ترجمة حسين عجة
Sophie Sainrapt - Femme asiatique |
ظهرت قصة جوستين أو مآسي الفضيلة ثم أعقبتها قصة
جولييت، أختها
في عام 1797، في هولندا. سرعان ما شعر العالم بفزع من هذا العمل الضخم، المكوّن من
أربع آلاف صفحة، والذي أعاد الكاتب كتابته أربع مرات وبالتالي توسّع حجمه؛ عمل
متواصل ولا نهاية له. وإذا كان ثمّة من جحيم في المكتبات، فهو قائم في هذا الكتاب.
كذلك يمكن القول إنه لم يتضمّن أدب أي زمان عملاً فضائحيّاً مثله، وليس هناك من
مثيل له في تجريحه العميق لمشاعر وأفكار الناس. مَنْ الذي بمقدوره اليوم مضارعة ساد
في إباحيته؟ أجل، يمكننا طرح ادعاء كهذا: لم يُكتب أبداً أي عمل أكثر فضائحية منه.
ألا يشكل هذا مبرراً للاهتمام به؟ لدينا حظ اللقاء بعمل لم يوفق أيّ كاتب، في أية
لحظة، في الذهاب بمغامرته أبعد منه؛ وهذا يعني أننا نمتلك بمعنى ما، وتحت إمرتنا
تقريباً، مطلقاً حقيقياً (un véritable absolu)، في عالم لا يعير الأدب سوى اهتمام نسبي، ومع ذلك، لا نحاوره؟
ولا نتخيّل حتى مُساءلته عمّا يجعله غير قابل للتخطّي، وما العنصر الأشد تطرفاً
فيه، الذي يجعله عصيّاً إلى الأبد على الإنسان؟ عدم اكتراث غريب. أو لن تكون
الفضيحة خالصة إلا بفضل عدم الاكتراث هذا؟ فإذا ما تأمّلنا التدابير التي اتخذها
التاريخ لجعل ساد لغزاً خارقاً، وإذا ما تخيّلنا الأعوام السبعة والعشرين
التي قضاها في السجن، أي ذلك الوجود المُغلق والمُحرّمِ، حينما لا يطال الحبس حياة
المرء وحسب، وإنما مجرد بقائه حتى، إلى حدّ يصبح فيه إخفاء عمله بمثابة الحكم
عليه، وهو ما زال حيّاً، بالسجن الأبديّ، حينئذ يتساءل المرء إذا ما كان المراقبون
والقضاة الذين أرادوا دفنه بين الجدران قد وضعوا أنفسهم بالأحرى في خدمة ساد،
وبأنهم حقّقوا بهذا الأماني الكبرى لدعارته (son libertinage)، هو الذي طالما حلم بالعزلة في أحشاء الأرض، ضمن غرابة وجود تحت
أرضيّ ومنزوٍ. لقد صاغ ساد، عبر عشر طرق، فكرة أن التجاوزات الكبرى للإنسان
تقتضي السريّة، العتمة والهاوية، وكذلك عزلة زنزانة لا يمكن اختراقها. والحالة
هذه، من الغرابة أن يصبح حرّاس الأخلاق أنفسهم، أي أولئك الذين حكموا عليه بالمنع،
متواطئين مع أقوى أشكال اللاأخلاقية (immoralité). فأم زوجته، السيدة مونتري (Madame Montreuil) المحتشمةِ، التي حكمت على حياته بالسجن، قد جعلت من تلك الحياة
عملاً رائعاً للعار (infamie)
والفسوق (débauche). وإذا ما زالت جوستين وجولييت
تبدوان لنا، بعد مرور العديد من الأعوام، الكتاب الأشدّ فضائحية الذي يمكن قراءته،
فلأن قراءته مستحيلةً تقريباً، وكذلك لأن الكاتب، الناشرين، والأخلاق العامة (Morale universelle)، قد اتخذوا كلّ التدابير بغية أن
يظل الكتاب سرياً، ولا يمكن قراءته (illisible) أبداً، لا يُقرأ بحكم سعته، تركيبه، تخمته ومن جانب صرامة
توصيفاته وضراوة فحشه أيضاً، التي لا يمكنها سوى دفعه بعجالة نحو الجحيم. كتاب
فضائحيّ، لأنه ليس بمقدور المرء الاقتراب منه، ولا يمكن لأحد جعله كتاباً شعبياً.
لكنه كتاب يظهر أيضاً بأنه ليس ثمة من فضيحة، إذا لم يكن هناك إجلال (respect)، وحيثما تكون الفضيحة خارقة، يكون الإجلال في ذروته. منْ الذي
يتمتع بإجلال أكبر من ساد؟ كم هو اليوم عدد أولئك الذين يعتقدون بعمق أنه
يكفيهم الاحتفاظ بين أيديهم للحظات بذلك العمل الملعون (œuvre maudit) لكي يتحقق القول الغروريّ لـ روسو: كلّ فتاة تقرأ صفحة
واحدة من ذلك الكتاب سوف تضيع؟ يشكل إجلالاً كهذا قطعاً كنزاً بالنسبة للأدب
والحضارة. كذلك لا يمكن للمرء منع نفسه من الجهر بحذر لكلّ الناشرين والمعقبين في
الحاضر والمستقبل عن الأمنية التالية: في ساد، احترموا على الأقل الفضيحة.
يستطيع ساد، لحسن الحظ، الدفاع عن نفسه. ففكره
وليس عمله وحده يظلان عصيان على الاختراق-وهذا بالرغم من العدد الكبير للتطورات
النظرية فيه، التي يكرّرها ساد بصبر مُحير، ويبرهن عليها بوضوح تام، وضمن
منطق واف. إن الميل والحماس أيضاً نحو المنظومات (systèmes) هما اللذان يحركانه. إنه يشرح نفسه، يؤكد، ويبرهن؛ كما أنه يعود
مئة مرة إلى المشكلة نفسها [قليل هو القول مئة مرة]، ويقلّبها من كلّ الجوانب، ثم
يفحص جميع الاعتراضات بشأنها، ويردّ عليها، لكن غيرها سيعترضه، ويردّ عليه ثانية.
ولأن ما يقوله بسيط بشكل عام، بلغة مفرطة الثراء لكنها دقيقة ومحدّدة، يبدو وكأنه
ليس هناك ما هو أبسط من فهم إيديولوجيته، التي لا يمكن فصلها عن انفعالاته. مع
ذلك، ما عمق فكر ساد؟ ما الذي يقوله بالدقة؟ أين يكمن نظام تلك المنظومة،
من أين تنطلق وإلى أين تنتهي؟ هل ثمة من ظل لمنظومة حتى في مسارات ذلك الفكر
المهووس بالبراهين؟ ولماذا لا توفق تلك المبادئ المتعددة والمترابطة فيما بينها
إلى تشكيل المجموع العام الصلب للغاية، الذي كان عليها تأسيسه، مع أنها تبدو
ظاهرياً وكأنها تشكّله؟ هذا أيضاً لا يبدو واضحاً. ذلك هو التفرّد الأول (première singularité) لـ ساد. فأفكاره النظرية
تطلق في كلّ لحظة قوى غير معقولة (puissances irrationnelles) مرتبطة بها: تحرّك تلك القوى أفكاره النظرية وتعيقها في آن معاً،
عبر دفعة تقاومها الأفكار وتستسلم لها أيضاً، لكنها تحاول السيطرة عليها، وبالفعل
تسيطر عليها، بيد أنها لا تتمكن من ذلك إلاّ بإطلاقها لقوى أخرى غامضة، تسحبها
ثانية من خلفها، تحرّفها وتفسدها. وبالتالي، كل ما قيل هناك واضح، لكنه يبدو وكأنه
خاضع لشيء ما لم يُقل، وبأن هذا الشيء الذي صمت سيظهر بعد قليل ويتم القبض عليه
بفضل المنطق، بيد أنه يخضع، بدوره، لحركة قوّة مازالت متخفية، وفي النهاية يوضع
كلّ شيء في مكانه، ويفلحُ في التعبير عن نفسه، غير أن كلّ شيء يغطس ثانية في ظلام
أفكار طائشة ولحظات غير قابلة للصياغة.
إنّ ضيق القارىء
حيال فكر لا يتوضّح إلاّ عبر مناشدة فكر آخر، لا يمكنه أن يكون واضحاً هو ذاته، في
تلك اللحظة، بحكم ضيق أكبر. ويزداد ضيقاً لا سيما وإنّ التصريحات المبدئية لـ
ساد، أي ما يمكننا تسميته بالركيزة الفلسفية، تظهر وكأنها البساطة بحدّ ذاتها.
إن تلك الفلسفة هي فلسفة المصلحة، ومن ثم الأنانية الكاملة. على كلّ فرد القيام
بما يطيب له، وليس ثمة من قانون يخضع له أيّ أحد غير لذّته. تستند هذه الأخلاقية
على الواقعة الأولية للعزلة المطلقة (le fait premier de la solitude absolue). لقد قال ساد ذلك وكرّره عبر جميع
الأشكال: تلدنا الطبيعة وحيدين، وليس هناك من علاقة ما بين إنسان وآخر. يكمن معيار
السلوك الوحيد إذاً في تفضيلي لكلّ ما يجعلني سعيداً، وبغض النظر عن التداعيات
التي يمكن لذلك الاختيار جرّها على الآخرين. كما لا يتمتع ألم الآخرين الكبير إلاّ
بأهمية ثانوية مقارنة بلذّتي.
وماذا يهمّني، إذا ما اشتريت أضعف المتع بأثمان باهرة، ما دامت المتعة تتملّقني،
وهي قائمة في داخلي، فيما لا يمسّني أثر الجريمة، لأنه خارج عني. تلك المبادئ
واضحة. ونعثر على تطوراتها عبر ألف طريقة وضمن عشرين مجلداً. فـ ساد لا
يكلّ. وما يحرّك لذته بصورة لا متناهية، هو وضع هذه المبادئ في صلة مع النظريات
الشائعة حينذاك، ألا وهي تساوي الأفراد إزاء الطبيعة والقانون. حينئذ، يطرح ساد
الاستدلالات التالية: كلّ الكائنات واحدة في نظر الطبيعة، وإن هذه الهوية الواحدة
تجيز لي عدم التضحية بنفسي من أجل بقاء الآخرين، والذين لا مناص من تحطيمهم حتى
أحصل أنا على لذّتي. أو أنه يقدّم ما يشبه الإعلان عن الحقوق الإيروسية (Déclaration des Droits de
l’Erotisme)،
يضاف إليه، كمبدأ جذري، الحكمة التالية التي تشمل النساء كالرجال: يمنح المرء نفسه
لكلّ مَنْ يشتهيها، ويأخذ كلّ مَن يرغب فيهم. «أيّة أذية قمت بها، أيّة عدوانية
ارتكبتها إذا ما قلت لمخلوق جميل، عندما ألتقي به: لتعطني من جسدك الجزء الذي
يمكنه إشباع رغبتي للحظة ولتتمتع أنت، إذا ما راق لك ذلك، بالجزء الذي يمكنه
إسعادك من جسدي؟» بالنسبة لـ ساد، تبدو عروض كهذه غير قابلة للدحض. فعبر
العديد من الصفحات الطويلة يذكّر بالمساواة بين الأفراد، وحقوقهم المتبادلة، لكن من
دون أنّ يأخذ في نظر الاعتبار بأن براهين كهذه
بعيدة عن التماسك حيال تلك المبادئ، بل وتجعلها حمقاء. «لا يمكن أبداً ممارسة فعل
التملك على كائن حرّ»، يقول ساد. لكن ما الذي يستنتجه من هذا؟ ليس تحريم
القيام بفعل عنيف على كلّ كائن ومن ثم التمتّع بذلك على الرغم من إرادته، ولكن لا
يمكن لأي شخص، يرفض الاستسلام له، الادعاء بأن هناك علاقات مانعة، وبحق سابق للتملك.
إن المساواة بين الكائنات حق لكلّ واحد منهم في التصرف بالآخر؛ والحرية قدرة كل
واحد في إخضاع نفسه لرغباته.
حينما نلتقي بمثل هذه الصياغات المنتظمة فيما بينها على
شكل سلسلة، سنقول في أنفسنا لا بدّ من وجود ثغرة ما في عقل ساد، نقص، أو
جنون. كما يتولد لدينا شعورٌ بأن فكراً كهذا مضطرب للغاية، ومعلّق بصورة شاذة في
الفراغ. لكن سرعان ما يتغلّب المنطق، تظهر الاعتراضات وتتشكل شيئاً فشيئاً
المنظومة. فكما نعرف، تمثل جوستين، في هذا العالم، الفضيلة القويّة،
الساذجة، المقموعة والتعيسة دائماً، لكنها لا تقرّ أبداً بعيوبها، وذلك ما تكشفه
فجأة بفضل طريقتها العاقلة تماماً: تفترض مبادئكم القوّة؛ وإذا كانت سعادتي تكمن
في عدم اكتراثي بمصلحة الآخرين، فسوف يأتي بالضرورة اليوم الذي تكمن فيه مصلحة
الآخرين في إيذائي؛ فباسم أي مبدأ أحتج على ذلك؟ «هل يستطيع الفرد المعزول الوقوف
بوجه الجميع؟». اعتراض كلاسيكي، كما نرى. يردّ عليه إنسان ساد علنياً
وضمنياً، وعبر العديد من الطرق التي ستقودنا تدريجياً إلى صميم عالمه. فهو يقول
أولاً، أجل يكمن حقي في القوّة. وبالتالي تتشكل إنسانية ساد جوهرياً من عدد
قليل من الأفراد الأقوياء تماماً، الذين يتمتعون بطاقة تجعلهم يضعون أنفسهم فوق
القوانين والأحكام المسبقة، والذين يشعرون بأنفسهم جديرة حيال الطبيعة، عبر تلك
الاختلافات التي وضعتها فيهم والتي تسعى لإروائها بكلّ الوسائل. ينتمي هؤلاء
الرجال الاستثنائيون بشكل عام إلى طبقة تتمتع بامتيازات: إنهم من الدوقات، الملوك،
وبابا الكنيسة المنحدر من طبقة النبلاء؛ من ثم يستفيدون من مغانم مرتبتهم
الاجتماعية، وكذلك من الصدفة وعدم الوقوع تحت طائلة العقاب الذي يضمنه لهم موقفهم الخاص.
وهم مدينون لولادتهم بحصولهم على تلك المكاسب، التي يكتفون بدفعها إلى حدودها
القصوى من خلال طغيان شرس. إنهم الأقوى، ذلك لأنهم يشكّلون جزءاً من طبقة قوية.
«أسمي شَعْباً، يقول أحدهم، تلك الطبقة الرثة والبائسة التي لا تستطيع العيش إلاّ
بفضل الآلام وتصبّب العرق؛ ينبغي على كلّ شيء أن يتنفس التوحّد ضدّ تلك الطبقة
المقرفةِ».
وبالرغم من ذلك، يجب علينا أن لا نشك بأنه إذا كان
بمقدور أسياد الفجور هؤلاء غالباً تركيز كل عدم المساواة بين الطبقات لصالحهم،
لمنفعتهم، فذلك ما لا يشكّل إلا ظرفاً تاريخياً لا يعيره ساد أهمية ضمن
أحكامه القيّمية. فهو يدرك تماماً أن الفترة التي كتب فيها كانت تتعامل مع القوة
كفئة إجتماعية (catégorie
sociale)،
مُثبتة في هيكلية المجتمع، وتحافظ على وجودها قبل وبعد الثورة، لكنه يؤمن أيضاً
بأنّ القوة (وكذلك العزلة) ليست مجرّد حالة، وإنما اختيار وغزو (choix et conquête)، والقويّ هو ذلك الذي يعرف كيف
يصير قوياً بفضل طاقته الشخصية. يأتي أبطال ساد، في الواقع، من وسطين
اجتماعيين متعارضين: من الأعلى ومن الأسفل، من الطبقة المحظوظة ومن الأخرى
المحرومة، من بين عظماء هذا العالم وحثالة القاع. إذ يعثر البعض منهم كالبعض الآخر
في البداية على شيء ما يميزهم: فالبؤس الشديد يشكل دافعاً لا يقلّ بقوته عن دوخان
الثراء الحاد. فعندما يكون المرء على شاكلة دبواس (Dubois) أو دوراند (Durand) فإنه يتمرّد على القوانين لأنه موضوع في أسفلها، ومن ثم ليس
بمقدوره الالتزام بها من دون التضحية بنفسه. أمّا عندما يكون من نوع سانت فوند
(Saint-Fond) أو الدوق بلانجز (Blangis) يكون في موقع أعلى منها، وبالتالي لا يمكنه الخضوع لها من دون
سقوطه. لهذا يستدعي الدفاع عن الجريمة، في عمل ساد، مبادئ متناقضة: بالنسبة
للبعض، اللامساواة أمر طبيعيّ، فبعض الأفراد بالضرورة عبيد وضحايا، وليس لهم أي
حق، وهم لا شيء، ومن ثم سيكون كلّ شيء مباحاً ضدهم. من هنا مصدر تلك المدائح
المجنونة للطغيان، ولتلك المؤسسات السياسية التي تجعل من انتقام الضعيف وإثراء
الفقير أمراً مستحيلاً. «لنبرهن، يقول فرنايّ (Verneuil)، على ضرورة وجود طبقة، ضمن توجهات الطبيعة، خاضعةً جوهرياً لطبقة
أخرى بحكم ضعفها وولادتها». ---«لم يُصنع القانون لأجل الشعب... ما هو أساسي،
بالنسبة لأية حكومة عاقلة، هو منع الشعب عن اكتساح سلطة العظماء». ويضيف سانت
فوند قائلاً: «سوف يخضع الشعب لعبودية تبعده إلى الأبد عن كلّ محاولة للهيمنة
أو الحطّ من ممتلكات الأغنياء». أو ثانية: «لن يُعاقب أبداً كلّ ما يُطلق عليه
تسمية جريمة الفجور إلاّ في طبقة العبيد».
وها إننا أمام النظرية الأشدّ جنوناً للطغيان المطلق.
لكن فجأة يتغير المنظور. ما الذي تقوله دبواس؟ «لقد جعلتنا الطبيعة منذ
ولادتنا متساوين؛ وإذا ما شاء القدر تغيير اللائحة الأولى للقوانين العامة، فعلينا
نحن تصحيح نزواته وترميم تطاولات منْ هم أكثر قوّة باستقامتنا نحن... فإذا كانت
نوايانا الحسنة وصبرنا لا تُستخدم إلاّ من أجل مضاعفة قيودنا، ستكون جرائمنا
بمثابة فضائل وسنصبح مغفّلين إذا ما رفضناها بغية التقليل نوعاً ما من ثقل النير
الذي وضعونا فيه». وتضيف: الجريمة وحدها منْ يفتح باب الحياة للفقراء؛ والفسوق
تعزية عن اللاعدالة، تماماً كالسرقة التي يقوم بها الفرد المسلوب انتقاماً. وهكذا
يصبح الأمر واضحاً: العدالة واللاعدالة، الحرية والقمع، والتمرّد على القامع ما هي
إلاّ حجج وقتية تماماً يتأكّد من خلالها، وفقاً لفارق العلاقات الإجتماعية، حق
إنسان ساد المُطالب بالقوّة. من جانب آخر، سيختفي سريعاً التمييز بين أولئك
الذين هم بحاجة للجريمة لكي يكونوا موجودين وهؤلاء الذين لا يتمتعون بالوجود إلاّ
عندما تُمّحى الجريمة. تصبح دبواس بارونة. أمّا دوراند، المُفسدةِ
حدّ القاع، فسوف تنهض وترتقي إلى مصاف أعلى من مقام الأميرات ولن تتردد جولييت
في التضحية بنفسها من أجلها. كما يصبح نبلاء أوروبا رؤساء عصابة، لصوصاً [كما هو
الحال في فاكسلانج (Faxelange)]، أو أصحاب نزل لكي يتسنّى لهم بسهولة نهب واغتيال المغفّلين.
بالمقابل، يجري اختيار ضحايا الدعارة من بين الطبقة الأرستقراطية، كما لا بد وأن
يكونوا من منشأ نبيل؛ إذ يصرخ الماركيز بريساك (Bressac) في وجه أمّه، الكونتيسة، وباحتقار كبير: «أنا سيد حياتك وحياتي،
أنا مقدس».
ما الذي يجري الآن؟ بعض الأفراد أصبحوا أقوياء. والبعض
الآخر كانوا كذلك بحكم أصلهم، لكنهم أظهروا أنهم جديرون بتلك القوّة، وذلك عبر
توسيعهم لها والتمتع بها. وصار البعض الثالث أقوياء، والدليل على ذلك نجاحهم، بعد
أن لجؤوا إلى الجريمة للحصول على السلطة، في استخدامهم لتلك السلطة من أجل الوصول
إلى الحرية التي تبيح لهم ممارسة كلّ أشكال الجريمة. ذلك هو العالم: بعض الكائنات
صعدت إلى الأعلى، وسط غبار لا اسم له ولا حصر، غبار لا متناهٍ من الأفراد، الذين
لا سلطة ولا حق لهم. لنرى ما الذي سيغدو عليه معيار الأنانية المطلقة (égoïsme absolu). أعمل ما يطيب لي، يقول بطل ساد،
فأنا لا أعرف أي شيء آخر غير لذّتي، ولكي أحافظ عليها أعذب وأقتل. إنكم تهددونني
بمواجهة المصير ذاته، في اليوم الذي ألتقي فيه بشخص يجد سعادته في تعذيبي وقتلي.
لكني اكتسبت، بالدقة، قوة تضعني فوق ذلك التهديد. حينما يقدّم لنا ساد
إجابات من هذا النوع، نشعر بأننا انزلقنا تماماً على إحدى جوانب فكره الذي لا
يرتكز إلاّ على تلك القوى الغامضة التي يُخفيها. فما تلك القوّة التي لا تخشى
القانون ولا الصدفة، والتي تغامر بنفسها باستعلاء إزاء المخاطر العظيمة لمعيار تمّ
تصوّره على هذه الشاكلة: سألحق بك كلّ الأذى الذي يروق لي، ولتلحق بي كلّ الأذى
الذي ترغب فيه، بذريعة أن ذلك المعيار سيكون دائماً في صالحه؟ لكن لكي تنهار تلك
المبادئ، ولنلاحظ ذلك جيداً، يكفي أن يكون هناك استثناءٌ واحدٌ: إذا ما صادف
القويّ (le Puissant) مرة الشرّ أثناء بحثه عن لذته
وحدها، وإذا ما أصبح مرّة ضحية عبر ممارسته لطغيانه، فإنه سوف يضيع، وسيظهر قانون
اللذّة كخداع، كذلك سيشرع الأفراد، عوضاً عن رغبتهم في الانتصار عبر التجاوزات،
بالعيش بطريقة منحطة تجعلهم قلقين من مسألة أن لا يلحق بهم إلاّ أضعف الشرور.
يعرّف ساد ذلك. و«إذا ما استدار الحظ؟» تسأله جوستين.
سيهبط إذاً بعمق أكبر في منظومته وسوف يبيّن أنه لا يمكن أبداً إلحاق أي أذى بذلك
الإنسان، الذي منح نفسه بقوة للشرّ. تلك هي التيمة الجوهرية لعمله: كلّ البؤس
والحظ العاثر من حصّة الفضيلة، أمّا الرذيلة، فحصتها السعادة المُزدهرة دوماً.
يبدو مثل هذا التأكيد أحياناً، لا سيما في الكتابات الأولية لرواية جوستين، كأنه
موضوع مُفتعل بغية إظهار تناسق القصة على شكل دلائل، وسيطرة المؤلف عليه. ويقول
المرء إن ساد يخلق لنفسه خرافات، ويسلم أمره لعناية إلهيّة سوداء، تتحمل
عناء إيصال أولئك الذين اختاروا ما هو أسوأ إلى التعاسة. لكن، في جوستين
الجديدة (La Nouvelle
Justine) وجولييت، يتغير كلّ شيء. لا شك أن ساد
يتمتع بالقناعة العميقة التالية: لا يمكن لإنسان الأنانية المطلقة الوقوع في
التعاسة؛ وحتى أكثر من ذلك، سيصبح في ذروة السعادة وسيكون عليها دائماً، وبلا
استثناء. فكرة مجنونة؟ ربما. بيد أنها مرتبطة عنده بقوى عنيفة تماماً يجعلها في
النهاية قادرة على الأفكار التي تدعمها حريّة الدحض. في الحقيقة، ليس بإمكان
الترجمة النظرية لذلك اليقين جعله خالياً من الاضطراب. لذا يبحث ساد عن
حلول متنوعة، ويقوم بتجربتها دون كلل، مع أنه لا يمكن لأي منها إرضاءه. الأول منها
شفاهي محض: يكمن في رفض العقد الاجتماعيّ الذي يُشكل، في نظره، غطاءً للضعفاء
وتهديداً نظرياً كبيراً للقويّ. وفي الواقع، يعرف القوي (le Puissant) عملياً كيف يستخدم القانون لصالح حكمه الاعتباطيّ، غير أن ذلك
يعني أنه ليس قوياً إلاّ بفضل القانون وأن القانون هو منْ يجسّد، نظرياً، القوّة.
فبالقدر الذي لا تسود فيه الفوضى أو حالة الحرب، يبقى الملك (le Souverain) مجرّد
ملك، وقانونه نفسه هو من يعينه على سحق الضعفاء، ما دام أنه قد تمّ خلق السلطة
باسم الضعفاء وكبديل عن حكم الفرد الواحد أحلّت العلاقة المزيفة للعقد الاجتماعي،
الذي يصبح بفضله سيداً. «خشيتي من انفعالات جاري أقلّ بما لا حصر له مقارنة بخشيتي
من لاعدالة القانون، ما دامت انفعالاتي أنا تغلّف انفعالات جاري ذاك، وبدلاً من
وجود شيء ما، لا شيء يوقف إجحافات القانون». لا شيء يوقف القانون، لأنه لا يوجد ما
يعلو عليه، وبالتالي سيبقى دائماً فوقي. فهو يقمعني، حتى ولو كان في خدمتي. ولهذا
أيضاً إذا كان ساد قد اعترف بالثورة، فذلك فقط باعتبارها ممراً من قانون
إلى آخر، وبالرغم من أنها بدت لوقت قصير كأنها نظام حكم بلا قانون، كما يعبّر ساد
عن ذلك عبر ملاحظاته الغريبة التالية: «تحتل سلطة القوانين مكانة أسفل من حكم
الفوضى، والدليل على ما أطرحه هنا هو ذلك الإرغام الذي يجعل كل حكومة تغطس بكاملها
في الفوضى، ما إن تحاول وضع دستور لها. وحين تلغي قوانينها القديمة، تجد نفسها
مرغمة على إقامة نظام ثوري يغيب عنه القانون: وعن هذا النظام تتولد في النهاية
قوانين جديدة، غير أن هذه الحالة الثانية أقل نظافة من الأولى، ما دامت مُنحدرة
منها...».
في الواقع، تقبل القوة بكلّ نظام للحكم. لكنّها ترفض
تسليم السلطة لأي منها، وسط عالم شوّه القانون طبيعته، كما تخلق لنفسها حصناً يظل
فيه القانون صامتاً، وحيزاً مغلقاً يتمّ فيه تجاهل السيادة الشرعية بدلاً عن
محاربتها. تتضمن بنود جمعية أصدقاء الجريمة (la Société des Amis du Crime) على بند يمنع ممارسة السياسة. «تحترم الجمعية الحكومة التي تعيش
تحت ظلّها، وإذا ما وضعت نفسها فوق القوانين، فذلك لأن مبادئها تقرّ بمسألة عدم
قدرة الإنسان على وضع قوانين تناقض قوانين الطبيعة، كذلك لا ينبغي أن تشكّل فوضى
أعضائها، الداخلية دائماً، فضيحة لا للمحكومين ولا للحكومات». لكن إذا ما حدث
وتمكنت القوة (la Puissance)، في عمل ساد من إنجاز
مهمة ما سياسية واختلطت بالثورة، كما هو الأمر في التفاهم ما بين بورشوس (Borchamps) ومحفل الشمال (Loge du Nord) من أجل قلب النظام الملكي السويدي، فلا علاقة للدوافع التي تحركه
بإرادة عتق القانون. «ما الدوافع التي تجعلك تبغض الطغيان السويدي؟» يُسأل أحد
المتآمرين. –«الغيرة، الطموح، الكبرياء، اليأس من أن أكون خاضعاً لأحد، والرغبة في
أن أرعب أنا نفسي الآخرين» –«هل تدخل سعادة الشعوب بشكل ما ضمن وجهات نظرك؟»- «لا
أرى غير سعادتي الشخصية».
يمكن دائماً للقوّة (la Puissance) الادعاء، عند الضرورة، بأنها لا تخشى من الناس العاديين الضعفاء،
كما أنها لا تخشى أي شيء من جانب القانون، الذي لا تعترف بشرعيته. تكمن المشكلة
الحقيقية في العلاقات ما بين القوّة والقوّة (la Puissance avec la Puissance). وسيلتقي حتماً أولئك الأفراد الاستثنائيون، القادمون من الطبقات
الفوقية والسفلية، بعضهم مع البعض الآخر: تقربهم أذواقهم المتشابهة؛ كذلك فإن
حقيقة كونهم استثنائيين، التي تجعلهم متميزين، توحّدهم. لكن ما شكل العلاقة بين
الاستثنائي والاستثنائي الآخر؟ لا شكّ أن
هذا السؤال قد شغل كثيراً ساد. فهو يتجول، كالعادة، من حلّ إلى حلّ آخر،
لكي يتمكن في النهاية، عبر منطقه الخاص، من إفساح المجال لذلك اللغز لإظهار
المفردة الوحيدة التي تهمّه. وحينما يبتدع جمعية سرّية، تنظمها بدقّة التعاقدات
الصارمة، والمكرّسة من أجل تفادي التجاوزات، جعلها جمعية متبرئة من التقليعة، لأنه
قد عاش في زمن استطاعت فيه الجمعية الماسونية للدعارة، أو الماسونية وحسب، من
توليد، وسط عالم منهار، عدد كبير من الجمعيات الصغيرة، والمجاميع السريّة، المؤسسة
على تواطؤ الانفعالات فيما بينها والاحترام المتبادل للأفكار الخطرة. لقد كانت جمعية
أصدقاء الجريمة بمثابة تجربة من ذلك النوع. واستغرقت دراسة بنودها وتحليلها
وقتاً طويلاً، تُحرّم على أعضاء الجمعية الاندفاع بانفعالاتهم الشرسة الواحد حيال
الآخر، تلك الانفعالات التي لا يمكن إشباعها إلاّ ضمن فوجَين من الحريم، تضمن فيها
الطبقات الفاضلة الديمومة. أمّا فيما بينهم، فيجب على الأعضاء «القبول بكلّ
الفنطازيات وفعل كلّ شيء»، كما يقول ساد، بدون انفعالات قاسية. نحن نرى
لماذا: مهما كان الثمن، ينبغي عليهم تحاشي اللقاء على الأرضية التي يصبح فيها
الشرّ سبباً لتعاستهم، أي تعاسة أولئك الذين لم يتوقعوا شيئاً آخر من ذلك اللقاء
غير لذتهم. فالإباحيون من الصنف الراقيّ يتضامنون فيما بينهم، لكنهم لا يلتقون مع
بعضهم.
لا يمكن لتواطؤ كهذا إرضاء ساد. كذلك علينا أن
نلاحظ أنه وبالرغم من الارتباط المتواصل لأبطال كتبه ببعضهم بعضاً، عبر توافقات
تثبت حدود سلطتهم وتراكب ما بين النظام والفوضى، تظل إمكانية الخيانة قائمة تماماً:
فالتوتر لا يكفّ عن الاحتدام ما بين المتواطئين، إلى حد شعورهم في النهاية أنهم
مرتبطون ببعضهم بعضاً ليس بفضل القَسَم الذي يوحدهم لكن بحكم حاجتهم المشتركة
للإفلات من ذلك القَسَم. يجعل هذا الموقف الجزء الأخير من جولييت
دراماتيكياً تماماً. فهذه الأخيرة لديها مبادئها. وهي تحترم الفجور وحينما تلتقي
بمجرم ناجز، لا تدفعها الجريمة المكتملة التي تراه قادراً على ارتكابها، والقوة
التدميرية التي يمثلها، نحو الارتباط به وحسب، وإنما أيضاً لحمايته إذا ما
استطاعت، حتى لو أصبح ذلك الارتباط مصدر خطر لحياتها. وهكذا ترفض اغتيال منيسكي
(Minski)، ذلك المسخ الذي أراد قتلها. «إن
هذا الرجل مؤذٍ تماماً للإنسانية ولذا لا ينبغي حرمان العالم منه». ويتكرّر الأمر
ذاته مع شخص آخر، مبدع في إقامة مناسبات رائعة للدعارة، ومع أنها قامت، في
النهاية، بتصفيته جسدياً، لكنها لم تقم به
إلاّ بعدما أدركت أنه كان معتاداً، بعد خروجهم من قصف الدم ذاك، على الذهاب إلى
كنيسة صغيرة لكي يُبرئ روحه من آثامه. هل سيكون المجرم الناجز بمعزل عن الانفعالات
التي يسلّم نفسه لها؟ هل سيبقى ثمة من مبدأ، مبدأ أخير، لا يستطيع فيه الداعر
أبداً أن يصبح لا مادّة ولا ضحية لدعارته الخاصة؟ «تقول السيدة دنواس
لجوليت، قلتِ لي، مئة مرة، إن الماكرات لا يشعرن بالضجر فيما بينهن؛ فهل تتنكرين
لذلك المبدأ؟» سيكون الردّ واضحاً: تتنكر له؛ وتجري التضحية بالسيدة دنواس؛
وهكذا يتم القضاء، تدريجياً، على المتواطئين المعشوقين، ورفاق درب الفجور الأكثر
إجلالاً، ويصبحون ضحايا إمّا بحكم وفائهم، أو نكوثهم، بسبب من الإعياء، أو توقّد
عواطفهم. لا شيء يمكنه تخليصهم، ولا شيء يمكنه العفو عنهم. بالكاد انتهت جولييت
من دفع أعز أصدقائها نحو حفرة الموت، حتى استدارت للبحث عن حلفاء جدد وتتبادل معهم
عهود الثقة الأبدية. عهود يسخرون منها هم أنفسهم، لأنهم يعرفون أنها لا تضع حدوداً
لتجاوزاتهم إلاّ لأنها تضمن لهم حق خرقها.
تلخّص المحاورة القادمة بين بعض أساتذة الجريمة الموقف
تماماً. واحد من اثنين، يقول جرناند (Gernand) عن ابن عمه بريساك (Bressac): «تصوروا، إنه وارثي، لكني أراهن أن حياتي لا تقلقه: فأنا أتمتع
معه بالميول الذوقية ذاتها، وطريقة التفكير نفسها، وهو على يقين بأنه يجد فيَّ
صديقاً له». قطعاً، يقول بريساك، لن أقترف أبداً أقلّ أذية بحقك. وبالرغم
من ذلك، يلاحظ بريساك ذاته أن أحد أقربائه، دو أسترفال (d’Esterval)، المُتخصص بقتل عابري السبيل خنقاً، كان على وشك اغتياله. «أجل،
يقول دو أسترفال، باعتبارك قريبي، لكن أبداً ليس لكونك زميلاً لي في الفجور». غير
أن بريساك يبقى مُتشككاً من ثم يتفقان، بالفعل، على أن اعتباراً كهذا كان
على وشك أن يجعل دوروتيه (Dorothée)، زوجة دو أسترفال تخرج عن صوابها. لكن ما الذي سيكون عليه
رد دوروتيه هذه؟ «إن مديحك قائم في حكم الفصل عليك. فتلك العادة الرهيبة،
حيث أجد نفسي مرغمة على تصفية الرجال الذين يثيرون رغبتي، هي من خط حكم القضاء
عليك إلى جانب الإعلان عن عشقي لك». ذلك واضح. لكن، ضمن ظروف كهذه، ما الذي تغدو
عليه أطروحة ساد عن سعادة الشر (le bonheur du Mal)، وماذا يصبح عليه ذلك اليقين القائل إن الإنسان سيكون سعيداً
دائماً إذا ما تمتع بكل الرذائل، لكنه سيكون بالضرورة تعيساً إذا لم تكن لديه إلا
رذيلةً واحدةً؟ في الحقيقة، تنتشر في عمل ساد جثث المتهتكين، الذين يصعقهم
الموت وهم في ذروة مجدهم. فالتعاسة لا تلحق بجوستين وحدها، وإنما بـ كليرفل
(Clairwill) أيضاً، البطلة الأقوى والأكثر
حيوية من أبطال ساد، كما أنها تلحق بـ سانت فوند الذي يغتاله نوارسل
(Noirceuil)، وبالخليعة بورغز (Borghèse) التي تُلقى في فوهة بركان، وبمئات المجرمين الناجزين غيرهم.
نهايات غريبة، وانتصارات متفرّدة لأولئك المنحرفين! كيف استطاع العقل المجنون لـ
ساد إغماض عينيه عن العديد من التفنيدات التي يطرحها على نفسه؟ بيد أن هذه
التفنيدات تشكّل بالدقة براهين لذلك العقل، وإليكم السبب: عندما يقرأ المرء جوستين
بعدم تركيز، فإنه يخدع نفسه بقصة فظة كفاية. فهو يشاهد تلك الفتاة التقيّة تُغتَصب
بلا انقطاع، تُضرب، تُعذّب، وتكون ضحيّة لقدر محتدّ لتضييعها؛ لكن عندما نقرأ جولييت،
نشاهد بنتاً فاسدة تسرق اللذّة بعد الأخرى. إن عقدة روائية كهذه لا يمكنها
إقناعنا. لكن مردّ ذلك ناتج عن عدم انتباهنا للجانب المهمّ: نحن متيقظون حيال حزن
الأولى ولإشباع رغبات الثانية وحسب، غير أننا تغافلنا عن ملاحظة أن قصتَي
الشقيقتَين هما قصة واحدة، وكلّ ما يحدث لجوستين يحدث لجولييت، وأنهما تجتازان
الحوادث ذاتها، وتخضعان للاختبارات نفسها. تمّ إلقاء جولييت في السجن أيضاً، وتلقت
العديد من الضربات، وينتظرها العقاب، بعدما جرى تعذيبها بطريقة متواصلة. أيّ وجود
مرعب هو وجودها، لكن: تمنحها تلك الشرور اللذّة، وتسحرها أشكال التعذيب هذه.
«لذيذة هي قيود الجريمة التي نحبها». ولن نتحدث عن تلك الآلام الفريدة من نوعها،
المرعبة للغاية بالنسبة لجوستين واللطيفة تماماً بالنسبة لجولييت. في مجرى أحد
المشاهد المُقامة في قصر قاضٍ سيء، نشاهد عاثرة الحظ جوستين تخضع لآلام قذرة حقاً؛
كما تجعلنا عذاباتها التي لا مثيل لها عاجزين عن التفكير بمثل تلك اللاعدالة. لكن
ما الذي يحدث؟ فتاة فاسدة تماماً، تراقب جزءاً من منظر مُلتهب ضمن ذلك المشهد، وإذ
بها تطالب أن يُنزَل بها العقاب نفسه حالاً. من ثم تحصل منه على لذائذ لا نهاية
لها. ومن الصحيح القول، إذاً، إنّ الفضيلة تجعل الأفراد أشقياء، لكن ليس لأنها
تعرضهم لحوادث تعيسة، وإنما، إذا ما وضعنا التقوى جانباً، لأنها تغدو مناسبة
للحصول على الملذات، وأشكال التعذيب شهوات.
بالنسبة لـ ساد، لا يطال الشرّ الإنسان السيد
لنفسه (l’homme
souverain)،
ذلك لأنه ليس بمقدور أحد أن يؤذيه؛ فهو الكلّ (Il est tout). لقد فهم البعض، في وقت ما، استنتاج جان بولهان (Jean Paulhan) كأنه تصريح روحي مبالغ فيه ولا يمكن للمرء تصديقه، فعند تناوله
سادية ساد أظهر أن لدى هذا الأخير ميلاً آخر متناقضاً تماماً مع ذلك(1).
لكننا نلاحظ أن هذه الفكرة قائمة في صميم منظومته. لأن الإنسان الإنانيّ الكامل
يستطيع تحويل جميع الأشياء المنفّرة إلى أشياء مستطابة، وكلّ المُقزّزات إلى
جاذبيات. فهو يؤكد، شأنه بذلك شأن فيلسوف الصالون الصغير (le philosophe du boudoir) على: «أحب كلّ شيء، أمزح مع
الكلّ، وأرغب في الجمع بين كلّ الأنواع». لهذا اضطلع ساد، في كتاب 120
يوماً (Les 120
Journée)
بتلك المهمة العملاقة المتمثلة بالعدّ الكامل لجميع أشكال الشذوذ، جميع
الانزياحات، وكل الممكنات الإنسانية. فهو ملزم بالبرهنة على كل شيء، حتى لا يكون
خاضعاً لأي شيء. «لن تعرف أي شيء، إذا لم تكن عارفاً بكلّ شيء، وإذا كنت من الخجل
بحيث تتوقف عند الطبيعة، فسوف تفلت منك إلى الأبد».
كذلك نفهم أن اعتراض التعيسة جوستين «وإذا ما أدار لك
الحظ ظهره؟» غير قادر على خلق اضطراب ما في الروح المجرمة. إذ يمكن للحظ أن يستدير
ليصبح حظاً تعيساً، لكنه لن يكون إلا مناسبة جديدة، مرغوبةً، وسارة أيضاً
كسابقتها. لكنك تغامر بوضع رأسك تحت المشنقة! ولربما انتهى الأمر بك إلى الموت
بطريقة مخزية! – تلك هي أمنيتيّ الغالية تماماً، يرد الإباحيّ. «آه، يا جولييت،
يقول بوركيز، كم أتمنى أن تتمكن ضياعاتي من قيادتي كآخر المخلوقات إلى المصير الذي
يتركهم فيه عقابهم. ستكون حتى المشنقة بمثابة تاج الشهوات الحسية عندي، سأتحدّى
الموت بتمتعي بلذة القضاء على ضحية ثمناً لجرائمي». وكما يقول آخر: «الإباحي
الحقيقي يحب حتى تلك الاتهامات التي يستحقها جراء تصرفاته الحقيرة. ألم نر أولئك
الذين ذهبوا في حبهم حد عشقهم للآلام التي كان الانتقام الإنساني يدبره لهم، تلك
الآلام التي تحمّلوها كأنها غبطة، وكيف كانوا ينظرون للمشنقة كأنها تاج المجد الذي
يُشعرهم بالغضب من أنفسهم لأنهم لم يموتوا بالشجاعة نفسها التي كانوا يمارسونها
عبر تصرفاتهم الحقيرة تلك؟» «ذلك هو الإنسان الفاسد في أوطأ درجات الفساد
المتعمّد». ما الذي بمقدور القانون فعله بقوّة (Puissance) كهذه؟ في يوم ما، سيخونها ويدمّرها، بيد أن تلك الخيانة تمنح
لذّة عنيفة لضحيتها، الذي يرى فيها برهاناً على كلّ شكوكه ويموت وهو يشعر بالمتعة
كونه كان مناسبة للشروع بجريمة جديدة [ومن دون التحدث عن أفراح أخرى]. واحدة من
أبطال ساد ومن أكثرهن إثارة للدهشة اسمها اميلي (Amélie). تعيش في السويد؛ في يوم ما تلتقي بورشس، ذلك المتآمر
الذي سبق لنا وتحدثنا عنه؛ يخون ذلك الرجل جماعته ويسلم للملك كلّ أعضاء المؤامرة،
رغبة منه بتحقيق مجزرة مرعبة؛ حينئذ يتحرك حماس تلك الفتاة. «أعشق شراستك، تقول
له. فلتقسم لي أني سأكون أيضاً ضحية لك في يوم ما؛ منذ سن الخامسة عشرة ولا يشغل
بالي غير فكرة الموت كضحية لانفعالات الفجور العنيفة. دون شك، أنا لا أرغب في
الموت غداً؛ فتهوريّ لا يصل إلى ذلك الحدّ؛ لكني لا أريد أن أموت إلاّ بهذه
الطريقة: كانت فكرة أن أموت وقد أصبحت مناسبة لجريمة تدور وتدور في رأسي». رأس
غريب، جدير بالرد الآتي: «أحب رأسك حدّ الجنون، وأعتقد أننا سنقوم معاً بأعمال
قوية تماماً». –«إنها متعفنة، فاسدة، أعترف بذلك!».
هكذا يشرع كل شيء بالكشف عن نفسه ويغدو واضحاً: بالنسبة
للإنسان الناجز، الإنسان الكليّ (le tout de l’homme)، ليس ثمة من شرّ ممكن. وإذا ما ألحق الضرر بالآخرين، أيّة لذّة!
(volupté). أمّا إذا أنزل الآخرون الأذية
به هو، فأيّة متعة! (Jouissance)
يلتذ بالفضيلة لأنها ضعيفة ومن ثم يمكنه سحقها، ويلتذّ بالرذيلة أيضاً لأنه يحصل
على الرضا من الفوضى التي تنتج عنها، حتى وإنّ كانت على حسابه. وإذا ما عاش، فليس
هناك من حدث في وجوده يجعله يشعر أنه غير سعيد. أمّا إذا مات، فسوف يشعر بسعادة
أكبر وضمن الشعور بتدميره الذاتي، سيكون هذا التدمير بمثابة ذروة لحياة لا يبرّرها
أي شيء سوى الحاجة للتدمير. لذا لا يطاله الآخرون. ولا يمكن لأي شخص إلحاق الأذية
به، وليس بمستطاع أي شيء سلبه قوة الإحساس بذاته والتمتّع بنفسه. ذلك هو المعنى
الأول لعزلته. وحتى إذا ما أصبح ظاهرياً، بدوره، ضحيةً وعبداً، فسوف يضمن له عنف
الانفعالات، التي يعرف كيف يُشبعها في ظل كلّ الظروف، ويجعله يشعر بأنها ستبقى مهما
كان الظرف، سواء في الحياة أو الموت، وهو كامل القوة (tout-puissant). هنا ينبغي علينا، كما هو ظاهر، ترك الفرصة لـ ساشر مازوخ
(Sacher Masoch)، في أن يكون أباً للمازوخية (masochisme)، ولـ ساد في أن يكون أباً للسادية (sadisme)، مهما تماثلت التوصيفات لديهما. عند أبطال ساد، لا تحوّر
لذة الإذلال أبداً شعورهم بالسيطرة، كما ترفعهم السفالة إلى الذروة؛ من ثم تبقى
مشاعر ما يُسمى الخجل (honte)
والندم (remords) والميل إلى العقاب (Goût du châtiment) غريبة عليهم. في ردّها على سانت
فوند الذي يقول: «إن غطرستي من الضخامة تجعلني راغباً في أن تتمّ خدمتي والمرء
راكعٌ على ركبتيه، وأن لا أخاطب أبداً تلك الحثالة التي نُسميها الشعب إلاّ عبر
مترجم»، تتساءل جولييت (بلا سخرية): «ألا تضعك نزوات الفجور في تلك الذروة؟»
«بالنسبة لرؤوس منظمة، كرؤوسنا، يرد سانت فوند يخدم ذلك الإذلال بطريقة
لذيذة غطرستنا». ويضيف ساد ملاحظة: «من السهل فهم ذلك؛ نقوم بفعل ما لا
يفعله أي شخص؛ لذا فنحن متفردون بنوعنا». كذلك نجد إشباع الغرور نفسه، على الصعيد
الأخلاقي، ضمن شعور المرء أنه في أسفل السلّم الإنسانيّ: «على العالم أن يهتزّ من
الجرائم التي قد نرتكبها. كما ينبغي علينا جعل وجوه الآخرين تحمرّ من الخجل لأنهم
ينتمون إلى نفس جنسنا؛ وأطالب أن يُقام تمثالٌ للجريمة المُرتكبة على مستوى الكون
كلّه وأن نطبع بأيدينا أسماءنا على ذلك التمثال». أن يكون المرء متفرداً (Être Unique)، متفرداً في نوعه، تلك هي إشارة السيادة، وسنرى بعد قليل كيف
يدفع ساد بالمعنى المطلق لتلك الفئة (cette catégorie).
كل شيء يشرع بالاتضاح بصورة أكبر؛ لكننا نشعر أيضاً، في
النقطة التي وصلنا إليها، أنّ كل شيء أصبح غامضاً بشكل أكبر. فهذه الحركة التي
يفلت بفضلها المتفرد (l’Unique)
من قبضة الآخرين ما زالت بعيدة عن الشفافية. فمن بعض الجوانب، ما هي إلاّ نوع من
اللا حساسية الرواقية (insensibilité stoïque)، التي تفترض كما يبدو الاستقلال الكامل للإنسان إزاء العالم.
لكنها، في ذات الوقت، مناقضة لذلك، لأنه في استقلاله عن الآخرين الذين لا يستطيعون
أبداً إلحاق الأذى به، سرعان ما يفرض المتفرد عليهم علاقة هيمنة مطلقة، وهذا ليس
لأن الآخرين لا يستطيعون فعل أي شيء حياله أو أن طعنة الخنجر، التعذيب والتدابير
المُذلة لا تؤثر فيه، ولكن لأنه حتى الألم الذي يتلقاه من الآخرين يمنحه لذة
الشعور بالقوّة ويعينه على ممارسة سيادته. غير أن هذا الموقف يكشف عن نفسه بطريقة
مزعجة تماماً. ففي اللحظة التي يتم فيها التصريح بأنه «سيد على نفسه» تعني أنه
«سيد على الآخرين»، وفي اللحظة التي لا يتولد فيها استقلالي (mon indépendance) عن سيادتي (autonomie)، وإنما من اعتماد الأخرين عليَّ، سيكون من الواضح أني مازلت
مرتبطاً بالآخرين وبحاجتي للآخرين، حتى وإنّ كان ذلك من أجل إلغائهم وجعلهم لا
شيء. غالباً ما أثيرت صعوبة كهذه عندما يجري الحديث عن ساد. وليس من المؤكد
أن يكون ساد نفسه قد أحسَّ بها، وقد تكون أصول هذه الفكرة المتفردة
متولدة عن ما يلي: عندما لا يكون المرء ساد، ستكون هناك مشكلة حدّية، تُقحم
عبرها ثانية علاقات السيد والعبد وعلاقات التضامن المتبادل؛ لكن عندما يسمي المرء
نفسه ساد، لن تكون ثمة مشكلة، بل وقد يستحيل وجود مشكلة.
لا يمكننا القيام بفحص النصوص العديدة والمتنوعة للغاية،
بالطريقة التي ينبغي أن يكون عليها ذلك الفحص [كلّه مطروح عند ساد بكمية لا
نهاية لها] والتي ترتبط بهذا الموقف. في الحقيقة، إنها تطفح بالمتناقضات. كما تظهر
أحياناً شراسة الفاجر كأنها محاطة بتناقضات لذّته. إذ ليس هناك من غبطة عند الفاسق
أكبر من فرحته بالقضاء على ضحاياه، بيد أن تلك الغبطة ذاتها هي من تقضي على نفسها
وتحيل إلى عدم مُسببها. «إن لذة قتل امرأة، يقول أحدهم، قد مرّت وعبرت؛ لأنها لا
تستطيع الإحساس بأي شيء عندما تموت؛ كذلك تختفي ملذّات تعذيبها بنهاية حياتها...
لنَسِمها هنا، لننتهكها هنا؛ فهي ستعاني من هذا الإذلال حتى اللحظة الأخيرة من
حياتها وسيغطس شبقنا (notre luxure) في عمق أكبر، ويصبح أكثر
لذة». كذلك يتمنى سانت فوند، المستاء من أشكال التعذيب المبالغ ببساطتها،
موت أي كائن بطريقة لا نهائية؛ لذلك يتخيل، عبر منظومة أفكار لا شك بعبقريتها،
الاستيلاء على الجحيم (mettre la main sur l’Enfer)، وتدبير أمره بحيث يستولي، في هذا العالم، على الكائنات التي
اختارها، ويستحوذ على ذلك المنبع الذي لا ينضب للتعذيب. يمكننا هنا، قطعاً، تصوّر
نوع العلاقات المُتشابكةِ التي يخلقها القمع بين القامع والمقموع. يستقي إنسان ساد
وجوده من الموت الذي يعطيه أحياناً (la mort qu’il donne)، كما يرغب أحياناً في أن تكون الحياة أبدية، ويحلم بموت يمكنه أن
يعطيه إلى الأبد، لحدّ يتمكن فيه الجلاد والضحية، الموضوعين إلى الأبد أحدهما
مقابل الآخر، رؤية نفسيهما متعادلين بالقوة ذاتها، بالخصلة الإلهية الأبدية نفسها.
أن يشكل هذا التناقض جزءاً من ساد، فذلك ما لا يمكن الاعتراض عليه. لكن
يحدث، في الغالب الأعمّ، التغاضي عن شيء كهذا لأسباب ستجعلنا نتعرف، فيما بعد
وبشكل أعمق، على عالمه الخاص. ينتقد سانت فوند كليرفيل ويلومها على
ما تسميه مبالغته التي لا يمكن غفرانها، فلكي تجعله يسلك الدرب القويم تنصحه بما
يلي: «لتبدل الفكرة الشهوانية التي تغلي في رأسك –فكرة إطالة عذابات الكائن الذي
ننذره للموت إلى ما لا نهاية- لتبدلها بفكرة الإفراط الكبير في الاغتيالات؛ منذ
زمن طويل لم تعد ذلك الفرد الذي نعرفه، غير أن هذا مستحيل، إذاً لتغتال العديد من
الآخرين، وذلك ما يمكن تماماً فعله». وبالفعل، يقدم العدد الأكبر حلاً أكثر
ملموسية. النظر للكائنات من زاوية نظر الكمية بالأحرى وقتلهم بصورة كاملة بدلاً من
ترك العنف الفيزيائي يقضي عليهم. قد يرتبط المجرم بذلك الذي يقوم باغتياله بعلاقات
لا يمكن فيها فصلهما. غير أن الفاجر، الذي عند قتله لضحيته لا يشعر إلاّ بحاجته في
قتل ألف غيره، يبدو بشكل غريب كأنه ليس ثمة ما يجمعه مع ضحيته. فمن وجهة نظره، لا
وجود ذاتياً لتلك الضحية، ولا تتمتع بكينونة متميزة، لكنها مجرد عنصر، يمكن إبداله
تماماً بعنصر آخر، ضمن معادلة إيروسية ضخمة (immense équation érotique). وعندما نقرأ إعلانات كهذه: «لا شيء يسلّي،
ولا شيء يهيج الرأس أكثر من العدد الأكبر»، حينئذ، نفهم بصورة أفضل لماذا يرتكز
العديد من براهين ساد على فكرة المساواة. فالقول إن الأفراد متساوون فيما
بينهم، معناه أنه ليس هناك من أفضيلة لمخلوق ما على غيره من المخلوقات، كما يعني
إمكانية مقايضتهم الواحد بالآخر، ولا يتمتع أي منهم سوى بالوحدة ضمن تعدد لا نهاية
له. أمام المتفرد (Unique)،
تتساوى جميع الكائنات في عدم أهليتها (égaux en nullité)، وحينما يحيل المتفرد تلك الكائنات ويختزلها إلى اللاشيء، لا
يقوم إلاّ بإظهار عدمها.
وذلك ما يجعل عالم ساد شديد الغرابة. فمشاهد
القسوة تعقبها مشاهد قسوة أخرى. كذلك ليس ثمة من نهاية لإعادة المشاهد، إعادة
أسطوريّة. فضمن المشهد الواحد، غالباً ما يقوم الإباحي بتعذيب، ونحر أربعمائة أو
خمسمائة ضحية؛ وسيقوم بفعل الشيء ذاته في اليوم القادم؛ وكل مساء، تقام طقوس
جديدة، حيث يجري تعديل طفيف على المواقع، والكلّ مثار، فيما تعقب المجزرة (hécatombe) مجزرة أخرى. لكن ما الذي يحدث! مَنْ الذي لا يفهم، في مثل هذا
الموت المجانيّ الضخم، أنه لم يكن من قبل لهؤلاء الذين يموتون أي حضور واقعيّ،
وإذا ما تمّ القضاء عليهم بمثل هذه السهولة المضحكة، فلأنه تمّ محقهم سلفاً عبر
فعل تدميريّ كليّ ومطلق (acte de destruction totale et absolu)، وأنهم لم يكونوا موجودين ولا
يموتون إلاّ لكي يكونوا شاهدين على هذه الكارثة الأصلية، عن ذلك الدمار، الذي لا
يخصهم وحدهم، وإنما جميع الكائنات؟ ذلك ما هو صاعق: العالم الذي يظهر فيه المتفرد
(Unique) صحراء (un désert)؛ والكائنات التي تلتقي فيها تقلّ قيمتها عن قيمة الأشياء، وأضعف
من الظلال، وعندما يدمّرها، لا يستحوذ على حياتها، لكنه يتحقق من عدمها، من ثم
يصبح سيداً على عدم وجودها (leur inexistence)، ومنه يستقي متعته. ما الذي يقوله الدوق بلانجس، في فجر 120
يوماً، لتلك النسوة المُجتمعات من أجل لذة أربعة من الخلعاء؟ «لتفحصن موقفكن،
مَنْ أنتن ومَنْ نحن، وستشعرن بالذعر، فأنتن خارج فرنسا، في عمق غابة غير مأهولة،
بعيدة عن التضاريس الوعرة للجبال، التي تمت تسويتها بعد تجاوزكن لها، إنكن الآن
محجوزات في قلعة مُحصنة، لا أحد يعرف هنا أنكن مفصولات عن أصدقائكن، عن عوائلكن،
إنكن ميتات سلفاً بالنسبة للعالم». علينا فهم ذلك بمعناه الحرفي: إنهن ميتات
سلفاً، محذوفات، سجينات الفراغ المطلق لسجن الباستيل (le vide absolu d’une Bastille)، الذي لم يعد الوجود يدخل فيه وحيث لا نفع لحياتهن سوى جعلهن
يشعرن بقوة بخاصية الموت سلفاً، التي تتمازج معها تلك الحيوات.
سنترك جانباً القصص المتعلقة بالميل الشاذ للقيام
بالممارسة الجنسية مع الجثث، التي مع كثرتها عند ساد، تبدو أقل من
الإمكانيات العادية لأبطاله. من جانب آخر، ينبغي علينا ملاحظة أنه عندما
يطلق أولئك الأبطال تأوهاتهم: «آه، أيتها الجثة الجميلة!» وحينما يُثارون حيال فقدان
الحسّ في الموت، علينا أن نفهم أنهم قد شرعوا غالباً بارتكاب عمليات القتل،
وانطلاقاً من قوة العدوانيّة هذه يحاولون تمديد تداعياتهم، في ما وراء الموت. لذلك
من الواضح أن الصفة التي تميز عالم ساد لا تكمن في الميل إلى التوحّد مع
الوجود الراكد والمتحجر الذي يمثله الكائن الجثثيّ، ولا الجهد الذي تقوم به
الشخصية للانزلاق في عطالة شكل، يتمثل في غياب الشكل، واقع واقعيّ تماماً (réalité pleinement réel)، في معزل عن قلق الحياة، من ثم
يجسد اللاواقع بامتياز (l’irréalité par excellence). على العكس من ذلك تماماً، فمركز عالم ساد يكمن في
المطالبة بالسيادة التي تؤكد نفسها عبر سلبية ضخمة (immense négation). إن هذا السلب الذي يكتمل في ذروة سلم الأعداد الكبيرة، والذي لا
يمكنه الاكتفاء بأية حالة خاصة، مكرس جوهرياً لتجاوز صعيد الوجود الإنسانيّ.
فإنسان ساد يستطيع فرض نفسه من خلال سلطته في تحطيم الآخرين، لكنه: لا يشعر
بأنه خاضع لهم، حتى في الحالات القصوى التي يحتاجها بغية إلغائهم، وإذا ما بدا
كأنه قادر دائماً على الاستغناء عنهم، فلأنه وضع نفسه على صعيد آخر حيث لا يبقى
ثمة معيار مشترك بينه وبينهم؛ وإذا ما وضع نفسه على هذا الصعيد مرّة وإلى الأبد،
فلأنه خصّ مشروعه التدميريّ بأفق يتخطى البشر ووجودهم الضيق إلى ما لا نهاية.
وبتعبير آخر، بالقدر الذي يبدو فيه الإنسان السادي حراً بصورة مدهشة حيال ضحاياه،
الذين تعتمد عليهم، بالرغم من ذلك لذته، فلأن العنف يستهدف شيئاً آخر من خلال تلك
الضحايا، وبالتالي، يذهب إلى ماهو أبعد منها ولا يقوم إلاّ بالتحقيق بشكل جنونيّ،
وإلى ما لا نهاية، عبر كل حالة على حدة، من الفعل العام للتدمير، الذي اختزل فيه
الله والعالم إلى اللاشيء.
من الواضح أن العقل الإجرامي عند ساد مرتبط بحلم
مهول للسلب، لا تكفّ فيه الممكنات الضعيفة العملية
عن إهانته والحطّ من شأنه. فالجريمة الأجمل في هذا العالم ما هي إلاّ بؤس يحمر وجه
الخليع خجلاً منه. فلا واحد من أبطاله، بمن فيهم الراهب جيروم (Jérôme)، لا يشعر بالخجل إزاء جرائمه الهزيلة ولا يبحث عن جريمة من نوع
أرقى من كل ما يمكن للإنسان فعله في العالم، «ولسوء الحظ، يقول، لم أعثر على تلك
الجريمة؛ وكلّ ما نفعله ما هو إلاّ صورة لما كنا نرغب التمكن من فعله». «أوّد،
يقول كليرفيل، العثور على جريمة يكون تأثيرها فاعلاً بدون انقطاع، وحتى في الوقت
الذي لا أتحرّك فيه أنا، بحيث لا تكون هناك لحظة من حياتي، وإن كان ذلك أثناء
نومي، أكفّ فيها عن القتل، ولا تمرّ لحظة لا أكون فيها سبباً بخلق نوع من الفوضى
التي تتمدد وتولّد فساداً عاماً أو اختلالاً قطعياً، من ثم يتواصل تأثيرها، حتى
بعد موتي». تردّ جولييت على ذلك بطريقة خاصة تُعجب مؤلف جوستين الجديدة:
«لتجرب جريمة أخلاقية تنجح في ارتكابها بالكتابة (parvient par écrit)». إذا كان ساد كثيراً ما يختزل، ضمن منظومته، المتعة
الذهنية، بحيث أنه حذف كل أيروسية تخيلية [لأن حلمه الأيروسي يكمن في قذفه، عبر
أحد شخوصه الذي لا يحلم وإنما يفعل واقعياً، للحركة اللاواقعية لتمتعه: إن أيروسية
ساد هي أيروسية حلم، ما دامت لا تتحقق غالباً إلا عن طريقة الحكاية؛ بيد
أنه بالقدر الذي تكون فيه تلك الأيروسية حلمية، بالقدر ذاته تتطلب حكاية، ولهذا
إمّا أن يتبدد الحلم أو يتحقق ويُعاش]، لكن إذا ما وفّق ساد، استثنائياً،
في إثارة المُتخيل، فلأنه يعرف بروعة أن أساس فشل العديد من الجرائم غير المتقنة
هو جريمة مستحيلة، تستطيع المخيلة إدراكها، ولذا يدع بلمور (Belmor) يقول: «أوه، يا جولييت، كم هي ممتعة لذائذ المخيلة، حيث لا
يقاومنا أحد، وحيث نُخرّب العالم ونعيد إسكانه بأشياء جديدة نقضي عليها من جديد؛
لأننا نمتلك كل وسيلة لتحقيق الجرائم، ونجرؤ على ارتكاب أي شيء، من ثم نتأمل ذلك
الرعب».
في كتابه المعنون قريبي ساد الذي يتضمن عدّة
دراسات، لا يعبر بيار كلوسفسكي (Pierre Klossowaski) عن الأفكار الأقوى عند ساد وحسب، وإنما أيضاً كل ما يمكن
لوجود ساد إضاءته، فعبر تلك الدراسات يكشف لنا كلوسفسكي عن العلاقات
المعقدة للغاية، التي يتمتع بها الشعور الساديّ بالله (conscience sadique avec Dieu) وبالقريب(2). كما يُبين أن تلك العلاقات علاقات سلبية، لكن،
بالقدر الذي يكون فيه النفيّ واقعياً، بالقدر ذاته يعيد توليد الأفكار التي يعبر
عنها: إن فكرة الله وفكرة القريب، يقول، ضروريتان بالنسبة لشعور الفرد الإباحيّ.
بإمكان المرء نقاش ذلك إلى ما لا نهاية، لأنّ عمل ساد هو بمثابة عدم
للأفكار الواضحة (un chaos
d’idées claires)
حيث يُقال كلّ شيء، لكن أيضاً حيث يبقى كل شيء مستوراً. وبالرغم من ذلك، يبدو لنا
أنّ أصالة ساد تكمن في هذا الادعاء الصارم والدقيق على تأسيس سيادة الإنسان
من فوق قوة النفيّ المتعاليّ (pouvoir transcendant de négation)، قوّة لا تعتمد أبداً على الأشياء التي تحطمها، والتي، لكي
تحطمها، لا تفترض وجودها السابق حتى، وذلك لأنها كانت، في اللحظة التي تقوم فيها
بتحطيمها، قد سلّمت، سلفاً، بعدم وجودها. والحالة هذه، نلتقي هنا، في آن معاً،
بالديالكتيك في أفضل نماذجه وتبريره أيضاً، بالطريقة التي يؤكد فيها المطلق القوة
(le
tout-puissant)
على نفسه إزاء القوة الإلهية المطلقة (la toute-puissante divine).
شدّد موريس هاين (Maurice Heine) على القيمة الاستثنائية الدقيقة لأطروحة ساد(3). لكن، لا
ينبغي أن نتعامل مع هذا الإلحاد (cet athéisme)، كما أشار كلوسفسكي مئات المرات مع ذلك، على أنه إلحاد
بدم بارد. فبدءاً من التطور الأكثر هدوءً الذي ظهر فيه اسم الله، شرعت اللغة
بالاشتعال، وتعالت النبرة، كما أخذت الحركة تسحب الكلمات من خلفها، وتشوشها (les bouleverse). ممّا لا ريب فيه لم يدلل ساد
على صبره عبر المشاهد الشبقية وحسب، وإنما أيضاً عبر تلك المشاهد التي يستيقظ فيها
العنف والاحتقار، حرارة الغرور ودوخان القوة، والرغبة المباشرة، في كلّ لحظة يلتقي
فيها المُتفرد (l’Unique) على طريقه آثار الله. إن فكرة
الله هي، بمعنى ما، خطيئة الإنسان التي لا تُغتفر، خطيئته الأصلية، الدليل على
عدمه، وهذا ما يبرّر ويُبيح الجريمة، لأنه ليس بمقدورنا اللجوء، إزاء كائن رضي
بإمحاء نفسه أمام الله، إلى الوسائل النشطة تماماً للفناء (moyens trop énergiques de l’anéantissement). يكتب ساد: «إن فكرة الله
هي الخطل الوحيد الذي لا يمكنني غفرانه للإنسان». عبارة حاسمة، وواحدة من مفاتيح
منظومته. إن الإيمان بإله كامل القوة لا يترك للإنسان سوى واقع لا يعادل قشة، ذرة
عدم (atome de
néant)،
يفرض على الإنسان الكليّ واجب القبض ثانية على تلك القوة فوق الإنسانية (pouvoir surhumain) بممارسته هو نفسه، باسم الإنسان
وعلى الأفراد، حق السيادة التي اعترف بها هؤلاء لله. فالمجرم، حينما يقتل، يصبح هو
الله على الأرض، لأنه ينجز بينه وبين ضحيته العلاقات الإلحاقية، حيث ترى هذه
الأخيرة تحديد السيادة الإلهية (souveraineté divine). فما إن يلمح الخليع الحقيقيّ، وإنّ ظل ذلك في عقل الفاسق الأكثر
فساداً، أقل آثار الإيمان الدينيّ، حتى يصدر حكم إعدامه عليها: لأن هذا الفاسق
السيء هو من دمر نفسه، حين سلم أمره لله، واعتبر نفسه لا شيء، لحدّ لا يقوم فيه
ذلك الذي قتله بأي شيء آخر سوى ضبط موقف بالكاد تغطيه المظاهر.
يتنكر الإنسان الساديّ للأفراد الآخرين، بيد أن ذلك
التنكر لا يكتمل إلاّ بتوسّط فكرة الله. للحظة واحدة، يجعل من نفسه إلهاً لكي يتلاشى
الأفراد أمامه ويروا بأعينهم عدم الكائن أمام الله. «أنتَ لا تحب البشر، أليس
كذلك، أيها الأمير؟» - تتساءل جولييت – «أنا أمقتهم، ولا لحظة تمرّ عليَّ دون
التفكير بإلحاق الأذى الأكثر قسوة بهم، في الحقيقة، ليس هناك من جنسٍ أشدّ منهم في
رعبه... أي انحطاط، إنه جنس خسيس، ومثير للقرف!» «لكن أنت، تقاطعه جولييت، هل
تعتقد حقاً أنك واحد منهم؟ أوه، كلا، كلا، عندما نهيمن عليهم بمثل هذه القوّة،
سيكون من المستحيل أن نكون واحداً منهم». «لديها الحق، يقول سانت-فوند، أجل، نحن
آلهة».
مع ذلك، تتواصل حركة الديالكتيك: لقد أسند إنسان ساد
لنفسه قوّة أن يكون فوق البشر، تلك القوّة التي تخلّى عنها البشر بحماقة لله، لكنه
لا ينسى ولو لحظة واحدة أن هذه القوّة بمثابة نفيٍ محض: أن يكون هناك الله ليس له
سوى معنى واحد، سحق البشر، ومحق الخلق. «أرغب في أن أكون علبة طماطم (boîte de Pandore)، يقول ثانية سانت-فوند، لكي
تدمّر كلّ الشرور التي تُخرج مني جميع الكائنات الفردية». فيما يقول فرنييّ
(Verneuil): «إذا كان صحيحاً أن الله قد
وُجد يوماً ما، ألا يحق لنا منافسته عبر تدمير كلّ ما خلقه؟» بمثل هذه الطريقة،
يتشكّل شيئاً فشيئاً، ذلك المفهوم الغامض عن القوّة المطلقة (Toute-Puissance)، التي لا يمكن أبداً أن يكون
ثمّة من شكّ حيال معناها. يُشدّد بيار كلوسفسكي على نظريات سانت-فوند، الذي
كنّا قد أشرنا إلى كلامه قبل قليل، والذي يقدّم، من بين كلّ أبطال ساد،
نموذجاً متفرداً لإيمانه بالكائن الأعلى (l’Etre Suprême): ما عدا أن الربّ الذي يؤمن به ليس بالربّ الطيب تماماً، لكنه
«حقود وانتقامي للغاية، بربريّ تماماً، نذل، وغير عادل، وقاسٍ تماماً»؛ إنه الكائن
الأعلى بخبثه، إله المخربين. لقد استقى ساد من هذه الفكرة كلّ التطورات
المتألّقة لخطابه. فهو يتخيل يوم القيامة (Jugement dernier) ويصفه عبر مصادر المزاج الشرس الذي يتمتع به. إذ نسمع هناك الله
وهو يوبّخ الطيبين بقسوة التعابير التالية: «إذا كنتم قد رأيتم أن كلّ ما هو قائم
على الأرض فاسد وإجرامي، لماذا إذاً أضعتم أنفسكم على درب الفضيلة؟ ألم تقنعكم كلّ
المآسي التي غطيتُ بها الكون بأنه لم يكن لدي أبداً سوى الفوضى، ومن ثم كان عليكم
إغضابي بغية إرضائي؟ ألم أقدّم لكم في كلّ يوم نموذجاً للتدمير، لماذا لم تدمروا
إذاً؟ أيها الأحمق! لم لمْ تقلدني!».
لكن، بعد تذكيرنا بذلك، من الواضح أنّ تصوَّر رب جحيميّ
كهذا (Dieu infernal)، ليس إلاّ لحظة من لحظات
الديالكتيك الذي سيلتقي عبره الإنسان المتفوق لـ ساد (surhomme de Sade)، بعدما أنكر وجود الإنسان تحت
اسم الله، برب آخر ينكره هو الآخر باسم الطبيعة، التي سيتنكر لها ويوحّدها بعقل
النفيّ (esprit de
négation).
مع الله الشرير (Dieu mauvais)، يستريح النفي الذي ألغى فكرة
الإنسان للحظة، لكي يجعل من نفسه موضوعاً له. فعندما أصبح سانت-فوند رباً، أجبر
الله في الوقت نفسه أن يكون سانت-فوند، والكائن الساميّ (l’Etre suprême)، الذي تمّ إلغاء الخرافة على يديه لكي يطرح بدلاً عنه المقتدر
المُتنحيّ (le fort à abdication)، والذي ما عاد بمقدوره التأكيد
على أي شيء آخر غير خشية المتعاليّ القاسي (contrainte d’un transcendance airain) الذي يسحق كلّ فرد وفقاً لضعفه.
إنّه الحقد الراسخ للبشر وقد ترقى إلى أعلى درجاته. لكنّه وبالكاد قد بلغ مرتبة
الوجود المطلق، وإذا بعقل النفي، الذي وعى بنفسه باعتباره لامتناهياً (conscience de lui-même comme
infini)،
لا يمكنه إلاّ الانعطاف ضدّ كلّ ما يؤكد ذلك الوجود، الموضوع الوحيد المتبقّي الآن
الذي يقف في مصاف النفي وقد أصبح لانهائياً. إنه البغض المتجسد على هيئة الله
للبشر. إنه الآن كره الله الذي يعتق الكراهية من الله نفسه. كراهية صارمة تبدو
كأنها قادرة، في كل لحظة، على عكس الواقع الذي تلغيه بصورة أفضل، لكي تؤكد وجودها
وتبرّره. «إذا كان ذلك الوجود – وجود الله - حقيقاً، فإني أعترف، يقول دبواس
(Dubois)، إنّ لذّة إثارة الغضب عند منْ
تلبّسه ستكون أعظم تعويضاً من الضرورة التي أجد نفسي فيها وأنا أحمل شيئاً من
الإيمان به» لكن هل تشهد كراهية حارقة كهذه، التي تبدو وكأن كلوسفسكي يؤمن
بها، أي ذلك الإيمان الذي قد نسى اسمه وبالتالي سيلجأ إلى الكفر لكي يرغم الله على
الخروج من صمته؟ لا يبدو لنا الأمر كذلك. فكل شيء يشير إلى أن تلك الكراهية
القويّة تماماً قد ارتبطت بالله، لأنها عثرت فيه على ذريعة وقوت متميزان (prétexte et aliment privilégiés). من الواضح أن الله، عند ساد،
ليس إلاّ ركيزة لحقده. فكراهيته من الضخامة حداً لا يستطيع فيه الالتفات إلى أي
موضوع آخر؛ ولأنها لانهائية، وتتجاوز دائماً كلّ الحدود، يحدث أن يشعر أحياناً
بالاكتفاء بها وبالتالي التمتع بتلك اللانهائية، التي يعطيها اسم الله [كلّ
منظومة، يقول كليرفل لـ سانت-فوند، لا تنبع إلاّ من ذلك الرعب
العميق الذي تشعر به حيال الله]. غير أن الكراهية هي الشيء الوحيد الواقعي، من ثم
ستكون ضدّ الطبيعة، بالجرأة نفسها التي تحملها ضد الله اللاموجود (contre Dieu inexistant) الذي تمقته.
في الحقيقة، إذا كانت الأشياء الدينية (choses religieuses)، واسم الله (le nom de Dieu)، وصناع الله هؤلاء، أي
القساوسة، الذين تنهدّ ضدهم أعنف انفعالات ساد، فذلك لأن مفردتي الله
والدين تجسدان كلّ أشكال الكراهية تقريباً. من خلال الله، يكره ساد العدم
الذي جلبه الانسان على نفسه بقبوله بمثل هذا السيد، كما تغضبه فكرة العدم وتجعله
يلتهب حداً يدفعه إلى التعاون مع الله لأجل إزالة ذلك العدم. من ثم فإنه يكره في
الله قوته المطلقة، التي تَعرّفَ من خلالها على قوته هو، بالتالي يصبح الله صورةً،
وجسداً لكراهيته اللانهائية. وفي الختام، إنه يكره في الله بؤس الله (il hait en Dieu la misère de Dieu)، عدم كفاءة وجود هو بمثابة لا
شيء، كلّما أكّد فيه على نفسه وعلى الخلق، ذلك لأنّ العظيم والكليّ هو عقل
التدمير.
يتطابق العقل التدميريّ، في منظومة ساد، مع
الطبيعة. فعند هذه النقطة، تردّد فكره كثيراً، إذ كان ينبغي عليه، في الحقيقة،
التخلّص من العديد من الفلسفات الإلحادية الشائعة في وقته، والتي لم يكن بمقدوره
سوى التعاطف معها، وحيث كان على عقله، المتعطش للدلائل، العثور على مصادر لا تنضب.
لكن وبالقدر الذي عرف فيه كيفية التحرّر من الإيديولوجيا الطبيعية، حيث لم يكن
ساهياً عن التناظرات الخارجية (analogies extérieures)، بالقدر ذاته يقدّم لنا البرهان على أنه وصل في المنطق إلى حدوده
القصوى إزاء الأشكال الغامضة التي كان ينعكس عليها. فمفردة طبيعة هي واحدة من
الكلمات التي كان يكتبها، شأنه في هذا شأن كل كتّاب زمانه، عن طيب خاطر. فباسم
الطبيعة كان يخوض صراعه ضدّ الله وضدّ كل ما يمثله، لا سيما الأخلاق. ولا داعي
للإصرار هنا، ذلك لأن جزالة ساد من حول ذلك الموضوع مدوخة (vertigineuse). فإذا كانت الطبيعة هي أولاً الحياة الكونية، فسوف تكمن كلّ
فلسفة ساد، التي يطوّرها عبر مئات الصفحات، في تكرار القول إن الغرائز
اللاأخلاقية جيّدةً، ما دامت حقائق طبيعية، وكل شيء، في المقام الأول والأخير،
طبيعي. وبتعبير آخر، ليس هناك من أخلاق، بل سيادة الفعل. لكن، بعد ذلك مباشرة،
وبسبب من شعوره بالضيق من تعادل القيمة التي كان قد أسندها للغرائز الجيدة
والدوافع السيئة، يحاول ساد إقامة تراتبية جديدة للأخلاق، تقف على قمتها
الجريمة. إنّ برهانه الأساسيّ يتمثل في القول إن الجريمة أكثر تطابقاً مع عقل
الطبيعة، لأنها حركة، أي حياة؛ فالطبيعة التي ترغب في الخلق، مثلما يقول، بحاجة
للجريمة المدمّرة: لقد تمّ تأسيس كل ذلك بطريقة غاية في الدقة، مع استطالة
لا تنتهي، والقائمة على بعض الدلائل الصادمة. مع ذلك، أصبح إنسان ساد، بحكم
كثرة الحديث عن الطبيعة، ولأنه يجد قبالته دائماً ذلك المصدر المُتسيدِ والذي لا
يمكن تخطيه، غاضباً شيئاً فشيئاً، من ثم أصبحت كراهيته لا تطاق وصار يلعنها ويحكم
عليها بالسلب. «نعم، أجل، يا صديقي أنا أبغض الطبيعة». لهذا التمرّد دافعان
عميقان. من جانب، لقد تبين له أنّ قوة التدمير الخارقة التي يتصوّرها لا هدف لها
سوى تخويل الطبيعة إعادة الخلق. ومن الجانب الآخر، بالقدر الذي يشكلُ فيه هو نفسه
جزءاً من الطبيعة، يشعر أنها تفلت نحو سلبها وكلّما كانت العدوانية أكبر، يصبح ذلك
أفضل، وكلّما قضى عليها صار خاضعاً لها. من هنا تصدر أصوات الكراهية، أي التمرّد
المجنون حقاً. «آه أنت، أيتها القوة العمياء والغبية، حتى عندما أقضي على جميع
الكائنات التي تغطي الأرض، لن أصل إلى غايتي، ما دمت قد خدمتك، أيتها الجاحدة، ولا
أحلم إلاّ بالانتقام لنفسي من حماقتك أو من نذالتك التي تخضعين البشر لها، ومن ثم
لا تقدّمين لهم أبداً الوسائل التي يقاومون بها الميول المرعبة التي توحين لهم
بها». ثمة هنا تعبير عن عاطفة بدائية وأولية (primordial et élémentaire): الاعتداء على الطبيعة، ذلك هو الشرط الأعمق للإنسان، فهذه
الحاجة القائمة في داخله أقوى ألف مرّة من حاجته لتحدّى الله. «كلّ ما نقوم به ما
هو إلا أفعال فيتشية (صنمية) لكائنات مهانة، بيد أن الطبيعة ليست كذلك، وهي التي
أرغب أن أكون قادراً على الاعتداء عليها، أريد تشويش خططها، اعتراض طريقها، إيقاف
عجلة الكواكب، شقلبة الكريات التي تطوف في المجال، تدمير ما يعينها، وحماية من
يُسىء لها، شتمها، وبكلمة واحدة، في كلّ أعمالها، لكن ما عاد بإمكاني التوصل إلى
ذلك». ومن جديد، عبر ذلك الممر، يتعامل ساد مع الأمر بسهولة حدّ خلطه بين
الطبيعة والقوانين الطبيعية، وهذا ما جعله يحلم بحدوث كارثة تقضي على تلك
القوانين، غير أنّ منطقه الخاص يبتعد عن شموليات كهذه، وحينما يتخيّل، في مكان
آخر، ميكانيكياً يبتدع آلة تذري الكون كالتراب؛ يكون مرغماً على الاعتراف: لن يكون
هناك ما يستفيد من الطبيعة أكثر من هذا الميكانيكيّ. فـ ساد يعي تماماً أن
القضاء على الأشياء لا يعني جعل العالم عدماً، لأن العالم ليس فعل توكيد شموليّ
وحسب، وإنما تهديم شموليّ أيضاً، بحيث يمكن لكليانية الكائن (totalité de l’être)
تمثيله تماماً كما تمثله كليانية العدم (totalité du néant). لهذا يشكّل النضال ضد الطبيعة، عبر تاريخ الإنسان خطوة
ديالكتيكية تتفوق كثيراً على النضال ضدّ الله. يمكننا القول، من دون تحديث فكره (sans moderniser sa pensée)، إن ساد واحد من أولئك
الأوائل الذين تعرّفوا، من خلال فكرة العالم، على ملامح الترانسندنتاليّ ذاتها (les traits mêmes de la
transcendance)،
ومادامت فكرة العدم تشكّل جزءاً من العالم، فلا يمكننا التفكير بعدم العالم إلاّ
من داخل وحدة، ألا وهي وحدة العالم.
إذا كانت الجريمة هي عقل الطبيعة، فلن تكون هناك من
جريمة ضدّها، وبالنتيجة، ليس ثمة من جريمة ممكنة. يؤكد ساد دائماً على ذلك،
تارة بقبول كامل، وتارة بغضب أكثر احتداماً. فعدم الاعتراف بإمكانية الجريمة يتيح
له فرصة نكران الأخلاق والله وكل القيم الإنسانية، لكن نكران الجريمة هو أيضاً
التخلي عن عقل النفي (l’esprit de négation)، من ثم الإقرار بأنه من الممكن حذف هذا الأخير ذاته. غير أنّ ساد
سيقف بوجه استنتاج كهذا بقوّة، وسيدفعه، تدريجياً، نحو سحب أي وجود واقعيّ
للطبيعة. في المجلدات الأخيرة لـ جوستين الجديدة [لاسيما في الثامن
والتاسع]، تشهّر جولييت بكل تلك التصورات وتعتذر عنها صراحة بالعبارات
التالية: «أيّة غبية كنت قبل أن نفترق، إذ كنتُ ما أزال أقف في تصوراتي عند
الطبيعة، أمّا المنظومات التي تبنيتها منذ ذلك الوقت، فهي تجعلني أرتقي إلى
مصافها...». فالطبيعة، كما تقول، لا تتمتع بحقيقة، أو واقع ومعنى أكثر مما يتمتع
به الله: «آه! الرحمة، ربما كنتِ تخدعينني، مثلما كنتُ مخدوعة بتلك الخرافة
الإلهية المشينة التي كانوا يقولون إنك خاضعة لها؛ نحن لا نعتمد عليك أكثر من اعتمادنا
عليه؛ وقد تكون الأسباب غير نافعة للنتائج...». وهكذا تختفي الطبيعة، مع أن
الفيلسوف قد وضع جميع آماله عليها وأتاحت له مناسبة جيدة لكي يجعل من الحياة
العامة آلة رائعة للموت. لكن العدم المجرد لم يكن هدفه. ما كان يثير اهتمامه هو
السيادة عبر عقل النفي المدفوع إلى أقصى درجات توتره. لقد استخدم ذلك النفي
بالتتابع فيما يتعلّق بالبشر، بالله والطبيعة التي اختبرها. إذ تظهر كلّ واحدة من
هذه الأفكار، الله (Dieu)،
البشر (Hommes)، والطبيعة قد تلقت، عندما
يخترقها النفي، قيمة بعينها، لكن إذا ما تناولنا التجربة بمجموعها، فلن يبقى لتلك
الأفكار ولا حتى ظل الواقع، لأن جوهر التجربة يكمن بالدقة في تدميرها وإلغائها
الواحدة بعد الأخرى. ما هم البشر، إذا كانوا عدماً أمام الله؟ ما الله، عندما
يُوضع كونه حضوراً في الطبيعة؟ وما الطبيعة، إذا كانت مرغمة على الاضمحلال أمام
الإنسان، الذي يحمل في داخله حاجة احتقارها؟ وهكذا تكتمل الحلقة. انطلقنا من
البشر، وها نحن نعود إلى الإنسان. فقط إن هذا الأخير يحمل الآن اسماً آخر: يطلق
على نفسه اسم المتفرد (Unique)،
الإنسان المتفرد من نوعه.
ادعى ساد، الذي اكتشف أن النفي عند الإنسان قوة،
تأسيس مستقبل الإنسان على النفي المدفوع إلى أقصاه. ولكي يتوصّل إلى ذلك، تخيل
مبدأ، استعاره من اللغة السائدة في زمانه، يمثل، بغموضه، اختياراً عبقرياً. ذلك
المبدأ هو الطاقة (ce principe, c’est l’énergie). الطاقة هي، في الحقيقة، فكرة ملتبسة تماماً. فهي، في آن معاً،
حافظة للقوى وتبديد لتلك القوى، تأكيد لا يتحقق إلا مع السلب، قدرة (puissance) بمثابة تدمير (destruction). إضافة إلى ذلك، هي حدث وقانون، عطية (donné) وقيمة (valeur). من اللافت للاهتمام تماماً، هو أن ساد كان بعيداً، في
ذلك العالم الذي يغلي بالعاطفة، عن وضع الرغبة في المقام الأول في مخططه، بل
وجعلها ثانوية وحكم عليها بالمشبوهة. لأن الرغبة تنكر العزلة وتقود إلى اعتراف خطر
بعالم الغير (monde
d’autrui).
لكننا نرى بوضوح، عندما يصرح سانت فوند: «إن انفعالاتي، المركزة على نقطة
متفرّدة، تشبه أشعة الشمس التي يكثفها قضيب حديدي ملتهب: إنها تحرق في الوقت ذاته
المادة الموضوعة فوق المدخنة»، كيف يمكن للتدمير الظهور كأنه الاسم الثاني للقوّة،
من دون أن تحصل المادة المدمرة عبر تلك العملية على أيّة قيمة. امتياز آخر لذلك
المبدأ: يخصّ الإنسان بمستقبل ما، ودون أن يفرض عليه القبول بأية فكرة مثالية (aucune notion idéal). هنا تكمن واحدة من استحقاقات ساد.
لقد زعم أنه يسقط أخلاقية الخير (morale du Bien)، لكنه، بالرغم من ذلك، كان مهتماً تماماً بعدم إبداله بإنجيل
الشر (Evangile du
mal).
وحينما يكتب: «كلّه جيد عندما يكون متطرفاً»، يمكن للمرء توجيه النقد إليه عن عدم
ثبات مبدئه، بيد أنه لا يستطيع لومه على رغبته في تأسيس سيادة الإنسان (fonder la souveraineté de l’homme) فوق سيادة الأفكار (souveraineté de notions) التي ستكون أكثر سمواً منه. لن
يصدر أي سلوك متميز من ذلك: يمكننا اختيار القيام بأي شيء؛ بيد أن ما يهمنا، هو
كيف نكون قادرين على جعل التدمير الأعظم (la plus grande destruction) يلتقي بالإثبات الأعظم. عملياً تسير الأمور، في روايات ساد،
على هذا النحو. إذ ليس وفقاً للفضيلة أو الرذيلة الأكبر أو الأصغر تكون الكائنات
تعيسة أو سعيدة، وإنما وفق الطاقة التي يبرهنون عليها؛ لأنه، مثلما يكتب «ترتبط
السعادة بطاقة المبادئ، ولن يحصل ذلك المتذبذب بلا انقطاع على حصة منها». وجولييت
التي يقترح عليها سانت-فوند خطة لتدمير ثلثي فرنسا من خلال الجوع، تتردد
وتحتدم: تشعر مباشرة أنها مهدّدة. لماذا؟ لأنها قدمت مثالاً على الضعف، وقد انخفض
صوت روحها، كذلك لأن طاقة سانت-فوند الأكبر من طاقتها تتهيأ لجعلها ضحية
له. وهذا ما تكشف عنه بوضوح أكبر حالة دوراند. فدوراند مُسَمِّمَة (empoisonneuse) عاجزة عن التمتع بأية فضيلة؛ وفسادها ناجز. لكن في يوم ما
تطالبها حكومة البندقية (Venise) بنشر مرض الطاعون. يُرعبها ذلك المشروع، ليس بسبب طابعها
اللاأخلاقي، لكن لأنها تخشى أن تطالها المخاطر. ومن ثم حُكم عليها بالإدانة
مباشرة. لأن الطاقة خانتها، وعثرت على سيدها، وسيدها هو الموت. ضمن الحياة الخطرة،
يقول ساد، المهم هو «عدم فقدان القوة الضرورية لتخطي العوائق الأخيرة»
أبداً. يمكن للمرء القول إن هذا العالم الغريب لا يشكّله الأفراد، وإنما منظومات
قوى، وضغط مرتفع نوع ما. ففي المكان الذي ينخفض فيه إنتاج الضغط، سيكون من الصعب
تلافي الكارثة. من ناحية أخرى، لا ينبغي إقامة فارق بين طاقة الطبيعة وطاقة
الإنسان: الدعارة هي نوع من أنواع الصواعق، كما أن الصاعقة هي نوع من أنواع شبق
الطبيعة؛ وسوف يكون الضعيف ضحية لواحدة منهما، فيما سيخرج منهما القوي منتصراً. جوستين
مصعوقة، أمّا جولييت فليست كذلك؛ وليست هناك أية تسوية ربانية لهذه
النهاية. إن ضعف جوستين يستدعي الصاعقة التي تنزلها طاقة جولييت على
رأسها. وعلى الشاكلة ذاتها، كل ما يحدث لجوستين سيجعلها تعيسة، لأن كل ما يمسها
يُقزمها؛ ويقولون لنا عنها إن ميولها كانت ميولاً تقية لكنها واطئة (vertueuses mais basses)، وذلك ما ينبغي فهمه حرفياً. على
العكس من هذا، كلّ ما يمس جولييت يكشف لها قوتها، وهي تتمتع بها كأنها نمو لها.
لهذا سيجعلها موتها، بعدما توفيت، واختبرت الدمار الكليّ والتبديد الكليّ لطاقتها
الضخمة، تبلغ الحدّ الأخير للقوّة والانتشاء.
فهم ساد تماماً أن سيادة الإنسان الحيويّ، تلك
التي حصل عليها هذا الأخير عبر توحده بعقل النفي، حالة متناقضة (état paradoxal). فالإنسان الكليّ، الذي يؤكد
نفسه بصورة كليّة، قد تمّ تدميره كليةً. إنه إنسان كل الانفعالات لكنه فاقد
الاحساس. لقد شرع بتدمير نفسه، كإنسان، وبعده كإله، ومن ثم كطبيعة، وفي الخاتمة
صار متفرداً (devenu Unique). يمكنه الآن فعل كلّ ما يريد،
لأن السلب قد بلغ فيه مرتبته النهائية. ولكي يعطي صورة عن تشكله، يلجأ ساد
إلى مفهوم متماسك تماماً، يطلق عليه التسمية الكلاسيكية للوهن. فالوهن هو عقل
النفي المُطبّق على الإنسان
الذي اختار أن يكون متسيداً (souverain). ذلك هو بمعنى ما سبب أو مبدأ الطاقة. يبدو أن الحقّ يقف بجانب ساد
بالطريقة التالية تقريباً: يمثل فرد اليوم كمية معينة من القوّة؛ لكنه في غالب
الأحيان يبعثر قواه ويجعلها غريبة عليه، لصالح أشباح يطلق عليهم اسم الآخرين،
الله، المثالي؛ وبالتالي يخطئ، عبر تلك البعثرة، باستنفاد
ممكناته عبر إسرافه بها، بل وأكثر من ذلك عندما يبني سلوكه على الضعف، لأنه إذا ما
بدّد نفسه لصالح الآخرين، فلأنه يظن أنه يحتاج إلى التعكّز على الآخرين. عجز حتمي:
أصبح ضعيفاً بسبب تبديده لقواه بصورة عبثية، وهو يبدّد قواه لأنه يعتقد أنه ضعيف.
لكن الإنسان الحقيقي (l’homme vrai) يعرف أنه وحيد ويتقبّل ذلك، فكل ما في داخله إرث سبعة عشر قرناً
من الجبن (lâcheté)، كما أنه يرتكز على الآخرين أكثر
من اعتماده على نفسه، التي يتنكّر لها؛ ويقوم، على سبيل المثال، بتدمير الشفقة،
الوفاء والحب لأنها عواطف؛ وعند تدميره لها، يستعيد القوّة التي كان عليه تكريسها
لهذه الدوافع المُضعفةِ (impulsions débilitantes) من ثمّ سيحصل، من عمل التدمير هذا، على بداية انطلاق جديدة بطاقة
جديدة، وذلك ما هو أكثر أهمية.
