الجمعة، 24 يوليو 2015

الفكر الرحّال: جيل دولوز

ترجمة: حسين عجة

Nietzsche by Lunatic Asylum
إذا ما سأل أحدهم ما الذي أصبح عليه نيتشه اليوم، نعرف تماماً نحو منْ ينبغي التوجّه. يجب التوجّه إلى الشباب الذين يبدأون بقراءة نيتشه، والذين يكتشفون نيتشه. فنحن، بغالبيتنا، قد هرمنا. ما الذي يكتشفه شاب حالياً فيه ولم يكتشفه جيلي من قبل، أو ما لم تكتشفه الأجيال التي سبقته؟ كيف يمكن فهم مسألة شعور شباب اليوم من الموسيقين بأهمية نيتشه، بالرغم من أنهم لا ينتجون موسيقى بالمعنى الذي كان ينتجه فيها نيتشه؟ وكيف يمكننا أيضاً تعليل شعور شباب من الرسامين، والسينمائيين بأهمية نيتشه؟ ما الذي يحدث، أي ما هو إداركهم لـ نيتشه؟ كلّ ما نستطيع الإشارة إليه، عند اللزوم، ومن الخارج، هو أن طريقة نيتشه قد طالبت له نفسه، ولقرائه، من معاصريه ومن أؤلئك الذين سيأتون مستقبلاً، بنوع من حق التفسير المعكوس (contresens). إنها ليست أية مطالبة، ما دامت تتمتع بمعايير خفية، لكنها نوع من الحق في التفسير المعكوس الذي أرغب في توضيحه، بعد قليل، والذي يمنعنا من التعقيب على نيتشه كما يُعقب المرء على ديكارت، أو هيغل. أتساءل مع نفسي: منْ هو الشاب النيتشويّ اليوم؟ هل هو ذلك الذي يَعدُّ عملاً عن نيتشه؟ هذا ممكن. أو أنه ذلك الذي يولّدُ، طواعية أو مرغماً، مقولات نيتشوية مُتفردة (énoncés singulièrement nietzschéen)، عبر نشاط ما، انفعال بعينه، أو ضمن تجربة ما؟ ذلك ما يحدث أيضاً. إن أحد النصوص الأكثر جمالاً وعمقاً بنيتشويته، حسب معرفتي، هو نص رشارد دوشايس (Richard Deshayes) الذي كتب فيه «العيش، ليس البقاء»، وذلك قبيل تلقيه لقنبلة أثناء مظاهرة. لا يُقصي أحد الأمرين الآخر. إذ قد يكتب فرد ما عن نيتشه، ومن ثم ينتج في خضم التجربة مقولات نيتشوية.

نشعرُ بكلّ المخاطر التي تتربص بنا إزاء هذا السؤال: منْ هو نيتشه اليوم؟ خطر الدوغماتية ["الشباب معنا"]. خطر أبويّ [نصيحة لقارىء شاب لـ نيتشه...]. وهناك خطر التركيب المقيت (abominable synthèse). يُؤخذ الثالوث التالي كفجر لثقافتنا المعاصرة: نيتشه، فرويد، ماركس. وليس من الأهمية معرفة من هو الذي شرع أولاً. يمكن أن يكون ماركس وفرويد فجر ثقافتنا، لكن نيتشه شيء مُغاير تماماً، فهو فجر ثقافة-ضد (contre-culture). من الواضح بأن المجتمع المعاصر لا يتحرك إنطلاقاً من رموز. إنه مجتمع يعمل فوق أسس أخرى. والحالة هذه، إذا ما تأملنا ماركس وفرويد، ليس إنطلاقاً من نصوصهم، ولكن بالأحرى من ناحية صيرورة الماركسية والفرويدية، سوف نلاحظ بأنهما شرعا، بصورة متناقضة، بنوع من محاولة ترميز جديدة (recodage): ترميز ثان للدولة، بالنسبة للماركسية [«أنت مريض من الدولة، وتشفيك الدولة»، لأنها لن تكون نفس الدولة]-وإعادة ترميز العائلة [مريض من العائلة، وما يشفيك هو العائلة، التي لن تكون نفس العائلة]. ذلك ما يُؤسس حقاً، ضمن أفق ثقافتنا، الماركسية والتحليل النفسي، باعتبارهما بيروقراطيتين جذريتين، احداهما عامة، والأخرى خاصة تتمثل بالعمل على إعادة ترميز ما لا يكف عن الإفلات من الترميز، ضمن ذلك الأفق. على العكس من هذا، لا نعثر هناك أبداً على مشروع نيتشه. تكمن مشكلته في مكان بعيد آخر. فعبر كلّ الترميزات، إنّ كانت في الماضي، الحاضر، أو المستقبل، يحاول تمرير ذلك الشيء الذي لم يدع ولن يدع نفسه يخضع للترميز. جعله يمر من فوق جسد جديد (nouveau corps)، إبداع جسد يمكن أن يعبر فوقه ويتدفق: جسد قد يكون جسدنا، جسد الأرض، أو الكتابة...


نحن نعرف الأدوات الكبرى للترميز. كذلك قلّما تتنوع المجتمعات، كما ليس في حوزتها الكثير من وسائل الترميز. نعرف ثلاثة رئيسية منها: القانون، العقد والمؤسسة. ونحن نجدها، على سبيل المثال، في العلاقة التي تربط، أو تلك التي كانت تربط، الأفراد بالكتب. هناك كتب للقانون، حيث تمر علاقة القارىء بالكتاب عبر القانون. من جانب آخر، وبشكل ملحوظ تُسمى تلك الكتب، بالرموز، أو الكتب المُقدسة (livres sacrés). وثمة أيضاً كتب يتمّ التعامل معها باعتبارها عقد (contrat)، علاقة تعاقدية برجوازية. وهذا ما يكمن في أساس الأدب العلماني (littérature laïque) وعلاقة بيع وشراء الكتاب: أنا أشتري، وأنتَ توفر لي ما أقرأه –علاقة تعاقدية تلف الجميع، المؤلف، الناشر، والقارىء. ثم هناك النوع الثالث من الكتب، الكتاب السياسي، الذي يُفضل أن يكون ثورياً، والذي يُقدّم نفسه باعتباره كتاباً للمؤسسات، أما لمؤسسات الحاضر أو لمؤسسات المستقبل. وها أننا نحصل عل كل أنواع الخلط الممكنة: كتب تعاقدية أو مؤسساتية يجري التعامل معها كونها كتب مقدسة... الخ. ذلك لأن جميع أنماط الترميز حاضرة بقوة، ضمنية، أو نعثر على بعضها متداخلاً مع البعض الآخر. لنأخذ مثلاً آخر، وليكن مثل الجنون (la folie): لقد جرت عملية ترميز الجنون تحت الأشكال الثلاثة تلك. أولاً، شكل القانون، أي شكل المستشفى (hôpital)، المصح (l’asile)– ذلك هو الترميز القمعيّ، المحبس (l’enfermement)، المحبس القديم الذي يُؤمل أن يكون مستقبلاً مكان الخلاص حينما سيقول المجانين: «ذلك الزمن الجميل الذي كانوا يحبسوننا فيه، ذلك لأن اليوم تحدث أشياء أكثر رعباً منه». كما كان هناك نوع من الضربة الرائعة ألا وهي ضربة التحليل النفسي: كان من الواضح بأن ثمة أفراد أفلتوا من قبضة العلاقة التعاقدية البرجوازية بالشكل الذي ظهرت فيه ضمن المجال الطبي، وبأن أولئك الأفراد كانوا من المجانين، لأنه ليس بإمكانهم أن يكون أطرافاً مُتعاقدة، فهم قضائياً "عاجزون" (incapables). تكمن الضربة العبقرية لـ فرويد في تمكنه من جعل بعض المجانين يمرون من تحت سقف العلاقة التعاقدية، أي العصابيون، بالمعنى الواسع للمفردة، كما أوضح بأنه من الممكن ترتيب عقد خاص مع هؤلاء [وذلك سبب تخليه عن التنويم المغناطيسي]. إنه أوّل من أدخلَ في ميدان الأمراض العصبية العلاقة التعاقدية البرجوازية التي كانت مقصية حتى ذلك الوقت، وهنا تكمن حداثة التحليل النفسي. بعد ذلك، جرت محاولات في وقت أقرب، تتمتع نتائجها السياسية وطموحاتها الثورية بوضوح أكبر، أي ما يُطلق عليها اسم التجارب المؤسساتية. هنا نلتقي بالوسيلة الترميزية ذات الأبعاد الثلاثة: إمّا أن يكون القانون، وإذا لم يكن القانون، فالعلاقة التعاقدية، وإذا لم تكن العلاقة التعاقدية، فلتكن المؤسسة. وبالتالي تزدهر من حول تلك الترميزات بيروقراطياتنا.

أمام طريقة مجتمعاتنا في إبطال الترميز، حينما تهرب الترميزات من كل صوب، يقف نيتشه باعتباره ذلك الذي لم يحاول إعادة الترميز. يقول: لم يكن ذلك منذ زمن بعيد، كنتم ما تزالون أطفالاً [«لقد أصبحت المساواة اليوم عند الإنسان الأوروبي إجراءً غير قابل للتراجع: علينا تسريعه ثانية»]. يواصل نيتشه، عبر ما يكتبه ويفكر فيه، محاولة عدم الترميز، لكن ليس بمعنى إبطال الترميز النسبي، الذي سيكون بمثابة فك وقراءة الترميزات القديمة، الحاضرة والمستقبلية، بل في إبطال الترميز بصورة مطلقة (décodage absolu) –تمرير شيء ما غير قابل للترميز (qui ne soit pas codable)، فتشويش جميع الترميزات. ليس بالأمر الهين، وإن كان ذلك على المستوى الأبسط من الكتابة، أو اللغة. وأنا لا أرى من مثيل له سوى عند كافكا، مع ما فعله كافكا بالألمانية، وفقاً للموقف اللغوي ليهود براغ: إنه يَنصبُ عبر اللسان الألماني ماكنة حرب ضد اللغة الألمانية؛ ولأنه لم يكن محدوداً وزاهداً، لذا تمكن، من تحت ترميز الألمانية، تمرير شيئاً لم يكن مفهوماً من قبل. أمّا نيتشه، فيرى نفسه أو يرغب في أن يكون بولندياً إزاء ألماني. إنه يستحوذ على الألمانية لكي يصنع منها ماكنة حرب (machine de guerre) سوف تتمكن من تمرير شيئاً غير قابل للترميز عبر الألمانية. ذلك هو الأسلوب كسياسة. وبصورة أعم، أين يكمن ذلك الجهد لفكر كهذا؛ فكر يدعي بأنه قادر على تمرير تدفقاته من تحت القوانين، عبر رفضها، من تحت العلاقات التعاقدية، بتفكيكها، ومن تحت المؤسسات، بمحاكاتها؟ سأتناول ثانية، وبشكل سريع، مثال التحليل النفسي. ما الذي يحتم على مُحلل نفسي أصيل كـ ميالاني كلاين (Mélanie Klein) البقاء بالرغم من ذلك ضمن منظومة التحليل النفسي؟ تقوله لنا هي نفسها بوضوح: أن المواضيع الجزئية (les objets partiels)، بانفجاراتها، وسيلاناتها... الخ، ما هي إلا فنطازمات (fantasmes). هنا ثمة عقد، عقد خاص: لتعطني حالاتك المُعاشة، وأنا أقدم لك بالمقابل فنطازمات. كما يتضمن العقد على مبادلة، ما بين المال والكلام. كذلك يشعرُ محلل مثل فنكوت (Winnicott)، الذي يقف حقاً على أطراف التحليل النفسي، بأن ذلك المنهج غير ملائم أحياناً. ففي لحظة بعينها، يكف الأمر عن الارتباط بالترجمة (traduire)، أو بالتأويل (interpréter)، ترجمة الفنطازمات، أو تأويل الدلائل والمدلولات، كلاّ، ليس ذلك ما هو المطلوب. ثمة لحظة تقتضي المشاركة (partager)، كما ينبغي على المُحللِ وضع نفسه في مكان أو نقطة المريض، عليه الذهاب إلى هناك، ومشاطرته لحالته. هل يتعلّق الأمر بالتعاطف، بالشعور بـ، أو بالتطابق؟ إنه أكثر تعقيداً من ذلك. ما نشعر فيه يكمن، في الحقيقة، في ضرورة وجود علاقة لا تكون شرعية (légale) لا تعاقدية ولا مؤسساتية. هذا ما يحدث مع نيتشه. نحن نقرأ شذرة (aphorisme)، أو قصيدة من "زرادشت". إنّ نصوصاً كهذه لا يمكن، لا مادياً ولا شكلياً، فهمها لا عن طريق إنشاء أو تطبيق قانون ما، ولا بواسطة ما توفره العلاقة التعاقدية، ولا بفضل إقامة مؤسسة ما. قد يكون المعادل الوحيد لهذا يتمثل «بركوب المرء للموج». جعل شيء ما باسكالي ينقلبُ ضد باسكال. فنحن محشورون في السفينة: ما يُشبه كلك ميدز (radeau de la Méduse)، وثمة قنابل تتساقط بالقرب من الكلك، فيما ينحرف الكلك باتجاه سواقي جامدة وتحت أرضية، أو نحو شواطىء حارقة، كما هي "أرونوك" (Orénoque)، الأمازون (l’Amazone)، حيث يجدف أفراد سوية؛ أفراد لا يُفترض حبهم الواحد للآخر، لكنهم يصارعون ويفترس بعضهم البعض. إن التجديف سوية هو المشاركة، التشارك بشيء ما خارج تماماً على القانون، وعلى أي عقد أو مؤسسة. انحراف، حركة منحرفة أو "خارج الحدود" (déterritorialisation): قلت ذلك بطريقة متميعة تماماً، مُلتبسة للغاية، ما دام الأمر يتعلق بفرضية أو انطباع غامض حيال أصالة نصوص نيتشه. إنها نموذج جديد للكتاب.

ما الذي ينبغي أن تكون عليه خصائص شذرة من شذرات نيتشه لكي تولد مثل هذا الانطباع؟ لقد وضعَ موريس بلانشو إحدى تلك الشذرات، بقوة، تحت الضوء، في كتابه "المحاورة اللانهائية" (L’entretien infini). إنها العلاقة بالخارج (relation avec le dehors). في الحقيقة، ما إن يفتح أحدنا نصاً لـ نيتشه، حتى يشعر بأنها واحدة من المرات النادرة التي لا يلتقي فيها بأية داخلية (intériorité)، سواء كانت داخلية الروح أو الوعيّ؛ داخلية الجوهر أو المفهوم، أي ما صنعَ دائماً مبدأ الفلسفة. فما قام به أسلوب الفلسفة يكمن في علاقته بذلك الخارج التوسطي (médiatisé) والمنحل ضمن داخلية ما، من قبل داخلية بعينها. ما الذي يعنيه زورق جميل للغاية أو رسم فائق الجمال؟ ثمة كادر (il y a un cadre). كما يتم تأطير الشذرة حتى. لكن في أية لحظة يغدو فيها ذلك جميلاً، ما يوضع تحت كادر؟ في اللحظة التي نعرف ونشعر فيها بأن الحركة والخط اللذين تمّ تأطيرهما قادمان من مكان آخر، ولا تشرعان انطلاقاً من حدّ الكادر. فالحركة كانت قد انطلقت من تحت الكادر، أو من أحد جوانبه، والخط يعبر الكادر. كما يحدث في فيلم لـ غودار (Godard)، حيث يجري الرسم مع الجدار (avec le mur). لأن الكادر ليس تحديداً للسطح التصويري، وإنمّا على العكس من ذلك ما يٌقيم علاقة مباشرة مع الخارج. إنّ إيصال الفكر بالخارج (brancher la pensée sur le dehors)، هو ما لم يقم به أبداً الفلاسفة، حتى عندما كانوا يتحدثون عن السياسة، أو حينما يتحدثون عن التنزه وشم الهواء. إذ لا يكفي الحديث عن الهواء النقي، ولا الحديث عن الخارج حتى يتمّ إيصال الفكر فوراً ومباشرة إلى الخارج.

«يقدمون كأنهم المصير، بلا سبب، من دون علّة، بلا تلفت أو ذريعة، وها أنهم هنا بسرعة البرق، مرعبون ومباغتون تماماً، مقتنعون للغاية، آخرون تماماً (trop autres) وبإمكانهم أن يكونوا مادة للكراهية...».  ذلك هو نص نيتشه الشهير عن مؤسسيّ الدول (fondateurs d’Etats) «أولئك الفنانون ذو النظرة الثاقبة [جنيولوجيا الأخلاق، ج2، ص 17]. أو في نصّ كافكا "سور الصين العظيم"؟ «يستحيل علي الوصول إلى فهم كيف أنهم نفذوا في العاصمة، مع أنّها بعيدة تماماً عن الحدود. ها أنهم هنا، وفي كل صباح يتعاظم عددهم [...] كذلك يستحيل التحاور معهم. فهم لا يفقهون لغتنا [...]. كما أن خيولهم تأكل اللحوم!». حيال نصوص كهذه، نقول بأنها مخترقة بحركة قادمة من الخارج، لا تنطلق من صفحة الكتاب، ولا من الصفحات السابقة لها، وغير المطروحة داخل إطار الكتاب، وبأنها تختلف تماماً عن الحركات المُتخيلة للتصورات أو الحركات التجريدية للمفاهيم، التي تجد مكانها عادة من خلال المفردات وفي رأس القارىء. شيء ما يقفز من الكتاب ويتصل بخارج محض (un pur absolu). ذلك هو، كما أعتقد، حق المعنى العكسيّ في عمل نيتشه برمته. إنّ الشذرة هي بمثابة لعبة قوى، حالة قوى خارجية دائماً يكون بعضها إزاء البعض الآخر. ولا ترغب في قول شيء ما، كما أنها لا تُدلل على أي شيء، ولا تتمتع بدال أكبر من تمتعها بمدلوله. فتلك طرق تهدف إلى إعادة بناء داخلية النص. الشذرة حالة قوى، تشكل الأخيرة منها، أي الأحدث، الأكثر آنية، والعابرة كلية، الأكثر برانية (la plus extérieure). يطرح نيتشه ذلك بوضوح كامل: إذا كنتم تريدون معرفة ما أقول، عليكم العثور على القوة التي تمنح معناً، وحتى معنى جديد، إذا ما اقتضى الأمر. ثم لتربطوا هذا النص بتلك بالقوّة. وبهذه الطريقة ليس ثمة من إشكال يتعلق بالتأويل عند نيتشه، ولا مشكلة إلاّ تلك المرتبطة بالدس: أنّ يتم دس نصاً لـ نيتشه، والبحث عن القوة البرانية الآنية التي تُمررّ شيء ما، أو تيار طاقة (courant d’énergie). على هذا الصعيد، نلتقي بكلّ المشاكل التي تطرحها بعض نصوص نيتشه ذات النبرة الفاشية (résonance fascistes) أو ضد السامية (antisémite)... وما دمنا نتحدث عن نيتشه اليوم، علينا الاقرار بأنه غذى وما زال يغذي العديد من الشباب الفاشيّ. كانت هناك لحظة تطلبت إظهار كيف تمّ استخدام نيتشه، تحريفه، وتشويهه بالكامل من قبل الفاشيين. وقد جرى إظهار ذلك من خلال مجلة "آسيفال" (Acéphale)، التي كتب فيها كلّ من جان فال، باتاي، وكلوسوفسكي. لكن قد لا يكون ثمة مشكلة اليوم. فالنضال لا ينبغي أن يكون على مستوى النص. ليس لأننا لا نستطيع النضال على هذا الصعيد، ولكن لأن هذا النضال غير مجديّ. يتعلق الأمر بالأحرى بالكيفية التي نجد ونحدد فيها القوى الخارجية، التي تمنح هذا النص أو ذاك لـ نيتشه معناه التحرريّ (sens libératoire)، معناه البراني. ينطرحُ السؤال المُرتبط بالطابع الثوري لـ نيتشه على صعيد المنهج: فالمنهج النيتشوي (méthode nietzschéenne) هو منْ يصنع نص نيتشه، وهو ليس بشيء ينبغي طرح سؤال حياله «هل هو فاشيّ، برجوازي، أو هو ثوري بحد ذاته؟» –لكنه ميدان براني تتواجه فيه القوى الفاشية، البرجوازية والثورية. إذا ما طرحنا السؤال بهذه الصورة، فسوف يكون الجواب المتوافق بالضرورة مع المنهج هو التالي: البحث عن القوة الثورية [منْ هو الإنسان المتفوق (surhomme)؟]. النداء دائماً على القوى الجديدة التي تأتي من الخارج، والتي تحتل ثانية النص النيتشويّ ضمن الشذرة (l’aphorisme). ذلك هو المعنى المعكوس الشرعي: التعامل مع الشذرة باعتبارها ظاهرة تترقب القوى الجديدة، القادمة التي "تستولي" (subjuguer) عليه، تحركه، أو تجعله ينفجر.

الشذرة ليست مجرد علاقة بالبراني (le dehors)، وإنما تتمتع بخاصية ثانية ألا وهي علاقتها بالقويّ (intensif). وهذا نفس الشيء. لقد ذكر كلوسوفسكي وليوتارد كلّ ما يمكن قوله حول هذه النقطة. إنّ الحالات المُعاشة (états vécus) هذه، التي تحدثت عنها قبل قليل، لكي أقول لا ينبغي ترجمتها إلى تصورات أو فنطازمات، ولا ينبغي أيضاً تمريرها عبر ترميزة القانون، العقد والمؤسسة، أو التلاعب بها، والتي يجب استعمالها، على العكس من ذلك، لخلق التدفقات التي تحملنا بعيداً، بعيداً أكثر نحو الخارج، هي بالدقة قوى (intensités)، القوى (les intensités). كما لا تتولد الحياة المُعاشة عن الذاتيّ (pas du subjectif)، أو ليس بالضرورة. إنها ليست الفردانيّ (individuel). هي التدفق (flux)، وانقطاع التدفق (coupure de flux)، ما دامت كلّ قوة ترتبط بالضرورة بقوة أخرى غيرها، بطريقة تسمح بمرور كلّ شيء. ما يمرّ من تحت الترميزات، ما يفلت منها وما ترغب الترميزات بترجمته (traduire)، تبديله (convertir)، وتحويله (monnayer). لكن نيتشه يقول لنا، عبر كتابته عن القوى: لا تجعلوا القوى تفلت لصالح التصورات. لا تحيل القوة ثانية (renvoie) إلى المدلولات (signifiés) التي ستصبح بمثابة تصورات عن الأشياء، ولا نحو دالات (signifiants) ستكون بمثابة تصورات عن الكلمات. ما هو إذاً تماسكها كفاعل وموضوع لإبطال الترميزات في آن معاً؟ ذلك ما هو أشد غرابة عند نيتشه. للقوة علاقة بأسماء العلم (noms propres)، وهذه ليست بالتصورات لا عن الأشياء [أو الشخوص] ولا تصورات عن الكلمات. فسواء كانت جماعية أو فردانية، كالفلاسفة ما قبل سقراط، الرومانيون، اليهود، المسيح، المسيح الدجال، جيل سيزار، بورجيا، زرادشت، كلّ أسماء العلم هذه التي تمر وتعاود المرور في نصوص نيشته، لا تمثل لا دالات ولا مداليل، لكنها إشارات لقوة (désignations d’intensité)، على جسد، وقد يكون جسد الأرض، جسد الكتاب، ولكن أيضاً جسد نيتشه المُتألمِ: كلّ اسماء التاريخ هي أنا... (tous les noms de l’histoire, c’est moi…). هناك نوع من البداوة (nomadisme)، من الترحيل المتواصل للقوى التي تشير إليها أسماء العلم، والتي تتداخل في بعضها، في ذات الوقت الذي تعيش فيه من فوق جسد مُكتنز (un corps plein). إذ لا يمكن معايشة القوة إنّ لم تكن مرتبطة بنقش مُتحرك من فوق جسد ما، وببرانية حركية لأسم علم، من هنا يغدو كلّ اسم علم قناع (un masque)، قناع لفاعل (masque d’un opérateur). النقطة الثالثة هي علاقة الشذرة بالدعابة والتهكم (avec l’humour et l’ironie). الذين يقرأون نيتشه ولا يضحكون، ولا يضحكون كثيراً، أو في غالب الوقت، ولا يضحكون أحياناً ضحكاً جنونياً، كأنهم لم يقرأوا نيتشه. وهذا لا يخص نيتشه وحده، وإنما كلّ المؤلفين الذين يصنعون بالدقة الأفق ذاته لثقافتنا-الضد (notre contre-culture). فما يُظهر انحطاطنا، تقهقرنا، في الطريقة التي نشعر فيها بالحاجة لوضع القلق (angoisse)، العزلة (solitude)، الذنب (culpabilité)، مأساة التواصل، وكلّ أنواع المأساوي الداخلي (tragique de l’intériorité). بيد أن ماكس برود (Max Brod) يخبرنا كيف كان الناشرون يضحكون ضحكاً مجنوناً، حينما كان كافكا يقرأ عليهم "المحاكمة" (le procès). كذلك من الصعب قراءة بيكيت دون ضحك، ومن دون التنقل من لحظة غبطة إلى لحظة فرح أخرى. الضحك وليس الدال (le rire, et pas le signifiant). إنّ الضحك-الشيزوفرنيا (rire-schizo) أو الغبطة الثورية (la joie révolutionnaire)، أي ما يتولد عن الكتب العظمى، بدلاً من حالات قلقنا الناتجة ونرجسيتنا الصغيرة (petit narcissisme)، أو أشكال رعب شعورنا بالذنب. يمكننا تسمية ذلك بـ «هزل الإنسان المتفوق» (comique du surhomme)، أو «مهرج الله» (clown de Dieu)، هناك دائماً فرح لا يوصف ينبثق من الكتب العظيمة، حتى عندما تتحدث عن الأشياء القبيحة، المُحبطةِ والمُفزعةِ. يشكل كلّ كتاب عظيم ومن البدء التحول (déjà la transmutation)، ويصنع صحة اليوم القادم (la santé de demain). كما لا يمكن للمرء أن لا يضحك وهو يخلط الترميزات. فإذا ما وضعتم الفكر بعلاقة مع البراني (le dehors)، فسوف تتولد لحظات الضحك الديونوزوسي (rire dionysiaque)، إنه الفكر في الهواء الطلق (pensée à l’air libre). يجد نيتشه نفسه أحياناً أمام أشياء مُنفرة، غثيانية وحقيرة. ومع ذلك، تُضحك نيتشه، ويضيف قائلاً هل أن هذا ممكن: لتزيد، فهي ليست مُنفرة كفاية، أو كم هو رائع ذلك المُنفر (dégoûtant)، يا لها من أعجوبة، عمل رائع (un chef d’œuvre)، زهرة بعروقها، وفي النهاية «شرع الإنسان في أن يكون مهماً». وعلى سبيل المثال، كانت تلك طريقة نيتشه للتعامل مع ما يطلق عليه اسم الوجدان السييء (mauvaise conscience). حينئذ، ستكون هناك دائماً تعقيبات هيغيلة، تعقيبات الداخلية، المحرومة من حس الضحك. يقولون: ها أنكم ترون نيتشه يتعامل مع الشعور السييء بجدية، ويجعله لحظة في مسار الصيرورة-عقل للروحانية (devenir-esprit de la spiritualité). لكن يتغاضون النظر حيال ما يفعله نيتشه بالروحانية لأنهم هناك يشعرون بالخطر. نحن نلاحظ إذاً بأنه إذا كان نيتشه يعطي مكانة للمعاني المعكوسة الشرعية، فهذا لا يعني بأنه ليس هناك من معاني عكسية لاشرعية تماماً، فهي قائمة عند كلّ أولئك الذين  يستخدمون العقل الجدي، وعقل البلاهة (esprit de lourdeur)  في تفسيراتهم لإشارة زرادشت (signe de Zarathoustra)، أي يفسرونها بتعابير عبادة الداخلية. يحيل ضحك نيتشه دائماً نحو الحركة الخارجية للدعابة والتهكم، وهذه الحركة هي حركة القوى، الكتل القوية، التي استخلصها كلوسوفسكي وليوتارد: لعبة أن هناك قوى مُنحطة وقوى سامية، وهي مُتداخلة مع بعضها ويمكن فيها للقوى المنحطة توجيه القوى الأكثر سمواً، بل وتصبح هي نفسها أكثر سمواً من السامية، ومن ثم تقلبها. إنّ لعبة السلالم القوية تلك هي التي توجه صعودات التهكّم ونزولات الدعابة عند نيتشه، والتي تتطور باعتبارها تماسكاً (consistance) أو كمية المُعاش ضمن علاقته بالخارج. كذلك فإنّ الشذرة هي مادة نقية للضحك والفرح. فإذا لم يعثر المرء في الشذرة على ما يُضحك، وتوزيع القوى ما بين التهكم والدعابة، فكأنه لم يكتشف شيئاً.

هناك أيضاً نقطة أخيرة. لنعود إلى نص "الجينولوجيا" (La Généalogie) العظيم، وإلى الدولة ومؤسسي الأمبراطوريات: «إنهم يقدمون كالمصير، بلا سبب ومن دون علة... الخ». هنا يمكننا التعرف على رجال الإنتاج المُسمى آسيوي. على قاعدة المجاميع الريفية البدائية، يقيم الطاغية وماكنته الإمبراطورية التي تضاعف ترميز كل شيء، مضافاً إليها البروقراطية، وإدارة تنظم الأشغال الكبرى وتستحوذ على فائض الشغل [«ما أن يظهروا، وبوقت قصير ثمة شيء جديد، دولاب سيادي حيّ، حيث تتحدّد وتتعيّن علاقة كلّ جزء ووظيفته بالنسبة للمجموع (à l’ensemble)»]. بيد أن بإمكان المرء التساؤل إذا ما كان هذا النص قد ترك قوتين ضمن المجموع، من دون أن يربطهما ببعضهما، فيما كأن كافكا، في عمله الخاص، قد ربط بينهما وميزهما الواحدة عن الأخرى في "سور الصين العظيم". فعندما نبحث عن معرفة الكيفية التي تمكنت بفضلها تلك المجاميع البدائية المُفتة من إفساح المجال أمام تشكلات سيادية أخرى، وهو سؤال يطرحه نيتشه في "الجينولوجيا"، سوف نرى بأن هناك قوتين متلازمتين، لكنهما مختلفتان تماماً الواحدة عن الأخرى. صحيح أن تلك الجماعات القروية قد تمّ القبض عليها من وسطها وثُبتت في الماكنة البروقراطية للطاغية، نساخه، قساوسته وموظفيه؛ لكن تلك الجماعات، انطلاقاً من المواقع المحيطة بالمركز، تدخل في نوع آخر من المغامرة، وفي نوع آخر من الوحدة التي ستكون، هذه المرة، رحالة (nomadique)، ضمن ماكنة حرب بدوية (machine de guerre nomade)، ومن ثم تتخلص من الترميزات بدلاً من تعاظمها. مجاميع كبيرة تنطلق برمتها، وتصبح ترحالية (qui nomadisent): لقد عودنا علماء الآثار [أركيولوغ] التفكير بتلك البداوة لا على أنها حالة أولانية، ولكن باعتباره مغامرة تأخذ مكان المجموعات المدنيّةِ، أي النداء البراني (appelle du dehors)، الحركة. يتعارض البدويّ بمكانته الحربية مع الطاغية وبروقراطيته؛ فالوحدة البديوية البرانية تتناقض مع الوحدة الطاغية الداخلية. ومع ذلك، إنهما متلازمتان ومتداخلتان لحد تصبح فيه مشكلة الطاغية تتمثل في ضم المكانة الحربية للبدوي، وجعلها تشكل جزء داخلياً منه، فيما تكون مشكلة البدويّ تتمثل بخلق بيروقراطية للإمبراطورية التي أستولى عليها. كما أنهما لا تكفّان عن التناقض، حتى في النقطة التي يتداخلان فيها.


لقد ولدَ الخطاب الفلسفي من رحم الوحدة الإمبراطورية، عبر العديد من التحولات، تلك التحولات التي تقودنا باتجاه التشكلات الإمبراطورية للمدينة الإغريقية. فحتى عبر تلك المدينة الإغريقية ظل الخطاب الفلسفي على اتصال مع الطاغية، أو ظله، من خلال الإمبريالية (impérialisme)، وإدارة الأشياء والأفراد [نجد في كتاب ليو شتراوس وكوجيف "الطغيان" (La Tyrannie) كل ما يمكن قوله حول هذه النقطة]. لقد كان الخطاب الفلسفي يتمتع دائماً بعلاقة جوهرية بالقانون (La loi)، بالمؤسسة، والعقد التي تبني مشكلة السيادة التي تخترق التاريخ المدني للتشكلات الطغيانية ووصولاً إلى الديمقراطيات (aux démocraties). إن "الدال" (le signifiant) هو حقاً آخر تحولات فلسفة الطاغية (philosophie du despote). فإذا كان نيتشه لا ينتمي للفلسفة، فذلك ربما لأنه كان أول منْ فكر بنمط آخر لخطاب فلسفة-الضد. أي أنه خطاب رحال في المقام الأول، لا يمكن للماكنة العقلانية الإدارية توليد مقولاته، ولا الفلاسفة كبيروقراطين للعقل المحض (raison pure)، ولكن بماكنة حربية مُتنقلة. وقد يكون ذلك أيضاً هو الذي دفع نيتشه للإعلان عن أن سياسة جديدة تبدأ معه [وهذا ما يسميه كلوسوفسكي المؤامرة ضد طبقته]. نعرف بأن الرُحَلْ، وفقاً لأنظمتنا السياسية، أناس تعساء: لا ندخر أية وسيلة من أجل تثبيتهم (les fixer)، لأنهم يعانون من شظف العيش. وقد عاش نيتشه كواحد من الرحل إلى حد الكفاف الذي يجعله وكأنه ظل لنفسه، متنقلاً ما بين نزل مؤثث إلى نزل آخر. لكن أيضاً ليس من الضروري أن يكون البدوي شخصاً مُتنقلاً: هناك سفرات في ذات المكان، سفرات القوة، بل وحتى تاريخياً البدو ليسوا أولئك الذين يتنقلون على طريقة المهاجرين (migrants)، على العكس من هذا، إنهم أولئك الذين لا يتزحزحون، والذين يشرعون بالرحيل في ذات المكان، وبهذا يفلتون من الترميزات. نحن نعرف بأن المشكلة الثورية اليوم تتمثل بإيجاد وحدة ضمن النضالات المحدّدة ومن دون السقوط ثانية في أحضان التنظيم الطغياني والبيروقراطي للحزب والدولة: ماكنة حربية لا تعيد صناعة جهاز الدولة، ووحدة رحالة تمتع بعلاقة مع البراني، الذي لا يعيد صنع الوحدة الطغيانية الداخلية. ذلك ما يشكل ربما الجانب العميق من نيتشه، معيار قطيعته مع الفلسفة، مثلما تظهر عبر الشذرة: تحويله للفكر إلى ماكنة حربية، وجعله للفكر قوة رحالة (puissance nomade). وحتى لو كانت السفرة ثابتة، أو تُقام في ذات المكان، اللاملموس، غير المتوقع، التحت أرضي (souterrain)، علينا التساؤل منْ هم رحالة اليوم، منْ هم النيتشويون الحقيقيون.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق