الخميس، 30 أبريل 2015

نيتشه، حياة فلسفية.. كونوا بقـــراً!: ميشيل أونفراي

ترجمة: الحسن علاج
 
لقد تفلسف نيتشه (Nietzsche) بالمطرقة في مستودع الخزف الصيني للفلسفة الغربية. وبالرغم من مجال الانهيارات، فإنه يوجد دائماً متشيعون لتلك الفلسفة المهيمنة، التي تكون الأولوية فيها للفكرة، التصور، التجريد أكثر مما تعطى لشبقية العالم. تفكر الفلسفة المؤسساتية في العالم أقل من تفكيرها في أفكار العالم، إن لها ميلاً أقل للواقع من الولع بالوثائق التي تسوق الحديث عنه؛ وبالتالي فإن عقيدة النص بدون سياق ترتبط بها غالبية أولئك الذين يتطورون في العالم الفلسفي الصغير.

إننا نعرف الثيمات النيتشوية موت الله، العدمية الأوروبية، قلب القيم، العود الأبدي، الإنسان الأعلى، إلاّ أنها تكون بالأحرى الفكر الأخير لـ نيتشه. فقد كان ثمة وجود لذلك، غير أن الإحالة على ذلك لم تكن بالشكل المطلوب، لـ نيتشه الشاب الذي اقترح نجدة أوروبا المنحطة بواسطة الدراما الموسيقية الفاغنرية؛ وبالفعل فإن ولادة التراجيديا تشكل سياسة جمالية، إن لم تكن جمالية سياسية، بهدف جعل الجماهير أرستقراطية من أجل خلق شعب أوروبي عظيم. قام نيتشه آخر بمواصلة ذات المسعى، المؤلف الفولتيري لـ "إنساني، مفرط في إنسانيته"، الذي رسم صورة للـ "عقل الحر"، صورة متحدرة من أبيقور (Epicure) ورغبته في غياب الكدر. ترك نيتشه المتوسطي المكان لـ نيتشه الجرماني قبل نيتشه حيث سيتحول الوطن إلى كون من صحبة الإنسان الأعلى (Le surhomme) إلى صورة رمزية.
تناقضات! يقول الساخطون. لكن هل ثمة تناقض بين ثمرة البلوط وشجرة البلوط التي تصدر عنها؟ فقد دافع غوته (Goethe) عن نظرية لتطور النباتات التي تُرجع تحولاتها للقوة نفسها في تفرعاتها المختلفة والمتعددة، تتغذى جميعها على النسغ ذاته. فإذا كان نيتشه قد وضع نظرية لديالكتيك شعري أعلن عن تحول الجمل إلى أسد والأسد إلى طفل، فلكي يشير، إلى أنه في حياة ما، ثمة زمن لحمل أثقال المثال الزهدي (ideal ascetique)، وآخر لابتكار الذات كحرية و[زمن] أخير من أجل براءة الصيرورة. تطابق ذلك الفضاء الأوتوبيوغرافي للزمن الفاغنيري، [تطابق] الزمن الأبيقوري والزمن النيتشوي للفيلسوف.


حول علامة الجمل
ولد نيتشه في 15 أكتوبر 1844 بروكين (Ràcken)، بألمانيا. تركزت سنواته الأولى حول علامة لعنة أولى: لعنة الموت. أربع سنوات على ولادته، شاهد أولى العلامات على التدهور الجسدي والنفسي لوالده، قس لوثري شديد التقدير، وافته المنية إثر سكتة دماغية. تحقق الطفل من تفاصيل تطور المرض. فيما بعد، أصيب بالأعراض ذاتها التي أصابت والده طيلة حياته: التهاب العينين، عمى، شقيقة، آلام، غثيان، قيء. ثم حضر احتضار والده الذي وافته المنية. كان يبلغ من العمر 5 سنوات. في السنة التالية، رأى نيتشه حلماً تحذيرياً: خروج شبح والده من قبره، باحثاً عن أخيه الصغير ومختطفاً إياه إلى رمسه. وفي اليوم التالي، مات الطفل... سيمضي نيتشه حياته مع النساء: أمه، جدته، عمتيه، أخته. كان يعاني، في سنه العاشرة، من أمراض العينين والشقيقة ـ ولم تكن القضية، آنذاك، قضية [ مرض ] الزهري...
كانت رغبته في أن يكون موسيقياً، إلا أن أمه سرعان ما صرفته عن ذلك، فقد كانت تريده قساً مثل والده. أذعن نيتشه للأمر، غير أنه ألف منذ سن العاشرة. تخلى عن علم اللاهوت لصالح فقه اللغة (philologie)، لكنه سوف لن يتلقى أي دروس في الفلسفة... وقد تحقق ولوجه إلى عالم الأفكار على طريقة صعقة حب: فغداة متم أكتوبر 1865، قام بشراء [كتاب] شوبنهاور "العالم كإرادة وتمثل"، وقرأه ضمن حالة حماس منقطع النظير. وقد لعب العمل [الفكري] دوراً بالغ الأهمية في تطوره: ففيه قام شوبنهاور (Schopenhauer) بتطوير نظرية للجبرية (determinisme) المطلقة. توجد قوة يسميها إرادة ـ الحياة، وفيها [القوة] يتم تقديم خلاصة لكل ما هو موجود. نحن نخضع لهذه القوة التي تمنع المحكم ـ الحر.
يتطابق تشاؤم الفيلسوف مع ما يسميه بحساسيته الخصوصية (idiosyncrasie)، بعبارة أخرى بيولوجيته. يعتقد شوبنهاور أن الحياة تنوس مثل ساعة دقاقة بين الضجر والمعاناة ويقترح حلاً بهدف التخلص من تسلط إرادة ـ الحياة (vouloir vivre): إيقاف هذه الحركة. كيف؟ بممارسة أخلاق الرحمة، التأمل الجمالي أو إنكار إرادة ـ الحياة: كلنا مبحرون على السفينة التي تقودنا نحو العدم، لنجتهد إذن في ممارسة الرحمة في موضع كل ما هو حي؛ تأمل إرادة ـ الحياة في الأصداء التي تمنحها الفنون الجميلة بشكل عام، والموسيقى بشكل خاص، كذلك إرجاء النوسان؛ رفض الجنسانية، الإنجاب، تأمين سلالة تقود أماماً إلى النيرفانا (nirvana) التي يسعى إليها الحكيم. إن صورة الحكيم الذي يمارس هذه الفلسفة سلبت لب نيتشه، الذي لايعتبر أستاذ الفلسفة فيلسوفاً. قام نيتشه بتمجيد الحياة الفلسفية، ضد هيغل ومعاصريه الذين يعيشون من الفلسفة وليس من أجلها. وسيبذل كل ما في وسعه لتشييد كل وجوده ضمن هذا المعنى.
مثل جمل، يحمل نيتشه شوبنهاور كما يحمل فاغنر (wagner). فقيه لغة شاب مفتون بالموسيقى، يعشق نيتشه أعمال المؤلف الشهير، أطلعه على الأمر، علم فاغنر بالخبر، تمنى ملاقاته. صعقة حب متبادلة. في غضون ثلاث سنوات، أنجز نيتشه ثلاثاً وعشرين زيارة إلى مقطن المؤلف [الموسيقي]. يعتبر نيتشه أن الانتصار في حرب 1870 على أرض المعركة يعادل خسارتها في مجال الأفكار. تبتكر الغلبة الواجبات؛ وعليه فإن "نشأة التراجيديا"، هو عمل يستدعي فيه فقيه اللغة المآسي الإغريقية كي يجعل من فاغنر سليلاً لصور العظمة الجمالية. ويرى ماركسيو الأمس واليوم في ذلك الكتاب رد فعل للفيلسوف المناهض للماركسية الذي يؤمن بأطروحات الأرستوقراطيين المنهزمين ـ ولم يكن قد جعل الشعب أرستوقراطياً قط في برنامج النبالة، بيد أنه عند عبورنا... بايرويت ( Bayreuth)، التي ستشكل مكاناً للنهضة، أصبحت ملتقى للبورجوازية، للأرستوقراطية، للملوك، للصيارفة. ظهرت اليوتوبيا ( utopie) الفلسفية للنهضة عبر الدراما الموسيقية إلى حيز الوجود بواسطة حفلة اجتماعية راقصة. فر نيتشه هارباً من المكان، فانسلّ إلى المرض (somatise)، تملكه الغضب، تاركا فاغنر ـ وشوبنهاور في المناسبة ذاتها... لن يتوقف الفيلسوف عن انتقاد المثال الزهدي، التشاؤم، ازدراء الحياة، بغض الرغبات، الشهوات، الغرائز الجنسية، الشهوة، الجسد، أماثيل الفيلسوف والموسيقي. يشير بارسيفال (Parsifal) أن ريتشارد فاغنر، كونه شوبنهاورياً، بوذياً جديداً ونباتياً، يعتبر من الآن منتميا إلى أطروحات المسيحية ـ امتلأ الغرال (Le Graal) واستهلك الخصام. فيما بعد، سيكتب نيتشه "نيتشه ضد فاغنر" بهدف أن يقدم لجمهور [القراء] تفاصيل عداوته ـ كتاب أقل نيتشوية بكثير، إذن...

حول علامة الأسد
بناء عليه، شكلت لحظة الجمل لحظة الجثو أمام الأوثان: شوبنهاور وفاغنر. كانت [اللحظة] ترتكز حول علامة لعنة أولى: لعنة موت الوالد والأخ. وستشكل لحظة الأسد لحظة ابتكار القيم، إلا أنها تنضوي مرة ثانية تحت علامة لعنة: لعنة المرض. وبالتأكيد، فإنه أصيب مبكراً بمرض الزهري (syphilis) بماخور موجود بـ[مدينة] ليبزيغ (Leipzig)، على الأرجح إبان المرحلة الطلابية. كما كان له ثمة استعداد جيني، مع عم أدخل المشفى لمشاكل ذات صلة بالأمراض النفسية. وقد قاده المشهد المأساوي واحتضار الوالد إلى الابتلاء بالأعراض التي أصيب بها والده على رغم أنه كان سليماً من الناحية العقلية: وبالفعل، لما غاص في الجنون، في يناير 1889، فإن آلام الشقيقة، الغثيان، التهاب العينين، القيء التي [الآلام] اكتسحت المراسلات التي اختفت إلى حدود وفاته في غشت/ أغسطس 1900 ـ بعبارة أخرى، كان نيتشه يجهل، منذ ما يقرب من عشر سنوات، الأمراض التي ستنخر [جسمه] طوال حياته... قضى نيتشه إذن تلك اللحظة من وجوده في المعاناة. فبعد أن استقال من منصبه كأستاذ فقه لغة، باشر حياة من التسكع والتجوال في أوروبا برمتها. وبقي اسمه مرتبطا بأمكنة عظيمة وأسطورية: بورتوفينو (Portofino)، رابالو (Rapallo)، سلس ـ ماريا (sils maria)، سورينتي(Sorrente)، أيضا فنيزيا (Venise). جنوا (G'nes) فمسينا (Meine). كان يرغب في التبرؤ من ألمانيا، من الضباب الشمالي، من الميثولوجيا الجرمانية بالاتصال بالشمس، بالنور، بالبحر الأبيض المتوسط ـ لديونيزوس (Dionysos). اعترف آنذاك بـ'[قصيدة] غزلية بطولية' (idylle hero'que) مع أبيقور وأسهب في خاصية غير معاصرة (intempestif) للفيلسوف الإغريقي: توجد ألف طريقة وطريقة كي يكون المرء أبيقورياً، فكل عصر يسمح بتغير حول هذه الموضوعة. كان نيتشه، حينئذ، يرغب في [ كتاب ] "العلم المرح"، عنوان كتابه الأكثر أصالة.
تتضمن مقدمة هذا العمل فكرة ثورية تم رفضها على الدوام من قبل الفلسفة المؤسساتية: وبالفعل، فقد كتب نيتشه إن كل فلسفة هي اعتراف أوتوبيوغرافي لجسد ما. عمل هذا الإثبات على تحطيم قرون من الفلسفة المثالية. يعارض المثالي الجسد والروح. فهو يعطي الأسبقية لتجردية (immatérialité) العقل المزعومة ويحط من قيمة مادية الجسد (chair). فالفكرة توجد في ذاتها ضمن رؤيته للأشياء، وهي ليست في حاجة للواقع كي توجد، إنها تدرك بفضل تلك الآلة التجردية بسبب واشجة وجودية: وبما أن الروح شأنها في ذلك شأن الفكرة لها التجردية نفسها، فبإمكانها أن تتعالق معها. ينكر نيتشه ذلك التقليد الذي ساد من أفلاطون إلى شوبنهاور عبر كنط (Kant) وديكارت (Descartes) . لذلك، فهو ليس مادياً ثم إنه يعتبر الذرات مع الانفصال ذاته. فقد أدار الظهر للفكرة والمادة، للمثالية والمادية: لاوجود، بالنسبة له، إلا لحقيقة مركزية واحدة مع "هكذا تكلّم زرادشت". ليست إرادة القوة كرغبة في التسلط على الغير، تفسيراً خاطئاً كارثياً، بل هي مبدأ الحي في الحياة، لأن إرادة القوة توجد حيثما توجد الحياة.
لقد جعل نيتشه من أبيقور في "العلم المرح" معلماً كبيراً للحكمة الوجودية. فقد كان، مثله، يتفلسف بجسد مريض. إن قراءة رسائل الفيلسوف الألماني تصعق [القارئ] لما تحتويه من الآلام العديدة... إلا أنه كان يحب مشاهدة المناظر المتوسطية، إعداد أطعمة بسيطة إلى أقصى درجة، المشي في الريف ساعات طويلة، التأمل، التفكير، قراءة كتب ذات جودة عالية، أقل، لكن بعمق. يعيش متوحداً، لايتطلع إلا لشيء واحد: إعادة بناء بستان أبيقور الذي سيكون مثل دير للعقول الحرّة. قام بزيارة أمكنة تستطيع استضافة تلك الطائفة من الأصدقاء والتي ستشكل أيضاً مدرسة لمربين، مكاناً ستبتكر فيه وتعاش إمكانات جديدة للوجود.
آنذاك أخذ كل من بول ريه (Paul Ree) ولوسالومي (lou Salome) مكان شوبنهاور وفاغنر في قلب الفيلسوف: كتب الأول حول المشاعر الأخلاقية، وتعتبر الثانية شابة روسية مثقفة جميلة عشقها نيتشه إلى درجة الجنون... التمس الفيلسوف من ريه أن يصرح بحبه [نيتشه] لـ لو (Lou) ـ لكن ريه نفسه لم يسلم من الفتنة... مثلما كان يفعل ذلك بانتظام مع النسوة اللواتي كان يصعقه حبهن، اقترح نيتشه على لو زواجاً تحت التجربة ـ سرعان ما رفضته. وسيفضي ثالوث هذه الصداقة إلى خلاف، ثم إن بعض رسائل نيتشه ضد لو ما كانت تستحق أن تكتب أبداً.
عرّضت تلك القطيعة توازن نيتشه النفسي للخطر. تسببت في حدوث اضطرابات جديدة، تكرار لأعراض مألوفة: آلام الشقيقة التي ألزمته الفراش لمدة أسبوع، غثيان لاينتهي، قيء طيلة أيام ثلاثة، أعراض مكتئبة (depreifs)... تحول ثقافي جديد. أصبح جسم نيتشه شديد الحساسية متشنجاً بـ[فعل] الآلام، المرض، زهد في المأكل، الحرمان الجنسي. آنذاك، تناول الكثير من الأدوية لتسكين آلامه: افيون، هيدرات الكلورال... في شهر غشت/ أغسطس 1881، ومثل قوس شاماني (chamanique) متوتر إلى حده الأقصى، ألهم نيتشه بالعود الأبدي (l eternel retour) في سيلفا بلانا (silvaplana). بالقرب من بحيرة سلس ـ ماريا، ثم إلهام الإنسان الأعلى على الطريق المطل على بورتو فينو... الشهور ضعها ثنائية غشت/ أغسطس
غالباً ما فُهم مفهوم العود الأبدي خطأ إذا ما تم الأخذ بعين الاعتبار ملاحظات، كتابات نشرت بعد وفاة المؤلف تخلى عنها الفيلسوف، وحتى صفحات كاملة من "إرادة القوة"، كتاب ليس من تأليف نيتشه لكنه [كتاب] مزيف اختلقته أخته اللاسامية، الاشتراكية ـ القومية، صديقة موسوليني وهتلر. كي تجعل من أخيها مبشراً بالفاشيات (fascismes) الأوروبية بشكل عام وبالنازية بشكل خاص، فقد أعادت كتابة بعض النصوص، حذفت كلمات، وأضافت أخرى، حرفت المراسلات التي أعادت تقطيعها بعد أن حذفت الفقرات التي كانت تحول دون استعادة ما تعمل عليه. حوالي عشرين نصاً منشوراً في هذا [الكتاب] المزيف هي، على سبيل التمثيل، لـ تولستوي...
قرأ نيتشه كثيراً كي يبذل ما في وسعه لتشييد حدسه الفلسفي بشكل علمي. بعض ملاحظاته حول القراءة، منها استشهادات، تم نشرها كما هي في "إرادة القوة". فإذا ما تم اعتبار ذلك النثر الكريه من تأليف نيتشه، فبالإمكان أن نجعل منه مفكراً معادياً للسامية، داعية حرب، قومياً، عنيفاً، ما قبل فاشستي! كذلك، فيما يخص قضية العود الأبدي، قد يُعتقد خطأ بأنه إعادة للآخر[مثل دولوز] الذي هو، عنذئذ، تكرار للشيء نفسه. فكرة أن ما حدث سابقاً في المكان بالصيغ نفسها وفي التفاصيل وأن هذا الحدث سيقع من جديد ضمن نسخة مطابقة للأصل أدت إلى نتائج فلسفية لقدوم الإنسان الأعلى. لأن هذا الأخير يحدد من يعرف هذه الحقيقة المأساوية من التكرار إلى مطابقة ما هو موجود، لأن من يريدها يعرف أنه يتوجب ابتغاء الإرادة التي ترغب فينا وبشكل أفضل، من يحبها يتوصل، بواسطة هذا القبول، إلى الفرح، إلى الغبطة التي هي نهاية لكل حكمة وجودية حسب زرادشت ـ نيتشه. تعمل تلك التصورات على تغذية تحول ثالث.

حول علامة الطفل
يحمل الجمل أوثاناً شوبنهاورية وفاغنارية عتيقة، يبدع الأسد قيما أبيقورية جديدة، سيعرف الطفل صفاء لانظير له: سيلج العالم مع الألق الوجودي الضروري لتشييد فلسفة جديدة. أعطى نيتشه شكلاً وجودياً لحدوسه الفلسفية: موت الله، العدمية الأوروبية، العود الأبدي، الإنسان الأعلى، قلب القيم (transvaluation des valeurs) ـ مما يمكن من بناء عالم فلسفي انطلاقا منه، كما يعتقد على الأقل، سيتم وضع حساب أعياد جديدة (comput) يوماً ما . مثلما أنه تم التأريخ لقرون انطلاقاً من يسوع المسيح، يعلن [كتاب] نيتشه "هذا هو الإنسان" أنه في يوم ما سيحدث الشيء نفسه معه: قبل ف. ن. وبعد ف. ن.

لنحدد بدقة الأفكار الأساسية لنيتشه.
موت الله: لقد مات، يتوجب علينا من الآن فصاعداً أن نفكر ونحيا بدونه أو أي إله شبيه به. عنذئذ نكتفي بالعالم المعلوم ونرفض العوالم الماورائية، فتلك الأوهام تغذي اليهودية ـ المسيحية أخلاق كراهية الجسد، الرغبات، الغرائز الجنسية، الغرائز، الشهوات، الجنسانية (sexualite)، باختصار: [كراهية] الحياة. لاوجود لحياة بعد الموت، إذن لا جهنم ولا جنة.
العدمية الأوروبية: ترافق موت الله بموت المعنى الذي يصدر عنه. يمجد العصر الحالات الصحية الحرجة، الحقد، الوهن الوجودي، الفضائل التي تحقر. يلتذ [العصر] بالتشاؤم، بالنزعة التحطيمية (decadentisme)، يمجد الإنهاك، الإعياء. المرض، ينتشي، لا يرغب في رؤية الحقيقة، يتورط في مغامرات سياسية للموت. انتصار نزعة المتعة (hedonisme) بفعالية مطلقة، برهان على مرض الحضارة هذا. بما أن الله قد مات فكل شيء متساو، كل شيء مباح، كل شيء ممكن ـ وهو ما لايعني أن كل شيء مستحب.
العود الأبدي: حقيقة وجودية بحسب نيتشه. لاينبغي قراءة الزمن على طريقة المسيحيين الذين يتصورونه مثل سهم له ماض، حاضر، ومستقبل ويتعذر تكرار الشيء من جديد. تعتبر مقولات الأمس، اليوم، غداً، [مقولات] غير ملائمة من أجل تفكير العالم. الزمن ليس خطياً بل دائري. ما يحدث في اللحظة التي نتكلم فيها، تغريد عصفور، نباح كلب، العنكبوت التي تنسج بيتها، كل هذا سيتكرر في التفاصيل. لا يوجد عصفور يغرد من جديد، فالعصفور الذي يغرد قد غرد في السابق وسيغرد باستمرار التغريد ذاته. بالنسبة لـ نيتشه، لن نفلت من هذا التكرار الأبدي منذ ذلك الوقت، فقد أخطأ دولوز (Deuleuze) الاعتقاد بأنه كان يكفينا أن نريد من أجل أن نصطفي الإرادة وعبرها ما سيتم تكراره. تقترح تلك النزعة النيتشوية ـ اليسارية في وقتها ابتكار درجات تجعل الحياة ذات قابلية لتغيير مجرى الزمن. قراءة يهودية ـ مسيحية تعيد حقن المحكم ـ الحر في أونطولوجيا حتمية تماماً...
الإنسان الأعلى: لايمكن إخضاعه إطلاقاً لقراءة سوسيولوجية أو سياسية، تفسير في غاية الخطأ... إنه يتعلق بتصور وجودي: تعرف إرادة القوة، الرغبة فيها، محبتها والتمتع بذلك الحب الذي يسميه نيتشه (l amor fati)، محبة قدره ـ هذا هو ما يقدم تعريفاً للإنسان الأعلى، الذي قد يكون، بطبيعة الحال، امرأة عليا (surfemme)... يقول الإنسان الأعلى نعم كبيرة للوجود، لكل الحياة، بما أنه لايوجد اختيار آخر. لا يقول نعم للخير ولا للشر، نعم للابتهاج ولا للمعاناة، لأنه لايمتلك إمكانية ألا يرغب في الذي يحدث. يتوجب عنذئذ قول نعم للحياة والموت. يعلن الإنسان الأعلى انتماءه للقيم الديونيزية: الحياة، الحب، الجنسانية، الفرح، الضحك، الرقص، الابتهاج، الغناء، الخمر، فضلاً عن ذلك، الشراسة، الفظاظة، التوحش الملازم للحياة. إنه لمن الغباء قول لا لمن يفتقد أن يكون. يصنع القدر القانون، يرغب الإنسان الأعلى في هذا القانون ويحبه.
قلب القيم: يستدعي موت الله والعدمية الأوروبية التفكير والحياة في العالم بدون إله ـ بدون آلهة. تمجد القيم اليهودية ـ المسيحية الموت: المثال الزهدي، العفة، الطهر، الاعتدال. تستدعي المسيحية الاقتداء بملك بدون أعضاء تناسلية، يسوع (Jesus)، جثة معذبة، المسيح (Christ) و[الاقتداء] بالنسبة للنساء، بعذراء تلد، مريم. لن يكون بمقدور تلك التعليمات أن تنتج سوى الحرمان وكبح الشهوات. تعتبر أخلاق العبيد الجاحدين للحياة ـ الذين تمكنوا بواسطة اتحادهم من هزيمة الأسياد العشاق للحياة ـ أخلاق انتقام ضد العافية، إيثيقا (ethique) الحقد ضد كل من يريد الحياة. يفترض قلب القيم الرغبة في الحياة التي ترغب فينا. تقود إرادة الإرادة في المنفذ الوجودي للفرح، للغبطة.
بدقتها وتعقيدها، استوجبت فلسفة الكارثة الحاسمة قارئاً قوياً ذا بصيرة وفكر متوقد. فليس من قبيل الصدفة أن يضع نيتشه عنواناً فرعياً لكتابه "هكذا تكلّم زرادشت" "كتاب للجميع وليس لأحد"... "للجميع" لأنه وجهه إلى كل واحد، على أن "ليس لأحد" لأنه كان يعلم ويتصور ـ وبعد مرور قرن ـ أنه لن يُفهم إلا بعد رحيله. وهاهو القرن قد مر، فأصبح هذا الكتاب الموجه للجميع كتاباً موجها لقلة قليلة.
وهاهي السنوات المئة تبرز أن السجل النيتشوي الشعري. الحكمي (aphoristique)، الشذري، الغنائي، لايسهل المهمة: ينبغي التوفر على عين فنان من أجل قراءة فكر هذا الفيلسوف ـ الفنان ؛ والحال أن أخته كانت الأسوأ عماء. إن إرادة القوة التي سهرت على صناعتها كي تقدم نيتشه ما قبل فاشستي وما قبل نازي قد أساءت كثيراً: فقد أنتجت تلك النسخة النازية منافسين لدى النازيين، مثل ألفرد روزينبرغ (Alfrd Rosenberg)، الماركسيين مثل لوكاش (Lukacs) ومعاصريه، المناصرين لـ'الفردانية الديموقراطية' مثل آلان رونو (Alain Renautلوك فريه (Luc Ferryأندريه كونت (Andre Compte) ـ سبونفيل (Sponville) وقلة أخرى قاموا بنشر [كتاب] "لماذا نحن غير نيتشويين" في سنة 1991.
إن محترفي الفلسفة الذين لايزالون يستشهدون بـ"إرادة القوة" بهدف جلب التأييد لأطروحاتهم اللانتشوية لايغتفر لهم قراءة "إرادة القوة [وهو عمل] غير موجود" [كتاب] [لمعاني] مازيمو مونتيناري (Maimo Montinari). يمنع هذا الكتاب المتفوق منعاً كلياً أن يتم ربط اسم نيتشه مرة أخرى بفاشيات القرن العشرين. بالتأكيد، بإمكاننا ألا نحب نيتشه، لكن من دون الإلحاح على الأطروحات النازية لـ إليزابيث فورستر ـ نيتشه (Elisabeth Forster Nietzsche) ! إن نيتشه أهل لذلك، فهو يستوجب صبراً طويلاً ـ شجاعة قديمة. كان يصبو إلى قارئ ذي موهبة وحيدة: موهبة البقر الذي يجتر. فلكي تفهموا نيتشه، كونوا بقراً...


المصدر: الأسبوعية الفرنسية (Le point) يوليوز 2011. عدد: 2028. الصفحات: 58ـ 65     



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق