ترجمة محمد عيد إبراهيم
يُساء فهم المسيحية والطبيعة المقدّسة للانتهاك
Saturno Buttò, sacrifice |
ناقشتُ في المقدّمةِ التماثلَ
الذي أدركه الإنسانُ في العصورِ القديمةِ بين فعلِ الحبّ والتضحية. لقد أحسّوا
بمباشريةِ التضحية أقوى مما نفعل، فلم ننجز تضحيةً من قبل. إن تضحية العوامّ تذكرةٌ، لكنها قد لا
تُخلف انطباعاً عميقاً على إحساسنا. ومهما ألحّ علينا رمز الصليب، نكتشف أن
العوامّ غيرُ معرّفين بيُسرٍ مع التضحية الدموية.
تتمثّل الصعوبة الأساسية في
أن المسيحية تكتشف بُغض الخروج على القانون عامةً. بدقّة، فإن الأناجيل تدعم
الخروج على القانون الملتزم بالرسالة حين تُغيَّب روحُها. وساعتها نخرج على
القانون لأن شرعيته محلّ استفهام، لا على الرغم من شرعيته. فقد تبدّلت سمة
الانتهاك أساساً في فكرة التضحية على الصليب. وتُعدّ هذه التضحية طبعاً جريمة قتل،
جريمة دموية أيضاً. انتهاكٌ بمعنى أنها خطيئة قطعاً، وكلّ خطيئة هي في الواقع
مميتة. لكن في الانتهاك -كما وصّفتهُ خطيئةً، إن كان ثمة خطيئة، وتكفيراً، إن كان
ثمة تكفير- عاقبةٌ لفعل حازم مقصود. والطبيعة المقصودة للفعل هي ما تُصعّب علينا
فهم هذا المسلك البدائيّ؛ فتفكيرنا منتهَك. كما تُصيبنا بالارتباك فكرة انتهاك
القانون، عن قصدٍ، والذي يبدو مقدّساً. لكن خطيئة الصَلب ينقضها الكاهنُ المحتفلُ
بتضحيةِ العوامّ. ويقع الخطأ في عَمَى مُبدعي المأثُرة حيث يلازمنا التفكيرُ في
أنهم لو عرفوا لما ارتكبوها. وبدقّة، ففي الكنيسة يرنّمون بـ "فيلكس كولبا*"
ـ الخطأ السعيد! ثمة وجهة نظر تتقبّل ضرورة القصد. فالطقس الدينيّ المُحاكي منسجمٌ
مع أعماق الفكر البشريّ البدائيّ لكنه يصطدم بتدوين زائف لدى منطق الشعور
المسيحيّ. وسوء فهم قداسة الانتهاك هو أحد أسس المسيحية، حتى لو وصل الإنسان -في
ظلّ الوعود إلى ذراها- للمفارقات غير الواردة والتي تُحرّرهم، فتعفو عن القيود
كافّةً.
المقارنة
القديمة بين التضحية والوصال الإيروسيّ
صار الانسجامُ الذي أدركه
الإنسانُ القديم عديمَ النفعِ من إخفاقه أن يعي طبيعة هذا الانتهاك. إن لم يكن
الانتهاك أساسياً فليس بين التضحية وفعل الحبّ مشترك. وإن كان الانتهاك قصدياً
فالتضحيةُ فعلٌ مدروسٌ غرضهُ التغييرُ المفاجئ في الضحية. أن يُعدّ المخلوقُ للموتِ.
ويُحصَر قبلها في استقلاله الفردانيّ ووجوده المنقطع، كما قلتُ بالمقدّمة. لكن هذا
الكائن يُستعاد بالموتِ في وصاله مع كلّ كائن آخر، نحو غياب الشخوص المنفصلة.
وفعلُ العنفِ الذي يَحرِمُ المخلوقَ من تفرّدهِ المحدود مانحاً إياه الطبيعةَ
اللانهائيةَ واللامحدودةَ للأشياءِ المقدّسة، يترافقُ مع منطقهِ العميقِ القصديّ.
فهو قصديٌّ كفعلِ امرئٍ يرقدُ عارياً، يشتهي ويريدُ أن يَخرِقَ ضحيتَه. يسلخُ
العاشقُ المعشوقةَ من هُويّتها، ليسَ أقلّ مما يفعلُ كاهنٌ مبقّعٌ بالدمِ مع
ضحيتهِ البشريةِ أو الحيوانية. تُسلَب المرأةُ بين يدَيْ مهاجمها من كينونتها.
بحيائِها تُضيِّعُ العائقَ الصُلبَ الذي كان يفصلُها سابقاً عن الآخرين مما كان
يجعلها منيعةً. فتُطرَح بوَحشيةٍ مفتوحةً لعنفِ الدافعِ الجنسيّ فترتخي أعضاءُ
التكاثر؛ تُطرَح مفتوحةً للعنفِ غير المشخّص الذي يسحقُها من دونه.
كان الإنسانُ الأولُ في أغلبِ
الظنّ يعلّلُ بمشقّةٍ تحليلَه المفَصَّل؛ مؤتَلِفاً فحسبُ مع التفكيرِ على نطاقٍ
واسعٍ حولَ الموضوعِ مما جعلَه ممكناً منذئذٍ. وكان كلٌّ من التجربةِ الأصلية
وتطوّر الخيوط العديدة لازماً طالما التماثلاتُ بين تجربتَين عميقتَين قد رُسمت
بدقّةٍ. لكن التجربةَ الباطنيةَ للقُنوتِ في التضحيةِ وفي الإيروسيةِ غيرِ
المقيّدةِ قد تمَسُّ بالمصادفةِ شخصاً. فيُتيحُ ذلك على الأقلّ، إن لم يوضّح،
التجانسَ في الإحساسِ بأن هناك ثمة تماثل. وتنتفي هذه الاحتماليةُ مع المسيحيةِ
حيث يتحاشى القُنوتُ الرغبةَ في استعمالِ وسائلَ عنيفةٍ لسَبْرِ أسرارِ
الوجود.
اللّحم
في التضحية وفي الحبّ
يكشفُ العنف الخارجيّ
للتضحيةِ العنفَ الداخليّ للمخلوقِ، المرئيّ كفَصدِ الدمِ وتكرارِ الإيلاج. لم يكن
للدمِ والأعضاءِ المترعةِ بالحياةِ ما يراه التشريحُ الحديثُ؛ فكان شعورُ الإنسانِ
الأقدم يُستَردّ بالتجربةِ الباطنية فقط، لا بالعلمِ. وقد نُسلِّم بأنهم لاحظوا
امتلاءَ الأعضاءِ المنتفخةِ بالدم، الامتلاءَ غيرَ المشخّصِ للحياةِ ذاتها. ونجحَ
وجودُ الحيوانِ
المنقطعِ الفردانيّ في موتهِ بالتواصلِ العضويّ للحياةِ المستلِّ من الحياةِ
العامةِ لناظري موسمِ الأضحية. ثمة ما يبقى همجياً بشكلٍ طفيفٍ عن استهلاكِ هذا
اللّحمِ في جوّ من حياةٍ شَهَويّةٍ مصطخبةٍ وبين صمتِ الموت. اللّحمُ الوحيدُ الذي
نأكلهُ الآن مجهّزٌ لمثلِ هذا الغرض، فهو هامدٌ، منزوعٌ عن هياجِ الحياة العضوية
كما كان عليه بمظهره الأول. وترتبط التضحية بفعلِ الطعامِ مع حقيقةِ الحياةِ وقد
تكشّفَت في الموت.
من الشأن العام للتضحية أنها تُغري الحياةَ والموتَ
بالانسجام، أنها تهِبَ الموتَ نفخةَ الحياة، وخطورةَ الحياة مع دوخةِ الموتِ
المنفتحِ على غيرِ معلومٍ. الحياةُ هنا ممزوجة بالموتِ، لكن الموتَ بالتزامنِ
علامةٌ على الحياةِ، دربٌ نحو اللامتناهي. أما التضحية في عصرنا فهي خارج مجال
تجربتنا ولمِخيالنا أن يؤدّي واجبَه نحو ما هو حقيقيٌّ. لكن حتى لو أَنْجَتنا
التضحيةُ ومعناها الدينيّ لَمَا أخفَقنا في معرفةِ ردودِ الفعلِ المعنيةِ بعناصرَ
معينةٍ في المشهد، أعني الغثيانَ. علينا أن نتصوّرَ التضحيةَ كشيءٍ أبعدَ من
الغثيانِ. لكن إن لم يقع التجلّي المقدّسُ، متّخذاً الجوانبَ المتباينةَ كلٌّ على
حدة، فقد يستحثّنا أخيراً شعورٌ بالغثيانِ. الماشيةُ وهي تُجزَر أو تُقَطَّع
تُمرِضُ الناسَ اليوم على الأغلبِ، مع أنه ليسَ ثمةَ ما يُذكِّرُهم بهذا في
الصحونِ المقدّمةِ على الطاولاتِ. وقد يقول المرء عن التجربة المعاصرة إنها تقلِبُ
المسلكَ الورعَ والتضحيةَ.
هذا الانقلاب ذو مغزىً فلو فكّرنا الآن في التماثل بين
فعلِ الحبّ والتضحية. فكلاهما يكشفُ اللّحمَ. وتُبدل التضحيةُ الحياةَ الرتيبةَ
للحيوان بارتجافٍ أعمىً لأعضائه. والأمر كذلك مع الارتجافِ الإيروسيّ؛ فهو يَلجُمُ
بحريةٍ تلك الأعضاءَ النابضةَ التي تواصل نشاطَها الأعمَى وراءَ إرادةِ المحبّين
الموقّرة. إرادتهما الموقّرةُ متبوعةٌ بالنشاطِ الحيوانيّ لهذهِ الأعضاءِ
المنتفخة. يُفعِمُها بالحياةِ عنفٌ خارجَ هيمنةِ العقل، وهي تنتفخُ إلى حدّ
الانفجار فيُفتَتَن القلبُ فجأةً ليستسلمَ للعاصفةِ المقتَحِمةِ. تنقضي دوافعُ اللّحمِ
فيتوثّبُ في غيبةِ الإرادة المهيمنة. اللّحمُ هو الغلّو داخلنا المجهّزُ ضدّ
قانونِ اللياقة. اللّحمُ هو الخَصِيمُ الوليدُ لمن تسكنُهم المحرّماتُ المسيحية،
وإن لم يوجَد كما أعتقدُ محرّمٌ عامّ ولا نهائيّ، معادٍ للحريةِ الجنسيةِ بوسائلَ
تعتمدُ على الزمانِ والمكانِ، لاستدلّ اللّحم على رجعةٍ إلى هذه الحريةِ
المهدِّدة.
اللّحم،
اللياقة، والمحرّم في الحرية الجنسية
حين ناقشتُ في البدايةِ
المحرّمَ العامّ في النشاطِ الجنسيّ راوغتُ مسألةَ الكائنِ العاجزِ ـ أو الكارهِ ـ لتعريفه. وواقعياً نقول، ليس من السهلِ
نقاشُ أنه قد يتحدّى التعريفَ. فاللياقةُ فرصةٌ للنظرِ في الزمانِ والمكانِ
ومعاييرُ تتفاوتُ باستمرارٍ، حتى مع الأفرادِ. ذلكَ السببُ أنني قَيّدتُ نفسي
بالمحرّماتِ التي قد تُعرَّف، باتّصالها مع غِشيانِ المحارمِ أو الحيضِ، وأَجَّلتُ
بحثي عن تشويهِ السمعةِ الأكثر عموميةً لارتباطهِ بالنزعةِ الجنسية. ولن ألفتَ
انتباهي إلى هذا إلا مؤخّراً، ولسوفَ أختبرُ الانتهاكاتِ في جوّ هذا المحرّمِ قبل
أن أسعى إلى تعريفه.
بدايةً أحبّ أن أعودَ للوراءِ نوعاً ما.
فإن وجِدَ المحرّم، فهو محرّمٌ قائمٌ على عنفٍ عنصريٍّ
ما، كما يتراءَى لي. ويرتبطُ هذا العنفُ باللّحمِ، اللّحمِ المسؤولِ عن ارتجافاتِ
أعضاءِ التكاثرِ.
وعبرَ البحثِ الموضوعيّ لنشاطِ تلك الأعضاءِ سأحاولُ
التوصّلَ إلى التجربةِ الباطنيةِ الأساسيةِ التي تُجاوزُ اللّحمَ. أريدُ بدايةً أن
ألفِتَ انتباهَكم إلى التجربةِ الباطنيةِ للإفراطِ الذي قلتُ إنه قد يتكشّفُ في
موتِ الضحيةِ المضحَّى بها. فالإيروسيةُ المتضمنةُ هي الشعورُ بشيءٍ ينفجرُ،
وبالعنفِ المصاحبِ لمثلِ هذا الانفجارِ.
الهوامش:
*
Felix Culpa: كلمتان من أصل لاتينيّ، Felix السعيد أو الميمون، و Culpaالسقوط أو
الخطأ. وجاءتا من كتابات القديس أوغسطين (354/ 430)، اللاهوتيّ الذي يُعزى إليه
تطوّر المسيحية الغربية، حين تكلّم عن سقوط الإنسان، مصدر الخطيئة الأصلية. (م)
المصدر: (الإيروسيّة،
الموت، الحسيّة)، جورج باتاي، 1986، First City Lights
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق