رؤية وترجمة: محمد عيد إبراهيم
ولد جورج باتاي عام 1897 وتوفي 1962، أي كان معاصراً
للسورياليّ أندريه بريتون (1896 ـ1966) والسورياليّ لوي أراجون (1897 ـ 1982)، وقد
خبر باتاي طفولة عصيبة بين يدَي والد أعمى مشلول مصاب بمرض الزهريّ. وهذا ما
نتبيّنه على الأقلّ من روايته (حكاية العين)، حيث لم يترك سيرة مكتوبة. هجر باتاي
وأمه هذا الأب العاجز، فما كان منه إلا أن جُنّ ثم توفّي بعدها بقليل. وقد تمرّد
باتاي من بكرة أيامه على سلطة الأب، حيث ترك المدرسة الثانوية، واعتنق الكاثوليكية
حيث كان أبوه ملحداً ورفض أن يطوّبه القسّ عند موته. مع ذلك سعى لتعليم نفسه بنفسه
وقام ابتداء من عشرينيات القرن الماضي بنشر مقالات وروايات في صحف سيّارة. وخلال
هذا الوقت، كان يعيش نوعاً من حياة ثانية. وصادف عام 1924 ميشيل ليريه، تلك الروح
الرقيقة التي ساعدته في التعرّف إلى السورياليين فيما بعد.
كان باتاي يستذكر شذرات من أحلامه، وتسكنه عقدة أوديب،
من علاقته الخاصة مع أمه، بالإضافة إلى عمى أبيه، مما وسم كتاباته بنوع من
"العنف الفكريّ". لكن هذه الهواجس ظلّت تحكم نظريته كنموذج للعلاقة مع
الكون ومع الناس ومع الأدب. لكن أندريه بريتون طرد باتاي من جنة السورياليين بأُس
من هذه الهواجس. كان بريتون في عشرينيات القرن الماضي القوة الفكرية الطليعية
الرائدة في فرنسا، بينما كان باتاي نكرة.
أراد باتاي تأسيس منظومته عن "العنف الفكريّ"
مع بريتون وضمن السورياليين، لكن العداء كان متبادلاً. فلم يكن باتاي مهتماً
بانتهاك الجمال والسمو، كما كان مفهوم بريتون عن "فتح الأبواب الذهنية على
وسعها" يمثّل بدقّة، فمن وجهة نظر باتاي، كان هذا نوعاً من التوكيد على
النزعة الجمالية والنزعة المثالية المشتبكة مع الدين أساساً. فلم يكن على بريتون
إلا أن أطلق عليه "عدو السوريالية من الداخل".
انخرط باتاي، بدءاً من عام 1929، مع عدد من السورياليين
المتمردين (أمثال: ديسنو، ليريه، ليمبو)، في كتابة مقالات تحت عنوان
"وثائق" مصحوبة بخُطاطات طليعية مسرفة في البدائية، وكأنه يسجّل أيقونات
لمستقبل شعبيّ. من أبرز ما كتب في هذه الفترة: إصبع القدم الكبير، لغة الأزهار،
وهو في الأخيرة يصف المركيز دو ساد وهو يلقي بأعضاء التكاثر في زهرة إلى مصرف مليء
بالسماد، مما منح بريتون الفرصة التي كان ينتظرها للهجوم على باتاي.
ففي بيان السوريالية الثاني، يعمد بريتون إلى إدانة
باتاي ومن ثم طرده، بدعوى أنه "فيلسوف الغائط"، الذي يميل إلى حيوانيته
والذباب والغائط، بينما كان مسعى بريتون إلى العقل. وفي معرض ردّه على باتاي، قال
إنه مثل "من يفكّر وعلى أنفه ذبابة"، مما يجعله حليفاً للموتى أكثر مما
هو حليف للأحياء. ثم أكّد أن الزهرة، حتى بعد نزع أعضاء تكاثرها، لا تزال زهرة.
وأن المركيز دو ساد كان يودّ التخلّص من التورّط المألوف مع الشعرية العاطفية
المائعة المرتكزة على الزهرة، ليحرّر العقل البشريّ من عِقاله. وهي اللبنة الأولى
في تطور الإنسان، ضمن عقله وخيالاته ونفسيته.
أما باتاي فقد أطلق بياناً عن "إنسان نيتشه
الساخر"، حين انتصب الإنسان على قدميه ليرى الشمس غامرة. فبعد داروين ظهر
هيجل، الذي دعا لمعانقة الروح الأسمى، روح المطلق. وهذه الحركة لا يمكن إنكارها،
كما فعل بريتون مع باتاي، لكن أين ستمضي بالإنسان قيمة العقل التي تذهب معه أينما
راح؟ الجواب الوحيد في نهاية العقل، نهاية الإنسان، نهاية الشكّ الديكارتيّ
(المتّخذ مقعد الوعي)، ولا حلّ أمامه غير الطاقة الحسيّة، غير الشبق المتزامن مع
السقوط، المتزامن مع الموت.
فالموت هو الحلّ الرائع لنهاية الإنسان، حين تصل الروح
مرقاها الأعلى، فيرى النور في الليل. إنها خبرة الإنسان مع الليل، فالأمر أبعد من
مجرّد فهم للتطوّر، بل هو أقرب للظاهرة الاجتماعية. فلا مسافة بين المعرفة
المجرّدة والخسران الشفاف. في النقطة الأسنى من التطوّر، من المعرفة المجرّدة، ليس
بعد الرقيّ إلا السقوط. فالإنسان حيوانيّ، بصيرته عمياء. لديه رغبة مرضية في
السقوط الدائم.
في مقالته "أنا الشمس"، يقول باتاي: "نعي
جميعاً أن الحياة محاكاة ساخرة ينقصها التأويل. فالرصاص محاكاة للذهب، والهواء
محاكاة للماء". لكن هل المرء في "حاجة" إلى أن يختلف عن الآخرين،
حيث يحتاج أحدنا للتعمير والإشباع، بينما يحتاج الآخر للتدمير والخسران؟ إن
الإنسان المفكّر يهرب من رأسه، بينما الإنسان ملسوع الضمير يهرب من سجنه. ولا يكون
الخلاص إلا بطريقين: الثورة، أو الموت.
وهذه مقاطع من كتاب جورج باتاي "رؤى متطرفة":
عديم التشكّل
يبدأ المعجم حين لا يعود يعطينا معاني الكلمات، بل
وظائفها. ولهذا السبب فإن كلمة "عديم التشكّل" ليست صفة لها معنىً
محدّد، بل مصطلح يخدم في تبيان أشياء بهذا العالم، ويتطلّب عموماً أن كلّ شيء له
شكله. ما يدلّ عليه لا يملك حقاً من أيّ نوع بل يسحق نفسه في كلّ مكان، مثل عنكبوت
أو دودة أرضية. وفي الحقيقة، فمن دواعي سعادة الأكاديميين معرفتهم أن الكون يحتاج
لأن يتّخذ شكلاً. ولا يوجد للفلسفة مجال غيره: إنه كمن يمنح عباءة، لمن يلبس عن
يقين عباءة. ومن ناحية أخرى، فمن الثابت أن الكون ليس كمثله شيء وهو فقط
"عديم التشكّل"، ما يعدل أن نقول إن الكون أشبه شيء بعنكبوت أو بصقة.
الفم
الفم هو البداية، أو كما يفضّل أحدهم، مقدم الحيوانات؛
وفي أكثر الحالات تميّزاً، هو أكثر الأجزاء حياةً، بمعنىً آخر، فهو الأشدّ رعباً
لدى الحيوانات المجاورة. لكن ليس للإنسان بنية بسيطة كالوحوش، كما أنه ليس من
المحتمل أن نقول أين يبدأ. فقد يبرز أعلى الجمجمة، لكن أعلى الجمجمة جزء مُهمَل،
في عجزه أن يلفت انتباه المرء؛ إنها العيون أو الجبهة التي تلعب دوراً ذا مغزىً في
فكّ الحيوان.
بين المتحضّرين، فقد الفم شخصيته البارزة نسبياً والتي
لا تزال حاضرة بين البدائيين. على أيّ حال، فمعنى الفم العنيف مصون في حالة
مستترة؛ حيث يستعيد اليد العليا فجأة بتعبير أدبيّ وحشيّ من قبيل "فم
النار"، مطبّقاً لدى المَدافع التي يستعملها رجال ذوو بأس شديد في قتل بعضهم
الآخر. وبغمرة مناسبات هامة لا تزال الحياة البشرية مركّزة بصورة بهيمية في الفم:
فالحنق يجعل الناس يطحنون أسنانهم، بينما يحيل الفزع أو الألم الشنيع الفم إلى عضو
يفلع الصرخات.
يسهُل، في هذا الموضوع، أن نلحظ المرء المقهور وهو يلقي
رأسه للوراء ريثما يمدّ عنقه في سُعار بطريقة يصبح معها الفم، قدر ما يمكن، بسطاً
للعمود الفِقريّ، بمعنىً آخر، يكون بوضعيّة يحتلّها طبيعياً في قوام الحيوانات.
كأنه نبضات متفجّرة، تندلع مباشرةً من الجسم عن طريق الفم، بشكل صرخات.
وتؤكّد هذه الحقيقة أهمية الفم في جثمانية الحيوان أو
حتى بنفسيته، علاوة على الأهمية العمومية لطرف الجسم الأماميّ الأسنى، فوّهة
النبضات الفيزيقية العميقة؛ ويرى المرء في الوقت ذاته أن الإنسان قد يحرّر هذه
النبضات بطريقتين متباينتين على الأقلّ، في العقل أو في الفم، لكن مجرّد أن تصبح
هذه النبضات ضارية، يُضطرّ أن يفزَع إلى الطريقة الوحشية لتحريرها. وكي ينتهي إلى
حبس ضيق لوضعية إنسانية صارمة، تبدو صورة الوجه الرزينة بفم مغلق، جميل قدر ما هو
آمن.
إصبع القدم الكبير
إصبع القدم الكبير هو أكثر جزء إنسانيّ بالجسم
الإنسانيّ، حيث لا يوجد عنصر آخر بهذا الجسم غيّر وظيفته استجابة لحياة القرد شبيه
الإنسان (شمبانزيّ، غوريلاّ، وغيره). ويرجع هذا إلى استقرار القرد على الشجر،
بينما كان الإنسان يتحرّك على الأرض دون أن يتشبّث بالأغصان، صار هو نفسه شجرة، أي
رفع نفسه منتصباً في الهواء كالشجرة.
علاوة على أن وظيفة قدم الإنسان تعتمد أصلاً على انتصابه
في حزم، وهو مدعاة فخر عند الإنسان، وهو الدور الذي لعبه الإنسان حين انتصب على
قدميه، برأس خفيف، أي برأس مرفوع للسماوات للعُلى، بينما تغوص قدمه بالطين. كما أن
انقسام الكون إلى جحيم مستتر وجنان طاهرة، مفهوم يتعذّر محوه. فالطين والظلمة هما
مبادئ الشرّ، بينما السماء والنور هما مبادئ الخير. لكن، حيث تغوص القدمان بالطين
ترتفع الرؤوس في النور.
تتعرض القدم الإنسانية إلى عذابات خيالية تشوّهها،
تخلّعها. قد يقول امرؤ: يداها متّسختان كالأقدام. ناسياً ذلك الوعي الجمعيّ الكليّ
الذي كان للإنسان في القرن 17. ورعب الإنسان السريّ من قدمه يجعله يخفيها ويشكّلها
على هواه. بينما ظهور الكعب، سواء كان عالياً أو خفيضاً، اعتماداً على جنس من
يلبسه، يشتّت النظر عن شخصية القدم الخفيضة المسطّحة. وقد صدم هذا الصينيين،
فحبسوا أقدام النساء لتضمر، وكان محظوراً على الرجال رؤية أقدام زوجاتهم عارية
مهما كان. مثلهم فعل الأتراك، وسط آسيا، حيث اعتبروا إظهار المرأة لقدميها عاريتين
نوعاً من الفُحش، حتى أنهن كن ينمن مع أزواجهن في الفراش والجوارب في أقدامهن.
ثم سمح الرومان بظهور أقدام النساء عارية. وقد درس
سليمان ريناش في مقالته "الأقدام المتواضعة" دور الأسبان في جعل أقدام
النساء موضع قلق مميت، فهي أصل الجريمة. حين تنتأ قدم امرأة من تحت جونلة فهو
الفُحش بعينه. وكان لمس قدم امرأة، فعلاً تحرّرياً. أما قدم الملكة، طبعاً، فهي
المحرّم الفظيع، وقد أحرق الكونت فيلاميديانا قصره ليستمتع بأخذ الملكة إليزابيث
بين ذراعيه. المثير في هذا الفعل هو "حتى أنه لمس قدمها"، كما بُلّغ
الملك، فما كان منه إلا أن حشا مسدسه وأردى الكونت قتيلاً.
لقد رأى في قدمَي المرأة كلاً من النور والجمال، وكان
يتردّد في غوايته بينهما، من أحدهما للآخر، سواء وجد حتفه في هذا الاتّجاه أو
الآخر، فالغواية تبرحه أكثر كلّما اشتدّت وحشية الحركة. ومن هنا نفهم أحد الوسائل
الشاذّة حديثاً في الحبّ، تقبيل قدم المرأة، كنوع من اللذّة المُدانة. وقد تمثّل
قدم المرأة، لدى بعض الشعراء، حافزاً من سديم شعريّ، تجعله يفتح عينيه على وسعهما،
قبل أن ينطلق إلى حدّ الصراخ، أمام إصبع القدم الكبير.
حلم
في الشارع أمام البيت الذي أسكنه، تركتُ درّاجة. شارع معبّد
لا يدري معه المرء أيمضي يساراً أم يميناً... فجأة تهبط الظلمة. فأهيم على شكل
جنتلمان أمريكيّ. أُقيم برميلاً كان عليّ أن أجذبه على حبال سميكة سوداء بالسُخام
حيث تُعلّق عليه فئران كريهة من ذيولها، تُهدّد بالعضّ أو تُقتل. يقف، على أيّ
حال، بصعوبة سمكة نازفة أو ميتة، فتصبح بمستوى رأسه الفئران المهتاجة.
الفئران مريعة، مع كلّ مخاوف الطفولة. يظهر سرداب، فأنزل
بشمعة. فزع من العناكب. ثم أتذكّر، فجأة، أني نزلتُ في سرداب يوماً مع أبي، بشمعة
في يدي. يرتبط الفزع من العناكب بذكرى كنتُ أجلس فيها ببنطلوني نازل فوق رُكبتَي
أبي. نوع من الازدواجية ما بين المفزع والمهيب. ثم يفرد يديه القذرتين من حولي،
مبدياً هذه العاطفة، بابتسامة عمياء لاذعة. مثل هذه الذكرى تبدو أفظع من كلّ شيء.
أستيقظ، فأصحّح فزع الفئران بذكرى أبي، وهو يقوّمني
بصفعة على شكل ضفدع دمويّ، يغرس فيه نسر (أبي) منقاره. ردفاي عاريان، ومعدتي
نازفة. ذكرى معشية، وكأن الشمس التي تراها من بين رموش عينيكَ، حمراء. ألعب
بالطوق. يصفعني أبي فأرى الشمس.
الشَرَج الشمسيّ
من الواضح أن العالم محض محاكاة، بمعنى آخر، كلّ شيء
مرئيّ هو محاكاة لآخر، أو هو الشيء نفسه في شكل مخادع. وحين أصرخ "أنا أكون
الشمس"، أنتشي، ففعل الكينونة ليس غير عربة لسُعار عاشق. نعي جميعاً أن
الحياة محاكاة ساخرة، ينقصها التأويل. فالرصاص محاكاة للذهب. الهواء محاكاة للماء.
العقل محاكاة لخطّ الاستواء. الجنس محاكاة للجريمة.
ويمكن وضع أيّ من الذهب، الماء، خطّ الاستواء، أو
الجريمة، أمامنا كمبادئ للأشياء.
إن أصل الأشياء لا يشبه أرضية كوكبنا الذي يبدو أنه
القاعدة، بل يشبه حركة دائرية حول مركز متحرّك. ومن ثم فإنه يمكن قبول السيارة أو
الساعة أو ماكينة الخياطة على التساوي كمبدأ مولّد للحركة. هاتان الحركتان
البدائيتان متعاقبتان كحركة جنسية، ومتحولتان أحدهما ضمن الآخر على التبادل. وقد
يلحظ المرء أن الأرض بدورانها تحضّ الإنس والحيوان على الوصال، وبم أنه سبب فهو
أيضاً نتيجة، حيث يحضّ الإنس والحيوان الأرض على الدوران بما يمارسونه من وصال.
إن أهمية حذاء مهجور أو سنّ عفنة أو أنف أفطس أو طبّاخ
يبصق في حساء أسياده، هي بالنسبة للحبّ في مقام راية معركة بالنسبة للوطنية. كما
مظلّة أو شخص ستينيّ أو طالب لاهوت أو رائحة بيض فاسد أو عيون قضاة فارغة، كلّها
جذور تُقيت الحبّ. وكلب يفترس رقبة إوزة أو سكران يتقيّأ على امرأة أو محاسب باكٍ
أو مرطبان خردل، تمثّل الفوضى التي تخدم عربة الحبّ. وإنسان يجد نفسه ما بين
آخرين، يصيبه التوتّر من أنه لا يعرف لماذا لا يكون هو أحد الآخرين. وفي سرير جنب
فتاة يحبها، ينسى أنه لا يعرف سبباً في ألاّ يكون محلّ الجسد الذي يلمسه. ومن دون
أن يعرف ذلك، يعاني عتمة ذهنية، تمنعه من الصراخ حيث أنه هو نفسه الفتاة التي تنسى
وجوده وهي ترجُف بين ذراعيه.
في الحبّ، يسعى كلٌ نحو ملاقاة الآخر، لكن لن يلقى
أيّهما غير صور محاكية، فيروحان في النوم كالفراغ كالمرآة. والفتاة الغائبة أو
الباردة التي تعلَق من دون أحلام بين ذراعَيّ، لا تمثّل عندي أكثر من شيء غريب،
باب أو شباك، أمرّ منه أو أطلّ منه. فأكتشف اللامبالاة حين أخلّي سبيلها وأروح في
النوم، بسبب عجزي عن حبّ ما يحدث. ويستحيل أن تعرف من ستكتشفه حين أحضنها، حيث
تحوز على نسيان تامّ معاند. ومثل هذه الحركة شكل من الحبّ، العاجز عن إيقاف كينونة
معيّنة، والمارّ سريعاً من امرئ إلى آخر. لكن النسيان الذي يقرّر ذلك ليس غير حيلة
للذكريات.
إن الإنسان ينهض فظّاً كشبح من كفن ثم يسقط بالطريقة
ذاتها، لينهض بعد ساعات، ومن ثم يسقط ثانية. يحدث الشيء ذاته كلّ يوم. ينتظم هذا
الفعل الجنسيّ، وسط طقس إلهيّ، مع الدوران الأرضيّ حول الشمس. وتتحرّك هذه الحياة
الأرضية بإيقاع من مثل هذا الدوران، ولا تعني صورة هذه الحركة الأرض الدائرة، بل
تعني الذكر في دخوله المرأة وخروجه، ثم انبعاثه ثانية ليدخلها من جديد.
يبدو أن الحبّ والحياة منفصلان لأن كلّ ما على الأرض
يتحطّم منفصلاً بفعل من تنويعات الأماكن والأزمان. ويموت البشر فحسب كي يولدوا،
بسلوك أعضاء تغادر أجسامها لتدخلها من جديد. تنهض الكواكب نحو الشمس، ثم تنهار نحو
الأرض. تنتصب الأشجار في الأرض بكمّ شاسع من أعضاء الأزهار المرفوعة نحو الشمس.
والشجرة التي تتعفّن، ينتهي مآلها إلى الحرق أو تُقشّر أو تُجزّ من الجذور، تعود
إلى الأرض ثم ترجع في صورة أخرى. ومثل هذا الفعل الجنسيّ متعدّد الهويات هو وظيفة
هذا الدوران الإلهيّ المطّرد.
المران على الفرحة قبل الموت
1
أُخلّي نفسي للسكينة، لنقطة المحاق.
تضيع أصوات الصراع في الموت،
كما تضيع الأنهر في البحر،
كما تتفجّر الأنجم في الليل.
قوة الصراع مشبعة بصمت الأفعال.
أشقّ السكينة كما أشقّ عتمة مجهولة.
أسقط في هذه العتمة المجهولة.
أصير بنفسي هذه العتمة المجهولة.
2
أنا الفرحة قبل الموت.
تسوقني الفرحة قبل الموت.
تقذفني الفرحة قبل الموت.
تمحقني الفرحة قبل الموت.
ألبث في المحاق، ومنه أتصوّر
الطبيعة لعبة من قوى معبّرة
في لوعة مركّبة متوالية.
أخسر نفسي ببطء
في فضاء دون قعر ولا يُسبر غوره.
أصل عمق أعماق العالم.
يفترسني الموت.
تفترسني الحمّى.
يمتصّني مكان معتم.
أنا في محاق الفرحة قبل الموت.
3
أنا الفرحة قبل الموت.
في أعماق السماء، الفضاء الفقيد
الفرحة قبل الموت:
كلّ شيء يتصدّع عميقاً.
أتصوّر الأرض دائخة بالسماء.
أتصوّر السماء تنسلّ وتضيع.
الشمس كالكحول، تتفجّر لاهثة.
أعماق السماء كعربدة النور،
تضيع. كلّ موجود يدمّر نفسه،
يستنفد نفسه ويموت. تنتج كلّ لحظة
نفسها في محاق، كجريح هلك.
أستنفد نفسي من نفسي فأدمّرها
على الدوام، في حفل دمويّ كبير.
هذه لحظة موتي المتجمّدة.
أتصوّر الأرض مشرعة بالسماء،
كامرأة تصرخ، ورأسها في اللهب.
أتصوّر نفسي والدم يغطّيها،
محطّماً، متبدّلاً، وعلى وفاق مع
العالم، كفريسة من مخالب الزمن
المقتول والقاتل دون انقطاع.
تُعميني انفجارات بكلّ مكان.
فأضحك وأنا أرى عينيّ وراء
كلّ ما لم يدمّر نفسه بعد.
كشفتم حقيقته الشيطانية
ردحذف