الاثنين، 27 أبريل 2015

أن تكتب عند تخوم الفراغ: توماس رينيير

ترجمة: سعيد بوخليط

Maurice Blanchot
قد يظهر عمل بلانشو (Blanchot) مهووساً بسؤال الشر، الخواء وكذا الموت. لكن حينما نقترب منه أكثر، فإن الكاتب يبدو بشكل أقل كمفكر عدمي من كونه أحد النقاد الأكثر دقة للعدمية.
أن يتكلم بلانشو طيلة مشروعه عن الخواء والموت -موضوعات تكون في الآن ذاته مجالاً للتأمل والإضطراب الممتزج بالرعب- ثم يعود باستمرار عبر مجموعة من المبدعين (كافكا، ريلكه، مالارميه، باسكال، تولستوي، جيمس، وكذا آخرين) إلي الأدب في علاقته المتميزة، التي ينسجها مع هذه التيمات: ذلك ما قد يكون كافياً في حقل النقد المعاصر، حتي يتم على الفور إدراجه ضمن المفكرين العدميين. ألم يشر بلانشو في كتابه (l'espace littéraire) إلي ما يلي: «الكاتب هو ذاك الذي يكتب ليتمكن من الموت، وهو أيضاً من يمسك في إطار قدرته علي الكتابة، بعلاقة حدسية مع الموت» [ص 114]. وكذلك: «يهتم الفن بالحقائق بناء علي لامبالاة مطلقة، هذه المساحة اللانهائية تتجسد في الموت» [نفسه ص 198]. قد نستشهد أيضاً بمقطع شبيه ورد في كتابه (le livre à venir) تتعلق برسائل إلى أرتو( Artaud)، حيث عمل من خلال ذلك بلانشو علي تفعيل حركية كتابة جوهرية الخواء: «كيف لمن ليس لديه شيئاً يقوله، أن يكد لكي يبدأ في الكلام والتعبير؟» [ص 54]. يكتب بلانشو مكرراً تقريباً كلام أرتو يمكننا، أخيراً الإشارة بشكل صريح أيضاً، إلي ما قد يظهر بأنه ترك إشكالية الأدب جانباً بشكل مؤقت. يتعلق الأمر بمقطع معنون بـ (scène primitive une) من عمله (l'écriture du désastre) حيث يستحضر الكاتب رؤية طفولية، لا تملك بالتأكيد شيئاً طفولياً حينما يحيل علي «هذه المعرفة المثيرة للتيهان، حيث فقط الخواء هنا، ثم أيضاً الخواء هناك» [ص 117]. كثير من الصياغات، لا تعمل غالباً ببساطتها المضللة إلاّ علي إخفاء المعني.


فرضية مخادعة
بلانشو كاتب عدمي. بلانشو آخر علم، والطرف النهائي لذلك التقليد المرتبط بالفكر العدمي في الغرب، وسينتهي من خلاله. يمثل بلانشو، بهذا الخصوص القائد الذي يتكلم في الآن ذاته عن ضرورة الكتابة واستحالتها أيضاً: الفكرة التي تجذبنا بل وتسحرنا، تظهر بأنها خاطئة. ولا يمكنها مقاومة قراءة ملحة. لقد تمت صياغتها، في أغلب الأحيان علي امتداد هذه الثلاثين أو الأربعين سنة، حتي لا يتم استحضارها من جديد. فهي تتطابق مع منشور لم نتمكن من خلاله لحد الآن إدراك صاحب (thomas l'obscur) كاتب الصمت، العزلة والإختفاء:
 [مثل سالينجر(Salinger) ، بينشون (Pynchon)، أو غراسك (Gracy)] كاتب نوع من المساحة النقدية حيال الإلتزام السياسي، حيث لا يعترف برابطة للأشخاص، الأفكار أو المشاعر [باختصار، نقيض لـ سارتر] هذه السمات التي تتماثل مع الحقيقة البيوغرافية، تكفي بإسهاب لكي يتم إدراج بلانشو ضمن مادحي الخواء والعدم. نفكر هنا بالخصوص في (Bartleby et compagnie de Enrique Vila-Matas ) نتيجة انزلاق سيمانطيقي ـ سمحت به ترجمة غير جيدة ـ تجعل من بارتلبي (Bartleby)  ليس فقط مجرد ناسخ ولكن ككاتب، فإن الناقد والروائي الإسباني ينصب شخصية ميلفيل   (Melville) زعيماً لأسرة متفردة: تلك المتعلقة بأصحاب الكتابة النادرة، حينما لا يكون غم الصفحة البيضاء أو العجز الإبداعي متموضعاً بشكل نصف واقعي ونصف متخيل فإن بلانشو يحتل بالتأكيد مكانة مهمة.
الأساسي هنا، أن لا ننظر عبثياً إلي الفرضية التي تقدم بلانشو مفكراً عدمياً، ومع ذلك فهي خاطئة. بقدر، بطلان الفرضية المطروحة للنقاش، فإنها فضلاً عن ذلك ليست فقط جارية في التجريب الأدبي، بل أيضاً تتضمنها دلائل تستخدم التأمّل الفلسفي مثل تاريخ الأفكار. نأخذ كدليل بهذا الصدد كتاب عن بلانشو: (L'être et le neutre à partir de Maurice Blanchot, Verdier, 2001) لـ مارلين زراديير (Marlène Zarader)، فيلسوفة متخصصة في هيدغر (Heidegger). إنها الدراسة، الأكثر حداثة التي توخت مقاربة بلانشو باعتباره كاتباً عدمياً بالاستناد علي واقع وتصور فلسفيين. فرضية ممنهجة بمساعدة كمية كبيرة من الاستشهادات والإحالات، فقد حاولت هذه الباحثة وضع بلانشو، موضع تساؤل ثم من خلاله أيضاً مفهوم معين للأدب. تتساءل مارلين زراديير: من بإمكانه التفكير في مواجهة الليل؟ أي ما يظهر كإعادة صياغة وفية لتساؤل بلانشو. كما تبحث في ملاءمة فكرة التجربة/الحد (L'expérience-limite)، والتي تشكل مع المحايد (le neutre) الأفكار المفاتيح لفكر بلانشو خلال سنوات 1960. كذلك، فإن كل صيغة للتجربة تنطوي حتماً علي ذات محور من المفروض أن تؤسس المركزـ بداهة فينومينولوجية، لم يأمل بلانشو بطبيعة الحال استفسارها، حتى ولو استحضر المقطع الخاص بالكتابة من الأنا البيوغرافية للمؤلف إلي هو التي تتخلص منها لن يعرف أبداً بكل منطق التجربة/الحد، تقول إجمالاً مارلين زراديير. ما ترفضه الباحثة قطعاً وجود التجربة/الحد، والتي لن تدخل في إطار نظام الإستيهام الأدبي أو سفسطات اللغة. ستكون التجربة/الحد، إحدي الصيغ التي استند عليها بلانشو لكي يتحدث ثانية عن: [الموت، الخواء، الهناك، الليل...] نتناول بالفعل الرهان علي وجهات نظر كهاته، التي تنفي بدقة عن التجربة الفنية كل ولوج ومساهمة فيما يمكن أن يتسامي إلي اللغة والمنطق.

مفكر العدمية
بالفعل، فإن كل العمل النقدي لـ بلانشو لا سيما كتابه (l'entretien infini) الذي جاء عند تجليات أطراف الفلسفة، قصد الاستفسار عن حدودها وإزعاج أساسها، ارتكز علي تبني فكرة تميز الأدب. تفرد يبحث بالتجربة الأدبية والفنية عموماً، عن ما يعطي لكي نجد معني ثانيا لـ الأشياء غير حقيقتها العامة. انطلاقاً من الأدب، وعلي خلاف المسار الفلسفي، تتجلي مهمة الحفاظ علي الفكر وتحريره من مفهوم القيمة. كما سيتمثل بلانشو ذلك في الأسطر الأخيرة من (Qu'en est-il de la critique ?) صيانة الفكر وتخليصه من مفهوم القيمة: يتعلق الأمر هنا بفكرة، توخي بها بعض المؤولين -نحيل بالخصوص هنا علي تزفتان تودوروف (Tzvetan Todorov) وعمله (Critique de la critique) النزوع إلي تفسير علي ضوء المنحدر السياسي والأخلاقي أكثر من الفينومينولوجي والفني- دون أن يروا بالضبط الترابط الحتمي للمظهرين. وفق هذا المنظور، الذي يعيدنا إلي الصراع الإنساني كما قسم المفكرين بعد 1945. حيث مثل بلانشو بالأحري مفكراً في العدمية، ثم بشكل أدني مفكراً عدمياً. هذه العدمية غير المعترف بها، ستكون تلك المتعلقة بكل فلسفة عديمة الذاكرة، بخصوص دروس التجربة/الحد، والتي انطلاقاً منها فإن كل اللامفكر فيه التاريخي والسيكولوجي، يتأتي لكي يتناقض مع افتراضاتها ويبطل منهجيتها.
باستحضار بلانشو في الصفحات الأولي من عمله (l'entretien infini) لعلاقة الفكر بـ الحاجة للإنفصال، أي لحظة نوعية تتموضع بين الوجود واللاوجود، غير قابلة للإختزال للأول أو الثاني. فإنه يطرح وجود علاقة من نوع ثالث أي: بيان يسائل الوجود كاستمرارية، وحدة، أو تجميع للوجود. أو ببيان يستثني إشكالية الوجود ثم يطرح سؤالاً آخر لا يتعلق بالوجود، كذلك، يضيف، ونحن نستفسر بهذا الخصوص، فإننا سنخرج من الدياليكتيك والأنطولوجيا أيضاً [ص 11]. يجب التأكيد هنا، بأن الدياليكتيك -المنحدر الهيغلي في نقد بلانشو- يفترض حتماً أنطولوجيا أولية.
في حين -الآخر الهيدغيري لهذا النقد- والذي من الضروري الإحالة إليه باستمرار، فإن الأنطولوجيا موضوع التساؤل، تنطوي هي ذاتها علي استبعاد لكل شيء لا يقوم علي الوجود أو اللا-وجود. لا يمكن، إذن لنقد الأنطولوجيا وكذا الدياليكتيك إلا أن يكون متلازماً. وبالتالي لا يتم بدقة التفكير في أحدهما دون الآخر مثل المثال المشهور للدياليكتيك السقراطي كما علق عليه بلانشو بشكل مختصر في الفصل الذي خصصه لـ فرويد (Freud) تحت عنوان (la Parole analytique) انظر (l'entretien infini، غاليمار، ص 343).
كما نرى، لم يتم الإعتراض علي اللوغوس الفلسفي في قصديته أي نزوعه الطبيعي لتشكيل نسق ومجموع ووحدة، بقدر ما تعلق الأمر بسلوكه الأنثروبولوجي الأول: فعل الفكر الجدلي، الذي يخضع الوجود الإنساني لما سماه بلانشو في كتابه (l'espace littéraire) محيلاً على هيغل بـ السلبية في العمل أو أيضا عمل النفي الشاق. يعود إذن إلي بلانشو، وضع اليد علي الجحود الذي يحجبه النفي من خلال حركته ذاتها. رفض للدامس، للموت، لما هو ظلامي بشكل مطلق في الموت. كما سيؤكد بلانشو ذلك، حينما كتب ثانية عن أسطورة لازار (Lazar)، تحت عنوان (comment découvrir l'obscur) بين طيات صفحات عمله (l'entretien infini).
إن الفلسفة عدمية في النطاق الذي تتوخي فيه تحييد المحايد. بنفس الطريقة التي كان عليها منذ أصولها البارمينيدية، البحت في اختزال مبدأ التناقض الذي من المفروض أنه يخالف أساس المنطق الصوري. والحال، فإن التجربة الأكثر شيوعاً، كما يستعيد بلانشو ذلك بإلحاح، تتمثل في المعاناة والتي بقدر ما هي فيزيائية وروحية. فإنها تشهد هنا في قلب اليومي عن حدود الدياليكتيك. أن تعاني، هو ما يصنع الدليل عن ما سماه برجسون (Bergson) في (essai sur les données immédiates de la conscience) باستحالة قياس الفكر -فكر الواقع، واقعية الفكر- باللغة. تجربة المعاناة -تكابد، كما لو كنت تتحمل شيئا ما- تجربة للنقصان تقوم علي عجز. أي لا يمكنني التفكير، لم أصل إلي التمكن من التفكير (le livre à venir، ص 57) بحيث لا تغير جدلي يمكن أن يعالج وفق هذا الإيقاع.
في أي إطار، نتساءل ينسج الأدب علاقة متميزة مع التجربة/الحد؟ انطلاقاً مما يرسمه الفعل الأدبي أي كونك تكتب وإمكانية أن تقول الشيء الذي يتحدث دون التكلم عن الوجود ولا حتي إنكاره  (l'entretien infini ص 104).
ستكون تجربة مبدأ الكتابة، التجربة نفسها لهذا النقصان الجذري، والذي يتم تناوله ثانية كامتلاء. تجربة، أطلق عليها بلانشو، كما هو الشأن مع أرتو، تسمية (L'impouvoir)  إنها ليست ذلك النقيض الجدلي للقدرة، مجاز للإلهام كـ منبع من الضروري تجفيفه حتي يغدو ثروة وبشكل عميق أكثر، هو ذلك التعريف الباسكالي للأدب بحيث: هناك فراغ في ذاته، وعليه تأسيسه (l'entretien infini، ص 571). نشدد علي المؤاخذة المضمرة في أكثر الأحيان التي يمكننا القيام بها اتجاه بلانشو وهي تعويض المثالية الفلسفية -التي تقوم علي التطابق، والتلاؤم المفترض بين الوجود واللغة- بمثالية أدبية تفترض علي النقيض انفصالهما وانشقاقهما الأصلي. هذه المثالية الأدبية، والتي بالنسبة إليها، فإن اللغة لا تتحدث قط عن الوجود لكن عن غيابه، لا تتجرد من رومانسية أكيدة ترتكز علي إثبات تميز غير قابل للإختزال أو القياس للخطاب الأدبي مقاربة كهاته، مع ذلك لا تأخذ في الإعتبار بما يكفي، كون الأدب كما فكر فيه بلانشو، يتوخي ذاته أقل ككيان جديد في سماء الأفكار، مقارنة حينما يتحول إلي حارس للتجربة/الحد والتي سيجد عبرها لأول مرة حقوق المواطنة.

المصدر:

 le magazine littéraire hors série 10 Octobre/Novembre, 2006, p.p. 90/92

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق