ترجمة: فاطمة الجيوشي
إليكم كيف يتحدث ميشيل ليريس (M. Leiris)،
رفيق الدرب منذ تاريخ بعيد، عن صديقه جورج باتاي الذي توفي عام 1962: "بعد أن
كان الرجل المستحيل الذي أُخِذَ بما كان يتاح له اكتشافه من الأمور الأكثر استعصاء
على القبول (...)، يوسع رؤيته (وفقًا لفكرته القديمة بتجاوز كلمة لا! يقولها طفل وهو يضرب الأرض بقدميه). ولأنه يعرف أن الإنسان لا يكون إنسانا
بشكل كليّ إلّا إذا بحث عن أبعاده في تجوزه لكل مقياس، جعل من نفسه إنسان
"المستحيل"، المتعطش إلى بلوغ النقطة حيث –في الدوار الديونيزي، يختلط
الرفيع بالمبتذل وحيث تُلغى المسافة بين الكلّ واللاشيء."(1) إن صفة
"المستحيل" "تعبر عن إعجاب يحيل، في المقام الأول، إلى كاتب
"المؤلف الفاحش" المواصل للأدب الملعون في كتابات الماركيز دو ساد (Marquis de Sade) ولكن أيضًا للفيلسوف ولرجل العلم الذي حاول إدارة
الإرث المستحيل لنيتشه –بوصفه ناقدًا للإيديولوجيا.
قرأ باتاي نيتشه في وقت مبكر نسبيًّا، عام 1923 أي بعام
واحد قبل أن يقدمه ميشيل ليريس للحلقة التي كانت تدور حول أندريه ماسون (A. Masson)، وقبل تعرفه على زعماء السوريالية. من المؤكد أن باتاي يطبع
القول الفلسفي للحداثة باتجاه مماثل للاتجاه الذي يعطيه هيدجر إلا أنه يختار دربا
مغايرًا تمامًا ليستقيل من الحداثة. ينمي باتاي مفهومًا عن المقدس انطلاقًا من نقد
المسيحية يجد أسسه في الانتروبولوجيا ويشكل ملحقًا لكتاب "نسب الأخلاق"
الذي صاغه نيتشه؛ فهو لا يطرق نقدًا داخليًّا ومحايثًا للميتافيزيقا. ومذ ننظر
لحياة باتاي المزدوجة، فهو المسؤول عن الأرشيف في المكتبة الوطنية وفي الوقت ذاته
كاتب بوهيمي، معروف على المسرح الثقافي الباريسي؛ يظهر بشكل واضح كلّ الوضوح أنه
لم يعش على الكوكب نفسه الذي عاش عليه أستاذ الفلسفة في ماربورغ (Marbourg) وفي فريبورغ (Fribourg en
Brisgau).
إن ما يفصل بينهما بشكل أساسي تجربتان مركزيتان –تجربة فنية، صيغت في اضطراب
السوريالية، وتجربة سياسية اكتسبها من الصلة مع راديكالية اليسار.
في نهاية العشرينات انفصمت الرابطة حول مجلة
"الثورة السوريالية" (La Révolution surréaliste) فبروتون (Breton) يوجه في بيانه السوريالي الثاني
(Second Manifeste Surréaliste) لومًا بالغ القسوة إلى المنشقين الذين يردون عليه
بهجوم مضاد جماعي.
ومنذ تلك اللحظة (تُعلن الحرب بين "رابطة
بروتون"، و"الحلقة الشيوعية الديمقراطية" لباتاي. خلال هذه الفترة
ذاتها يؤسس باتاي مع ميشال ليريس وكارل اينشتاين (C .Einstein) مجلة "وثائق" الشهيرة (Documents)،
حيث تُنْشر المقالات الهامة التي حرّرها مديرها. وفيها يُنمّي باتاي بشكل خاص
"مفهوم المغاير أو المختلف" (L’hétérogène) ويشير بهذا المفهوم إلى مجموع
العناصر التي تجابه التكيّف مع أشكال الحياة البورجوازية، وروتيم الحياة اليومية،
في الوقت الذي يتجنب فيه الهيمنة المنهجية للعلوم. بهذا المفهوم يكثف باتاي
التجربة الأساسية لكتّاب وفنّاني السورياليين الذين في تصديهم لمقتضيات المنفعة،
والسلوك السوي، والصبر، كانوا يرمون إلى نشر قوى الثمالة، والحلم والاندفاع بشكل
عام ليقلبوا رأسًا على عقب ما صاغته المواضعة في أساليب إدراك العالم ومعاناته.
فملكة المُغاير لا تنفتح إلّا في اللحظات المتفجرة لرعب مسحور عندما تنحل المقولات
التي تضمن للذات تعاملًا مألوفًا مع الذات والعالم. والحقيقة، طبّق باتاي، ومنذ
البداية، مفهوم المغاير على هؤلاء المستبعدين والمهمشين؛ على تلك العناصر التي
استُبعِدت من حدود السوي الاجتماعي والتي تشكّل عالمًا موازيًا صار مألوفًا لدينا
منذ بودلير، أتعلّق الأمر بفئة المنبوذين (Parias)، والنجسين المحظور لمسهم (Intouchable) والمومسات أو البروليتاريا الرثّة، والمجانين،
والمتمردين، والثوريين، وشعراء البوهيمية والموجودين على هامش المجتمع. وهكذا
سيصير هذا المفهوم المستوحى من الفن، أداة تحليل للفاشية الإيطالية والألمانية.
وهكذا ينسب باتاي لقادة الفاشية وجودًا مغايرًا.
إن التعارض بين سيرهما الذاتية، والتعارض بين الخيارات
السياسية لكلّ منهما، والفروق الصارخة بين الأدب الإيروسي والمقالة العلمية من
جانب، ومن الجانب الآخر البحث الفلسفي وصوفية الوجود، كلّ هذا يشكل جملة
التباينات، تجعل من الصعب للوهلة الأولى، إدراك مشروع مشترك يجمع بين باتاي
وهيدجر، ومع ذلك يبحث كلاهما الافلات من الأسر الذي تفرضه الحداثة، والهروب من
العالم المغلق الذي صاغه العقل الغربي بانتصاره على صعيد التاريخ العام. كلاهما
يريد التغلّب على النزعة الذاتية المتطرفة (Subjectivisme) التي ترهق العالم بعنفها المشِّيء وتعمل على تثبيت صورته في كلية
الأشياء التي يمكن أن تستخدمها التقنية ويستثمرها الاقتصاد يتفق المفكران على هذا
المشروع إلى درجة أن ما يقوله فوكو عن فكرة باتاي الخاصة بانتهاك الحدود يصبح قوله
أيضًا عن مفهوم التعالي (Transcendance) العزيز على هيدجر: "هل
اللعبة الآنية بين الحدّ والانتهاك هي في أيامنا الاختبار الأساسي لفكرة
"الأصل" التي نذرنا نيتشه لها منذ بداية عمله –فكر بشكل مطلق وفي الحركة
ذاتها سيكون نقدًا وانطولوجيا، فكرًا يفكر بتناهي الوجود"(2) وفي الجملة
التالية، بإمكاننا أن نستبدل اسم هيدجر باسم باتاي بلا إشكال: "إلى كلّ هؤلاء
الذين يسعون جاهدين قبل كلّ شيء لصون وحدة الوظيفة النحوية لدى الفيلسوف (...)،
يمكننا أن نضع في مواجهتهم الصورة التي تعهدها باتاي الذي لم ينفك عن تقطيع سيادة
الذات المتفلسفة في نفسه بضراوة. وبهذا كانت لغته وتجربته أداة تعذيبه. تمزيق أولي
ومتفكر لكلّ من يتكلّم لغة فلسفية. بعثرة النجوم التي تحوط ليلة وسطى ليترك فيها
كلمات بلا صوت"(3).
لكن ثمّة فروق هامة. فروق تنجم بشكل خاص من كون باتاي لا
يهاجم العقل انطلاقًا من أسس العقلنة "المعرفية"، انطلاقًا من الافتراضات
الانطلوجية للعلم والتقنية بوصفها مُمَوْضعة (Objectivante). إنه، على خلاف ذلك، يركز على أسس العقلنة الأخلاقية التي جعلها
نظام الاقتصاد الرأسمالي ممكنة، حسبما يرى فيبر، مخضعا بذلك الحياة الاجتماعية
بمجملها لضرورات العمل المستلب والسيرورة التراكمية فباتاي لا يغرس مبدأ الحداثة
في وعي ذات يتمتع باستقلال لا أساس له اكتسب امتداده بشكل سلطوي، بل يغرسه بالأحرى
في اشراط نمط من الفاعلية بالنجاح، باعطاء أفضل ربح يتيح بلوغ أهداف ذاتية في كلّ
مرّة. إنها النزعات نفسها التي يخشاها هيدجر وباتاي ويريان فيها –الأول- الفكر المموْضع (Pensée objectivante) –والآخر- الفاعلية الغائية التي تنشر سلطانها التاريخي؛ النقد
وحده ومهمته تناول الشر من جذوره، سيسلك دربا مختلفًا عند كلّ منهما هيدجر بوصفه
يعمل على نقد الميتافيزيقا يحفر الأرض المتجلدة للذاتية المتعالية، ليسلط الضوء في أقصى الدهليز الذي حفره بهذا الشكل،
على الأسس الحقيقية لأصل تبعثر في الزمان. باتاي من جانبه ليس عليه أن يغوص في
أعماق الذاتية، وبما أنه يسلك درب نقد الأخلاق، فإن مشكلته هي، خلافًا لذلك،
انتزاع هذه الذاتية من حدودها، وموضوعه هو هذا الأسلوب في الخروج من ذاته الذي يعيد
حتمًا الذات المغلقة على ذاتها، إلى حرارة المجمّع الحي الذي صار غريبًا عن ذاته،
مستبعدًا من حدوده، المعزول والممزق. مع فكرة "اللاتحديد" ينفتح لباتاي
أفق يختلف كليًّا عن أفق هيدجر. وبالفعل الذاتية هنا في انتهاكها لذاتها، لا تخلع
من مكانها ولا من سلطانها لصالح مصير الوجود الأساسي بشكل فائق، إنها، على العكس،
تستعيد عفوية الدوافع التي حلت عليها اللعنة. والانفتاح لمجال المقدس لا يعني
الرضوخ لسلطة مصير غير محدّد لا تقوم هالته إلا بالتبشير به؛ إن انتهاك الحدود
للمضيّ نحو المقدس لا يعني الاستقالة المذعنة للذات، بل يعني انعتاقها وطريقها إلى
السيادة الحقّة.
لئن أعطيت الكلمة الأخيرة إلى "السيادة" لا
إلى الوجود (Etre) فإن ذلك لم يحدث صدفة. يوجد هنا تقارب مع المفهوم
النيتشوي عن الحرية وتوكيد الذات عند الانسان المتفوق (Surhomme)،
مفهوم من وحي فني يتعذّر التفكير فيه عند هيدجر. لدى باتاي، كما لدى نيتشه، يوجد
لقاء بين إرادة القوة –بوصفها تزاود على ذاتها وتحقق المعنى- والقدر المغروس في
النظام الكوني الذي يمثله العود الأبدي للمثيل. يلتقي باتاي مع نيتشه بالمكون
الفوضوي الأساسي نفسه لهذا الفكر بقدر ما هو موجّه ضدّ كلّ سلطة –بما فيها وضدّ
المقدس بوصفه سلطة- يجب فهم نظرية موت الإله على أنّها نظريّة ملحدة بشكل دقيق.
وفي اللحظة التي يستعيد هيدجر فيها هذه الفكرة بلهجة السيد الكبير، فإنها تفقد
عنده كلّ جذريتها. فهو لا ريب ينكر الإله كموجود أونطيقي (Ontique)
غير أنه في "ترجمته" الانطلوجية، يحدّد حدث وحيه –وذلك بأسلوب بالغ
الدلالة- الحيز النحوي الذي تركه القضاء على إضفاء الله خاويا؛ لا ينقصنا إذن سوى
اللغة لنسمي ذاك الذي يستحيل لفظ إسمه. ولهذا يصبح سؤال فوكو: "ما معنى
اغتيال الله إذا لم يوجد، اغتيال الله الذي لا يوجد؟"(4) يصلح لدى باتاي لا
لدى هيدجر. يدرك فوكو أن باتاي في اللحظة التي يفكّر فيها في المقدس ضمن منظور
ملحد بشكل دقيق، عليه أن يذهب إلى البحث عن الإفراط الخاص بالذاتية المنتهكة
لذاتها، في تجربة الايروس. وتدنيس المقدس هو، بلا ريب، نموذج الانتهاك، ولكن باتاي
لا يَهِم نفسه: لم يبق في الحداثة ما ينتهك، ومهمّة الفلسفة لا يمكنها أن تزود
ببديل تافه (Ersatz) منطلقة من صوفية ما للوجود. ينشيء باتاي إذن صلة
داخلية بين الأفق الذي تحمله التجربة الجنسية وما يقال عن غياب الإله- "لا
لإنها تقدّم مضامين جديدة لحركات سحيقة القدم، بل لأنها تجيز التدنيس بلا موضوع،
تدنيسًا خاويًا منطويًا على نفسه لا تتوجه أدواته إلّا إلى ذاتها"(5).
وبناء على ذلك سأبين أولا معنى تحليل الفاشية، الذي قاده
باتاي بعون مفاهيم عناصر اجتماعية "مغايرة" أو "متجانسة" في
بناء الحداثة. يرى باتاي الحداثة على أنها مدككة داخل تاريخ للعقل بوصفه مسرح
الصراعات حيث تتجابه قوى السيادة وقوى العمل. ينطلق تاريخ العقل من البدايات
القديمة للمجتمع القدسي لينتهي في عالم السلطان الاقتصادي المشيّأ كليًّا لدى
السوفييت، ومن حيث انتزعت الآثار الاقطاعية الأخيرة للسيادة. يبقى مع ذلك أنه،
بهذا الانفصال الكامل للعناصر المتباينة والعناصر المتجانسة، ينفتح أفق تشكيل
اجتماعي يوفق بين المساواة الاجتماعية وسيادة الفرد. إن التفسير الانتروبولوجي
الذي يقدّمه باتاي عن "المُغاير" على أنه الجزء الملعون، المرمي خارج
الحدود، ينقطع في الحقيقة عن كل وجوه الديالكتيك. ولهذا يطرح السؤال لمعرفة كيف
أراد باتاي شرح الانتقال الثوري لمجتمع أصابه التجمّد، مُشَيَّأ كليًّا إلى تجدّد
السيادة. من الممكن فهم مشروع اقتصاد عام موسّع لاقتصاد قائم على الطاقة للطبيعة
بمجملها بوصفه إجابة عن هذا السؤال. يبقى مع ذلك إن هذا المشروع لم يتخلّص من المفارقات
الخاصة بكل نقد ذاتي المرجع للعقل. ولهذا تأرجح باتاي في نهاية الأمر، بين إعادة
الصلة مع المشروع الهيجلي لجدل العقل، صلة تفتقر إلى التماسك من جانب، وتعايش بلا
وساطة بين التحليل العلمي وصوفية اللغة من جانب آخر.
II
إن انتصار الحركة الفاشية في إيطاليا واستيلاء الحركة
القومية-الاجتماعية على الحكم في الامبراطورية الألمانية شكَّلا، (قبل أوشفيتز)
ظاهرة لم تثر أمواجا من الغضب فحسب، بل أثارت أيضًا أمواجًا من الهيجان الأخّاذ.
لم تبق نظرية واحدة بقدر ما برهنت عن حساسية ما إزاء تاريخ عصرها، إلّا وتأثرت
بأعمق ما فيها من القوة المدوّية للنازية. ويصحّ هذا، قبل كلّ شيء، على النظريات
التي كانت آنذاك في طور تشكّلها (نهاية العشرينات –مطلع الثلاثينات)، أي يصحّ على
الانطولوجيا الأساسية لهيدجر، كما رأيناها، ولكن أيضا يصحّ على علم المغاير (Hétérologie) لدى باتاي أو النظرية النقدية لدى هوركيمر(6) في
تشرين الثاني 1933 بالتحديد الفترة التي كان هيدجر يُلقي فيها خطبه الانتخابية
لصالح الفوهرر، نشر باتاي تحقيقه حول "البنية النفسية للفاشية". وخلافا
لمحاولات التفسير التي قدمتها الماركسية، يركز باتاي انتباهه، لا على الأسباب
الاجتماعية، البنيوية والاقتصادية التي كانت تسمح النظرية باستخلاصها، بل بالأحرى
على الظواهر المرتبطة بالحركات السياسية الجديدة وبشكل خاص على الجوانب التي تخص
علم النفس الاجتماعي. إن ما يثير اهتمامه هو، بشكل خاص الرابطة التي توحّد
الجماهير المعبأة على نحو استفتائي، والوجوه المؤثرة (كاريزما) للقائد وبصورة عامة
حجم المشهد الخاص بالهيمنة الفاشية (الذي يذكرنا به فيلم جواشيم فيست عن هتلر)،
الإجلال الشعائري للقادة الذين يُنظر إليهم كأشخاص مقدسين، الطقوس الجماهيرية
المنظمة بفن بالغ الاتقان في الاخراج، ولكن أيضًا العنف المتجلي، التنويم
المغناطيسي، ازدراء الشرعية، بله العزوف عن مظهر الديمقراطية والأخوة: "إنّ
المدّ الوجداني الذي (...) يربط بين القائد ومريديه –والذي يتخذ شكل توحّد (...)-
يرتبط بالوجدان المشترك للسلطة وللطاقات التي يشتدّ عنفها، ويزداد خروجها عن كلّ
حدّ والتي تتحكم في شخصية القائد وتغدو في حوزته بلا تحديد"(7)
لقد كان باتاي آنذاك ماركسيًّا بما فيه الكفاية حتى لا
يجهل الشروط الموضوعية لأزمة لم تقم الفاشية إلّا باستثمارها. لقد كان من الضروري
في البداية أن تنفصل الرأسمالية بتناقضاتها الداخلية" عن آلتها الانتاجية قبل
أن يتسرب إلى الخلل الوظيفي شكل من العنف لا يربطه أي تناغم مع المجتمع القائم. إن
مبدأ حرية الاختيار كان فعلا، ملازمًا للدستور الديمقراطي للرأسمالية الصناعية
بالنسبة للمتعهدين وبالنسبة للمنتجين كما بالنسبة للمواطنين (الذي يمرون في الخلوة
قبل التصويت: "إن الوعي النامي لبعض الرأسماليين الألمان بالخطر الذي يحيق
بهم من جراء هذه الحرية الفردية في الفترات الحرجة ينبغي بالطبع أن يوضع في أصل
ظواهر الغليان وانتصار القومية الاشتراكية"(8)إن الضرورة الوظيفية للالغاء
الكلاني لمبدأ الحرية الفردية، المأخوذ لذاته يظل "رغبة ما تزال فارغة"،
من المستحيل بيان كل المصادر التي تتغذى منها الفاشية –أي الثراء الذي لا ينضب
للأشكال الخاصة بكل حياة عاطفية" بمصطلحات وظيفية. هي إذن واقعة القوى التي
تلعب بها الدولة المتسلطة وتجد أصلها في مجال مغاير عن المجتمع القائم ستدفع باتاي
لاستكشاف هذا العنصر المغاير. لا يكتفي باتاي بمحاولات التفسير التي يقدمها
التحليل النفسي لاحقًا لدراسة فرويد "سيكولوجية الجماهير وتحليل الأنا"
فهو في الواقع، على يقين بأن الفاشية تستمد جذورها من قطاع أعمق من اللاشعور يمكن
بلوغه بقوة التحليل والتفكير الذاتي، إن النموذج الذي يفكر باتاي وفقًا له باللحظة
التي ينفصل فيها المغاير عن المجانس ليس النموذج الفرويدي للكبت، بل نموذج
الاستبعاد وتنظيم الحدود التي لا يمكن تخطيها إلا بالتطرّف، واذن بشكل عنيف. إن ما
ينشده باتاي هو البحث عن اقتصاد لنظام الاندفاعات على صعيد المجتمع بمجمله، وستكون
مهمته شرح لِمَ تلجأ الحداثة، دون أن تترك مجالا للاختيار، إلى استعدادات تعرض
الحياة للخطر، ولم الأمل بجدل "العقل" (Raison)
الذي رافق مشروع الحداثة حتى الماركسية الغربية هو أمل لا جدوى منه: "إنه عجز
المجتمع المتجانس عن العثور في ذاته عن سبب للوجود والعمل مما يضعه في تبعية القوى
الآمرة (التي يستعبدها)"(9).
يتخذ باتاي مكانه في خط مدرسة دوركهايم. فهو بالفعل،
يرجع الوجوه المغايرة للحياة الاجتماعية، كما وجوه الحياة النفسية والفكرية يرجعها
إلى المقدّس كما عرَّفه دوركهايم بوضعه قبالة العالم اللاديني: إن الأشياء المقدسة
معبأة بقوة جلال تجذب بني البشر وتخضعهم في الوقت ذاته تغرقهم في الرعب وتبعدهم
عنها. إن المساس بهذه الأشياء يثير تظاهرات فظة والواقع الذي تمثله هو من مستوى
آخر. مستوى أعلى –فهي لا تُقاس بالأشياء اللادينية وتفلت من المعالجة المجانسة
التي تحيل المجهول إلى المعلوم وتفسّر بالمألوف ما هو غير متوقّع. غير أن باتاي
يرى أيضًا في المقدّس عنصر تبديد غير منتج، فالعالم المغاير يظهر مقابل العالم
اللاديني على أنه شيء لا ضرور له –منطلقًا ليس وحسب من النفايات ومن البراز إلى
التصورات المتمرّدة القابلة للنقل، مرورًا بالانخطافات، والانحرافات الجنسية
والأحلام ولكن المنطلقة أيضًا من البذخ الظاهر إلى آمال موسومة بالهيجان المفتون
ومن متعاليات مقدسة. وعلى العكس، يكون التجانس ووحدة الشكل نتيجة تبادل مع طبيعة
خارجية مقاومة. إن ما يأخذه المجتمع الرأسمالي في الحساب هو، في المقام الأول،
العمل الذي يقاس بالزمن والمال بشكل مجرّد، أي العمل المأجور بوصفه قوة مجانسة،
الأمر الذي يزداد بروزًا بالتأليف بين العلم والتقنية. فالتقنية هي الحلقة التي
تصل العلم بالانتاج، وكما هو الحال عند آدورنو، نقرأ عند باتاي إن "القوانين
المؤسسة بالعلم تنشئ علاقات تماثل بين العناصر المختلفة لعالم مدروس وقابل
للقياس"(10).
في عالم معقلن بهذا الشكل يندلع زعماء الفاشية تصحبهم
الجماهير المنوّمة. يتحدث باتاي عن الوجود المغاير لهؤلاء الزعماء، بأسلوب لا يخلو
من نوع ما من الإعجاب. على خلفية ديمقراطية الجمهور الملتفتة إلى الفائدة، يظهر
هتلر وموسيليني على أنهما ظاهرة مختلفة تمامًا. فهو مأخوذ "بالقوة التي تضعهم
فوق الناس، فوق الأحزاب، وحتى فوق القوانين: "قوة تحطم المجرى النظامي
للأشياء، التجانس الهادئ، ولكنه التجانس الممل والعاجز عن الحفاظ على ذاته"(11).
تحت سيطرة الفاشية، يسلك خليط العناصر المغايرة والمتجانسة دروبًا جديدة –ومن جهة
الصفات التي تنتمي للمطالب الوظيفية للمجتمع المتجانس، مثل صفة الاجرائية،
الانضباط، حب النظام، ومن جهة أخرى الجماهير المسحورة وسلطة الزعيم حيث يمكن التعرّف
على شعاع سيادة حقيقية. فالدولة الفاشية تتيح الوحدة الكلية بين العناصر المغايرة
والعناصر المتجانسة، إنها السيادة صارت دولة. (إنها دولة الفاشية) تجني إرث هذه
السيادة الذي كان موجودًا في المجتمعات التقليدية، بشكل ديني وسكري، وهما بعدان
يوجدان مختلطين في سيادة الزعيم. في الفاشية بلغ العامل الأساسي لسيطرة الإنسان
على الإنسان نقاءه إن صح التعبير. إن جلال الزعيم يضمن له عند الجماهير ولاء
متحرّرًا من كلّ إلزام بالشرعية. وعلى غرار كارل شميت (C. Schmitt)،
يفسر باتاي هذا الانتماء اللامشروط بواقع أن قوّة السيد هي في أعماقها قوّة
أخَّاذة، أي متجذّرة في المُغاير: "إن مجرّد واقع سيادة السيد على أمثاله
يتضمن اختلاف السيد، في أقلّه لكونه السيد: وبقدر ما يرجع إلى طبيعته، إلى صفته
الشخصية، على أنها تسويغ لسلطته، يشير إلى أن هذه الطبيعة مختلفة كليًّا، دون أن
يتمكن من تسويغها بشكل عقلاني"(12). يحيل باتاي ما يقتنص الحواس، وما ينوِّم
في ممارسة الحاكم الفاشي لسلطته إلى سلطة، يضعها في حساب الصدق؛ وبهذا تختلف نظرية
باتاي اختلافًا بيّنًا عن نظرية في الفاشية مشابهة في طريقة معالجتها –لنظرية
هوركيمر وآدورنو-.
شأن باتاي، يركز هوركيمر وآدورنو –في كتابهما
"عناصر مناهضة السامية"(13) على أية حال- على الجانب النفسي للفاشية،
إنهما يقرآن في التنظيم المتقن إلى أبعد الحدود الطقوس التي تشرف على إخراج
تظاهرات الجماهير، "الكاريكاتور المزيف للمحاكاة المخيفة" (D.R., P.191) وبالتالي استفاقة نموذج رجعي قديم ومعالجته.
تستفيد الفاشية، من أجل غاياتها الخاصة من سلوك محاكاة،
هجرته الحضارة. وبشكل ساخر يتخذ قمع الازدواج القديم، الذي يجمع بين الهرب
والاستسلام، بين الرعب والافتتان شكلا تفكريًّا: "في الفاشية الحديثة، بلغت
العقلنة حدًّا لا تكتفي عنده بمجرد قمع الطبيعة. فالعقلنة فيها تستغل الطبيعة
باستيعاب قوى التمرّد المحتملة في هذه الطبيعة ذاتها ضمن نظام خاص"(14). حتى
هذه اللحظة يمكننا الاستمرار بترجمة باتاي في إطار النظرية النقدية، ذلك لأنه
بالنسبة لهذه الأخيرة تكون الوظيفة الوحيدة الفاشية، في نهاية المطاف، هي مواءمة
ما يتمرد في الطبيعة الداخلية ضدّ هذا الشكل من العقل مع مقتضيات العقل الأداتي.
ولكن يبقى فرق حاسم بين الطرفين يتبين في أسلوب تعريف الجزء المضطهد –الجزء
الملعون- من الطبيعة الذاتية. عند هوركيمر وآدورنو، يصحب الاندفاع المحاكي وعد
"سعادة بلا قدرة"(15) –بينما ترتبط السعادة عند باتاي بالعنف ضمن
المغاير برباط لا يقبل الحل، فهو يحتفل بالايروسية كما المقدس، "بعنف
بدائي"(16). وباستناده إلى شكل الفكر ذاته يمنح الفاشية ما نجده معبّرًا عنه
لدى كارل شميت بمفهوم السيطرة اللامشروطة السيطرة "الخالصة" والتي يضع
هوركيمر وآدورنو مقابلها مفهوم سلطة المحاكاة بتصميم حي إلى أقصى الحدود.
في احدى مقالاته الأولى، بنجامين نفسه، عندما يذكر
أسطورة الإضراب العام العزيز على سورل (Sorel) ويبدو بهذا بالذات أنه إرهاص
بباتاي ومفهومه عن القوة الحاكمة النقية يتمسك بالرجوع إلى وفاق مضمون بعلاقات لا
عنف فيها بين الذوات. إن العنف – الذي يمكن تشبيهه بقوة المصير- الذي تخفيه
الأعمال الثورية، هذه الأعمال التي تضع
الحق، هي فوضوية بماهيتها ومع ذلك هي التي توجد وراء مؤسسات الحرية (وعليها أن
تبقى ماثلة فيها) تتيح لبنجامين صوغ مشروعه لسياسة "الوسائل التقنية
والبسيطة". مثل هذه السياسة لا يكاد يختلف عما يشاء عنف فاشي أن يكونه، بيد
أن بنجامين يبين جيدًا أن هذا العنف الذي ليس له من غاية خارج ذاته، والذي لا يكون
أداة للعدالة، بل هو على نقيض ذلك، التجلي والإنجاز، يرجع، على الدوام، إلى دائرة
وفاق لا عنف فيها. هذه الدائرة التي تتيح الاتفاق بين البشر، تظلّ
"اللغة-الدائرة الخاصة بالوفاق"(17) لدى بنجامين. إنها فكرة يفرضها عليه
النقد المنقذ حيث التزم بنجامين إلى حد أنه يريد أن يقدم لاعنف "الوسائل
التقنية البسيطة" بالاضراب العام للبروليتاريا على أنه نموذج هذه الوسائل.
في غياب نقطة الارتكاز هذه التي تتعالى على العنف، يعاني
باتاي حكمًا من صعوبات في بيان ما يهمه فوق كلّ شيء، أي الفرق بين الثورة واستيلاء
الفاشية على السلطة، حيث لا يقوم تشابهها مع الثورة إلا على تشبيهات. كان بنجامين
يقول بأن هدف المشروع السوريالي بمجمله كان "كسب قوى الثمالة لجانب
الثورة"(18)، هذا أيضا ما يشغل باتاي الذي يحلم بسياسة جمالية، شعرية خُلّصت
من كلّ مكوناتها الأخلاقية. هذا هو بالذات ما يغريه في الفاشية: "إن ظاهرة
الفاشية، التي وضعت، وجود الحركة العمالية ذاته موضع السؤال، يكفي لبيان ما يمكن
انتظاره من لجوء مناسب إلى قوى انفعالية متجدّدة"(19). وعندها يطرح السؤال:
بما يختلف التعبير المتمرّد والعفوي، في المرجع الأخير، عن التوجيه الذي تفرضه
الفاشية على مثل هذه القوى؟ على أية حال، لئن رأينا، كما يرى باتاي، أنه يجب أن
نتمكن من بيان الفرق بين الأشكال السياسية، دون أن يترتب علينا انتظار النتائج،
فإن هذا السؤال المزعج. يحاول باتاي في نص له من عام 1933، أن يقيم حدودًا في قلب
عالم مغاير بين ما هو أعلى وما هو أدنى. هذه المحاولة تفتقر إلى إجرائية إلى حدّ
أن باتاي يكتفي، في نهاية المطاف، باقتراح إدخال العصيان في عمل السياسة الفاشية
التي يحاربها. ومن أجل هذا يوصي بإنشاء علم للمغاير "يسمح بتوقع الاستجابات
الانفعالية الاجتماعية التي تسري في البنية العليا. وربما إلى حدّ ما، وضعها تحت
تصرفنا. (...) إن منظومة معارف تتناول الحركات الاجتماعية للجذب والنبذ (أي
ازدواجيات الانفعالية التي يثيرها المغاير) يتقدّم بالشكل الأكثر بساطة بمثابة
سلاح. وعندما تتجابه في اضطراب عنيف واسع النطاق، ليس بالدقة الفاشية والشيوعية،
بل أشكال جذرية آمرة والتمرد العميق" سيكرس باتاي العقود الثلاثة التالية
لوضع الخطوط الكبرى لهذا العلم. سأبدأ بالاهتمام بالأسلوب الذي يطرد فيه باتاي
الحداثة كفيلسوف تاريخ لأتناول فيما بعد الإقتصاد العام، الذي كان يأمل منه
الإجابة عن السؤال الذي بقي مفتوحًا: كيف يمكن للتفكير تحويل التشيء إلى سيادة؟
الهوامش:
(1)
M.Leiris « De Bataille l’impossible Documents, in
Critique, « Hommage à Georges Batalle », n.195-196, 1963, P.693
(2) M. Foucault,
« Préface à La
Trangression », in Critique Op. cit., P. 757
(3) M. Foucault, Op. cit., P. 753
(4) M. Foucault, Op. cit., P. 753
(5) M. Foucault, Op. cit., pp. 751-752
(6) H. Dubiel, Wissenschaftsorganisation und Politische Erfahrung, Francfort
1978, et ID., « Die Aktualitat der Gesellsch afts theorie Adornos »,
L.v. Freidburg et J. Habermas (éd), Adorno Konfernz, Op. cit., P.293
(7) G. Bataille, La Structure Psychologique
du fascisme, in La Critique Sociale ,
no. 10 et no. 11 1933-1934 repris in œuvres complétes, t. I (O.C.I), Paris
1970, P. 348
(8) G. Bataille, La Structure … Op. cit., P.
367
(9) G. Bataille, La Structure … Op. cit., P.
353
(10) G. Bataille, La Structure … Op. cit.,
Note P. 340
(11) G. Bataille, La Structure … Op. cit., P.
348
(12) G. Bataille, La Structure … Op. cit., P.
351
(13) M.
Horkheimer, et th. Adorno, Dialectique de la raison, trad. E. Kaufholz, Paris
1983, P. 177
حول إمكان وصف الفاشية على الصعيد الاقتصاد السياسي، على
أنها "رأسمالية الدولة" ارجع إلى A. Sollner, H. Dubiel
(14)
M. Horkheimer, L’éclipse de La Raison , op. cit., PP.
129-130
(15) M.
Horkheimer, et th. Adorno, Dialectique de la raison. Op. cit., P.181
(16) G. Bataille,
L’Erotisme, in O. C. 10, P.94
(17) W. Benjamin,
Zur Kritik der Gewalt in Gesammel te Schriften, op. cit., II, 1, P. 192, en
francais in L’Homme, le Langage, La
Culture , op. cit., P.40.
(18) W. Benjamin, « Der Surrealismus », in G. S.,
II, 1? P. 307
(19) G. Bataille, La
Structure … O. C. I, Op. cit., P. 371
المصدر: هبرماس؛ القول
الفلسفي للحداثة، ترجمة فاطمة الجيوشي، دمشق وزارة الثقافة، 1995، ص ص325-341
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق