السبت، 1 فبراير 2014

المِران على الفرحة قبل الموت: جورج باتاي




هو كلّه أنا، وأريدُ أن أكون:
في الوقتِ نفسهِ يمامةً، أفعَى، وخنزيراً.
"نيتشه"

لوحة الرسام العراقي هاشم حنون
حين يصادف امرؤٌ نفسَه قائماً وكأنّ العالمَ منعكسٌ فيه سعيداً، دون أن يستلزم الأمر دماراً أو معاناةً ـ كصبحٍ ربيعيّ بديع ـ قد يتأثّر بالسحر الناجم أو الجذل البسيط. لكنه يدرك أيضاً، في الوقت ذاته، الثُّقل والحنينَ الغَرورَ لراحةٍ فارغةٍ توظّفُها هذه الغبطةُ. في تلك اللحظة، يرتقي فيه بعنفٍ شيءٌ يُقارَن بطائرٍ فريسةٍ يمزّقُ حَلْقَ طائرٍ أصغرَ في سماءٍ زرقاءَ صافيةٍ مسالمةٍ جليّة. يُسلّم بأنه لن يُشبِعَ حياتَه دونَ الاستسلام إلى حركةٍ عنيدة، قد يحسّ بعنفِها ماثلاً في أكثرِ ركنٍ بعيدٍ من كيانه بصرامةٍ تخيفه. وإن دارَ إلى الكائنات الأخرى التي لا تمضي وراء الغبطة، فلن يختبر بُغضاً، بل سيتعاطف على النقيض مع اللذائذ الواجبة؛ يصدمهُ فقط مَن يدّعون أنهم يُحرزون إشباعاً في حياتهم، مَن يتصرّفون خارجَ لعبةِ تخمينِ الكلماتِ عديمةِ الخطر لندركَ أنهم يُحرزون غبطةً، بينما هم في الحقيقة يتحدّثون فقط عن الغبطة. وليس لهُ أن يستجيبَ لمثل هذا الدّوار. فالدّوار يُضنِي سريعاً وهو يهدّد بأنهُ ينعشُ الاهتمامَ براحةٍ سعيدة أو، إن لم يتمكّن أن يحرزَ، فهو فراغ بلا ألم. أو، إن لم يُسلّم، ولو مزّق نفسَه كلياً بعُجالةٍ مفزعة، لانخرط في الموت حيث لا شيءَ أكثر فزعاً منه. هو وحده سعيدٌ، كونه اختبرَ الدّوارَ حدّ أن ارتجفَت عظامهُ، حدّ أن عجزَ عن قياسِ مدى سقطتهِ، فيلقَى فجأةً ما لم يأملُ من القوّة لتحويل لوعته إلى جذل يستطيع تجميدَ وتبديلَ منظرِ ما يصادفون. لكن الطموحَ الأوحدَ الذي يتحمّله المرءُ، بدمٍ بارد، أن يرى حياته مشبعةً في تصدّع اللوعة، فلا يتوقُ إلى نبلٍ تملكهُ الفرصةُ النهائيةُ وحدَها بتدبيرها. ولا يستتبعُ هذا النمط من التصميمِ العنيف، الذي يُخِلّ لزوماً برباطةِ جأشهِ، دُوارَه أو سقطتَه بميتةٍ فجائية. وقد يصبحُ هذا التصميمُ، فيه، فعلاً وقوّةً بها يكرّسُ نفسَه لقسوةٍ حيث تنغلقُ عليه حركتهُ دونَ انقطاع، كقَطعِ منقارِ طائرٍ فريسةٍ. التأمّل هو السياقُ فقط، هادئٌ أحياناً وهائجٌ أحياناً، توضَعُ فيهِ قوّةُ فعلهِ الخاطفةُ على المحكّ ذاتَ يوم. إن الوجودَ الصوفيّ للمرء الذي تُصبح فيه "فرحته قبل الموت" عنفاً داخلياً لن يحقّق الغبطةَ المشبَعةَ للمسيحيّ الذي يمنحُ نفسَه شؤماً أبدياً. ليس لصوفيّ "الفرحة قبل الموت" أن يُحتَجز في ركنٍ، فهو يضحك في نوع من الرضا على كلّ مسعىً إنسانيّ، بل ويعرف كلّ حماسة يسيرة المنال: لكن كليّة الحياة ـ تأمّلٌ نشوان ومعرفةٌ نقية، يتمّمها في فعلٍ أوحدَ لا يفشلُ في أن يصبحَ خطيراً ـ هي لا محالةَ قِسمَتهُ، عموماً، كموتِ امرئٍ مُدانٍ. 

ولا تشكّلُ النصوصُ التي تتبعُ وحدَها طَقساً للمِران على صوفيةِ "الفرحة قبل الموت". بينما الاعترافُ بمنهج الطقس باقٍ، فهو لا يمثّلُ حتى جزءاً منه. لأن الطقسَ الشفهيّ نفسَه عصيبٌ، يصعُب أن نُسلّمَ في بضعِ صفحاتٍ بأكثرَ من تمثّلٍ أشدّ التباساً مما قد ندركهُ بالطبيعة. من جانبٍ آخر، تمثّل هذه الكتاباتُ، عموماً، تمريناتٍ تتحدّثُ بصرامةٍ أقلّ عن الأوصافِ البسيطةِ لحالةِ التأمّلِ أو التأمّلِ النشوان. ولا تُقبَل هذه الأوصافُ إن لم تُمنَح ما هي عليه، بمعنىً آخر، مجاناً. ونقترحُ النصّ الأولَ كأنه مِران.  

من الملائمِ استعمالُ كلمةِ "صوفية" حين نتكلّمُ عن "الفرحة قبل الموت" والمِران عليها، فهي لا توظّف أكثرَ من تناظرٍ فعّالٍ بين هذا المِران وما يُتّبَع في دياناتِ آسيا وأوربا. وما من سببٍ لربطِ أيّ فرضيّاتٍ تتعلّقُ بحقيقةٍ أعمقَ مزعومةٍ بجذلٍ ليس له ثمةَ غايةٍ غيرَ الحياةِ العاجلة. تنتمي "الفرحة قبل الموت" إلى مَن ليس وراءَه ما وراء؛ إنه فقط المسارُ الأمينُ فكرياً لنُشدانِ النشوة.    
علاوةً عليه، فأنّى لما وراءٍ، سواءً كان رباً أو ما يشبهُ الربّ، أن يظلّ مقبولاً؟ ما من كلماتٍ واضحةٍ للتعبيرِ كفايةً عن الازدراءِ السعيد لامرئٍ "يرقصُ مع الزمنِ الذي يقتله" لأجل مَن يلجأ إلى توقّعِ الغبطة الخالدة. هذا النمط من القداسةِ العابسة ـ وكانت بدايةً محميّةً من الإفراطِ الإيروتيكيّ ـ قد ضيّعَ الآن قوّتَه كلّها: حيث يسخرُ المرءُ من السُّكر المقدّسِ الذي يتحالفُ مع الرعب مِن الفِسق. قد تكون العفّةُ صحيّةً للأرواحِ المتردّدة، لكن مَن يخشون الفتياتِ العارياتِ أو الويسكي لن تُجدي معهم "الفرحة قبل الموت". 

قد تؤدي القداسة الفاحشة البذيئة إلى خسارةٍ للنفس سعيدةٍ بما فيه الكفاية. وقد تعني "الفرحة قبل الموت" أن نمجّدَ الحياةَ من القاعِ للقمّة. فهي تسلبُ المعنى من كلّ شيء قد يكونُ ما وراءً فكرياً أو أخلاقياً، جوهراً، رباً، نظاماً غيرَ قابلٍ للتغيير، أو خلاصاً. إنها تأليهٌ لما هو هالكٌ، تأليهٌ للّحمِ والكحولِ بقدرِ ما هي لحالاتِ الغَشيةِ الصوفية. إن الأشكالَ الدينيةَ التي يُعيد اكتشافَها المرءُ أشكالٌ فطريّةٌ تؤرّخُ لتطفّلِ فضيلةٍ متذلّلةٍ: تُجدّد نوعاً من الجذلِ المأسويّ في أن "يكون" الإنسانُ حين يكفّ عن التصرّفِ كعملٍ ضروريّ ممجَّد عاجزٍ ويدع نفسه خَصِياً بالخوفِ من الغد.    

1
"أُخلّي نفسي للسكينةِ، لنقطةِ المَحاقِ".

"تضيع أصواتُ الصراع بالموتِ، كما تضيع الأنهار بالبحرِ، كما تنفجرُ النجومُ بالليل.
قوةُ الصراع مشبَعةٌ بصمتِ الأفعال.
أشقّ السكينةَ كما أشقّ عتمةً مجهولة.
أسقطُ في هذه العتمةِ المجهولة.
أصيرُ بنفسي هذه العتمةَ المجهولة". 

2
"أنا الفرحةَ قبلَ الموت.
تسوقني الفرحةُ قبلَ الموت.
تقذفني الفرحةُ قبلَ الموت.
تمحقُني الفرحةُ قبلَ الموت". 

"ألبَثُ في هذا المحاقِ، ومنهُ أتصوّرُ الطبيعةَ كلعبةٍ من قوىً معبّرةٍ في لوعةٍ مضاعَفةٍ متوالية". 

"أخسرُ نفسي ببطءٍ في فضاءٍ دونَ قَعرٍ ولا يُسبَرُ غَوره.
أصلُ إلى عمقِ أعماقِ العالم. 
يفترسُني الموتُ.
تفترسُني الحمّى.
يمتصّني فضاءٌ داكنٌ. 
أنا في محاقِ الفرحةِ قبلَ الموت".

3
"أنا الفرحةَ قبلَ الموت".

"أعماقُ السماءِ، فضاءٌ فقيدٌ هو الفرحةُ قبلَ الموت: كلّ شيءٍ يتصدّع عميقاً".

"أتصوّر الأرضَ تدورُ دائخةً بالسماء.
أتصوّر السماءَ نفسَها تنسلّ، تدورُ وتضيع. 
الشمسُ، بالقِرانِ مع الكحولِ، تدورُ وتنفجر في لُهاثٍ.  
أعماقُ السماءِ كعربدةِ النورِ المجمَّد، تضيع.
كلّ موجودٍ يدمّرُ نفسَه، مستنفداً نفسَه ويموت. تُنتِج كلّ لحظةٍ ذاتَها بالمَحاقِ السابقِ، وهي نفسُها كجريحٍ على نَحوٍ هالكٍ.    
أستنفدُ نفسي من نفسي فأدمّرُها على الدوامِ في حفلٍ دمويٍّ كبير.  
أتصوّر لحظةَ موتي المجمَّدة".  

4
"أركّزُ في نقطةٍ قبلي ثم أتصوّرُ هذه النقطةَ كمَوضعٍ هندسيٍّ للوجودِ كلّه ولمّ الشملِ كلّه، للفصلِ كلّه والفزعِ كلّه، للرغبةِ غيرِ المشبَعةِ كلّها والموتِ المحتَملِ كلّه". 

"ألتحمُ بهذه النقطةِ وبحبٍّ عميقٍ لما أجدهُ هناك يُحرقني، حتى لأرفض أن أكونَ حياً لأيّما سببٍ أكثرَ مما هو هناكَ، فهذه النقطةِ، كونَها الحياةَ والموتَ والمحبوبَ كلاًّ، لها نفخةُ الطوفانِ".   

"وفي الوقتِ ذاتهِ يستلزمُ أن أتجرّدَ من أيّ تمثّلاتٍ خارجيةٍ مما هي هناك، فليسَت غير ضراوةٍ خالصة، باطنيةٍ، سقطةٍ داخلية خالصةٍ في جحيمٍ لا حدّ له؛ تمتصّ هذه النقطةُ من الطوفانِ بلا نهايةٍ عدمَه الداخليّ، وبمعانٍ أخرى، كلّ ما قد يختفي، هو "ماضٍ"، كما تزني في اللحظة ذاتها بلا نهاية بشبحٍ مفاجئٍ للحبّ الذي عبثاً يودّ أن يعانقَ ما ينقطعُ عن الوجود".   

"استحالةُ الإشباعِ في الحبّ مرشِدٌ للقفزةِ المشبَعةِ في الوقتِ ذاته، مع أنها إبطالٌ لكلّ سَرابٍ محتَمل".   

5
"لو أتصوّر نفسي برؤيةٍ وفي هالةٍ تُبدِلُ مظهرَ الوجهِ النشوانِ والمستنفَدِ لكائنٍ ميت، فما يشعّ من ذلك الوجهِ يُنير ضرورتَه الغيمُ بالسماء، الذي تلتمعُ رماديتهُ حتى تصبح أكثرَ اختراقاً من ضوءِ الشمسِ نفسِه. في هذهِ الرؤيةِ يتبدّى الموتُ كأنهُ الطبيعةُ ذاتها كالنورِ المنير، إلى الحدّ الذي يُفقَد فيهِ النورُ ما إن يغادرَ منبَعَه: يتبدّى أنه لا خسارةَ مطلوبةٌ أقلّ من الموتِ لأجل إشراقِ الحياة أن تجتازَ وتبدّلَ مظهرَ الوجودِ الكئيب، لأنّ اجتثاثَه الحرّ مني يصبحُ بقوةِ الحياةِ والزمن. وأكفّ هكذا عن أن أكونَ أيّ شيءٍ آخرَ غيرَ مرآةِ الموتِ، كأن الكونَ فقط مرآةٌ للنورِ".    

6
تأمّل هيراقليطيّ(*) 
"أنا بنفسي حربٌ".

"أتصوّرُ حركةً بشريةً وإثارة، باحتمالاتٍ لا حدّ لها: لا تبدو هذه الحركة والإثارة إلا في حربٍ.  
أتصوّرُ هبةً من معاناةٍ لانهائية، من الدمِ والأجسادِ المفتوحةِ، بصورةِ قذفٍ قاطعٍ أحداً في صدمةٍ فيخلّيه إلى استنفادٍ مشحونٍ بالقرف.
أتصوّر الأرضَ مشرَعةً في الفضاءِ، كامرأةٍ تصرخُ، ورأسُها في اللّهب. 
أمامَ العالم الدنيويّ الذي تُحدّد نظامَه الصيفيّ والشتويّ اللوعةُ من كلّ شيءٍ حيٍّ، أمامَ الكون المركّبِ من أنجمٍ دوّارة لا حصرَ لها، تفقدُ أنفسَها لتستنفدَها من دون حدّ، أدركُ تعاقباً من بذَخٍ عنيفٍ تتطلّبُ حركتهُ القريبةُ أن أموتَ: هذا الموتُ استنفادٌ متفجّرٌ لكلّ ما كان، فرحةُ الوجودِ بكلّ ما يهبهُ العالمُ؛ حتى حياتي ذاتها تتطلّبُ أن يهِبَ كلُّ موجودٍ، في كلّ مكانٍ، نفسَه على الدوامِ، إلى مَحاقٍ.    
أتصوّرُ نفسي والدمُ يغطّيها، مُحطَّماً، لكن متبدّلاً، وعلى وِفاقٍ مع العالمِ، كأني فريسةٌ وكأني مِخلبٌ للزمن، وهو القاتلُ بلا انقطاع والمقتولُ بلا انقطاع.     
تُعمِيني للتوّ انفجاراتٌ في كلّ مكانٍ. فأضحكُ حين أفكّرُ أن عَينَيّ تُلحّان في طلبِ كلّ ما لا يدمّرُهما(**)".       


الهوامش:
(*) Heraclitean: نسبة للفيلسوف اليونانيّ هيراقليطس الإبسوسيّ (535/ 475 ق.م)، الذي يُعرف بالفيلسوف الغامض أو الباكي، يؤمن بالتغيّر الدائم، حيث يقول "لا ينزل أحد النهر نفسه مرتين"، كما يؤمن بوحدة النقائض، حيث يقول "الطريق أولها وآخرها واحد، ومتطابق"، وكلّ مُدخل وفقاً لسببه مادّة لتأويلات عديدة. (م)  
(**) حاشية: ذات ليلة، و"س" يحلم، صدمهُ برقٌ؛ يفهم أنه يموت وأنه فجأةً، بأعجوبة، مبهورٌ ومتبدّل؛ عند هذه النقطة من حلمه، يحرزُ ما لا يُتوقّع، لكنه يستيقظ. (باتاي)  
       

المصدر: نشر حصري للمدونة، فالشكر كلّ الشكر للشاعر والمترجم المصري محمد عيد إبراهيم.
اللوحة المرافقة: لوحة الرسام العراقي هاشم حنون وقد اختارها بنفسه وفقا لتفاعله مع النص.     

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق