الأربعاء، 22 يوليو 2015

الحب والموت عند جورج باتاي: دومينيك غرزوني

ترجمة: كمال فوزي الشرابي

التعذيب الصيني المسمى "مائة قطعة"
تصوروا ما يلي: المشهد يجري في سيارة أجرة. الوقت ليل. الطقس داكن جليدي. جسدان، رجل وامرأة. يتعانقان بلاتحفظ وبعنف غاضب، كما لو أنهما يستسلمان لأقصى نزوات رغبة ملتهبة. رجل ينظر، وقد تجمد في مكان خفي. إنه المشاهد الشبحي لهذا المسرح الذي يلتهب فيه ظلان ويرتعش جسدان. وحيث يحتمل ألا يستطيع الآخرون إلا أن يشاهدوا مشهداً جنسياً عادياً. كان هو يفكّ ألغاز مأساة. انزلقت نظرته تحت الحركات المجونية، ومرت خلف قناع المتع التعذيبي، واكتشفت ما لا يرى: تمزق الكائن الذي يسببه الحب. فجوة رفيعة سيدلف الموت منها عما قريب.
لغز الأجساد التي تتحاب، والنفوس التي تستسلم للإفراط في العواطف. ثمة موت في الحب، وحب في ما يموت. هذا هو النص المملوء بالألغاز لقانون الجنس الذي حاول الكاتب الفرنسي الكبير جورج باتاي أن يبرره في "السيدة إدواردا"، وبذلك جعلنا هنا نلمس نوعاً من الفجائية الوحشية والبصرية، وكان يكتفي بأن يعرضها علينا بتعابير أكثر تجريداً في مؤلفاته الأخرى كـ "الإثارة الجنسية" مثلاً أو كـ "دموع إيروس" أيضاً.
فرضت الحقيقة نفسها جملة على وعي المشاهد. وإنها لحقيقة قاسية. فالجسدان المتعانقان يعيشان موتهما لأنهما يتحابان. وارتسمت في النظرة الخاطفة للمرأة بداهة غبية فيها ملامح العدم. لم تكن تلك النظرة إلا برقاً، ولكن الرجل فهم كل شيء. يقول: «من نظرتها حتى تلك اللحظة عرفت أن شيئاً كالمستحيل يعود. ورأيت في أعماقها تصميماً يسبب الدوار (...) كان الحب في عينيها قد مات. وكانت تشع منهما برودة الفجر وشفافية قرأت فيهما الموت. كان كل شيء معقوداً في هذه النظرة الحالمة: الجسدان العاريان، الأصابع التي تفتح اللحم، يأسي وذكرى رضابي على الشفتين، وما من شيء لم يكن يساهم في هذا الانزلاق الأعمى نحو الموت».


*****
نهاية التتابع في سلسلة هذه اللقطات. كل شيء قيل تقريباً. ويحس الراوي الآن باليقين الذي لا يتزعزع، هو الذي كان متخماً بالقلق حتى الغثيان في مطلع "السيدة إدواردا" ومفعماً بأسئلة لا أجوبة لها. الموت حاضرها، متربص تحت الحياة، ويعرف الراوي أنه يستطيع أن يلمح خطمه الجليدي في هذه الهنيهات الاستثنائية التي يوفرها الحب. إذاً هناك عمل، وهذا هو الشيء الأساسي لدى جورج باتاي: أن يبين واقع ما يحدس به، وأن يجعلنا نحس بما لا يعبر عنه.
وأن يوصل إلينا مباشرة، بنوع من الإيحاء التام، ما تعجز الكلمات عن آدائه: أعني أن ينقل إلينا تجربة الموت. في جميع أعماله يظهر الموت هاجساً. الموت موجود في كل مكان وتحت جميع الأشكال. من الأشكال المتسمة بأقصى العنف حتى تلك المتناهية في الرقة، ومن المتصفة بأنها عادية حتى تلك غير المتوقعة. الحرب، التضحية، الجريمة، شتى أنواع التعذيب... مجموعة أسلحة كاملة. ولكن هذا التراكم للصور المفجعة يجب أن لا يوهمنا، فالكاتب لا يخدع. وهذه الوجوه التي يتخذها الموت لا تعني أن جورج باتاي ينشئ فكرة عن التلاشي، أو عن المفهوم الفلسفي لما وراء الحياة، ولا أنه يتصور شفافية ما لا يخضع لتلمسات الوعي. وهو لا يغفل أبداً عن تذكيرنا، ليتحاشى نظرة الازدراء إلى المطالعة، بأن الموت غير قابل للمعرفة. وبالمقابل فإنه يرى أن هناك حالات من الوعي تقع تماماً على حدود الموت والحياة، وإنها توجد في خط تماس يجعل من الممكن الشعور بما يسميه "الضياع الجزئي"، وهي حالات تشير إلى أن ثمة «وسيلة للموت بالبقاء على قيد الحياة».
واضح إذا أنه لاتوجد لدى باتاي معرفة محسوسة ودقيقة للموت، وإنما لديه طرائق عرضية للاقتراب منه. وهذه الطرائق لا تشكل مجموعة بل تنحصر في طريقتين اثنتين: النشوة والمتعة. وكلتاهما تنجم عن التجربة الصوفية والتماس الجنسي، وكلتاهما أيضاً وجه للمطلق.
من هذا الوجه إلى الوجه الآخر توجد فوارق عديدة لا تختزل، ولكنها أيضاً معادلات أساسية. فكلاهما ينقل الرغبة ذاتها في التلاشي أو الفناء، ويعلن عن الرغبة ذاتها في الحياة، في حدود الممكن والمستحيل، وذلك بحدة واتساع يكبران على الدوام»، وكلاهما يصطدم بالتناقض ذاته الذي لا يحل وهذا ما ألهم القديسة تيريز جملتها الشهيرة «أموت لأني لا أموت» وهو أن المرء لا يستطيع أن يوجد في الوقت ذاته في موقف الحياة والموت، لأنه لا وجود لهذا الموقف، ولا حل أمام الوعي، الذي يريد بأي ثمن أن يجابه الموت من غير أن يضيع هو ذاته، إلا في الوقوف على ذروة الهاوية، أي أن يستمر في البقاء على قيد الحياة. ولنقرأ التعليق الجميل للكاتب على صرخة القديسة تيريز: «فقدت توازنها فلم تفعل سوى أن تحيى بمزيد من العنف، وكان هذا العنف من القوة بحيث استطاعت أن تحسب أنها على حدود الموت، ولكن الموت أغاظها لأنه لم يضع نهاية لحياتها كما كانت تريد». هنا يسلمنا باتاي مفتاح الحالة الوسط، وأعني العنف الداخلي. هذا التوتر للكائن بأكمله يظهر خارج ذاته، وهو عبارة عن انتزاع أو عن نفي يقارب تدمير الذات، ولكنه لا ينفتح مطلقاً على تلاشي أو انعدام حقيقي.
من النشوة إلى المتعة إذاً. وبين الصوفية والجنس. نعثر على معادلات تتعلق بالنظام المتشابه للحالة الداخلية النهائية. ومع ذلك فـ باتاي لم يعط هاتين النزعتين الأهمية ذاتها. ومن قراءة نصوصه اللاحقة نجد أن تفضيله يستقر على النزعة الجنسية. كما لو أنه يكشف فيها عن أصالة أسمى. أو عن نور أقوى. أي عن تعبير أفضل لما يبحث عنه. أو كما لو أنه ينتهي إلى التفكير بأن الوعي في أثناء التفجر الجنسي يبلغ لدى الكائن أكثر المناطق خلفية فيشعر بشكل أكثر محسوسية بملامسات العدم.
والواقع أن باتاي يحذر التجربة الصوفية. أولاً لأنها تظل متأثرة بالطابع اللاهوتي، وهو يعرف أن عمله النقدي الخاص لغائية الصوفيين لم يكن كافياً لتصحيح الفكر المستوعبة، وثانياً لأن صورة الفراغ التي تحدثها هذه التجربة تقوم على شيء مصطنع أي على علاقة مغلوطة بين كائنين، مادام الصوفي وحده هو الحاضر الواقعي ومادام الله هو الغائب الأبدي، أي البديل (Ersatz) للكائن.
بينما في الجنس كل شيء واقعي، أو حتى واقعي جداً. هناك أشخاص من لحم ودم، تشغلهم شهوة ملموسة ذات تأثيرات مرئية، وتحركهم نبضات يتفجر منها عنف قاتل صادق يصعب دفعه. أضف إلى ذلك أن الجنس يتأسس على علاقة مضاعفة مع الموت هي موت الشخص، وموت الآخر. إنه يحتضن اللحظتين الاثنتين ويجمعهما في دوار واحد للوعي، محققاً بذلك اقتراباً من الموت أشد التصاقاً، ويقود الشخصين من التجربة إلى حدود ذوبانهما تقريباً.
هنا، في هذه المرحلة، تركت في مطلع هذا المقال ثنائي "السيدة إدواردا" على حدّ من التردد، في لحظة الغرق. تماماً في هذا التوقف الدقيق للوقت حيث يلتقي الوعي فجأة بما لا يعبر عنه. إنها لهنيهة استثنائية يضيء فيها كلّ شيء ويعمي، ولا يقاوم الفهم فيها أي شيء. يرى الانسان كلّ شيء ويفهم كل شيء، كل شيء عن وضعه في العالم، وعن عدم استمراره التكويني، وعن تجزئه الاجتماعي. وبنظرة واحدة يعانق الجوهر المفجع ويكتشف أنه بلا علاج... خارج الموت الذي لربما يحلّ كلّ شيء ولكنه في الوقت ذاته يلغي كلّ شيء.
هنا أحب أن أشير إلى أنني لا أتحدث عن معرفة ولا عن علم من الناحية العقلانية. ولو فعلت لسرت في الاتجاه المعاكس. فالتجربة الجنسية تجري على مستوى آخر. من جانب الحدس والاختبار. ولهذا السبب فإنها لا تسير، وهي تعرض واقعها، في السياق العادي للمعرفة. فالوعي الذي تحركه وعي ابتدائي، غريزي، وذلك لأن الجنس عفوية وعنف وتجذر، على اعتباره يتجذر مباشرة في عالم المقدس. وحين ينعقد مع أقصى تجارب الإنسان، فإنه يعيد النشاط إلى أعتى أنواع قلقه، كما يعيد إطلاق نبضاته الأكثر إيغالاً في القدم. وبكلمة مختصرة إنه يوقظ ذاكرة النوع المدفونة تحت أكوام من الثقافة والمحرمات. والمخنوقة بعبء ألوف السنين التاريخية. لهذا السبب لا يدخلنا إلى معرفة قابلة للاستنباط العقلي، فهو ليس إلا سطوعاً، وكشفاً مفاجئاً لحجاب الكائن في الوقت الذي يتحجب فيه.
إن حاجز الترجمة لايمكن اجتيازه، وما من لغة تتكيف مع التجربة داخل الإنسان. ويصطدم باتاي بهذا الحاجز باستمرار. ولكنه لا يستسلم، ويعود على الدوام إلى الاحتكاك ليصل في النهاية إلى نتيجة تقول بأن ما يهم حقاً في التجربة الجنسية هو المسلك الذي تفترضه والقوى التي تجندها. ولنشر إلى هذه القوى، على سبيل التسريع، بكلمة آليات. وليس هذا اعترافاً بالعجز، بل هو على العكس دهاء أو افتراض تحايل ما. على الرغم من الظلمة الكثيفة التي تجبر عليها التجربة، يجعلنا نلمس باليد ما يدق عن الوصف، ويعيد من السفر بعض أسمال الذاكرة أي شيئاً ما كانه معرفة جزئية.
الآليات التي أشرنا إليها، نبدأ بمعرفتها. ولقد انتقل باتاي إلى مجال علمي الاجتماع والأخلاق وكذلك أعماله. وأصبحنا نعرف، من الآن فصاعداً، أن تثبيت سيناريو الجنسي يقوم على رفد للوجود مثقل بالناحية الحيوانية للكائن، أو أنه ببساطة تذوق اللذة المتفرعة من الغريزة الجنسية.
وبالمقابل فإن القضية تتعقد في المرحلة التالية، وتبدو الطرائق أقل وضوحاً، وغالباً ما تاه المعلقون في شرحها. ومع ذلك، فإن باتاي دقيق جداً. ألم يقل بأنه ما إن يظهر التحريض ينشأ "سحر أساسي للموت" ولا يعود أمام الوعي سوى مقصد وحيد هو أن يدمر ويتدمر. إنه يريد أن يبلغ الحد الأقصى للذوبان والحلول في دوامة أولية ليتجاوز أخيراً عدم الاستمرار الذي لا يحتمل والذي تنتسب الحياة بوجودها إليه.


*****
من هنا يظهر تأثير القوى الوحشية التي تثور. الكسر واجب وكذلك التدمير والقطيعة مع جميع الأشكال القائمة «التي تؤسس النظام غير المستمر لفردية كلّ منا». ولكي يحصل هذا يجب أن تترك للعنف حريته المطلقة «وذلك لأن العنف قسوة هائلة لا تقاوم». وهو يستطيع وحده أن يجرف مقاومات الواقع «وأن ينتصر على العقل والأخلاق» وهما عمود الحياة العاديان.
وهكذا فإن الجنس [بمعنى الإثارة الجنسية] يغلب الوعي فيما يكتسي صورة للتشوش أو صورة عالم لا نظام فيه. ونقصد هنا عالم العقل وعالم الأجساد المستسلمة لغرائزها الجنسية. وبذلك يقوم الجنس بعملية حل أن يلغي الصلة بالحياة ويذكي الشعور لدى الكائن بأنه موجود في غرفة انتظار الموت. بينما الحياة طبعاً هي التي تحكم على الدوام وبشكل كامل وبلا شريك، وهي التي لا يطالها التهديد. يقول باتاي: «في الجنس (...) ليس محكوماً على الحياة غير المستمرة، على الرغم من المركيز دو ساد، بأن تختفي بل هي تطرح للمناقشة فقط ويجب أن تكون مضطربة، ومنزعجة إلى أقصى حدّ»، وبعبارة أخرى إن هناك عملية وجودية تجري. يتعلم أن من الممكن «أن يولج في هذا العالم، المؤسس على عدم الاستمرار، كل الاستمرار الذي يمكن أن يحتمله». فالاستمرار إذن ضيق وجزئي، وهو دون ذاك الذي يمثله الموت، إنه الاستمرار الذي يسمح به التشوش الداخلي.

*****
يرى جورج باتاي أن المركيز دو ساد لم يفهم هذا القانون الأساسي للجنس. فهو حين ترك أشخاصه يعذبون ضحاياهم حتى الموت، أو يقتلون هذه الضحايا طلباً للمتعة. وباختصار حققوا لذّاتهم استناداً إلى واقع الموت، قد أفرط في إمكانيات الحياة. وإنه بذلك قد انحرف عن المنطق الخاص للجنس، وهذا ما يشكل فشلاً واضحاً، ذلك أن الجنس إذا كان يضع الموت في أفق اكتماله، فإنه لا يحاول أبداً أن يلتقي به. الجنس كيمياء السحر المَرْضِي لا آلية من آليات القتل.
إن موضوعية الموت كلها لدى باتاي تشمل إذا تقصياً دقيقاً جداً لمصادر الوعي. فالوعي إذ يخضع للانزلاقات المراقبة المتعلقة بالنشوة أو اللذة أو العذاب يختبر حدود الكائن، ويمكنه بذلك أن يعرف المعيار الصحيح للإنسان. وبهذه الصفة يظهر الموت نقطة التوجيه للحياة، ولما نتشوف إليه. لكن الموت ليس المثل الأعلى للحياة حتى ولو كانت بعض دواخل النفوس تؤكده بصراحة، وهو ليس الوجه الآخر للحياة، إنه حرفياً [اللاشيء] الذي يفرض الوجود ويفرغه شيئاً فشيئاً من جوهره ومن حيويته.
وليس من باب المصادفة أن تنغلق "دموع إيروس" على وصف التعذيب الصيني الذي أطلقوا عليه اسم "المئة قطعة" كان باتاي يتمسك بصورة ضوئية [فوتوغرافية] مؤرخة في عام 1905، وملتقطة في بكين، أهداها له الدكتور بوريل، وهو أحد علماء النفس الفرنسيين الأوائل، وتبين هذه الصورة مرحلة من مراحل التعذيب: رجل حي ربط إلى عمود، يقطعه الجلاد عضلة عضلة وعضواً عضواً تحت نظرات المتسكعين. إن مظهر الإنسان المقطع هو الذي لفت جورج باتاي أكثر مما لفته فظاعة المشهد: وجه كان يجب أن يدمره الألم، ويقرأ عليه الرعب من الموت البطيء، ولكنه كان يبدو بغرابة غارقاً في هدوء النشوة. يقول باتاي: «ما فتئت مسكوناً بهذه الصورة للعذاب الذي تملؤه النشوة [؟] وفي الوقت ذاته لا يطاق»، هاجس. ولكن هناك شيئاً أفضل يمكن استنتاجه، إذ ثمة توازن يقام في الواقع بين ما عرفناه عن الجنس وما تبينه هذه الصورة. في كلتا الحالتين توجد متعة، ويحتمل أن تكون متساوية في حدتها، غير أن اللذة في الجنس تحدث في أقصى مجال الحلم مع الموت، بينما تحدث في التعذيب من المطابقة مع الموت الواقعي. في الحالة الأولى هناك تكرار، أما في الحالة الثانية فلا توجد سوى لحظة فريدة، ولهذا السبب لن يصبح الجنس سادياً أبداً في مفهومه الصحيح لدى باتاي.




المصدر: دومينيك غرزوني، "الحب والموت عند جورج باتاي"، ترجمة كمال فوزي الشرابي، مجلة المعرفة السورية، العدد 272، بتاريخ 01 أكتوبر 1984، صص 83-90

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق