السبت، 23 يناير 2016

ملاحظات عن الانتهاك: موريس بلانشو



ترجمة: محمد عيد إبراهيم
       

الأرض: السديم/ كاوس(1) 
Eros by Paul Klee
لو علّمتنا آلهة الإغريق أن غِشيان المحارم مسموح، لتبدّت مسؤولة عن تحديد خطّ العزل في مكان آخر، وهو ما بين الأرض والسديم: خطّ العزل الذي ليس لأحد أن يعبره من دون إنتاج مسوخٍ. وتبدو صعوبة التفكير فيما يعزل هذين المصطلحين في أن أحدهما لا يمثّل نفسه فقط، بل يُقيّد فعلياً تلك الفجوة، المسافة التي ليس لنا أن نتخطّاها. كيف يتّحد المرء، عبر الانفصال، مع اللا- وحدة؟ أنّى للـ "الحدّ" أن يرتبط مع اللا- حدّ وفقاً للفصل الصحيح مع غياب الحدّ؟ قد نتصوّر السديم، ضمن هذه اللاعلاقة بين المصطلحين، مرتين، بالتطابق مع الإفراط الذي يميّزه: فأن نتّحد مع السديم هو أن ندعم الهاوية لنستعيد الانضمام إلى الهاوية بابتعادنا عنها. فهل يحقّ للرغبة أن تفعل هذا؟ يصعُب أن نقارن لأن إيروس(2) لم يُصنّف نوعياً بعد. فالمتّحدات تخالف الوحدة وتنقصها علاقة موحِّدة، تحرفُها عن الرغبة. لكن، أهي مسألة وِحدة؟ فالسديم، بعيدٌ عن تصوّر العدَم الجميل، ثابتٌ عند الراحة، يتكاثر تبعاً لضراوة العنف الوحشيّ من دون بدء أو نهاية: إنه توالد فراغ متكرّر، توالد انقطاع، تعدّد خارج الوحدة. بأيّ مسلك إذن تصبح الرواية السردية المهجورة بالنسبة لنا هي الحدث الذي يمرّ من خلاله ما قد يرمز (بالنسبة لنا) أنه التحريم الأساس؟ فالحقد المهتاج يدفع الأرض (بقوّة الحدّ الصارم) إلى قِرانٍ مع السديم؛ لكن هذه الضراوة -العنف الوحشيّ، عميق الغور- كان من قبل سمةً شنيعة تميّز ما ينتمي إلى السديم. ولذلك فإن الحقد السديميّ -لأنه نتيجة لها محلّ هنا- أو "التنافر" (الإثارة التي تكرّر نفسها بالطريق الخطأ) مع اللامحدود يغوي (يُلهي) الحدّ لاستجلابه أو يخسر نفسه بالسديم من دون أصل. لا يصبح التنافر، التكرار الخلفيّ، الذي يمتدّ بعيداً وراء أيّ مبدأ عدوانيّ، بأيّة حال، هو الأول في علاقته مع إيروس. فهو ينتمي بنسب لا ينبع منه شيء، رغماً عن أنه لا يكفّ عن التكاثر، في العمق الغائر، بما لا يملك الحقّ في اسم "الوجود". أما التنافر فيسبق الدافع دون أن يكون أصلياً، أو له علاقة بالحياة، الحبّ، التدمير، والموت، كما نحبّ أن نسمّي الأخير. التنافر: كلمة مزدوجة، منقسمة، بها قد نخطئ الرؤية لشكل "الصراع" الأول، لأن التنافر ينقسم فقط بأثرٍ من التكرار، الذي يتولّد بينما لا يولّد شيئاً: جيلٌ من دون توليد.

***



الأرض: السديم. السرد المهجور -تلك أسماء قوية لا تسمح بقيادها، وكما كانت في المظالم القديمة، تقع فريسةً لأكثرَ من إفراط متردّد، بعيداً عن معانينا- تروي بطريقة عاطفية، بتوافقات أو تجاورات للأجزاء، السرد الغابر. هذه الأسماء، والتي ليست، لو تكلّمنا بصرامة، مصطلحات للقوّة، بل قرارات مفاجئة، لا تسمّي شيئاً، ربما: تُلطّفها ترجماتنا، بترجمتها أقلّ من إعادة استعمالها. ماذا سيجلب عليها السرد؟ قد يُروَى حقٌّ غامض، مثل الانتهاك الذي هو حقٌّ بغير حقّ، على الرغم من أن المراسم تحدّ منه، تبثّه أو تُبلغه، دون أن يتأكّد كائن أنه مسموح به أم لا. السرد يولّد نفسه، راوياً للتوليدات: لا تُقال العاطفية منها للمرة الأولى، بل تُكرّر دائماً وفقاً للسرديّ منها أنها تُكرّر الأقربَ الذي لا يُقال قطّ؛ فهو يمضي من ثغرات إلى ثغرات، من شذرات إلى شذرات، نلفظها بشكل مختلف من دون أن نملكها، في النهاية، تدخّر أيّ سلطة القوة بالتكرار مع الحذر المنهك للتكرار. يتشكّل السرد العاطفيّ، الذي نخضع له كلنا، بتكرار نفسه حول أسماءَ غريبةٍ -هائلة، مبهمة، خارجة عن لغة المجتمع- لا يعرف المرء ماذا يُسمّى، ولا إن صحّ أن يوقفهم، فضلاً عن أنه على المرء أن يضمّنهم في فضاء السرد. وقد يكون للتكرار والأسماء الغريبة (أو الأسماء ببساطة، ما لا يُسمّى من الاسم)، احتمالان للعمل في السرد.  
لكن الأسماء بدورها توضع في لُعب ثنائية تُقصي كلّ قياس مشترك وتنتج على الجانبين سلسلة أو نسباً وفقاً للمعنى المزدوج من التكرار. تُسمّي هذه الأسماء، عموماً، ما نترجمه، فوراً، ولو كنا نحتفظ به في اللّغة الأصل. الأرض، جايا(3)، بقوّة أن نلِد وأن نولَد، لكن الأرض بما تشكّله قد تشكّلت قبلاً، وهي راسخةً وعاملةً بالترابط الحيّ. لم تكن الأرض بدايةً هي الجوهر، بل أقلّ من ذلك، فاسمها يُشار إليه بأسماء أصغر دائماً، ريا(4) وديميتر(5) وكورا(6)؛ حين يُسمِّي أحدهم ديميتر -المنطقة الأمّ- يُسمِّي آخر جايا، بمستوى من المرويات تعيش الأشياء التي تنغلق، تتطوّر مظاهرها وتصبح مروية في حوادث كثيرة؛ مع جايا لا نفقد موطئَ أقدامنا؛ حتى لغز التوليد عديم الوجه، المؤسّس على أشياء مفزعة، يبقى من موضوعه -الفضاء الثريّ- الذي به يتّخذ الشكل، في علاقة مع البيان المقدّس. وليست الحالة هكذا مع البائد. ليس للمرء أن يدعوه أصلياً، فلا شيء فيه مبتدع. الزمن، كما سمّاه كرونوس الأول، لا زمن لديه ليسمّي نفسه معاصراً للسديم القديم، لأن الزمن كان أولاً، من ثَمّ السديم، دون أسبقية في الزمن أو في القوة بعلاقتها مع الزمن، فهو يُهرّب الصدارة كما يُهرّب الأبديةَ.
وماذا، إذن، مع الأرض والسديم في السرد؟ الأرض، كقوة توليد أساساً، تولّد؛ كي يبدأ السديم من جديد. الأرض تولّد طبقاً للرغبة، وبعيداً عن الرغبة تنتج الوحدات الجميلة المسموح بها دائماً، حتى لو كانت غير مشروعة. ولا ينفتح السديم، على الأقلّ، من دون رغبة، من دون حبّ، بل ينسحب إلى نحو ضيق حول مدخله، يستنسخ نفسه بلا انقطاع في تكاثر يمضي من شبيه لشبيه، ليدمّره.
***

لكن السؤال يتشكّل من جديد: إن الأرض، تغرق في سديم أو إيريبوس(7)، بقوة من التنافر، الذي يفقد حقّه في أن يولّد (الشبيه بالشبيه) ليدخل في أنساب أليمة حيث يشكّل المختلفُ (الآخر) سلسلةً مع المختلفِ (الآخر)، بهيئة من الفصل المتضاعف. بين المسوخ التي تولَد من هذا الاتحاد التعيس وما تُشير إليه كالأطفال أو مشتقّاتها من السديم ثمة اختلاف هو نفسه كما بين الكائنات الحية، الحية بشكلٍ شائهٍ، ونسل من القوَى، الموجودة خارج الكائن وغير الكائن، مما لا يمكن معه القول إنه ممنوع، حتى لو كانت أسماء للإقصاء الذي يتهرّب من كلّ قانون: كاوس، إيريبوس، تارتاروس(8)، الليل (نفسه بوضعية مزدوجة وثلاثية: الليل الذي يفقد نفسه في الليل، الليل الذي يُشهِرُ النهار، ومنتصفُ الليل للاثنين). حين نتلقّى هذه الأسماء من السرد -الأسماء التي، مع أنها لا تخرج من واحد إلى آخر بفرع من النسب، إلا أنها تتقدّم نحونا، نحو تجربة محتملة- فنلحظ أنها تُسمّي ما لا يظهر، دون أن تنتمي إلى كون مقدّس، لها علاقة بالفضاء (بكلّ مظهر، كاوس الإغريقية والفضاء الإغريقيّ كلمتان مغلقتان بشكل خطير). إنه الزمن الذي يتوالد. ليس للفضاء جزء من النسب، فهو يتصاعد لكن إلى الآخر، سواء كان النبر غامضاً (فهو لا يكشف نفسه، إنه إيريبوس) أو في نزاع رنّان (تارتاروس، دمدمة متلعثمة همجية من دون نهاية، كلمات ليست كالكلمات).
السرد، عموماً، يجعلها مسموعة. ولا تزال اللغة القديمة صدىً أو أكثر للّغاتٍ غابرة، لغاتٍ موضوعة بشكل مؤسِّس، بلا شكّ، تحت سلطان حُرّاس الخطاب، مختلفة اعتماداً على هياكل الأرباب. أعلينا أن نؤوّلها من دون جدوى، جزئياً لأن لغاتٍ أخرى، تنغلق وتنفصل، لتخدمها كإبدالات، ولأنها، مثل أناكسمندر(9)، واضع "من دون حدّ"، ليمدّنا، بدلاً من الفضاء، بمصطلح لم يكن ذا دلالة ثرية، ولا ذا اشتقاق مدوِّخ، فيستعمله وفقاً للقواعد الجديدة التي تسمح بالتحوّلاتِ الأخرى بل توظّف أنواعاً أخرى من المستعملين الذين، أو هكذا نظنّ، يسهّلون علينا أن نمضي في دربنا. عندما نستدعي الوحدة بين الأرض والسديم أو مع مشتقاتهما إيريبوس، نتحدّث عن الانتهاك الأكبر، نفعل هذا بوضوح (التأويل هناك، في متناول أيدينا)، كما نلاحظ أن التحريم هنا (وهي كلمةٌ غيرُ ذات محلّ على الأقلّ) لا يبلغ علاقة النسيبِ بالنسيب (كما في غِشيانِ المَحارم) بل يميز لا علاقة الواحد مع الآخر أو، كما أقترحُ تعسّفياً، الزمان والفضاء.
يبقى هناك السرد نفسه. فهو يحمل المعضلةَ التي يلفظها. يقولُ أشياءَ مفزعةً لأنه يكرّرها: التكرار الذي، وفقاً لِلُعبة التكرار المزدوجة، يُهرّب سعيداً خطرَ الأصلِ لكنه يقع فريسةً لخطر التنافر، هذا الذي يدقّ محمولاً من دون قياسٍ لا وِفقاً للرغبة ولا وِفقاً للحياة. ولهذا فأيّ سرد هو دائماً خارج علاقة النسب التي هي مع ذلك موهبةٌ تُروَى. وليس السرد للسديم فهو مكان، ذو أمر غريب، معرّضٌ للخطر، لا يصبح بذاته سديمياً بل يتضمّن إقصاءً يهلّ مع السديم. يمرّ الانتهاك وينمحي بضربٍ من السرد؛ فهو ناقص دائماً ويسمح لنفسه دائماً أن يكون الصامت البعيد العائق لأن النقص هو طابعه للتوكيد فحسب. السرد وحده يمرّ بطريقِ السرد، علامة من الماضي لا تنتمي قطّ إلى الزمن (هل لأحد أن يقول هذا؟) كدعوة في "خطوة إلى الوراء" نحو الخارج، الذي يسحبنا، بالإقصاء، وهو منتَهكٌ ولم يُسَمّ بعد.   

الهوامش:
(1) Chaos: ربة الكون الأولى، في الأساطير الإغريقية، سبقت خلق كلّ شيء، ومعناها الظلام الدامس. (م)
(2) Eros:  إله الحبّ عند الإغريق، كيوبيد عند الرومان، قيل إله أصليّ، وقيل ابن أفروديت، ربة الجمال. (م)      
(3) Gaia: ابنة كاوس (السديم)، وتمثّل الأرض باعتبارها إلهةً، وكانت أم أورانوس وزوجته (السماء)، وكان من نسلهم العماليق وذوو العين الواحدة؛ السيكلوب. (م)
(4) Rhea: زوجة كرونوس وأم زيوس وإخوته، التهمهم كرونوس لكن ريا أنقذت زيوس من مصيره بأن خبّأته وأعطت كرونوس بدلاً منه حجراً ملفوفاً في غطاء صوفيّ. (م)
(5) Demeter: ربة الحبوب، برمز سنبلة القمح، ابنة كرونوس وريا وأم برسيفون (ربة العالم السفليّ)، تُنسب إليها أساطير مرعبة. (م)   
(6) Kora: اختطفها هاديس، ربّ الموتى، لتصبح زوجته، أخبرت الشمس أمها ديميتر، فأبغضت عالم الأرباب، فردّها زيوس، واتّفقت معها أمها بأن تعيش ثلث العام بين الموتى وثلثي العام بين الأحياء، وهكذا خُلقت الفصول في الأرض. (م)                  
(7) Erebus: يجسّد الظلام الدامس في العالم السفليّ، وقيل هو ابن كرونوس، ربّ الزمن. (م)   
(8) Tartarus: زوج جايا، يمثّل عقاب المخطئين ضمن مكان أبعد من العالم السفليّ، وقيل من أوائل الآلهة المخلوقين من السديم. (م)                                       
(9) Anaximander: عالم يونانيّ قديم (610/ 545 ق.م)، اعتقد أن الأرض أسطوانية موضوعة في الفضاء، وأن الحياة بدأت من الماء، والبشر تطوّروا من السمكة. (م)        

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق