاً أو ذكرى، بدلاً من الابتكار أو المثال. أتساءل إن كان الأدب الحديث، فيما يبدو لي، أكثر شيء حيّ، أو مجرّد أحداث في أكثر شكل عدوانيّ، موجّه بالكامل نحو الماضي وقد عزّزه "ساد"...". ربما يخطئ بولون بشأن مساهمة مقلّدي "ساد" ـ فنحن نتكلّم عنه، معجَبين به، لكن لا أحد يحسّ بضرورة أن يشبهه؛ فنحن نحلم بـ "أهوال" أخرى. مع أن بولون يحدّد موقع "ساد" بصورة المعجَب. لكنه لم يكن يتعلّق باحتمالات أو مخاطر اللغة. فهو لا يتصوّر عمله مستقلاًّ عن الموضوع الذي يوصّفه، لأن موضوعه مستحوَذ عليه من قبل "ساد" ـ في الإحساس الشيطانيّ بالكلمة. كتب إنه ضائع في الرغبة نحو الموضوع، وقد وظّف نفسه فيه كالكاهن. يقول كلوسوفسكي: 
"لم يكن "ساد" مجرّد يحلم. كان يرشد حلمه للعودة إلى الموضوع، الذي بدأه حالماً، بوسيلة منجزة ككاهن متأملّ يُشرِع روحَه للصلاة أمام سرّ قدسيٍّ. إن الروح المسيحية تنمّي وعيها أمام الربّ. لكن لو نمّت الروح الرومانسية، التي لم تعد أكثر من حنين للحقيقة، لو نمّت وعيها وهي تقدّم عاطفتها في تجرّد، لأصبحت الحالة الشجيّة وظيفةً للحياة، وقد نمّت روح "ساد" وعيها من خلال الموضوع، الذي يُسخط قوّته، لتسهم في حالة من القوّة الساخطة، كوظيفة نقيض للحياة. أيّ، تحسّ بنفسها وهي تعيش في حالة من السخط".    
نضيف عند هذه النقطة أن الموضوع محلّ السؤال، عبر مقارنته بالربّ (كلوسوفسكي، كمسيحيّ، هو أول من ترسّم هذه المقارنة)، لم يوهب كالربّ أن يصلّي له الناس. فالموضوع مثله مثل (الكائن البشريّ) لا يزال حيادياً ـ عليه أن يتكيّف حتى أن المعاناة الضرورية قد تُستقى منه. كي يتكيّف يعني أن ندمّره.  
سأبرهن أن "ساد" (المتباين عن الساديّ المعتاد، الغريزيّ) له هدف أن يصفّي الوعي مما كان قد حقّقه بـ "الانعتاق" ـ مع أن الانعتاق قاده إلى خسران الوعي. كأننا نقول إنه قد حقّق هدفه من تصفية الوعي عن القمع ـ من الاختلاف بين الموضوع والدافع. هكذا يختلف هدفه، عما هو في الفلسفة، بالطريق التي اختارها ليتحقّق. لقد بدأ "ساد" باختبار "الانعتاق" العنيف في الممارسة التي أرادها واضحة، بينما بدأت الفلسفة من الوعي البارد ـ من الوضوح المميز ـ كي تجلبه نحو نقطة الذوبان.  
لقد فصل "ساد" نفسه عن الإنسانية، فلديه انشغال واحد عبر حياته الطويلة استغرقه ـ يعدّده إلى نقطة إنهاك احتمالات تدمير البشرية، تدميرها مع إمتاعها بفكرة موتهم والمعاناة. أما الوصف الأجمل فله معنىً محدود بالنسبة إليه. فالتعداد المطوّل والمملّ كان يوفّق في تقديمه مع العدم، الصحراء، وهو ما كان يتوق إليه، ولا تزال تقدّمه كتبه إلى القارئ حتى الآن. ولو رأينا العنف رمزاً لحقيقة عصيبة كانت تتملّكه ويتتبّعها إلى درجة أنه يعتبرها مجرّد سرّ، لربطناها بالصورة التي وهبنا إياها "ساد" عن نفسه. فقد كتب في "120 يوماً في سدوم":
"عليك الآن، يا قارئي العزيز، أن تجهّز قلبك وعقلك لأكثر قصة دَنِسة قد تُحكى منذ بداية العالم، لا يوجد كتابٌ نظير بين القدماء أو المحدَثين. تصوّر أن كلّ لذّة أمينة ـ أو أيّ لذّة يسمح بها ذلك البهيميّ الذي تتكلّم عنه دائماً، مع أنك لم تتعرّف إليه من قبل، وقد تسمّيه الطبيعة ـ أقول، تصوّر، ستمنحك هذه الملذّات تفصيلياً، وإن عثرت عليها بأيّ مصادفة فلأنها قد تصطحب جريمة ما أو تلوّنت بفعل شائن ما".  
لقد مضى انحراف "ساد" إلى حدّ بعيد حيث أحال أبطاله إلى جبناء بدلاً من أوغاد. وها هو وصف لأحدهم: "مزيّف، قاسٍ، متعجرف، بربريّ، أنانيّ، مبذّر في لذائذه وبخيل بدلاً أن يكون مفيداً، كاذب، جشع، سكّير، جبان، سفّاح قُربى، لوطيّ، قاتل، حارق عمداً، لصّ...".
لم يتملّك "ساد" هذا العنف غير المحدود. كانت له متاعبه مع الشرطة، غالباً، لكنها لم تره إلا مصدراً للريبة فقط، ولم تتّهمه بأيّ جرم حقيقيّ. نعرف أنه قد شقّ شحّاذة شابة بسكّين وصبّ شمعاً ذائباً في جرحها، وتحدّثت الشحّاذة عن صرخاته المرتاعة التي صاحبت نشوته. ولا أعرف إن كان لنا أن نبرّر هذه التعدّيات التي صاحبتها لذّة ما. فبعد نقطة ما، لا يعود التطرّف مقياساً. فهل لأحد أن يتكلّم عن لذّة حين يعلّق همجيّ نفسه في حبل بخُطّاف محفور في صدره ويطير من حوله كالوتد؟ وقد نمضي إلى بعيد. فبعض خيالات "ساد" تثير غثيان أكثر النسّاك صلابة.      
أسّس "ساد" نفسه على خبرة شائعة. الحسيّة، التي حرّرته من القيود المعتادة، ولم تكن تثيره بتمثّلها، بل بالتكيّف مع الدافع الممكن. بتعبير آخر، كان الدافع الحسيّ، وهو مجرّد انعتاق (كما في أدائه عمله)، يشعله التخلّص الملائم من دافعه. ويلاحظ "ساد" "إن السرّ هو سوء الطالع بالتأكيد، فلا يوجد أيّ فاجر قد يلوذ بالرذيلة التي لم يطّلع عليها من تأثير قوة القتل التي تستحوذ عليه". وتملك الجريمة في حد ذاتها قوة جذب عليه، بشكل مستقلّ عن اللذّة، حيث تشعل عواطفه.       
ويلاحظ "ساد": "إن الفجرة الحقيقيين يعتقدون أن الأحاسيس، التي يتواصلون بها عبر أعضائهم السمعية، هي الأكثر حدّة. ونتيجة ذلك أن الأوغاد الذين ودّوا من قلوبهم أن تنتقع باللذّة قدر الممكن، يدبّرون فكرة معينة لتحقيق غرضهم"... لدى هؤلاء الحكّائين معنىً واحد. إنهم يمنحون الشكل لعرض مفصَّل من واعظ، مستهدَف من صوتٍ آخر، إلى تلك المتاهة التي تمنّاها "ساد" للتنوير في النهاية. والأهمّ، أن إبداعه الوحيد كان متخيَّلاً في عزلة الزنزانة. كما أن وعيه المميز الحادّ، الذي يتجدّد ويُختبر على قاعدة الغريزة الحسيّة، قد تشكّل في الأحوال غير الإنسانية داخل السجن. فهل تحرّر "ساد" ليشبع عاطفته، مع أن السجن كان يمنعه؟ إن لم تكن تعذّبه عاطفة مزعومة، لكانت المعرفة الخارجية الموضوعية هي المحتملة، لكنه لم يصل إلى مرحلة الوعي الكامل، لأن الوعي الكامل يتطلّب تجربة الرغبة.       
الأفضل أن نؤكّد على هذه الصعوبة، وأضيف إن "ساد" كان يعلن عن إشباع وعيه، فلم يكن قد توصّل إلى الوضوح التامّ. كان على روحه أن تصل، مع غياب الرغبة، أما اليأس الذي يُخلِفه عند القارئ، بإحساس من الألفة النهائية بين الرغبات التي يحسّ بها "ساد" ورغبات القارئ، فقد كان أقلّ توتراً وألفةً.    
قد تدهشنا هذه الحقيقة الغريبة والعصيبة، التي تنكشف أولاً في مسلك رائع ومدهش. إنها احتمالية الوعي في قيمته الأساسية، لكنها لا تستند مطلقاً إلى الخلفية التي ترمز إليها. فأنّى لهذه الحقيقة الناشئة أن تنقُصَها روعة شعرية؟ من دون هذه الروعة الشعرية قد لا يكون لها منظورها البشريّ. فهي تسعى لتأسيس ربط العقدة الأسطورية بما تكشف عنه في النهاية من أعماق الأساطير.  
تتّخذ ثورةً ـ انفجار بوّابات الباستيل ـ لتسليم سرّ "ساد" إلينا. كان لديه سوء الطالع أن يعيش هذا الحلم، حيث الاستحواذ هو روح الفلسفة، وحدة الموضوع والدافع. هوية للتسامي بمحدّدات الكائن، بدافع الرغبة، بالموضوع الذي يرغب فيه. وقد قال موريس بلانشو(****) إن "ساد" "نجح في جعل سجنه صورة لعزلة الكون"، لكن لأن هذا السجن، هذا العالم، لم يعد يثير حنقه منذ أن "طرح عنه كلّ مخلوق آخر"؛ فقد كان "الباستيل"، حيث سطّر "ساد" كتاباته، البوتقة التي شملت ضمنها المحدّدات الواعية للكائن، حيث كانت نيران العاطفة تُدمّرها ببطء، بينما راح العجز يمدّ حبل حياتها.


(*) Pierre Klossowski: (1905/ 2001)، كاتب وفنان فرنسيّ، أخوه الأصغر الفنان بلاثيوس الشهير، وهو المسؤول عن إصدار طبعة جديدة منقّحة من كتاب "ساد": "120 يوماً في سدوم، وكتابات أخرى"، عام 1964. كما شارك في إصدار كثير من طبعات "جورج باتاي". كتابه "نيتشه والدائرة المفرّغة" له تأثير كبير على الفلاسفة: فوكو، جيل دي لوز، ليوتار. (م) 
(**) Joseph de Maistre: (1753/ 1821)، فيلسوف ودبلوماسيّ، ما بعد الثورة الفرنسية، ضدّ التنوير. (م)  
(***) Jean Paulhan: (1884/ 1968)، كاتب وناقد فرنسيّ، من أعماله: "الفزع في الأدب". (م)     
(****) Maurice Blanchot: (1907/ 2003)، كاتب وفيلسوف فرنسيّ، له تأثير كبير على النقّاد منظّري ما بعد البنيوية، أمثال جاك دريدا. (م)      
***


وتعميماً للفائدة، أُثبت نصّ إهداء رواية "جوستين"، الذي حاول فيه "ساد" وضع نقاط على الحروف لكلّ من يصدف أن تقع الرواية بين يديه: 

"إلى سيدتي الغالية،
نعم، كنستانس، إليكِ، لذكائكِ وفهمكِ المتوقّدَين، أُهدي هذا الكتاب.
أنتِ، طبعاً، من سيقدّر عذوبة دموع الفضيلة التعسة. 
وبقوة تشجيعكِ لا أهاب وصف الأحداث والأحاديث والشخوص الضرورية في هذه الرواية. وقد خفّفتُ خطوطاً معينة من الصور الساخرة قدر الممكن، حتى لا ترعبكِ. فالرذيلة تهزأ بوضعيتها، تصرخ خزياً وهي تُهاجَم: الصرخة التي دبّرها المتعصّبون ضدّ "طرطوف"، هي الصرخة نفسها التي سيُشهرها المتهتّكون ضدّ "جوستين".  
لكني لا يعنيني هؤلاء في شيء. فإليكِ والآخرين أمثالكِ تتّضح بواعثي، وبكم تُفهَم. ورأيكِ يكفيني. لو سررتكِ، فسأسرّ الجميع. بكِ وبعطفكِ وحده أهتمّ؛ أما استنكاف الآخرين مني وتقريعهم لي فلن يثير إلا أساي وأصرف بالي عنهم.  
بنيان هذه الرواية غريب دون شكّ. حيث تبدو الرذيلة بكلّ مكان ظافرة، أما الفضيلة فضحيّة قرابينها. هنا امرأة تعسة الحظّ تصبح ألعوبة الشرّ والغواية: تتعرّض لأشدّ الميول فساداً وبربرية: فريسة دائمة لأشدّ الأهواء وقاحة ومراوغة: ولا تملك غير رقّة روحها التي تُقارع بها المزيد من الحظوظ العاثرة والكثير من الانحلال. قُصارى القول، لقد جازفتُ بكتابة أجرأ الصور، أكثر المواقف استثنائية وأعتى قواعد السلوك ضراوة...
فهل وفّقتُ، يا كنستانس؟ هل تطفر دمعة من مآقيكِ بضمان توفيقي؟ لو أتيح لكِ قراءة "جوستين"، أفلن تقولي أخيراً "آه، كم تحفزني صور الجريمة على التباهي بعشق الفضيلة! وكم ستكون سامية دموع الضحيّة! وكم سيرفعها حظّها التعس إلى ذُرى النبالة!"
آهٍ، يا كنستانس! دعي كلماتي هذه تقطر من شفتيكِ، فبها تتوّجين كلّ ما عملت يداي!"
***

فصل من رواية "جوستين(*)" للمركيز دو ساد
ترجمة محمد عيد إبراهيم

على رغم الأشواك التي ظلت تخِز جوستين بسيرتها العصيبة مع الفضيلة، كانت تعود دائماً إلى الله ومشاعر الحبّ والتسليم. وقد أيقنت أن شفاعة إلهها الطيب الذي تعبده هي وحدها ما يسّر هروبها المعجز من محفل موتا العالي. تحسّ، مهما كان هذا الحسّ، أنه حاميها على الدوام. أفلم يوجَد من هو أكثر أسىً منها؟ نعم، وهي تمتنّ عميقاً لكلّ ما صنعت يداه.
بمثل هذه المشاعر ارتاحت جوستين في خان قرب بلدة ديجون.
بُعيد مسافة من ديجون، وقد أوشك المساء، انسلّ خلفها رجلان، فألقيا عباءة على رأسها لحجب رؤيتها أو صراخها، صفّداها كالمجرمين وهما يسحبانها دون أدنى كلمة للمضيّ معهما.  
سارا بها قرابة ساعتين على درب تُخفيه عيناها المعصوبتان. كانت تتنفّس بمشقّة، فاقترح أحدهما إفساح المجال لمزيد من الهواء. كشفا رأسها. خشيت أن يستعيدها عملاء النسّاك، فشلّها الخوف.   
قالت "إلى أين نذهب؟ وماذا ستفعلان بي؟"  
ردّ أحدهما "هدّئي من رَوعكِ، فلن نفعل شيئاً. لا تدعي ما نتّخذه من احتياطات يقلقكِ. سنأخذكِ إلى سيد عظيم. يريد خادمة لزوجته، وهو علّة هذا الغموض، لكن لن يلحقكِ أذىً".
"آهٍ سادتي، إن كان فيه سعادتي، فلماذا ترغموني. ولمَ الخوف من هربي؟ أنا يتيمة بائسة، أستحقّ الشفقة؛ وكلّ ما أطلبه مجرد مأوى!". 
قال أحدهما "هي على حقّ! فلنُرحها أكثر، فقط نمسك يديها". 
مسكاها وواصلا. ولدى رؤيتها خَنوعاً ساكنة، كلّماها برقّة. علمت منهما أخيراً أن من سيأخذانها إليه هو المركيز دي جرنان، نبيل ثريّ يعيش وحده بالريف.
"وحده؟"
"نعم، فهو زاهد فيلسوف. لا يكاد يرى أحداً".
سألت جوستين "ولمَ هذه الاستحكامات؟"
"السبب، كما سترين، أن زوجة سيّدنا عقلها مفكوك قليلاً. لا تترك حجرتها، ويجب مراقبتها طيلة الوقت. وطبعاً لا يبغي أحد وظيفة كهذه. فلو أخبرناكِ قبلها لتفاديت تقلّد الوظيفة، فاستوجب أن نأخذكِ عنوة". 
بكت جوستين "ماذا! أصبح أسيرة هذه المرأة!"
"طبعاً، وما في هذا! سيمضي كلّه على خير، وسنرعاكِ ـ لا تقلقي". 
"يا ألله!"
"هيا تعالي؛ لا أمر يدوم للأبد. كما أنها وظيفة مضمونة وفيها مال كثير".  
لاح أمامهم منزل كبير. يبدو خاوياً مهجوراً كلّما اقتربوا منه.
أُخذت جوستين إلى المركيز، وقد تمدّد بأريكة واطئة. قربه شابان في زيّ مُخَنّثين، دهنا شعريهما بزيوت عطرة. وجهان جميلان، شاحبان كأنهما مريضان.
قال أحدهما للمركيز، وهو يومئ نحو جوستين "أخيراً فتاة من أجلكَ! تفتّش عن عمل. أظنّها تنفع". 
فردّ "لويس. أغلق خلفكَ الباب، تأكّد أنه لن يدخل أحد حتى أدعوه".
نهض المركيز دي جرنان وباشر متلمّساً ذراعَي جوستين. فحص سريع بليد، ثم  سألها عن طبيعة العمل الذي أدّته من قبل. أخبرته جوستين عن حياتها فقال "رائع، أحسن شيء؛ ستنفعين أكثر في منزلي. من الطيب أن يلازم الحظّ التعس خطوات كلّ وضيع تسلّل قرب أرضنا".   
قالت جوستين "لكن سيدي، أخبرتكَ عن مولدي، فلم يكن وضيعاً".
فنحّاها جانباً "نعم، نعم. أعي ذلك كلّه. فالناس تهوى دائماً انتحال شخصية وهُم نكرة. أوهام من الزهو. على أيّ حال، الأمر سيان عندي: فأنا أراكِ شبه خادمة، وتلبسين مثل خادمة؛ آخذكِ على هذا المحمل. مع ذلك" وتطلّع فيها حانقاً "بيدكِ، مسألة السعادة هنا. بقليل من الصبر والتمييز، وخلال عدّة سنوات سأُعفيكِ من هنا بما يكفي من المال لتعيشي في بحبوحة على حسابكِ الخاص".
ثم تناول ذراعيها ثانية، الأول فالآخر، شمّر كمّيها، أنعم البصر فيها بفضول.
سأل "هل نزفتِ من قبل؟"
قالت جوستين، دهشةً من سؤاله "لا سيدي". 
فقال، يحدّق فيها نزقاً "أودّ أن أعرف قوامكِ. فليس لي أن أرى خللاً بالمكان الذي ستشغلينه، وعليكِ أن تظهري كلّ ما في طاقتكِ".
حاولت إيقافه، فثار يخبرها ألاّ تلعب عليه دور المحتشمة، فلديه الوسائل الأكيدة أن تكون له اليد العليا على النساء. قال "ما أخبرتني عن نفسكِ لا ينذر بأرفع فضيلة. ولا مكان لسبل مقاومتكِ فهي مضحكة!"
أدركت أنها دون حماية مع رجل قد يُحيلها لتراب بلكمة من قبضته، فخضعَت.
أومأ المركيز لرفيقيه الشابين، فاقتربا من جوستين وحضناها، مسّها بخشونة وهو ممتلئ حماسة عنيدة. ثم شدّها لحجرة مجاورة فيها شابان جميلان آخران يعملان بالتطريز. نهضا عند دخول المركيز.
قال لأحدهما "نرسيس، هذه خادمة زوجتي الجديدة؛ سأختبرها. فسلّمني المباضع".
فتح نرسيس علبة فأخرج أدوات النزف. 
قال المركيز للشاب الآخر "أرِحها، يا زفير". 
أُسندت على ركبتيها جنب كرسيّ عال وسط الحجرة. ثم ثُبّت ذراعاها بوشاحين أسودين موصولين بالسقف. اقترب المركيز، بمبضع في يده. عيناه رطبتان، لاهث الأنفاس. فربط ذراعيها، وشرع ينخسهما بحركات سريعة كالطير. بدأ دمها ينبجس، وكان على وقع المنظر ينخُر باللذة. مضى ليجلس مقابل جوستين، بُعيد ستة أقدام. نضّ عنه ما يلبسه من رداء خفيف. ولم ينحّ عينيه المحترقتين لحظة عن الدم الذي ينقّط منها في وعاءين أبيضين تحت ذراعيها. لبث نرسيس وزفير جنب سيدهما المنكبّ على رؤية الجداول الحمراء التي تطقّ بالوعاءين.
أحسّت جوستين نفسها موهَنة للغاية. قالت وهي لا تكاد تلهث "كفى، لخاطر الله كُفّوا!... ارحموني... إنني أتهافت...". وبدأت تترنّح، لكن الوشاحين منعاها من السقوط. فمال رأسها على جانب من كتفها وتلطّخ وجهها بالدم. 
**

رُدّ على جوستين الوعي، فوجدت نفسها راقدة بفراش دافئ وثير. قربها مرأتان عجوزان، قدّمتا إليها بعض المرق مجرد أن فتّحت عينيها.
أمرها المركيز صباح اليوم الرابع أن تأتيه للكلام معه. فاقتيدت لحجرة استقباله، وهي مضَعضَعة نوعاً. 
قال وهو يرشدها لتجلس "تريز، لن أجرّب عليكِ هذا ثانية، نادراً. ستفيدينني في أغراض. أردتُ فقط أن أعطيكِ فكرة عن أهوائي. مع ذلك، ستكون هذه نهايتكِ لو مرة خنتني، بأيّ طريقة، أو أدخلتِ زوجتي تحت رحمتكِ. لكن لا تتصوّري أني أعاملها هكذا من ضغينة أو احتقار. بل ملء عاطفتي. لا شيء يعادل ما أحسّه من لذّة وأنا أفصد دمها! فهو يفضي إلى رأسي ببساطة وأنا أراه يتدفّق. لا أتمتّع بطريقة أخرى قطّ، على رغم مضيّ ثلاث سنوات منذ زواجي بها. كلّ رابع يوم تتلقّى المعاملة ذاتها التي جرّبتِها. ولأنها في حدود العشرين، فشبابها يتحمّل، مع الرعاية التي تلقاها. وهذا السبب الذي لا يجعلني أُفلتها أو أسمح لها برؤية أحد. أُوهم الناس أنها مجنونة، بينما تعيش أمها، قريبتها الوحيدة، على بُعد ستة أقدام من هنا في قصرها، مقتنعة أنها لا تجرؤ على المجيء لرؤيتها. ستواصل زوجتي هكذا طالما تستطيع، ولن تحتاج شيئاً وهي تحيا هنا. أحبّ أن أُتلفها على مهلٍ، إلا أنني أسعى لبقائها على قيد الحياة قدر الممكن. بعد أن يُعجزها الصمود، ليُعنها اللهّ! فهي امرأتي الرابعة ـ هناك جميلة أخرى ستكون الخامسة. ولا يسبب لي مصير امرأة أدنى اضطراب. ففي الدنيا كثيرات منهن، ولا يسعدنا غير تبديلهنّ! فكوني هكذا قدر استطاعتكِ. مهمتك، يا تريز، رعايتها. فهي تخسر كمية منتظمة من الدم كلّ أربعة أيام. لا يُغمى عليها الآن، فقد اعتادت عليه. يدوم شحوبها أربعاً وعشرين ساعة؛ وتُمضي الأيام الثلاثة الأخرى على خير. لكنكِ بسهولة تدركين أنها تبغض هذه الحياة. ستفعل أيّ شيء ليُطلق سراحها، أو لتدع أمها تعرف حالتها الحقيقية. ظفرت مرة بثقة خادمتين، لكني كشفتهما في حينها، فأوقفتُ المناورة. تسبّبَت في موت البائستين وتندم على ذلك حتى اليوم. وهي مستسلمة أكثر الآن في تقبّل مصيرها، وتعد بألاّ تسعى للظفَر بثقة المزيد مما أجلبه إليها من خادمات. لذلك أُضطرّ لأخذ الخادمات عنوة، كما في حالتكِ، كي أتفادى الدعاوى القضائية. لن آخذكِ لمنزل أحد، لن أعطي تفاصيل عنكِ لأحد، وسأفعل ما يحلو لي معكِ لو حاولتِ خيانتي. لن أورّط نفسي في متاعب حتى لو قتلتكِ. ويُستحسن، يا طفلتي، أن تحسبي خطواتكِ، أحذركِ. أيّ خداع سيودي بكِ حتماً إلى الموت!"
لم يكن هناك المزيد ليقال، فتبعت جوستين سيّدها. مرا عبر صالة طويلة معتمة. فُتح باب فدخلا حجرة بَينية، حيث نهضت العجوزان اللتان طبّبتا جوستين طيلة مرضها فأدخلتاهما شقّة بديعة واسعة. كانت المركيزة على كرسيّ عال، تطرّز، فوقفت حين رأت زوجها. 
قال لها المركيز "اجلسي. لا يضيرني إنصاتكِ لي جالسة. لقد وجدتُ لكِ خادمة، أخيراً. آمل أن تذكري ما حدث للأخريَين ولا تُدخلي الفتاة في المحنة نفسها".
قالت جوستين "لن يُجدي نفعاً"، وهي شغوف لمساعدة المرأة تعسة الحظ فتحاول التعمية على نواياها الحقيقية أمام المركيز. "سيدتي، عليّ أن أخبركِ في وجهكِ أنه دون جدوى. سأُبلغ المركيز عما تقولينه لي. لن أُعرّض حياتي للخطر من أجلكِ".
فردّت المركيزة، غير مدركة دوافع جوستين الحقيقية "لن أفعل ما قد يُعرّضكِ للفضيحة. فلا تقلقي، لا أحتاج منكِ فعل شيء خارج خطّ واجباتكِ".
"كلّ شيء لأجلكِ سيدتي، ليس أكثر!"
سُر المركيز فصافح جوستين هامساً في أذنها "عظيم، يا تريز! يتوقّف حظّكِ على فعل ما تقولين". 
ثم أرشدها لحجرتها، لصق حجرة المركيزة. جعلها تلحظ أن الشقّة موصدة من الداخل بأبواب قوية، والفتحات مُؤمّنة بقضبان شبكيّة مزدوجة، مما يضعف أملها في الهرب. 
أضاف، وهو يقودها إلى حديقة صغيرة بمستوى الشقّة "هاهي الشرفة. لا أظنّ بكِ الحمق أن تفكّري بتسلّق جدرانها. قد تأتي زوجتي هنا لتستروح الهواء النقيّ كما تهوى، لكن يلزمكِ صحبتها. ذلك ما يخصّكِ حالياً ـ فوداعاً".
دخلت جوستين لرؤية سيّدتها. نظرت كلٌ للأخرى بدون كلام. مدام دي جرنان، شابة لا تتعدّى العشرين. طويلة نحيلة رشيقة. شقراء بعينين بديعتين سوداوين ملؤهما تعبيرات رقيقة. أنف دقيق، جِلد أبيض، ذقن بديع، فم صغير بأسنان براقة، محيط وجهها بيضاويّ ناعم ـ المركيزة، مثال لجمال المرأة. على رغم نحولها، فهي بديعة القوام مكتنزة. كما تبدو طيبة حسّاسة. 
سألتها جوستين "متى نزفتِ آخر مرة، سيدتي؟" 
"من ثلاثة أيام. وغداً موعدي ـ نعم، غداً سترين المشهد الرائع!"
سألت جوستين "ألا يوهن منكِ؟"
"يوهن مني! يا إلهي! لا زلتُ بالعشرين، ولا أظنّ المرء يحسّ بالوهن إلا قُرب السبعين. ولكلّ نهاية، فحمداً لله!"  
جعلت هذه الكلمات جوستين تنقبض، فكتمت آلامها، لم تودّ أن تُبين عن مشاعرها الحقيقية نحو المركيزة.
حان عشاء المركيزة. جاءت العجوزان لتوصية جوستين أن تأخذها إلى حجرتها.
جلست المركيزة تدعو جوستين بنظرة ودّ وصداقة للجلوس والعشاء معها. بالمائدة عشرون صحنا على الأقلّ. 
"طالما الطعام مخدوم فمعناه أنهم يهتمون برعايتي جيداً، كما ترين".
ردّت جوستين "نعم، أعرف أن المركيز يودّ رعايتكِ على أكمل وجه".
"آه، لكن بمعرفة دوافعه، لا تفرُق هذه المجاملات كثيراً معي". 
ولأنها منهكة دائماً، فهي تأكل كثيراً. بعد العشاء ذهبت المركيزة تستروح أنفاساً في الشرفة. تسندها جوستين بيدها؛ ودون هذا العون لا تسير عشر خطوات.
أبانت عن ذراعيها إلى جوستين، الندوب تغطّيها. "ولا يتوقّف هناك. فلا جزء إلا ويريد رؤية الدم يدفُق منه". كشفت رقبتها، قدميها، كلّها ندوب. ثم خلدتا للنوم. 
كان اليوم التالي موعد نزف المركيزة. وقد شرع المركيز في العملية فور خروجه من العشاء، قبل عشاء زوجته دائماً، يطلب من جوستين أن تأتي للجلوس معه إلى المائدة، لتشهد شراهته الهائلة في نظامها المعهود. يقوم أربعة خدم بتقديم وجبته المهولة.
تُقدَّم الأصناف الرئيسة أولاً؛ ثم ضلع غنم على الطريقة الإنجليزية، ثمانية أصناف لحم جانبية، خمس دورات لحوم ثقيلة، خمس للّحوم الأخفّ، رأس خنزير بريّ بين أصناف اللحوم المشويّة الثمانية؛ ثم أُبعدت لتقديم دورتَي حلويات دسمة وستة عشر صحناً من الفاكهة، ومثلّجات، ستة أنواع نبيذ، أربعة أصناف خمر، وقهوة. تناول المركيز من كلّ صحن. احتسى اثنتي عشرة زجاجة نبيذ: أربع برجاندي عند بداية الوجبة؛ أربع شمبانيا مع اللحم المشويّ؛ وتجرّع مع الحلويات توكاي وهرمتاج وماديرا. وانتهى بزجاجتَي خمر أيلنز وعشرة فناجين قهوة.
نهض عن المائدة خطوته منتعشة، كالخارج تواً من الفراش، فخاطب جوستين "هيا نذهب لنُنزف سيدتكِ الآن. أودّ أن تبلغيني إن فعلتُها معها جيداً كما فعلتُ معكِ".
وكان شابان لم ترهما جوستين من قبل عند باب شقّة المركيزة، حيث دخلوا كلّهم. وهناك شبّان آخرون. لدى المركيز اثنا عشر منهم، يبدّلهم كلّ عام.
تلبس المركيزة رداء خفيفاً، أنزلوها على ركبتيها بمجرد دخول زوجها. 
سأل "مستعدّة؟"
ردّت خانعة "لكلّ شيء، سيدي. تعرف أنه ليس لي غير طاعتكَ". 
فأمر المركيز عندئذ جوستين أن تأتي بزوجته إليه. كانت المركيزة على إلمام تامّ بكلّ إجراء، تجتاز التمهيدات من تلقاء نفسها. وبين هذه المراسم، رفاق المركيز يستحثّونه على الإثم.
دُهشت جوستين من أن هذا الرجل الضخم بشكله المرعب كان، على رغم جُرمه، إنساناً صغيراً فعلاً. والدليل أمام عينيها: كأنه طفل بالثالثة، بأدقّ زائدة، في حجم حُمّصة تقريباً. 
أخيراً، طقّت عيناه شراراً، فنخس زوجته بمبضعه؛ لكن قروحه كانت خفيفة ـ  نمّ عنها نقطة دم أو اثنتان فحسب.  
جلس ثانية فمنحها فترة استرواح، يشغل نفسه مع اثنين من رفاقه. يتلقّى المركيز الكثير، لكن لا يمنح شيئاً بالمقابل؛ لم يكن لأكبر الجهود بالنظر إلى تُخمته وعجزه أن تُوفّق في سحبه من خَدَره. لا شيء هناك يدلّ على عنف عواطفه.  
مسك زوجته ثانية، وضعها كما وضع جوستين، يداها مربوطتان بوشاحين طويلين إلى السقف. وعُهد إلى جوستين برعاية شدّ الأربطة. عاين القيود، فلم تكن مشدودة كفاية فضغطها بإحكام أكثر. جسّ أوردتها وهو ينخسها تقريباً بالوقت نفسه. بدأ الدم يدفُق، وكان سعيداً. ظلّ عشر دقائق في هذيانه، يقاوم نفسه كامرئ يفيق من الصَرَع. جيشان صراخ يُسمع من بُعد ميل وخوار بتجديف بذيء، ارتطم بكلّ ما في طريقه. فاضطرب اثنان من رفاقه. ومنهكاً، هدأ أخيراً.
ركضت جوستين فوراً جنب المركيزة، لتوقف دفق الدم، فكّتها، فأخذتها إلى كنبة. كانت موهَنة مرتخية إلى حدّ مفزع. ودون أن يزعج المركيز نفسه، سار بتهور للخروج مع رفاقه، تاركاً جوستين تعيد كلّ شيء إلى نصابه على هواها.
أبلغت المركيزة، وهي راقدة، جوستين أنها فقدت دماً هذه المرة أكثر من العادة. لكنهم ينفقون عليها كثيراً من الرعاية والمنشّطات.
اكتشفت جوستين حالاً سرّ دخولها خدمة المركيز. فهو يعرف أن قليلاً من النساء يسعدنه كثيراً. وهكذا اكتسبت مزايا خاصة إلى ثقته.
ذات صباح طلب المركيز من جوستين المجيء إلى حجرته لنقاشها في وسائل مستجدّة للنزف. أنصتت بانتباه إليه، تستحسن براءته. كان هادئاً وتمنت أن تُليّن منه بشأن زوجته. فقالت "كيف تعامل زوجتكَ هكذا! انظر كم هي جميلة!"
"آه يا تريز، ذلك ما يثيرني! اسمعيني، فتاتي العزيزة"، وواصل، يومئ أن تجلس جنبه "مهما قلتُ عن جنسكن، فلا تغضبي؛ سأعطيكِ أسباباً معقولة. بأيّ منطق في ظنكِ أن الزوج ملزم بإسعاد زوجته؟ وبأيّ حقّ تتوقّع الزوجة ذلك؟ هناك شخصان بقوة متعادلة، قدرة متساوية على إيذاء أحدهما الآخر، يسعدان معاً بالتبادل. طبعاً، في حالة وقّع كلاهما ميثاقاً لمنع استخدام قوتيهما لإيذاء أحدهما الآخر. لكن هذه السعادة لا توجد بين إنسانين، قويّ والآخر ضعيف. فلماذا يأمل الأخير أن يصفح عنه السابق، ولماذا ينكر القويّ على نفسه استخدام قوته مقابل لا شيء، للشفقة؟ إنه شعور منطقيّ كما قلتُ بين اثنين بقوة متعادلة. شعور أنانيّ صرف. يقع أثره بشرط ضمنيّ أن الرجل الذي يلهمني الرحمة سينال مني الشعور ذاته. لكن لو لم يكن عندي ما أخاف عليه من أجله، فشفقته عليّ عديمة الجدوى ولا يوجد سبب يستوجب التضحية بنفسي لنيل أيّ شيء منه. ألن أكون مغفّلاً لو أشفقتُ على فراخ الدجاج التي تُذبح لعشائي؟ الزوجة الآن كفرخ دجاج. كلاهما حيوانات أليفة عليها أن تُستخدم كما صمّمتها الطبيعة. وإني أسألكِ، إن كانت هذه نية الطبيعة أن يهب جنسنا السعادة لجنسكن والعكس بالعكس، أفلا تكون طبيعة عمياء قد خلقت كثيراً من الأشياء السخيفة في بِنية الجنسين! هل أخطأت جدّياً ليكون الإقصاء والكره الفطريّ المتبادل هو النتيجة! خذيني مثالاً. تريز، أستطيع وهب أيّ امرأة السعادة! والعكس بالعكس، فأيّ رجل يستطيع التمتّع بامرأة لذيذة ما دام مزوّداً بالتناسق والقوة والجَلَد اللازم لإشباعها! يُفترَض أن تقولي إن الصفات الروحية قد تعوّض مواطن الضعف الجسدية. همم! ألا يصرخ أيّ عاقل حين يتعرّف إلى امرأة مع يوربيدس(**) (هو الذي من بين آلهةٍ خلق المرأة في العالم، يتباهى بأنه أبدع أسوأ الكائنات، وأكثرها تعباً للرجل!) وهكذا ترين أن الجنسين لا يناسب أحدهما الآخر قطّ، ومن الزيف القول إن الطبيعة خلقتهما للسعادة التبادلية. خلقت فيهما الرغبة، للتناسل ليس إلا، لا ليجد كلٌ سعادته في الآخر قطعاً. فالسعادة توجد فقط بخضوع المرأة الأعمى، والجبروت المطلق والاضطهاد من قِبل سيدها. أليست هذه هي نية الطبيعة؟ ألم تخلق أحدهما أدنى من الآخر في كلّ منحى! ألا تدلّ هذه الحقيقة على إرادة الطبيعة في استعمال الرجل القوة والحق الممنوحَين له! وليس لنا أن نحكم بشكاوى الضعفاء. فمثله سيكون حكماً باطلاً ضيّق الأفق ضعيفاً، لأنكِ تستعيرين أفكارهن، المفروضة عليهن من قِبل مصيرهن التعس. يجب الحكم على الفعل بقوة الأقوياء، بالتفويض الذي تمنحهم إياه هذه القوة. لو مُدّت آثار هذه القوة إلى امرأة، فلاحظي ما ستؤول إليه: مخلوقة وضيعة، أدنى من الرجل من أيّ وجهة. فهي أقلّ براءة، أقلّ حكمة، تقاوم كلّ ما يسعد الرجل، كلّ ما يسرّه: كائن مريض نصف عمره. نكدة مناكفة متعجرفة، وموهوبة معصومة في التذمّر الدائم. طاغية لو عُهد إليها بأيّ قوة؛ دنيئة متزلّفة لو رضخَت تحت هيمنة. زائفة دوماً، شريرة خطرة. ثار نقاش جدّي بمجلس الماكون(***) حول جرأة هذا الكائن الغريب، شبيه القرد، في الزعم بنسبه البشريّ وهل من العقل أن يُطلق عليه هذا الاسم. تبيّني الطريقة التي ينظر بها معظم الناس إلى هذا الجنس الحقير. هل أسبغ عليها الميديون(****)، الفرس، البابليون، الإغريق، الرومان، اليهود، أدنى احترام؟ إننا نراها أينما تكون مسحوقة، تنصرف أينما تكون عن أية شؤون، تُحبس. تُعامل باختصار كالحيوانات، تُستخدم وقت الحاجة ثم تُعاد فوراً للحظيرة. أسمع الحكيم كاتو(*****) وهو يصرخ من عاصمة العالم القديم (لو خُلق الرجال دون نساء، لناطحوا الآلهة!) أسمع رقيباً إغريقياً يبدأ خطبته بهذه الكلمات (لو استطعنا، سادتي، العيش دون نساء، لأدركنا السعادة الحقّة من الآن فصاعداً). أسمع الشعراء يغرّدون في مسارح اليونان (جوبيتر(******)! أيّ علّة ألزمتكَ بخلق النساء؟ ألم تستطع وهب هذا الكيان للرجل بوسيلة أفضل وأعقل، أو باختصار، وسيلة كنت تُنقذنا بها من طاعون النساء!) وقد أحاطت هذه الأمم هذا الجنس باحتقار حتى استلزمت القوانين الحدّ من نسلهن، وكانت إحدى عقوباتهم هي إجبار المجرم على لبس زيّ امرأة، أي يلبس كأحقر وأخطر مخلوق يعرفونه. وحتى بين عصرنا أرى النساء لا يزلن يُحبسن عبر آسيا، للوفاء بعبودية نزوات الأباطرة البربريّة حيث يمزقونهن، يعذّبونهن، ويلعبون رياضة بمعاناتهن. في أمريكا أمم رحيمة بطبعها، الإسكيمو، لكنهم ينسبون للرجال كلّ فعل خيريّ، بينما يعاملون النساء بخشونة لا تُصدّق. نراهُن مُستَذَلاّت، مومسات للغرباء في مرفأ على حدود العالم، ومُستبدلات بالمال في آخر. وفي إفريقيا جدّ محتقرات، حيث يعملن كالحيوانات حمّالة الأثقال، بحرث الأرض، بذر الأرض، وارتقاب أزواجهن راكعات. وفي جُزر أخرى يُضربن، يُعذّبن من قِبل أولادهن. تريز، لا تدعي هذا يُذهلكِ. لا تعجبي من الحقّ الكونيّ الذي يملكه الأزواج بكلّ زمان على زوجاتهم. فكلّما اقترب الناس من الطبيعة أحسنوا فهم قوانينها. ليس للزوجة علاقة مع زوجها غير الأَمَة مع سيّدها. ليس لها الحقّ في توقّع المزيد. لا ينبغي الخلط بين الحقوق والمفاسد المشينة، فقد حطّ ذلك من قدر جنسنا، بينما رفعكنّ ذات يوم. دعينا نستكشف العلّة الحقيقية لهذه المفاسد حتى نستعيد شورى العقل الحكيمة. والآن، يا تريز، هاهو سبب الاحترام الحاصل الذي يناله جنسكن، حيث يضلّل من يُطيل أمد هذا الاحترام. بين السلتيين(*******) القدامى، في تلك المنطقة وحدها من العالم، لم تُعامَل النساء مطلقاً كالعبيد، فقد اتّخذن لُباس التبشير والتنبؤ بالحظّ. تصوّروا بهنّ براعة في هذا الفن بسبب مناولتهن الحميمة مع الأرباب. ومن ثم نسبوهن إلى جماعة الكهنة وتمتّعن بكلّ ما يخصّ امتيازات الكهنة. من هذا التحيّز تأسّست في فرنسا الفروسيّة، ووجدوا النساء أقرب إلى روحها، فكرّموهن. مع هذا، كأيّ شيء آخر: انقرضت المسبّبات وسلّموا بالآثار. فاختفت الفروسية لكن دام التحيّز. لم يُلغ الاحترام القديم حتى بعد تلاشي مسبّبه: لم تعد الساحرات ذات تقدير بل المومسات هن المبجلات. والأسوأ، أن الناس داومت على ذبح أحدها الآخر من أجلهن. كان ذلك في زمن وضعنا فيه نهاية هذا الهراء. فلم يعد له أثر على عقول الفلاسفة. هيا نُعد النساء إلى مكانهن الحقيقيّ ونستعملهن كما تبغي الطبيعة، كما تعترف أعقل الأمم: شخوص خُلقت لأجل ملذاتنا ونزواتنا؛ شخوص لا يستأهل ضعفهن وفراغهن وجشعهن غير الازدراء! كما أن الأمم، يا تريز، لم تتمتّع بأوضح الحقوق صراحة عن نسائها فقط، بل هناك من قُدّر عليهن الموت بمجرد الولادة. كان العرب يحتفظون بعدد قليل لزوم تناسل الأنواع؛ كما اعتاد من عُرفوا باسم القُرشيّين وأد بناتهم على جبل قرب مكة. بازدرائهم هذا الجنس، ينزعون إلى قول إنهن غير أهل للتطلّع إلى نور النهار. وفي حريم الملك آخيم، كان أدنى شكّ للخيانة، أدنى عصيان لخدمة ملذات الأمير، أو لحظة نمّ فيها اشمئزازهن، فالعقاب أشدّ وسائل العذاب رعباً. على ضفاف نهر الجانج يخضعن لقتل أنفسهن فوق رماد أزواجهن، فلم يعد لهن جدوى في هذه الدنيا، لم يعد بمقدور أسيادهن التمتّع بهن. كما أنهن يُصَدن في مكان آخر كالحيوانات البريّة حيث يتمثّل الشرف في قتلهن. في مصر كان يُضحّى بهن قرباناً للآلهة. وفي فرموزا يوطَأن بالأقدام. كما اعتادت قوانين ألمانيا إدانة من يقتل امرأة أجنبية بغرامة صغيرة؛ ولا يدفع شيئاً لو حدث وكانت زوجته أو امرأته. في كلّ مكان، أكرّر، هن مُستذَلات مضطهَدات مُتحَرّش بهن، أُضحيات إلى قوى الكهنوت العلوية أو من عنف أزواجهن. ولأني أعيش مصادفة بين أجلاف لا يبطلون أسخف تحيز، فلماذا أحرم نفسي من الحقوق التي وهبتني إياها الطبيعة عبر هذا الجنس! لا! لا! يا تريز، ليس عدلاً. سأُخفي سلوكي عند الضرورة، لكني سأقدّم ترضية في صمت. بسبب هذه الآراء العبثية، يُدينني القانون بالنفي في معتزلي. فأعامل زوجتي هكذا بما أراها تصلُح له وأجده متّفقاً مع شفرات الكون، مع قلبي والطبيعة!" 
ضجّت جوستين بالشكوى "سيدي! جدالكَ مستحيل! ومن العجز أن أهديكَ!"
"لا تحاولي يا تريز. فالشجرة العتيقة يصعب أن تميل. في مثل سني قد يبتعد المرء خطوات في امتهان الشرّ، لكنه لا يتخذ بدرب الفضيلة خطوة واحدة. إن مبادئي وميولي هي سعادتي الوحيدة منذ الطفولة. هي الأساس المكين لكلّ من سلوكي وأفعالي. قد أتطرّف فيما أريد، لكن أعود ـ لا! فقد تولّد عندي رعب من نزعات البشر. أكره حضارتهم، فضائلهم الزائفة الفاسدة، وأربابهم، بإخلاص بالغ، فلن أضحّي أبداً بأيّ من نزعاتي من أجلهم!" 
**

رأت جوستين بوضوح أن وسائلها للفرار من هذا المنزل أو فكّ سراح المركيزة لن تكون بغير الخداع والمكر. طيلة العام الذي اقتربت فيه من المركيزة كانت تفتح قلبها غالباً لتجعلها تدرك كم تتوق لمساعدتها. واتّفقتا على خطط معينة. أن تكتب المركيزة إلى أمها عن أعمال المركيز الشائنة. وهي على يقين من أن أمها ستهُبّ فوراً لنجدتها. لكن المشكلة أنهما في حبس مُحكَم، بعيدتين عن مجال الرؤية!
اعتادت جوستين الحوائط ضمن الخلاء، تُعاينها من الشرفة، بارتفاع ثلاثين قدماً. فكّرت أنها قد تتخذ طريقا واضحاً إلى الغابة من هذه الحوائط. واكتشفت أنه لا سياج يسدّ طريقها، لكن لم تتأكّد. فقرّرت وزن الأمور. خطّت المركيزة رسالة توسّل مؤثّرة إلى أمها، ألصقتها جوستين بخصرها. وبعد ظلام الدنيا، وبمعونة بضع ملاءات، تسلّقت نازلة عبر الشرفة. وهي الآن في الحديقة، فُزعت حين رأت أنها محاطة بأسوار عالية، تُخفيها كثافة من شجر، بارتفاع يزيد عن أربعين قدماً، وكلّها محميّة من أعلى. فماذا تفعل؟ ستسترعي نوراً يُضاء ويثير وجودها بالحديقة الشكوك طبعاً. كيف تهرب من ثائرة المركيز؟ سيُصفّي دمها عقاباً. كما يستحيل عليها العودة الآن، فالمركيزة سحبت الملاءات، وسينبئ عنها حتماً أيّ دقّ بالباب.  
جُرّدت من إرادتها كلياً، فربضت بالعتمة ترجف خوفاً قرب شجرة. تعرف أن المركيز لا يرحم، وهي على يقين من أنه قُضي عليها الآن.  
تميّزت الحوائط العالية المُحدقة بالحديقة عند غبش الصبح الرماديّ الغامض. أول من قابلته المركيز نفسه. كان الوقت حاراً ومُطبقاً طيلة الليل مما أثار أرقه فنهض مبكراً يتنسّم هواء الصبح النقيّ. 
حدّق في جوستين وتراجع، معتقداً أنه أخطأ وما يراه مجرد شبح. فزعت جوستين ترتعد، وسقطت عند ركبتيه.
"ماذا تفعلين هنا، يا تريز؟"
فاهتزّ صوتها خيفة "سيدي، عاقبني!"
وقد نسيت، في ظلّ حيرتها أو رعبها، إتلاف رسالة المركيزة المخفيّة بخصرها. تملّك زمام الموقف فوراً، حدس به صحيحاً، وطلب تصفّح الرسالة. فأنكرت أية رسالة؛ لكنه بالتطلّع عن قُرب تبيّنها تلوح من جَعدة حرير على خصرها. فخطفها، وتصفّح يقرؤها عجلاً في جشع.
أمرها أن تتبعه. عادا إلى القصر من مهبط سلّم خفيّ تحت القناطر.
توقّفا بعد منعطفين أو ثلاثة، ثم فتح باب زنزانة فرماها بداخلها.
بضحكة مكبوتة قال "عاهرة غبية! حذّرتكِ، هه، ألم أحذّركِ؟ ستنالين ما تستحقينه! سأصفّي حسابي معكِ غداً بعد العشاء!"
من قسر لا يُقاوم، اندفعت ثانية على ركبتيه، ترجو منه الشفقة. لكنه جرجرها من شعرها على الأرض الموجعة ثلاث مرات أو أربع حول السجن، ثم دقّ رأسها في الحائط بضراوة. وقال يكزّ على أسنانه "سأشقّ شرايينك كلّها! سأتريّث قليلاً لنيل المزيد من رعبكِ. فارتقبي، سأريكِ كيف تُجدي معكِ فضيلتكِ!"
لكن جوستين لم تعد تسمع؛ فهي ترقد بالأرض بليدة الحسّ. قضّت ليلة مفزعة، مع أكثر نوبات القلق عنفاً، ورأسها يطنّ من الألم والإنهاك.
رقدت هكذا قرابة ست وثلاثين ساعة، حتى انهدّ الباب فدخل المركيز وحده. كان قد شفَى غليله من زوجته. وفي نطاق غضبه بدت ملامحه مضخّمة، فأنفه متكتّل، وعيناه أشدّ ظلمة، أما فمه وتكشيرته فأكثر فزعاً. 
قال "أظن عندكِ فكرة عما سأفعله معكِ. ستقاسين كثيراً! سيدفُق دمكِ بمسام جلدكِ كلّها! سأُنزفكِ ثلاث مرات يومياً؛ لأرى إلى متى تحتملين الحياة. أشتاق إلى هذه التجربة من زمان. فشكراً لأنكِ وهبتني الفرصة".
ودون مزيد من الإزعاج ارتمى ينخس ذراعيها، وعندئذ جاءه أحد الخدم صارخاً "أسرع سيدي... أسرع... زوجتكَ تقضي نحبها... وتودّ الكلام معكَ...".
فاندفع خارجاً، ونسي من ذهوله المفاجئ سكّ الباب خلفه. وعلى رغم وهنها، كان لدى جوستين حضور عقليّ كافّ لتنتهز الفرصة، فترنّحت من الباب تدلف آمنة في الحديقة. كان باب السياج مفتوحاً، فمضت عبره دون أن تلفت انتباه أحد.
قرب حلول الليل وصلت كوخاً بُعيد أربعة أميال عن القصر. أمّلت وصول بلدة جرينوبل أخيراً، موقنة من تبدّل حظّ يرتقبها، حين تخرج أول الصبح التالي.

(*) نشرتُ ترجمتي لرواية الماركيز دو ساد "جوستين"، في دار الانتشار العربي، بيروت، 2006. (م)
(**) يوربيدس: مسرحي يوناني (484 ـ 407). (م)        
(***) ماكون: بلدة بفرنسا. (م)       
(****) الميديون: سكنوا شمال غرب إيران (1350 ـ 1400). (م)       
(*****) ماركوس بورسيوس كاتو، رجل دولة أيام الإغريق (234 ـ 149 ق.م). (م)       
(******) جوبيتر: كبير آلهة اليونان. (م)   
(*******) السلتيين: من منطقة الغال، فرنسا. (م)   

نشر خاص بالمدونة، فشكرا جزيلا للشاعر والمترجم محمد عيد إبراهيم