في الحقيقة، علينا فهم أن الوهن لا يكمن في القضاء على
الانفعالات الطفيلية (parasitaires) وحسب، وإنما يتناقض أيضاً مع عفوية أي حماس. فالفاسد الذي يستسلم
مباشرة للرذيلة، ما هو إلاّ مجهض avorton ضائع. وحتى الماجنون (débauchés) ذوو العبقرية، المهيؤون تماماً لكي يصبحوا مسوخاً (monstres)، إذا ما اكتفوا باقتفاء ميولهم، سيكونون منذورين للكارثة. ذلك ما
يُشدد عليه ساد: لكي يتحوّل الحماس إلى طاقة، ينبغي عليه أن يكون مضغوطاً (comprimée)، وسطيّاً (se médiatise)، ويمرّ بلحظة من عدم الاحساس الضرورية (un moment nécessaire d’insensibilité)، حينئذ سيكون بمثابة الإمكانية
الأكبر. في الأزمنة الأولى من سيرتها الذاتية، لم تكف جولييت عن سماع ذلك على لسان
كليرفل: لا تقترف الجريمة إلاّ بحماس، ولا تشعل شعلة الجريمة إلاّ من لهيب
الانفعالات، كما أنها تضع الشبق، وفوران اللذة فوق أي اعتبار آخر. مسائل سهلة
خطرة. تتمتع الجريمة بأهمية أكبر من أهمية الشبق، والجريمة المرتكبة بدم بارد أهم
من الجريمة المقترفة أثناء التهاب العواطف؛ بيد أن الجريمة كتصلب الجزء الحسيّ،
المعتمة والسريّة أكثر أهمية من أي شيء آخر، لأنها فعل روح راكمت، بعد أن هدمت كل
شيء فيها، قوة ضخمة، تتطابق مع الحركة التدميرية الشاملة التي تتهيأ لها. إن كل
هؤلاء الفاسقين الذين لا يعيشون إلاّ من أجل اللذّة، ليسوا بالكبار إلاّ لأنهم
قضوا تماماً على أية إمكانية للذّة في نفوسهم. لهذا يقترفون أشكال شذوذ مرعبة؛ وإن
لم يكونوا كذلك، فسوف تشبعهم المتع الأخلاقية الهشّة. لكنهم يشعرون بأنهم صنعوا
معدومي الحسّ: إنهم يتظاهرون بالتمتّع بعدم حسّهم هذا، بتلك الحساسية المرفوضة (sensibilité niée)، بالتالي يصبحون شرسين. فالقسوة
ما هي إلاّ نفي المرء لنفسه (négation de soi)، الفرد المدفوع إلى حدّ بعيد بحيث يتحوّل إلى انفجار تدميري (explosion destructrice)؛ ويغدو عدم الإحساس هزّة
للكينونة برمتها، يقول ساد: «تمرّ الروح بنوع من الوهن الذي سرعان ما
يتحوّل إلى ملذات إلهية أكبر بألف مرّة من تلك التي توفرها ملذات الضعف».
نفهم إذاً أن المبادئ تلعب دوراً كبيراً في هذا العالم.
فالداعر «مُتأمّل، منطوٍ على نفسه، وعاجز عن التأثّر بأي شيء ممكن». إنه معزول،
ولا يتحمل الضجّة والضحك، ولا يمكن لأي شيء تسليته؛ إن «الوهن، عدم الاكتراث،
الرواقية (stoïcisme)، خلوة المرء بنفسه، تلك هي
النغمة التي يجب عليه بالضرورة دفع روحه نحوها». إن هذا التحوّل، وذلك العمل
التدميريّ للذات لا يمكن أن يتحقق من دون مصاعب شديدة تماماً. ورواية جولييت
هي بمثابة (Bildungsroman)، كتاب دراسة نتعلم منه كيفية
التعرّف على ذلك التشكل البطيء للروح الحيوية. تبدو جولييت في الظاهر
كأنها، منذ البدء، فاسدة تماماً. لكن، في الواقع، لم يكن لديها سوى بضعة ميول
ورأسها ما يزال غير ممسوس؛ أي إنه ما زال عليها القيام بجهد ضخم لتحقيق ذلك،
لأنها، كما يقول بلزاك، لم يتحطم ذلك الذي يرغب (n’est pas détruit qui veut). يلاحظ ساد أن هناك لحظات غاية في الخطورة، يتضمنها عمل
الوهن ذاك. إذ يحدث، على سبيل المثال، أن يدفع انعدام الحساسية الفاسق نحو حالة من
التدمير يرتدّ عبرها، في لحظة ما، إلى الأخلاق: فهو يظن أنه أصبح صلداً، لكنه في
الحقيقة ليس إلا ضعفاً، ضحية معدّة تماماً للسقوط في تأنيب الضمير؛ والحالة هذه،
تكفي حركة تقوى واحدة، عند تفضيله لعالم الإنسان والله، لكي تقضي على كلّ قوته؛
فمهما كانت عالية ستنهار، وأن ذلك السقوط هو، بصورة عامة، موته. لكن بالمقابل، إذا
ما عثر، في ذلك التدمير الذي لا يشعر فيه حيال الفظائع الأكثر قبحاً إلا بتقزّز
عابر، على نمو أخير للقوة يضاعف بفضله انعدام الحساسية ذاك، عبر فبركته لمنافذ
جديدة سيتقزّز منها ثانية، حينئذ سيمر من الدمار إلى القوة الكلية (toute-puissance)، ومن التصلب إلى الإرادة الأشد
تطرفاً ولأنه «مشوش من كل جانب»، فسوف يتمتع بسيادته الذاتية فيما وراء كل حدود.
أحد جوانب ساد المُدهشةِ ومصيره هو أن الجرأة
الفضائحية لفكره، وبالرغم من أن الفضيحة لا يمثلها رمز أفضل منه، ظلت لزمن طويل
مجهولة بالنسبة لنا. كذلك ليس من الضروري تعداد التيمات التي اكتشفها، والتي سوف
تضع عقول العصور القادمة كلّ شجاعتها من أجل التأكيد عليها: لقد تعرفنا عليها
أثناء مرورنا، مع ذلك حددنا أنفسنا بغية العثور ثانية في حركة ذلك الفكر، مع أننا
لم نتأمل إلاّ نقاطه الأساسية وحدها. إذ كان بمقدورنا أيضاً تناول مفهومه عن
الحلم، حيث يرى فيه عمل العقل الذي تحول ثانية إلى غريزة (instinct) تفلت من موت النهار – وجميع التأملات التي يسبق فيها فرويد،
مثلاً، هي التالية: «في بطن الأم، تتفبرك الأعضاء التي ينبغي عليها جعلنا حساسين
حيال هذه الفنطازيا أو تلك؛ وكذلك المواضيع الأولى المقدمة، والخطابات المفهومة
التي تنتهي في تحديد الدافع؛ أمّا التربية الجيدة، فلا تغيّر أي شيء». ينطوي ساد
على أخلاقي تقليديّ، وسيكون من السهل تجميع مختارات من الحكم التي تصبح حكم روشوفوكلد
(Rochefoucauld) ضعيفة ومهزوزة مقارنة بها. لقد
وجه له النقد بأنه لا يعرف كيف يكتب، وبالفعل كان يكتب غالباً بعجالة وبغزارة تفقد
المرء صبره؛ لكنه قادر أيضاً على إظهار مزاج غريب، كما أن أسلوبه يصل إلى جذل
جامد، نوع من البراءة الباردة ضمن التجاوزات التي يمكننا تفضيلها على كل سخرية فولتير،
والتي لا يمكن العثور عليها عند أي من الكتاب الفرنسيين. كل تلك الاستحقاقات هي
استحقاقات استثنائية، بيد أنها ظلت عبثية: إلى أن جاء أبولينيير (Apolinaire)، موريس هاين (Maurice Hein)، حيث تمكن أندريه بريتون (André Breton)، بحسه التنبؤيّ في اكتشاف القوى الخفية في التاريخ، أن يفتتح لنا
الطريق نحوه، وحتى بعد ذلك، أي الدراسات الأخيرة التي كتبها جورج باتاي (Georges Batille)، جان بولهان (Jean Paulhan) وكلسوفسكي حيث أظهروا أن ساد معلم للتيمات الكبرى
للفكر والحساسية المعاصرة، وواصل التألق كأنه اسم فارغ (un nom vide). لماذا؟ لأن هذا الفكر بمثابة عمل للجنون وأن قالبه كان الانحراف
الذي يختفي حياله العالم. بل أكثر من ذلك، إنه فكر يقدّم نفسه باعتباره نظرية لذلك
الميل (de ce
penchant)،
إنه محكوكته (رسم منقول بطريقة الكز، أو الحك. م.م) (le décalque)، وهو يدعي تنضيد الشذوذ الأكثر قذارة ضمن رؤية متكاملة للعالم.
فللمرّة الأولى، أدركت الفلسفة بوضوح أنها بمثابة نتاج لمرض ما، وأكدت على نفسها
بوقاحة كفكر منطقي عام أو منظومة أفكار لا كفيل لها سوى الفرد الضائع.
تلك واحدة من الملامح القوية لـ ساد. كما يمكن
للمرء القول إنه أنجز تفسيره الخاص بكتابته نصاً يحتفظ فيه بكل ما من شأنه
الارتباط بوساوسه، ويبحث عبره عن تماسك ومنطق ما تشهد عليه ملاحظاته المهووسة.
لكن، من جانب آخر، كان ساد أول منْ برهن بكبرياء (orgueilleument) على أنه بالإمكان استخلاص، عن حق، من طريقته الخاصة وحتى من
سلوكه الممسوخ، نظرة للعالم ذات دلالة كبيرة، لم تتمكن حيالها العقول الكبيرة،
المهووسة فقط بالبحث عن معنى للشرط الإنساني (condition humaine)، القيام بأي شيء آخر سوى إعادة التأكيد على آفاقها الأساسية ودعم
شرعيتها. لقد تمكن ساد بشجاعة على القول إننا إذا ما تقبلنا ببسالة الميول
المتفرّدة التي كان يتمتع بها والتي اعتبرها نقطة الانطلاق ومبدأ أي برهان، فسوف
نقول إنه منح الفلسفة الأساس الأكثر صلابة، وبالتالي تأويل المصير الإنساني
بمجموعه بطريقة عميقة. مما لا ريب فيه لم يكن ذلك الادعاء مصنوعاً من أجل تخويفنا،
لكننا، ولنعترف بهذا، بالكاد شرعنا في التعامل معه بجدية وحسب، واكتفينا، لزمن
طويل، بإبعاد فكر ساد حتى عن أولئك الذين كانوا يهتمون بساد.
لكن أولاً من كان ساد؟ استثناء ممسوخ، خارج
الإنسانية تماماً. «إنّ تفرد ساد، يقول نوديه (Nodier)، يكمن في أنه ارتكب جريمة (délit) بشعة لا يمكن للمرء تشخيصها بلا مخاطرة». [وذلك ما كان، بطريقة
معينة، واحداً من طموحات ساد الفعلية: أن يكون المرء بريئاً بحكم ذنبه؛ وأن
يكسر بتهور، مرة وإلى الأبد، عبر تجاوزاته (excès)، العرف، والقانون الذي كان بمقدوره الحكم عليه]. كما كتب معاصر
آخر له، هو بيتو (Pitou)، بطريقة مرعبة إلى حدّ ما: «لقد قذفت به العدالة في زاوية من
سجن، وبذلك منحت لكل سجين فرصة التحرّر من حمله (s’est débarrasser de ce fardeau)». لكن، بعد ذلك مباشرة، أي حينما تمّ التعرّف عليه باعتباره
نموذجاً للشذوذ الخاص بالبعض، سارعوا لكي يحبسوه في ذلك الضياع المجهول (aberration innommable)، الذي لا يمكن أن يتطابق معه
بالدقّة إلاّ ذلك الاسم المتفرد. بل وحتى بعد ذلك بكثير، أي عندما جعلوا من هذا
الشذوذ استحقاقاً لساد، حينما رأوا فيه إنساناً حراً قد أبدع معرفة جديدة (un savoir nouveau)، وعلى أي حال، إنساناً
استثنائياً بمصيره وانشغالاته، وعندما رأوا، في النهاية، بالسادية (sadisme) إمكانية تتعلق بالإنسانية كلّها، واصلوا إهمال فكر ساد
الخاص، كأنهم كانوا مُتيقنين من أنفسهم أن السادية أكثر أصالة ودقة من الطريقة
التي فسرها بها ساد نفسه. والحالة هذه، إذا ما نظرنا إليه عن قرب، فسنعثر
على فكر جوهري، وأن التناقضات التي كان يتحرك عبرها قد قدمت لنا، بما يتعلق
بالمشكلة التي يظهرها اسم ساد، رؤى أكثر دلالة من كل تلك الرؤى الناتجة عن
التأمّل الأشد ممارسة ووضوحاً، والتي فتحت لنا إمكانية إدراكه. لا نقول إن ذلك
الفكر قابل للحياة (viable).
لكنه يبين لنا أنه بين الإنسان العادي الذي يحبس الإنسان الساديّ ضمن مأزق (une impasse) والساديّ الذي يجعل من ذلك المأزق مخرجاً، فهذا الأخير هو الذي
يفهم أكثر حقيقة ومنطق موقفه، ولديه الفطنة الأعمق حياله، إلى حدّ يستطيع فيه
تقديم العون للإنسان العادي لأجل معرفة نفسه، بمساعدته في تحوير شروط كلّ فهم (modifier les conditions de toute
compréhension).
الهوامش:
1. ساد، "تعاسات الفضيلة"، مقدمة جان بولهان
Sade: Les infortunes de la vertu.
Introduction par Jean Paulhan
2.
"بيار كلوسوفسكي": "ساد قريبيّ"
Pierre Klossowski: Sade mon
prochin
3. ساد: "حوار بين قسّ ومحتضر"، مع مدخل لموريس
هاين.
Sade: Dialogue entre un prêtre et
un moribond, avec un avant-propos de Maurice Heine.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق