ترجمة : سعيد بوخليط
موريس بلانشو |
عندما نعاين تقريباً كل الأدب الخيالي [يختلف في الواقع أقل مما
نفترض]، سيبدو أن النقد الحالي، يبتغي من جهة
الانغماس في الوعي بالذات. ومن جهة ثانية،
يرتهن لفعل يقوم على التماثل والتطابق مع الآخر.
نجد ثانية، لدى جميع النقاد تقريباً، نفس هاجس الوعي بالذات،
أكثر شفافية وعمقاً، ينفذون عبره إلى أقصى الحركة التي يسبرون بها أغوار وعي مغاير
لوعيهم، وربما مناقض كذلك، يعكس لديهم الرغبة في الوصول إلى ما وراء الوعي الداخلي،
حيث يتواصل استكشافهم داخل فضاء يتشكل بالجسد والأشياء والمادة. فضاء، لا يتم بلوغه،
بل، الدخول بفضل توسط أصحاب المقام، إذا جاز لنا القول.
أن تنتقد، يعني تفكر وتفكر في ذاتك. لكن أيضاً، لحساب الكتاب
الذي تقرأه، سواء دراسة أو رواية أو قصيدة. هكذا، تجد نفسك في خضم علاقة فعلية مع تجليات
ملموسة للكائن.
تتناول الذاتية والموضوعية، الذات والأشياء، هذا ما يكتشفه ويمارسه
الناقد تناوبياً، وبكيفية غير مختلفة جداً عن منافسه الشاعر أو الروائي.
ألا تقوم إمكانية للذهاب أبعد؟ ألا يمكننا الادعاء، أن الناقد المستلهم لتجربة اختبرها سابقاً شخص ثان، سيلقى
نفسه بين ثنايا حيز أكثر امتيازاً من هذا الآخر؟ إذا كان هدف كل نشاط أدبي، التوفيق
بين نزوعات متناقضة ظاهرياً. ألا تتبلور أبداً من فرصة، كي تتصالح لدى الناقد بدلاً
من المبدع؟.
غالباً، ما يتجلى بالنسبة للكاتب وقد بقي عمله في نهاية المطاف
مبعثراً، ملاذ أخير يتميز بالاستمرار والبقاء: أقصد تدخل الناقد، الذي بإعادة تناوله
للعمل، يمططه ويتممه، مما يضفي عليه وإن متأخراً، وحدة لم تكن متوقعة.
كيفما الأمر، فإن ما يسترعي الانتباه، رؤية أغلب النقاد يركزون
طموحهم صوب فعل للفكر يتناول ذاته والوجود، حضور الذات للذات، ثم حضورها تجاه مختلف
أشكال مثول العالم.
مع ذلك، هل الرغبة في الانصهار واقعية؟ هل حقاً ممكن، ما حلم
به على التوالي: ريفير (Riviére) ودوبو (DuBos) وريمون (Raymond) وبيغان (Béguin) وباشلار (Bachelard) وروسي (Rousset) وريشار (Richard)، بخصوص العلاقة الحميمية
بين الفكر والموضوع، ومن ثم هذا التداخل الملغي لأي مسافة؟ يصعب، مثلاً، تصور فكر غير
فكر جان بيير ريشار يريد أن يكون أقل تفكراً، ووفق نوعية مجهود نظري يهتدي بالناقد
كي يمتثل أكثر، مكتفياً بقبول إيحاءات المادة.
نقول، تتوخى القضية الجوهرية لقسم من النقد، العثور في الأدب
وبواسطة الأدب، على هذه الواقعة واللحظة المنفردتين للوجود. يمحو الفكر والوجود كل
تباعد، ثم ترتعد الذات والموضوع، وهما يلاحظان تقاربهما.
غير أن النقد الحديث، قد يكون أيضاً نقيضاً لهذا التوفيق. فمن
يتوق إلى الحميمية، يضمرغالباً كذلك تجربة ثاقبة عن الغياب. إذا سعت أسماء كـ ريمون
وباشلار وريشار، تحقيق تماثل مزدوج بين الناقد والكاتب، ثم الأدب والوجود.
فهناك نموذج نقدي آخر، يتشابه بنوع من الغرابة مع الاتجاه الأول، لكن بإشارة مناقضة
تستهدف مع كل سطر تقريباً دحض كل تماثل والإقرار فقط بحضور لـ: المسافة.
المقصود بهذا المعنى، نقد موريس بلانشو. ناقد، مثل السابقين،
يوجهه هدف واحد يكمن في تحقيق ”مقاربة” نهائية، لكنه يمضي من خلال إبعاد دائم لموضوعه،
فيبدو كأنه مجبر كي يتابع بغير توقف سبيله، دون أن يدنو بخطوة من حيز الالتئام، رغم
تطلعه إليه وطموحه نحوه.
هكذا، يبدأ كل شيء عند بلانشو، بالغياب: «عندما
أتكلم، فإني لا أنفي فقط وجود ما أقوله. لكن، أيضاً كينونة صاحب القول: إذا أوحى كلامي،
بلا-وجود الكائن، فإنه يثبت بهذا الإظهار، تبلوره
بناء على انتفاء صانعه، وقدرته على الابتعاد عن ذاته، ويصير كائناً آخر غير
كيانه. إذن، لكي تبدأ اللغة الحقيقية، ينبغي على الحياة التي ستحمل هذه اللغة، تأكيد
تجربة عدمها». تجربة، عدمي ولا وجودي.
ما إن أتكلم وأفكر وأتملى، حتى أتبين أني لست أنا أو لن أكون
قطعاً كذلك. كلامي، ينتزع مني الوجود. إنه الكوجيطو المفارق، الذي وضعه بلانشو،
محل الكوجيطو الديكارتي: إذا فكرت، فلن أكون أبداً. وبدل الأنا، أقامت الكلمات نوعاً
من اللا-ذات،واحتل مكاني شبحي الخاص، فابتعدت لانهائياً عن ذاتي: «أول حركة
سلب جوهري ومصيري، بحيث أنفصل عن ذاتي أبدياً، مع عجزي عن الانخراط في أي شيء، ثم أفسح المجال لذاك الصمت
الأصلي، منساباً بيني وما سيقع لي. صمت الوعي، الذي يحدث معه خلال كل لحظة من لحظاتي،
معنى سلبني إياه».
هذا ما يؤسس عند بلانشو، المفعول الحتمي للغة. تموضع بدل
ماهي عليه، شيئاً لم تكن عليه قط. مع ذلك، تحيل دائماً على الكائن. الأدب، نشاط يمكن
القول عنه، متعلق بما بعد الوفاة، يمنح نفسه مهمة إضفاء دلالة على من توقف وجوده، أو
بالمعنى ذاته، ينهي وجود من يدعي أنه يضفي عليه معنى. هكذا، لاينحصرفقط تقويض اللغة
للوجود، عند كينونة الشخص المتكلم، بل يمتد إلى كل مكان، تصيب جميع من تكلم بها، وتلحق
الضرر بمختلف من تحول إلى أفكار وكلمات.
رويداً رويداً، يلقى الوجود نفسه خاضعاً في مجمله لخاصية التعديم،
التي تجعل من الكلام بخلاف اللوغوس المسيحي، قوة مضادة للإبداع أساساً. كما، لو أن
العالم الذي أتلفته، أضحى “مذبحة ضخمة” أو”طوفان أولي”، فانعدمت حقيقته، لكنه لازال
يلتمس تفسيراً لوجوده السابق.
هكذا، سيضطر حقاً، من صمد أمام النكبة، الالتزام كي يقدم مبررات
وجوده، وأن يكون هذا الكائن تحديداً، ما لم يستطعه العالم المتهدم. أيضاً، وإن بكيفية
أكثر جذرية مقارنة مع بروست (Proust)، سيبدو موريس بلانشو
مثل مؤلف ”الزمن الضائع”، رجلاً منكباً بلا كلل، كي يتابع بحثه عن حقيقة، انفصل عنها
بكيفية تشبه موتاً سابقاً.
استقصاء، لا يمكننا أبداً وصفه بالعبثي كلياً، مادام كل قول جديد
قابل أن يعيد إلى ماهو ضائع إحدى جوانبه، لكنه بحث غير مكتمل قطعاً، وليس في وسعه أن
يكون غير ذلك، بحيث تتمثل أقصى ممكنات الكلام، في استحضار ظل الواقع والعمل على تبيانه
في مرآة، كما هو وجه ”إيلين” (Héléne) في “فاوست” (Faust).
لم ينجز إذن، الأدب وظيفته وحتماً لن ينهيها. يعتبر كل عمل، كلاماً
يستعيده كاتب ما باستمرار، في إطار سلسلة أعمال: إنها مهمة سيزيفية. والناقد، يتمثل
أكثر من شخص غيره، القدرة المصيرية للتكرار الملازم لكل تعبير أدبي. حين يردده، فلن
يعثر على شيء في جعبته، غير ما قيل آنفاً، مستسلماً كي يجتر مرة أخرى منظومة الكلمات
المتلازمة، حيث سلطتها المدمرة لانهائية، وقوتها المبدعة منعدمة تقريباً.
كيف، يمكن مع مفهوم كهذا للأدب، تأسس مجال للتماثل؟ نقد بلانشو،
لايتطابق أبداً، ولن يتأتى له الأمر، حتى لو أراد. كل مايسعه القيام به، مضاغفة المسافات
بين الفكر والواقع: «لا علاقة تجمعنا بالآخر، ولا نتواصل تماماً مع شخص،
إلاّ إذا امتلكنا ليس فقط ماهو عليه، بل مايبعدنا عنه، أو بالأحرى، غيابه بدلاً عن
حضوره».
يشغل الناقد، الجانب الثاني من زجاج النافذة، يسائل دون سماعه
جواباً، ثم لا ينتظر جواباً. لأن سؤاله، وإن استُمع إليه، يستحيل فهمه. النتيجة الجوهرية
لنقد كهذا، تظهر فضاء العزلة المطلقة المحيطة بالحياة البشرية. لذا، لم يتم قطعاً،
مع ناقد غير بلانشو، دفع الكائنات والأشخاص نحو إقصاء بهذا القدر من التصلب.
بيد، أنه إبعاد، له حيز داخل محيط شفاف بامتياز.
وبفضل المسافة، وليس نكاية فيها، تتشكل علاقة بين فكر وموضوع
يمنحه ذاته. المُدْرَك، أُدرك عن بعد، في سياق وضوح وصفاء الانفصال.
هي شفافية رفيعة، تضيء صفحات بلانشو: نوع من الفهم اليائس،
يعزى إلى المنسحب من كل شيء سوى المعرفة، وحيث بالغياب وحده نعثر على إمكانية التصالح:
«إحدى
الهواجس التي يكتشفها الناقد في ذاته، كالتالي: لكي تكون القراءة واقعية وتحافظ على
ما يجب أن تبقي عليه، أي سالبة كلياً، ألا ينبغي للمسافة بين العمل وقارئه، أن تظل
شاسعة قدر ما يمكنها المدى؟ ألا يكون التواصل حقيقياً، قياساً للحالة الوحيدة التي
يتحقق فيها انطلاقاً من مكان بعيد لانهائي؟».
انطلاقاً من إيمانه بالجذرية السالبة للغة، سيشتغل مجمل المشروع
النقدي لدى بلانشو، وفق منحى يقينية مقلوبة، وكليانية وقعت تحت تأثير علامة
ناقص. عمل، يود البقاء مجرّد نقد، متأهباً كي يستعيد ما قاله الآخر. لكنه، يردده عن
بعد ويمتدّ به صوب غايته وكذا أصوله، يطوره ويطويه. إنه في الوقت نفسه، هنا وهناك.
بالتالي،نصادف عند بلانشو، انتقالاً ثابتاً من الفكر النقدي إلى التأمل الشخصي.
يرجعه، كل عمل إلى ذاته، ويلزمه كل فكر يختلف عن فكره، كي يتابع هذا الاختلاف في كنهه.
تبدأ فعلاً، كل دراسة نقدية لـ بلانشو، بكونها نقدية،
لكنها تصير كذلك أقلّ فأقلّ. مسار، ينتقل عبره الناقد، من الفعل الذهني للآخر إلى عالم
مغاير، حميمي كلياً لذاته، هو فقط من يستوعبه ويسبر أغواره. لكن، ماهذا العالم الجديد،
إن لم يكن عالم فكر مبدع حقاً؟
لايعتبر، موريس بلانشو مجرد ناقد كبير في المقام الأول،
لكنه فضلاً عن هذا في مرتبة ثانية، وعلى مستوى نطاق أكثر انزواء، يجسد روائياً عظيماً.
بذلك، يعكس بالأحرى مسار ناقد وروائي على التوالي. يعني الحكم أولاً، إدراكه بكيفية
استثنائية العناصرالمحدّدة لفن الرواية. مقتضياته بهذا الخصوص، تبدو أيضاً الأكثر صرامة
من بين كل التي تبناها الروائيون المعاصرون.
لا تتوخى رواية بلانشو، تخيل وهيكلة أحداث وشخصيات وفضاءات،
بالكيفية التي نريد ومقاطع زائدة تنتمي لحياة، أدرجها الروائي ضمن نسيج عالم معطى آنفاً
ومسلماً به. روايات من هذا القبيل، يظنها بلانشو بلا قيمة تذكر مثل قصائد تخلو
من الشاعرية. بالتأكيد هو مبدع، مسكون بهاجس نموذج مثالي لكتابة روائية، تؤسس لديه
في ميدان الخيال معادلاً لما نسميه بقصيدة خالصة.
يريد بلانشو، خلق رواية تعيد ”مساءلة أي شيء”، ومجبرة
على أن تخلق [وتستكشف] وفق تجربتها الخاصة وكذا الوسط الذي تتبلور داخله: رواية، تصير
تعريفياً، محض عمل خيالي، بغير استنادها على عالم معروف ومألوف.
منذ الوهلة الأولى، تشعر قارئها بالاغتراب، فتدخله ثم تهيم به
وسط فضاءات غريبة إلى جوار كائنات لايعرفها تقريباً، يكابد صعوبات جمّة في التواصل
معها: عالم غريب وأجنبي، يجهل قوانينه وعاداته ولغته. لكن، من جهة ثانية، يتحتم أن
لا يتبدى له هذا العالم مبهماً، بل يستشف إمكانية فهمه. يلزم الرواية، أن ترتكز بالتدقيق
على مجهود فكر فضولي [حسناً وخطأ، وبعملية متكررة باستمرار] كي يقيم مع هذا العالم
نمطاً للعلاقات.
عالم عجائبي، يفهم بطريقة مغايرة، لأنه في الآن ذاته: معتم، شفاف،
خرافي ومألوف. سيكون في العمق، وبكلّ بساطة عالم أحلامنا.أو أيضاً، العالم مثلما يتجلى
مع ظاهرة اعتلال الذاكرة، بمعنى تحوّله إلى عالم ثان، يشكل: «دحضاً
وتحويراً للعالم الواقعي».
إجمالاً، رواية كهاته: «تبلغ إبداعاً
أسطورياً»، مثل نصوص كافكا وميلفيل ثم كتاب”Igitur” لـ مالارميه، أو
”Maldoror” لصاحبه لوتريامون. تنسب هذه الرواية، إلى الكاتب والقارئ وكذا
البطل، مهمّة كليّة، ترتكز على تفكيك اللغز الجوهري، ثم منح المجموع دلالته المطلقة.
لكن، بما أن هذه الدلالة، ليست دائماً ملائمة، مادامت باستمرار جزئية ومتجاوزة وقابلة
للتقويض، نخلص أن المضطر للبحث عنها، ملزم باستمرار كي يخلق من جديد، إن لم تكن الحقيقة
فعلى الأقل معقولية ما يراه.
من هنا، مضامين روايات هذا النمط، بخصوص تعدد المحاولات والالتماسات
والسباقات اللانهائية، «على امتداد الممرات الفارغة» ومختلف
«الفضاءات
التي نعبرها سدى»، أما الزمان المنساب داخلها والقائم على وقائع متتالية
ومتساوية بدقة، لا تنطوي قطعاً أي واحدة منها على حل نهائي، فينبغي حقاً من لحظة إلى
أخرى أن ينتج ثانية نفس الأسئلة وخيبات الأمل. هكذا، يبرز العالم الدهليزي، الذي تمسحه
شخصيات روايات بلانشو، الخارقة جداً. عالم يعاين سرمدياً، مع التشكيك فيه عند
كل مرة، حكايات لها كبطل -أو ضحايا- «شخصيات
تائهة تلهث وراء اللا-شيء».
رواية، تعيش إخفاقاً أبدياً، يشهد على تعذر تشييد الفكر الإنساني،
لعالم دال. إنها: «تراجيدية فكر مبدع، متملياً بجزع هادئ انهياره الذاتي». الأسطورة،
بعيداً على كونها كما كانت في زمنها أساطير دينية تليدة، وصورة عن حقيقة روحية مؤثرة
ومبجلة، تصير هنا على النقيض رمزاً لغياب الحقيقة، مما يجعل كل ما نراه ونفكر فيه ونقوله،
يتضح بفعل كوننا نراه ونفكر فيه ونعبر عنه بكيفية لاواقعية. إذن، أسطورية.
ليست رواية بلانشو، حتى خيالاً، بل محضراً عن الخاصية
الخيالية، لما يسرده. ومثل قصيدة لـ مالارميه،هي شكل مقعر لغياب. صيغ ووقائع
ومشاهد أو أشخاص، الجميع في هذا البناء يعود إلى الإسراف في أكذوبة مفصلة بدقة متناهية،
لايبقى منها أخيراً، غير ذكرى باهتة، مثل قضية نحرس عليها في أعمق درج للفكر، لم نحسم
أمرها تماماً رغم أننا طويناها نهائيا.
نسبياً، على منوال ساد (Sade)، لكن بغير التصلب الشديد
الذي تابع به الأخير إنجاز مذابحه، تظهر روايات بلانشو، تعديماً متتالياً لكل
حياة. لكنه أيضاً، حكم غير دقيق لأنه أساساً لم يكن في الواقع ضحاياه أحياء. لم تتدفق،
أي قطرة دم. كما، يفتقد أي جسد هنا على همّة أن يضيع. ومنذ دائماً، هذه الكائنات مهيأة
سلفاً دون أن تكون كذلك، نحو موت لا يقل وهمية عن وجودها.
ليس الموت، مجرد حدث أخير، ينهي جميع روايات بلانشو، لكنه
“الفاجعة الأصيلة”، موضوع الموضوعات، و نواة الحبكة وكذا الشخص الوحيد أو بشكل أدق
“نقيض الشخصية” الذي نتكلم عنه.
يملأ الموت مختلف تضمينات هاته الروايات، أو بالأحرى لا يملؤها،
بل يفرغها لأن الموت ليس كياناً مادياً، لكنه غياب. روايات تتغيا بالضبط، جعل هذا الغياب
مرئياً: «أنا نفسي، يقول توماس لوبسكور، قد
صرت خالقاً ضد فعل الخلق». إذن الرؤية الروائية لدى
موريس بلانشو، خلق للا-شيء. وروايته، بمثابة جرس هوائي وآلة لتبيان العدم.
ليس عشق بلانشو
للعدم، من يحثه على الهوس به. لكن ببساطة، يثابر قصد إعطائه موقعاً عاماً، مثلما أن
المؤمنين يلتزمون بجعل الله كلي الحضور في كل مكان. العدم، عنصر سالب، ينبعث ثانية
بالضرورة بين فواصل الحقائق الأكيدة، مع استعداده الدائم كي يحتل مقامها لما تغيب،
وهي دائماً تغيب.
بين طيات المتن النصي الروائي لـ بلانشو، بوسع كل واحد
من الشخصيات أن يقول عن الآخر، نفس ما تصرح به امرأة لعشيقها: «نظراتك
تحمل نحوي دائماً الانطباع، بأني غائبة بالنسبة إليك، وبدلاً من تأملك لي، فإنك تنسج
مع أخرى علاقات استبعدت أنا منها». إجمالاً، تسود صفحات هذه
الروايات، عدم اتفاق من نوع استثنائي خطير. النظرة، الكلام ثم الفكر، لها كمفعول اختزال
الكائنات إلى شفافية ما، تشكل حائلاً أمام
أي نشاط معرفي آخر، عن الالتصاق بها.
نحلم أمام أسماك معينة، وضاءة بشكل رائع. موقف، يشعرنا بالعجز
حيال معرفة كيفية تركيز نظرنا عليها. فالأخير، يصيبه الإفراط.
الروائي مثل الناقد، لا يختلف عن تلك الشخصية الحكائية، التي
تستعد للرحيل. لكن، يستحيل عليه بالمطلق وضع أقدامه، سوى على مسافة لانهائية تتجاوز
المنطقة التي ابتغى التوجه إليها.
مع ذلك، أهم خطأ بهذا الخصوص، يكمن في اعتبار هذه الروايات أعمالاً،
تقوم على السلب المحض. إنها، بالمطلق ليست مجرد لعب فلسفي يطرح كموضوع وهمية الوجود.
بل على العكس، تطمح جل نصوص بلانشو إلى بلوغ تجربة مباشرة وجوهرية ويقينية لـ
«الوجود
كما هو».
بناء عليه، لا تظهر كمعادل لقصيدة ولامحضر فلسفي عن تضليل، بل
كـ ”وسيلة للاكتشاف” والمجال الأكثر أصالة لتجربة الفكر. أيضاً، من غير الصائب هنا،
مقارنة بلانشو بـ كافكا أو ميلفيل،أي أساتذة الرواية الأسطورية
الغريبة. لكن، مع مؤلفي روايات، مثل: ”La princesse
de cléves“ (مدام
دولافاييت)، و”Adolphe” (بنيامين كونستان)، ثم”La
Nausée“ (جان
بول سارتر)، بمعنى أساتذة فرنسيين.
يرتبط موريس بلانشو، بأعلام تيار روائي أكثر ميتافيزيقية،
وأقل تخيلاً أو نزوعاً نحو التحليل النفسي. ترسم الرواية لديهم، خيال فكر يمكن بواسطته
لهذا الفكر الانخراط افتراضياً وكذا واقعياً في إطار مسار معين للفكر، يستشرف أفق هذا
الشيء الخفي والمذهل، المتمثل في مماهاة الحقيقة.
مقارنة مع جميع الروائيين، قد يبدو بلانشو أكثرهم تمرداً
عن الواقع. غير أنه، في المقام نفسه، لا يوجد
من يجاريه صدقاً. الرواية في اعتقاده، خطاب ومنهج. خطاب منهجي، بنبرة أساساً ديكارتية،
ينكشف بواسطته ابتذال ما هو وجداني، بحيث مع تدمير مفرط للكائن الظاهر، ينبثق أخيراً
كما في الكوجيطو الديكارتي، الوعي الجلي لـ «واقعة
أن توجد».
تنكشف رواية الوعي، مع منجزها الأسمى كمالاً، من خلال ما يشكل
حتى الآن رائعة بلانشو: النسخة الثانية من عمله: ”Thomas
L’obscur”. ولكي نفهم
دلالته، ليس ضرورياً قراءة كبار المفكرين الوجوديين، مع أن هذا النص يجد نفسه متشبعا
بفكر هوسرل وهيدغر، ثم خاصة ليفيناس.
يبقى الجوهري، أن نتناول الوعي عند بلانشو، باعتباره منفصلاً
عن أي شيء بل وذاته. فلن يقوم بالمطلق، غير وعي بابتعاده الأبدي بخصوص كل ماهو عليه.
فقط، إذا لم تكن مع واقعة الوجود، دليل حضور يتعذر اختزاله، وإثبات متواصل يبرز خلف
كل سلب خاص لحيز متفرد ومحور بغير امتداد ولازمان، حيث: «ينتفي
وجود تيمات متعارضة»، ثم يتلاقى الموضوعي بالذاتي. فضاء وحيد متميز،
قد يتموضع في إطاره ماهو حقيقي مع إقرارنا به.
يروم الروائي عند بلانشو، نحو إدراك هذه التجربة. لما
تتحقق، لن يستمر شيئاً، غير الوعي بوجود شخصي أو غير شخصي على السواء، يتموضع في الخارج
والداخل، دائم القرب أو البعد، هو ليس بوجود للآخر كآخر، ولا الأنا باعتبارها أنا،
ولا الأشياء كأشياء [بخصوص إشكالية العلاقة مع الأشياء، يكمن الاختلاف بين بلانشو
وسارتر، في الآتي: يبحث، أحدهما عن ملامسة حدس الشيء في ذاته وحقيقته الخالصة.
بينما الآخر، فيحاول الأمر، عبر حقيقته كما تضمرها الكائنات. مع تجربة الغثيان السارتري،
ينبني الوعي بالذات على وعي بالموضوع في ذاته. أما عند بلانشو، فيلغى كوعي للأنا،
لكن ليس كوعي كائن غير متميز] إنه ببساطة، ماهو هنا.
كليانية، يظهرها الوعي، يستحيل وصفها قدر: «اختزاله
إلى لاشيء بالإنكار». كليانية، تبقى حضوراً مبهماً، ستغدو حقيقة أولى
لم يحدث أن وعى بها الفكر، ثم الأخيرة التي بوسعه دائماً بلوغها، لكنها لا تنكشف له
أبداً إلا في إطار نوع من الرعب والجزع: الشعور بالهناك. شعور، يتجلى مثلاً بين طيات
مشهد متفرد للخالق، فيبدو البطل شاهداً على انبثاق المادة نفسها: «بغتة وبالقرب
جداً مني، وقعت فرقعة خفيفة، استعصى علي فهمها، تشبه بداية ابتلاع بطيء. أحدثت أثراً،
ودوامة واسعة تتجمع من مختلف نقط الضخامة، ثم خلال لحظة، ستلامس قوة جنونية ترتفع بوثبة
منفِّرة. وثبة شيء مادي، متصلب في وجوده الجامد…. أرى شيئاً ينساب ويتجمد ثانية ثم
ينساب مرّة أخرى، ولا شيء فيه يتحرك، كل حركة كانت فتوراً مطلقاً. هذه التجاعيد والنتوءات،
والمساحة ذات الطين اليابس، هي باطنه المنهار. أما التراكم الترابي، فيمثل وجهاً خارجياً
له بلا شكل. إنه، لا يبدأ من أي مكان ولا ينتهي عند أي جهة. يتجمد دون اكتراث في أي
زاوية، والشكل الذي بالكاد يستشف، سيتمدد ويسقط ثانية وسط عجين، بحيث لا يمكن قطعاً
للأعين الخروج منه».
تلك، هي تجربة الوجود العاري: «الوجود
دون أن يوجد»، الذي حاول بلانشو أن يوقظ داخلنا الإحساس
به، لأنه ربما الشعور الوحيد الأصيل الذي نملكه. شعور، إنساني جوهري، يظل قوة دافعة
متوارية لأغلب مغامراتنا الروحية. هكذا، سنفهم أن الرواية لدى بلانشو، تمثل
شكلاً أدبياً وفلسفياً أكثر تحذلقاً مثل النقد نفسه، لأن الرواية بما هي بالضبط خيال،
فبوسعها صياغة وسيلة ملائمة ومباشرة، كي تختزل إلى الخيالي كل الخصوصيات التي تمنعنا
من ملاحظة اللا-شخصي ثم يواصل الوجود انبثاقه الثاني.
هناك، ثم دائماً هناك، شيء ما. يستمر الوعي، في الإقرار به. إنها
مهمته الأساسية، ونشاطه الأولي والأخير. حيز، تُفهمنا إياه رواية بلانشو، بأقصى
ما يمكن من الوضوح، وهي تتبنى تقشفاً يحذف
كل ماهو ثانوي، ثم بمقتضاه يجد الوعي نفسه مجابها بوجود أبدي.
أبدية أيضاً، عجيبة جداً، بل وفظيعة تقريباً، مادامت ليست بسرمدية
شخص ما، لكنها فقط الاستحالة المنطقية، أن تلاحظ بشكل آخر واقعة ما حتى تلك المتعلقة
بالموت، إلا عبر فعل للوعي.
كذلك، على العكس مما يحدث عند هيدغر وسارتر، سيرتبط
الوعي لدى بلانشو، بمأساة مجهولة لا نعلمها، ومجبر كي يتابع بكيفية لانهائية،
حول وجود خالد، تأملاً نفسه يتصف بالخلود. بالتالي، فرواية بلانشو بمثابة فعل
يتكرر باستمرار، أو كما في الفلسفة الأسطورية لـ ”Boehme”، ستتواصل سواء أبعد من كل
حياة أو باطنها، حركة تدور وتتكرر تقريباً، لا يمكنها الانفلات من “دائرة التحولات”.
هنا، لا نكف أبداً عن الموت والحياة. ودائماً: «يبدأ مرة
أخرى كل شيء، انطلاقاً من لاشيء».
تجربة، إذن باستمرارمحبطة. لكن مع ذلك، ليس من يأس قطعي بخصوص
“توقف الموت”، مادام الموت لايصد شيئاً، ولأنه لا يوجد موت أو نهاية.
يلج بنا، نص بلانشو التأملي وكذا الروائي، إلى نوع من
الجهنمية. جهنم، تفتقد حقاً ناراً مركزية.
لذا، فنصيب النار فيها منعدم القيمة، مقابل ارتفاع مستوى البرودة كبير. وربما، ما يبعث
أكثر على الدهشة، نحو هذا العمل المتجمد بكيفية إرادية، هو برودته ذاتها. برودة، ليست
فقط كتلك التي لفكر أدرك العري الأكثر قساوة كما الحال مع “المذهب الجنسيني”، والضعف
الأعتى تعنتاً. لكنها، برودة متعلقة أيضاً بالفاقة المحسوبة للغة تدافع عن نفسها، بكونها
ليس لها أي نبرة شخصية: «ولا ينقصها غير إيجاد أسلوبها»، كما
قال سابقاً سارتر عن بلانشو.
كل شيء، مضبوط. مختلف التجليات الأسلوبية، وأي إشارة أسلوبية
شخصية، ستغدو لدى بلانشو معطى فائضاً. ينبغي على لغته، مثل الباقي، أن تختزل
إلى مجرد عراء انزلاق يزحف.
جل اللبنات، التي تصنع سحر أسلوب، على حد قول بودلير:
«كثافة،
رنين، شفافية ارتجاج، عمق ثم رنين في المكان
والزمان» غائبة هنا بشكل مقصود، إلاّ الشفافية مع أنها لا
تأخذ صيغة مؤكدة. خاصية، تلعب دوراً محورياً جداً في أسلوب بلانشو، ستقوم لديه
على مجرد انتشار عام للضوء.
يرتكز تقريباً، جمال هذه اللغة على انتفاء لكل الجماليات المعتادة،
ولكل ما سيجبرها على أن تكون تقريباً شاحبة بدون لون ولا طعم ولا طابع أو حيوية، بذلك
تنجح في تجسيد المناحي السلبية لعالم تجرد
من شتى مظاهره.
نص بلانشو مقفر، كئيب جداً مقارنة مع كل الآداب. مع ذلك،هو
نص غير فجائعي وغير مشؤوم. يميزه، أساساً صفاء جوهري، لا تظهر معه قط التعاسة كواقعة
حاضرة، بل كتفسير وحيد لحالة هي ذاتها أبعد من التعاسة، هناك وقد أقامت دائماً ثقابة
الفكر سيادتها الاستثنائية. بالتالي، السكون النادر، الذي نتحسسه.
أبداً، سيستمر الفكر مشتغلاً بين صفحات كتابة بلانشو،
بيد أنه سرمدياً في المكان عينه، يشبه آلة مدهونة جدا بالزيت. لاشيء يتطور أو “يتقهقر”،
تدور دواليب الآلة ثم تدور.
يزاول، النشاط الفكري دورة لانهائية. لكن، ماذا بوسعه فعله غير
هذا؟ ألا يدهش الأمر ويبهر، في الوقت ذاته؟ مع أنه، يظهر في هذا الحالة، مثابرته على الدوران؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق