ـ
1 ـ
في
نهاية القرن الماضي كانت شهرة ليوبولد فون ساشير مازوش قد طبقت الآفاق وذاع
صيته وصيت رواياته في الأرض قاطبة. وفي سنة 1888 كتب في دوريّة "المجلّة
الزرقاء" متحدّثاً عن طفولته باعتبارها المرحلة التي حدّدت رؤيته للعالم
ومدّته بالمواد والموضوعات التي ما فتئ يستلهمها ويصوغها في كتاباته كلّها. وفي
هذا المقال كشف مازوش عن الأسرار التي دفعت به إلى كتابة روايته
"الفينوس الملتحفة بالفراء"، فحدّث هكذا: «منذ نعومة
أظفاري أيّام كنت طفلاً صغيراً كان عندي ميل جارف إلى كلّ ماهو قاس وفظيع. وكان
هذا الميل عبارة عن إحساس ينتابني فأشعر معه بقشعريرة غريبة ونشوة عارمة. وكنت، مع
ذلك، أملك روحاً مفعمة بالشفقة والهشاشة، فما كنت لأقدر على أن أؤذي ذبابة.
وكثيراً ما كنت أجلس في ركن معتم منزوٍ بدار عمّتي الكبرى حيث أطالع أساطير
القديسين بشراهة كبيرة. وكانت الويلات التي تعرّض لها الشهداء في تلك الحكايات
تروّعني وتجعلني محموماً... ومنذ العاشرة من عمري عندي مثل أعلى. لقد صرت متّيماً
بعشق إحدى قريبات والدي ـ فلنسمّها زنوبيا ـ وهي أبهى امرأة في المقاطعة وأكثرهن
استهتاراً...».
لم
يختر مازوش اسم "زنوبيا" من قبيل الاتفاق أو رغبة في التكتّم على
اسم قريبته التي أضرمت جميع أيّام طفولته بنار لا تطفأ. إن اسم زنوبيا قد اقترن،
تاريخياً، بالدلالة على الجميل والمهيب، على الأنوثة والسلطة، السلطان والقوّة، لم
تكن زنوبيا مجرّد ملكة. بل كانت تجسيداً للأنوثة والقوّة وقد اتّحدتا. إنها رمز.
قناع هي. جزء من الفريد الذي يظلّ يعاود الظهور في الأمكنة كلّها، وفي العصور
جميعها ما يفتأ يعود ويلهب خيال بني البشر. لذلك يرسم مازوش لقريبته التي أسرت
قلبه منذ نعومة أظفاره، قريبته تلك المرأة المجسّدة للأنوثة الصاعقة، الأنوثة
المغوية التي لا تقاوم، صورة تجمع إلى الجمال المهابة والقسوة.
يكتب
في مقال له بعنوان "أشياء من حياتي" جازماً: «لكم كنت
أكره هذه المخلوقة، وأحبّها الحبّ كلّه في الآن نفسه. إنها لتبدو، بجمالها
المتوّحش العنيف كما لو أنها إنما خلقت كي تدوس بقدمها على عنق الإنسانية جمعاء
بكلّ صلف... وسأكتشف، بعد ذلك بوقت طويل، الإشكاليّة التي ستقودني إلى كتابة
روايتي "الفينوس الملتحفة بالفراء". فلقد اكتشفت، بادئ ذي بدء، التضايف
الغريب بين القسوة والنشوة، ثم اكتشفت الضغينة القائمة بين الذكر والأنثى، تلك الضغينة
التي تتراجع إلى حين تحت مفعولات الحبّ، ثمّ تعاود الظهور بعنف هائل، فتحوّل أحد
الزوجين إلى مطرقة وترغم الثاني على الاضطلاع بدور السندان».
ـ
2 ـ
والناظر
في روايته "الفينوس الملتحفة بالفراء"، يلاحظ، في يسر، أن المرأة التي
عصفت بقلبه طفلاً هي التي عاودت الظهور في الرواية بكلّ قسوة وهذا لا يعني طبعاً
أن رواية مازوش مجرّد محاكاة للواقع أو أنها تنتمي إلى التيار الواقعي،
وإنما يعود ذلك إلى قناعة بنى عليها ساشير مازوش مجمل نتاجه الإبداعي وعبّر
عنها قائلاً: «أعتقد أن
كلّ عمليّة خلق في الإبداع الفني إنما تشرع في التشكّل بالطريقة نفسها التي تشكّلت
حسبها في خيالي صورة هذه المرأة المغوية. فثمة في ذهن كلّ واحد منا استعداد فطري
للوقوع على موضوع ما لم يقع عليه غيره من الفنانين، ثم تنضاف إلى ذلك الاستعداد
الأوّلي للمواد التي يزخر بها واقع المؤلف وحياته، فتمدّه بالوجه المجسد للنموذج
الذي كان يحمل صورة عنه في خياله، أعني تلك الصورة التي تظلّ تشغله وتفتنه وتأسره».
والثابت
أيضاً أن هذه المرأة التي عرفها مازوش طفلاً هي التي ستحدّد مصيره إلى الأبد،
وستدفع به إلى استكشاف منطقة ليلية معتمة من الذات البشريّة وتضعه في حضرة نزعة
شيطانيّة متأصّلة في صميم الكائن البشري، أعني النزعة التي ستسمّى المازوشيّة. ولم
يكن هذا الاستكشاف دون نتائج، لقد كانت الضريبة التي دفعها ليوبولد فون ساشير
مازوش قاسية ومجحفة: السقوط في هاوية النسيان.
ـ
3 ـ
فعلى
عجل سيُنسى هذا الرجل الذي خبر عنف الرغبة الجارفة في إيلام الذات وتعذيبها، الرجل
الذي عرف كم هي دقيقة ومرهفة العتبة الفاصلة بين الوجع واللذة وبالمقابل سيُستَغلّ
اسمه لتشخيص الحالة المسمّاة: المازوشية. وستمحى أعماله من ذاكرة الجميع تقريباً،
رغم أن هذه الأعمال كانت قد لاقت شهرة واسعة عند نشرها. لقد تخطّت شهرة مازوش
اللغة الألمانيّة، وذاع صيته وصيت رواياته في فرنسا فاحتفت به باريس، وكرّمته،
وخلعت عليه وسام الاستحقاق الأدبي. وتنافست دور النشر في فرنسا وفي أمريكا على نشر
ترجمات أعماله. لكنه حين مات سنة 1895 وهو في الستين من عمره كان مثقلاً بالهمّ
لأن مؤلّفاته التي ملأت الدنيا صارت نسياً منسيا.
***
إنها
هجرة الاسم إذن.
لقد
منح مازوش اسمه إلى علم النفس وسقط هو في عتمة النسيان.
***
كان
مازوش مأخوذاً بمحنة الإنسان، بخفاياه، بمصيره، باللعنة التي مافتئت تلاحق
الجنس البشري. لذلك نذر حياته للدفاع عن المقهورين. فساند الانتفاضات التي كانت
تهزّ الامبراطوريّة النمساويّة المجريّة. وناصر الفلاحين. وكتب محتفياً بالغرباء،
بعابري السبيل، بالمختلفين. لقد وقف مسانداً الأقليّات فجمع حكاياتهم وخرافاتهم.
وتوالت كتبه الممجدّة لعبقريّة الأقليّات: خرافات من أوروبا الوسطى /خرافات من
المجرّ/ خرافات من بروسيا... الخ. لم تكن عمليّة مناصرة الأقليّات راجعة إلى
اختيار سياسي محدّد، بل كانت موقفاً قادماً هو الآخر من بعيد، من ماضي ليوبولد،
ومن نداء الدماء في عروقه. فهو ينحدر من سلالة قائمة على مزيج يكاد يكون فريداً.
فأسلافه هم مزيج من الصقالبة والإسبان والغجر.
لذلك
أيضاً حاول في مؤلفه "وصيّة قابيل" أن يكتب ملخص الجرائم والعذابات التي
تشكّل مجمعاً لذاكرة بني البشر. غير أن الكتابة سرعان ما كفّت عن كونها تأريخاً
وتلخيصاً لتلك الجرائم والويلات وتحوّلت إلى إشهاد على أن القسوة والفظاعة والوحشيّة
التي ما فتئت تدير أقدار الناس ومصائرهم ليست سوى قناع. بل إنها مجرد مظهر خارجي
وراءه يكمن السرّ الرهيب ملتحفاً بالغياب: ففي أحضان الطبيعة وقدّام اللامبالاة
التي تقابل بها أوجاع بني البشر، وفي البراري الموحشة الممتدّة كالوجع البشري الذي
لا ينتهي، وأمام الجمود القاسي لأمٍّ لا تحرّك ساكناً ولا يرفّ لها جفن أو تدمع
عين، يقف قابيل على الحقيقة المرعبة، ويكتشف مصيره العاتي، ويدرك أن قسوة الأمّ
وفظاظتها وجمودها ليست سوى أمارة على الويلات التي منها سيطلع الإنسان الجديد،
إنسان العصور الحديثة مدجّجاً هو الآخر بالضغينة والويل.
ـ
4 ـ
إن
ما حدث لهذا الروائي الذي شهد أعتى مايمكن أن يبتلى به كاتب في كلّ العصور: أعني
هجرة اسمه وسقوط أعماله في عتمة النسيان من جهة وإلحاقه على نحو تبسيطي فجّ بـ الماركيز
دي ساد من جهة أخرى، هو الذي جعل جيل دولوز يكتب متأسّياً على مصير ليوبولد
فون ساشير مازوش: «إن قراءة مازوش أمر ضروري. وإنه
ليس من الإنصاف في شيء أن لا نقرأ مازوش في الوقت الذي يتحوّل فيه ساد
إلى موضوع لكثير من الدراسات العميقة في النقد الأدبي وفي علم النفس. وهي دراسات
تتجدّد به فيما هي تجدّده. وإنه ليس من الإنصاف في شيء أيضاً أن نعتبر مازوش
مجرّد عنصر يكمّل ساد، أو مجرّد حجّة ودليل على أن الساديّة يمكن أن تتحوّل
إلى مازوشة. إن عبقريّة ساد وعبقرية مازوش مختلفتان الاختلاف كلّه.
وعالم كلّ واحد منهما لا صلة له بعالم غيره. ولا صلة أيضاً بين الأفانين التي
يستخدمها كلّ واحد منهما في كتابة الرواية.... مازوش هذا الروح الصقلبي
وريث الرومانسيّة الألمانيّة لم يعوّل في أدبه على الحلم الرومانسي بل استلهم
النزوة وجميع القوى التي تؤجّج النزوة وسطوتها. إن مازوش هو المعلّم
والسيّد العارف بكيفيّات استلهام النزوة وأفانين التشويق. وهذه التقنية في الكتابة
كانت وحدها كفيلة بأن جعلت منه كاتباً عظيماً عرف كيف يتسلّل إلى الأسطورة ويلحق
بها».
ـ
5 ـ
الزمن
في وعينا يتقدّم خطّياً، حشد من الآنات التي يتلو بعضها بعضاً على نحو متعاقب لا
يكلّ. لكنّ هذه الخطّيّة تظلّ مجرّد وهم، مجرّد انطباع. فلا الحاضر يحضر بالكلّ
ولا الماضي يمضي نهائياً. بل إن الماضي كثيراً ما يتّخذ من الحاضر معبراً منه
يتسلّل ويعاود الظهور ويشرع، بعد أن يغيّر من ملامحه، في ممارسة سطوته وتكريس
سلطانه. وإذا ما كنّا نظنّه جديداً مفاجئاً في السلوكات والرؤى ليس سوى عودة
متستّرة لما كان.
عن
هذا الماضي الذي ما يفتأ يعاود الظهور ويشرع في العمل، يحدّثنا ليبولد فون
ساشير مازوش هكذا: «ممّا لا يمكن أن أنساه ماحدث لي في مساء
يوم الأحد ذاك. كنت في العاشرة من عمري. وكنت قد جئت لرؤية أولاد عمّتي الفاتنة ـ
هكذا كنّا ندعوها ـ وألعب معهم. كنا قد مكثنا وحدنا مع الخادمة. وفجأة دخلت
الكونتيسة، عمّتي الفاتنة، شامخة رائعة ملتحفة بفراء زبلين [سنّور سيبريا]. حيّتنا
جميعاً وقبّلتني وكانت قبلاتها تجعلني أحلّق في السماوات، ثم خاطبتني صارخة:
"تعال يا ليبولد، ستساعدني في خلع فرائي.". دون تردّد أو تباطؤ اقتفيت
أثرها إلى غرفة النوم، وخلعت عنها الفراء الثقيل الذي كنت بالكاد أقدر على حمله،
وساعدتها على ارتداء جاكيتتها المخمليّة الرائعة ذات اللون الأخضر المطعّم
بالرمادي، وهي جاكيت تعوّدت أن تلبسها في البيت. ثمّ جثوت على ركبتيّ قدّامها كي
ألبسها خفّها الصوفي المطرّز بخيوط من ذهب. وحين أحسست بقدميها الصغيرتين تتحرّكان
في يديّ فقدت السيطرة على نفسي وطبعت عليهما قبلة محمومة. فما كان من عمّتي، في
البداية، إلا أن ألقت عليّ نظرة طافحة بالدهشة، ثم انفجرت ضاحكة فيما هي تركلني
ركلة خفيفة.».
ـ
6 ـ
هذه
الحادثة هي التي ستلوّن رؤية مازوش للعالم. وهي التي ستحدّد جميع سلوكاته وتدفع به
إلى كتابة روايته الشهيرة "الفينوس الملتحفة بالفراء". لم تكن هذه
الحادثة مجرّد حدث إذن، بل كانت عصفاً... كانت زلزلة... كانت منعطفاً خطيراً في
حياة ليبولد. ستنحدر من الوعي إلى ما وراءه وتواصل العمل في السرّ وتضع مازوش
في حضرة منطقة ليليّة معتمة من الذات البشريّة. إنها ستمكّنه من التغلغل عميقاً
داخل أغوار سحيقة، أغوار مدفونة هناك في أصقاع الذات فيكتشف تلك النزعة الشيطانية
التي ستسمّى باسمه: أعني المازوشيّة.
لم
يكن مازوش مولعاً بعلم النفس إطلاقاً. بل كان فنّاناً. كان روائياً مبدعاً.
ولم يكن ليهتّم بتسمّية هذه النزعة التي لوّنت جميع سلوكاته واستبدّت بحياته
وتحوّلت إلى موضوع رئيس عليه مدار أغلب رواياته. ولم يكن مازوش يدري أنه لم
يكن يكتب تغريبته في الحياة، بل كان يمارس نوعاً من الهبوط المدوّخ إلى مناطق في
الذات البشريّة لم يبلغها أحد من قبل.
بإيجاز:
لقد كان ليبولد فون مازوش فنّاناً مأخوذاً بالنهايات والأقاصي. وما من
فنّان تحت الشمس إلا وهو يقيم بيننا مسكوناً برغبة المغني الأمهر، أورفيوس، في
الهبوط عميقاً إلى أقاصي العالم السفلي، إلى الجحيم. غير أن الفارق بين محنة أورفيوس
ومحنة ليبولد مازوش يظلّ، مع ذلك، واضحاً بيّناً. ذلك أن أورفيوس لم ينجح
في الخروج بـ"يوريديكا" من ظلمات العالم السفلي إلى نور النهار. أما ليبولد
فون مازوش فإنه قد تمكّن من النزول إلى منطقة الظلمات هناك حيث تربض الرغبة
الشيطانيّة في إيلام الذات وتعذيبها العذاب كلّه، واستدرجها إلى ضوء النهار.
ـ
7 ـ
لم
يبق صنيع أورفيوس دون عقاب. لقد تحدّى نواميس الحياة وقوانينها. فهبط إلى العالم
السفلي ينشد اختطاف "يوريديكا" من مملكة هاديس، مملكة الدياجير، ويعود
بها إلى الحياة. كان عقابه عسيراً: فلقد جعلته الآلهة يعيش موت زوجته مرّتين. مرّة
حين لدغتها الحيّة. ومرّة ثانية حين وهبه هاديس حارس مملكة الموتى فرصة الخروج بها
إلى نور الشمس، إلى الحياة، بشرط أن لا يلتفت إليها طيلة رحلتهما من عالم الموتى
إلى عالم الأحياء. لكنّه ارتبك والتفت. فكان هو المسؤول عن موتها ثانية. لقد قضى
عليها بأن تطوف في مملكة الدياجير إلى الأبد. أما هو فعاد إلى بلاده
"تراقيا" كسير النفس، ممزّق الفؤاد، مثقلاً بالهمّ.
ولم
يبق صنيع ليبولد فون ساشير مازوش دون عقاب هو الآخر. بل إن عقابه كان أكثر
قسوة وأشدّ فظاظة، لأن مازوش لم يهبط إلى العالم السفلي، مملكة هاديس
الموحشة، مثلما فعل أورفيوس، بل توغّل هناك عميقاً داخل الجحيم الملتحف بالغياب في
أقاصي النفس البشريّة. وفي كلّ نفس بشريّة ثمّة الجحيم ذاته متسربلاً بالخفاء،
ملتحفاً بالظلمات والدياجير. ثمّة في كلّ نفس بشريّة الجحيم نفسه والأبالسة ذاتها.
ومن هناك، من تلك الأقاصي كثيراً ما تطلّ النزوعات والأهواء برؤوسها فتملأ بالشرور
وبالويلات حياة بني البشر. كان الاكتشاف إذن، وكان لابدّ من العقاب.
ولم
يكن المفكّر كرافّت إيبينغ يدري أنه حين استخدم روايات مازوش
واستعار اسمه ليسمّى النزوع إلى تعذيب الذات: "المازوشيّة" ـ لم يكن
يدري ـ أنه كان ينزل بـ ليبولد أشرس أنواع العقاب. ستصبح التسميّة متداولة
يلهج بها الناس في الأرض قاطبة. أما مازوش فإنه سيسقط في هاوية النسيان.
سيمحى ذكره وستمحى رواياته من ذاكرة الجميع تقريباً.
***
وإنه
لأمر مدهش محيّر فعلاً، أن لا نعثر على أيّ ذكر لروايات مازوش ولا نجد أي
أثر لاسمه ولمسيرته الحياتية حتى في الكتب والمؤلّفات التي تعنى بالبحث في
المازوشيّة. إنها لعنة هاديس إذن. إنه انتقام حارس الجحيم الملتحف بالغياب في صميم
النفس البشريّة.
***
حتماً
لم يكن بإمكان ليبولد فون ساشير مازوش، وهو في أوج شهرته أن يتنبّأ بهذا
القدر العاتي: السقوط في هاوية النسيان. لكنّه كان على وعي تامّ بأن للماضي على
الحاضر سطوة عظيمة. وكان على وعي أيضاً بأن قدره كان قد حدّد، ورسمت جميع ضفافه
وتعرّجاته، في مساء ذلك اليوم الذي عاش فيه تلك الحادثة التي ستلوّن رؤيته للعالم
وتوقفه على الشفا الخطير، شفا الجحيم الملتحف بالغياب في أقاصي الذات البشريّة.
لذلك يعمد في مذكراته إلى استدعاء تلك الواقعة، ويتوقّف عندها طويلاً، حتى لكأنه
يهفو إلى التطهّر منها أو لكأنه يلتذّ بترجيعها لأنها هي التي قادته إلى الكتابة
والفنّ.
***
إنّه
يتفنّن في إيراد تفاصيلها فيحدّثنا هكذا: «وبينما كانت
عمّتي الفاتنة تعدّ لنا لمجات شرعنا نلعب لعبة الغمّيضة، ولست أدري أيّ شيطان
وسوسني أن أختبئ في غرفة نوم عمّتي وراء مشجب أثواب عليه علّقت العديد من الفساتين
والمعاطف. في تلك اللحظة ذاتها سمعت ناقوس الباب يرنّ. وبعد برهة من الزمن، دخلت
عمّتي إلى الغرفة وخلفها دخل شاب وسيم. ثم أغلقت عمتي الباب دون أن تحكم إغلاقه
بالمفتاح وجذبت صاحبها بالقرب منها. ماكنت أفهم ماذا كانا يقولان أو ماذا كانا
يفعلان، لكنني شعرت بقلبي يخفق الخفقان كلّه لأنني كنت على وعي بالوضعية الحرجة
التي سأوضع فيها إن كشف أمري: إن افتضحت سيذهب الظنّ بهما إلى أنني رقيب يتجسّس..
استبدّت
بي هذه الفكرة إلى درجة جعلتني أغمض عينيّ وأسدّ أذنيّ بأصابعي، وكدت أفضح نفسي
بعطاس تملّكني ولم أقدر على السيطرة عليه حين فتح الباب بعنف فجأة، ومنه دلف زوج
عمتي الذي اندفع إلى الغرفة مرفوقاً باثنين من أصدقائه. كان وجهه أحمر قانياً
وعيناه تلتهبان غيظاً. وفيما هو يتردد لحظة وهو يتساءل حتماً أي العاشقين يوجعه
ضرباً في البداية حذّرته زنوبيا. ودون أن تنبس ببنت شفة نهضت قفزاً، واندفعت أمام
زوجها ولكمته في وجهه لكمة عنيفة. فترنّح. وسال الدم من أنفه ومن فمه. ورغم ذلك لم
يبد على عمتي أن ذلك الصنيع قد شفى غليلها. فأمسكت سوطها ولوّحت به في الهواء،
وأشارت إلى الباب مطردة زوجها وصديقيه. فانتهز الجميع الفرصة وولّوا الأدبار. ولم
يكن العاشق الشاب آخر من خرج بل كان سبّاقاً إلى الفرار.
وفي
تلك اللحظة بالضبط سقط مشجب الأثواب اللعين على الأرض وانصبّ هيجان السيّدة زنوبيا
كلّه على رأسي "عجباً هل كنت مختبئاً هنا؟.. خذ، هذا سيعلّمك عاقبة
التجسّس..". عبثاً كنت أحمل نفسي حملاً على تعليل حضوري وتبرئة نفسي: ففي
طرفة عين بطحتني على السجّاد، ثم شرعت فيما هي تمسك بي من شعري وتحكم شدّي واضعة
ركبتها على كتفي، في جلدي بالسوط جلداً مبرّحاً... لكن لابدّ من الاعتراف بأنني قد
أحسست، فيما أنا أتلوّى من شدّة الجلد الموجع الذي كانت المرأة الفاتنة تنهال به
عليّ، بنوع من اللذّة يعاش ولا يوصف... وبعد زمن طويل سأستمدّ من هذه الحادثة
الموضوع الذي عنه ستتولّد روايتي "الفينوس الملتحفة بالفراء"».
ـ
9 ـ
سنة
1870 أصدر ليبولد فون ساشير مازوش رواية "الفينوس الملتحفة
بالفراء". وفي السنة نفسها طبّقت شهرته الآفاق. لم تأتِ هذه الشهرة صدفة
واتّفاقاً. فمنذ روايته المرأة الطّالق شرع مازوش في إرساء نمط من الكتابة
يمحو المسافات التي تفصل عادة بين التاريخ والتصوّف، بين الجنس والسياسة، بين ماهو
وجداني محض وماهو إباحي مفرط في التهتّك. لذلك جاءت رواية الفينوس الملتحفة
بالفراء مكرّسة النمط نفسه. لكنّها مضت في الشوط بعيداً. لقد تشكّلت مأخوذة بالبحث
عن السبل التي تجعل الكتابة الروائيّة تكفّ عن كونها محاكاة للواقع وتكفّ عن كونها
مجرّد حكاية توازي الواقع، لتصبح نوعاً من القبض على الحياة في أشدّ لحظات
توهّجها.
إن
الكيفية التي تمكّن مازوش بواسطتها من ممارسة نوع من السفر داخل أشدّ
المناطق عتمة في النفس البشريّة تشير، على نحو موغل في الخفاء، إلى أنه ينطلق من
تصوّر خاص للفنّ الروائي. فالرواية، في نظره، لا يمكن أن تنال شرف التسميّة إلا
متى تمكنت من أن تقول أكثر الأشياء أصالة وتضعنا في حضرة الحياة متوحّشة كما لو
أنها تبدأ للتوّ. وهذا يعني أن الكتابة قد اهترأت وتحوّلت إلى تسليّة، إلى ثرثرة،
ولا يمكن لها أن تستعيد لهبها وتستردّ خطرها إلى متى نذرت نفسها للمهمّات العظيمة.
وأوّلها إنقاذ الحياة من الضجر الذي ما فتئ يمضي بالكائن نحو التفسّخ والتحلّل
والبلى. ولا سبيل إلى تحقيق هذا الممكن الذي يبدو مستحيلاً إلا بالسفر داخل أغوار
النفس البشريّة والترحال في أقاصيها بحثاً عن الطبيعة الأولى، بحثاً عن الأهواء
والنزوعات والرغائب التي قمعت وأرغمت على التواري مخلّفة الكائن فريسة للضجر
والحياة عرضة للبلى، للتفسّخ، للانحلال.
ـ
10 ـ
تقول
"واندا" الشخصيّة المحورية المدعوة أيضاً "الفينوس الملتحفة
بالفراء"، محدّثة الرواي الذي ستفتنه وتساعده على المضي قُدُماً إلى خرابه: «اللذّة
المحض لم يعرفها إلا الإغريقيون القدامى. وهي في نظري المثل الأعلى الذي أهفو إلى
تحقيقه لأنني لا أؤمن البتّة بهذا النوع من الحبّ الذي تدعو إليه المسيحية وفرسان
الفكر المعاصرون. نعم، انظر إليَّ مليّاً، إنني لأكثر شذوذاً من أشدّ الناس
إيماناً بالبدع. أنا وثنيّة... والطبيعة لم تحفل إلا بذلك النمط من العشق الذي كان
موجوداً في أزمنة البطولات تلك، أيّام كانت الآلهة نفسها تكتوي بنار العشق والهوى.
في الزمان ذاك، كانت الرغبة تعقب النظرة، واللذّة تنقاد طيّعة وراء الرغبة».
***
إنه
نداء الأقاصي إذن
إنه
السفر باتجاه النهايات
***
والفنّ،
من هذا المنظور، ليس سوى مقدرة على الترحال باتجاه التّخوم. والرواية سرعان ما
تنفتح على هذا التصوّر. لكنّها لا تقوله صراحة بل تومئ إليه إيماء من خلال الوقائع
والأحداث، إذ سرعان ما يقع الراوي "سيفرين" متّيماً بحبّ "واندا"
ـ "الفينوس الملتحفة بالفراء". وكما هو الأمر في كلّ حادث حبّ، ومثلما
جرت به العادة يشرع كلّ من منهما في اطلاع الآخر على ماضيه ممعناً بذلك في
استدراجه ونسج الشراك من حوله.
ـ
11 ـ
تحدّثت
"واندا" عن طفولتها قائلة: «كان أبي رجل فكر. ومنذ
نعومة أظفاري كنت محاطة بنسخ من تماثيل الفنانيين القدامى.... للأطفال عادة أ
صدقاء مثل توم عقلة الإصبع، وصاحب اللحية الزرقاء، وسنديرلاّ، أما أصدقائي أنا فقد
كانوا فينوس وأبوللو وهرقل». ويعمد "سيفرين"، هو الآخر،
إلى اطلاع صاحبته على ماضيه وطفولته، فيلحّ على أنه افتتن مثلها بما كان في
اليونان القديمة من بهاء. يحدّثها قائلاً: «منذ طفولتي
المبكّرة، كانت قباب الكنيسة ومافيها من عتمة تجعلني أنقبض..... وكثيراً ماكان
الهيكل المتلألئ وصور القدّيسين تملأني هلعاً. وبالمقابل كنت أتسلّل خفية إلى
مكتبة أبي لأمتّع النظر بتمثال فينوس المنحوت من الجبس، كنت أجثو قدّامه على
ركبتيّ وأتلو الصلوات التي علّموني إياها... أرسلوني إلى المدرسة منذ نعومة
أظفاري... وسرعان ما ألفت آلهة اليونان وأنقدت إليها أكثر من انقيادي للمسيح، ومع
باريس كنت قد قدّمت التفاحة القاتلة لفينوس، وكنت أرى طروادة تحترق وأرافق عوليس
في رحلاته ومغامراته».
وهكذا
يشرع "سيفرين" في استدراج صاحبته إلى ماضيه. لكنّ الفارق بين الراوي والكاتب
سرعان ما يضيع. ذلك أن الحادثة التي عاشها مازوش طفلاً مع عمّته الفاتنة
التي تحدّث عنها في مذكراته تجتاح الرواية اجتياحاً. والراوي يوردها في معرض حديثه
عن طبعه الشهواني جدّاً وعن اكتشافه للعلاقة العضويّة بين الألم واللذّة منذ
طفولته المبكرّة، لقد كانت تلك الحادثة في حياة مازوش بمثابة منعطف خطير هو
الذي قاده إلى الفنّ، ومكنّه من اكتشاف تلك الرغبة الدفينة في تعذيب الذات بحثاً
عن اللذة القصوى.
كانت
أيضاً بمثابة لعنة حدّدت مصيره وقدره. لقد افتكّ منه اسمه لتسميّة النزعة التي
اكتشفها بالمازوشيّة. أما هو فسقط في عتمة النسيان. وهي تضطلع في الرواية بالدور
العاصف نفسه فتأتي بمثابة مفجّر للأحداث والوقائع. لقد توغّل "سيفرين"،
فيما هو يقصّ حكايته على عشيقته، في المناطق الممنوع ارتيادها، تلك المناطق
الملتحفة بالغياب في أقاصي النفس البشريّة. وقدّامه تراءت حقيقة الألم واللذة وما
بينهما من تنافذ سرّي، انكشفت الحقيقة عارية، شرسة، في منتهى القسوة فابتدأ الهبوط
إلى الجحيم مستدرجاً معه عشيقته "واندا".
ـ
12 ـ
ههنا
بالضبط، تصبح الرواية نوعاً من السفر في تلك العتبة الممتدّة مثل خيط دقيق واه بين
الألم واللذّة، تلك العتبة التي تجعل من الحبّ، لذّة معذّبة، سعادة مؤلمة، فرحاً
وضنى. يعمد الراوي مثلاً، إلى استعادة الأحداث والقصص الكبرى من الذاكرة ويتأوّلها
في ضوء كشوفاته. فيحدّثنا، مأخوذاً بالحقيقة التي وقع عليها، عن مصارع العشاق
ومصارع الأبطال باعتبارها لحظة نشوى قصوى. نشوة بلغت المنتهى لأنها مزيج سرّي عظيم
من اللذة والعذاب. نقرأ مثلاً: «أن يكون المرء عاشقاً ومعشوقاً تلك هي
السعادة. ومع ذلك، لكم تظلّ إشراقة العشق هذه باهتة مقارنة بالنشوة المرفوقة
بالعذابات، تلك النشوة المعذِّبة التي ينعم المرء بها عندما يعشق امرأة تجعل من
الرجل لعبتها، فيتحوّل إلى عبد في يد مخلوقة مستبدّة تدوسه بلا رحمة. شمشون ذاك
البطل، ذلك العملاق، منقاداً طيّعاً سلّم نفسه لدليلة التي كانت قد خانته. فخانته
من جديد وألقى أعداؤه الهمج القبض عليه. وعلى مرأى منها فقؤوا عينيه، عينيه اللتين
ظلّتا حتى آخر لحظة طافحتين بالحب والشجاعة مشدودتين إلى الجميلة الخائنة».
لقد
ظلّ الراوي يبالغ في التحنّن على "واندا" عشيقته حتى تمعن في إيلامه
وتعذيبه وجلده واعتباره مجرّد عبد حقير، أو لعبة تتسلّى بها متى يحلو لها
فيترجّاها قائلاً: «لكم حدّثتك أنني أنجذب انجذاباً غريباً إلى
الألم، ولا شيء يمكن أن يغذّي أهوائي ويوقظ رغائبي مثل الاستبداد، والوحشيّة
ولاسيّما تلك التي تصدر عن امرأة فاتنة تتفنن في الغدر والخيانة. لكنني لا يمكن أن
أتخيّل هذه المرأة دون فراء. لأن مثلي الأعلى هذا، إنما تولّد عن وعيي بما في
البشع والفظيع من بهاء وجمال.... وفي رأيي إن الشعر وكل ماهو شيطاني إنما جسدتهما
المرأة عبر مختلف العصور. المرأة في نظري يجب أن تمجّد تمجيداً. الجنس والمقدّس في
رأيي صنوان، نعم! الجنس هو الشيء المقدّس على الإطلاق وفي المرأة الفاتنة ثمّة شيء
إلهي.... إنني لأرى في المرأة التجسيد الفعلي للطبيعة، لإزيس والرجل ليس سوى راهب
في حضرتها أو عبد يسعى بين يديها. وإني لا أتخيّلها إلا قاسية تجاه الرجل مثل
الطبيعة تماماً».
هكذا
يستدرج الراوي عشيقته "واندا" مقنعاً إياها بأن لا سبيل إلى استرداد ما كان
في البدء من بهاء إلاَّ بإطلاق العنان للأهواء كلّها والرغائب جميعها. فلا خيار
هناك. لابدّ من بلوغ الأقاصي التي يتحوّل فيها الألم ذاته إلى مولّد للذّة العارمة
التي لا تعادلها إلاّ لذة الشهيد لحظة يلقى مصرعه مختاراً. وسيفرين على يقين من «أن الشهداء
أشخاص شهوانيّون جدّاً يصلون بواسطة ما يتحمّلونه من عذابات إلى لذّة عارمة. لذلك
يلحّون في طلب العذاب الفظيع الذي يقودهم إلى حتفهم».
ـ
13 ـ
وبذلك
تصبح الرواية قبضاً على تغريبة الإنسان في مواجهة رعب الوجود وبحثاً ممضّاً عن
مناطق أقلّ ظلمة واقلّ ويلاً في تلك التغريبة. لذلك تحفل بمشاهد غرائبيّة تضعنا
بكلّ عنف في حضرة الفظيع، في حضرة مشاهد تخلع القلوب لا لأنها مشاهد امرأة تجوب
الأرض مرتدية فراء أسود وبالسوط تجلد إلى حدّ النزيف والإغماء رجلاً متيّماً
بحبّها أو تذلّه وتخونه على مرأى ومسمع منه، بل إن غرائبيّتها وهولها وعنفها إنما
تتأتّى من كونها تضعنا بكل قسوة أمام المنزلة البشريّة وقد استباحها الضجر.
المصدر:
مجلة الموقف الأدبي - مجلة أدبية شهرية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق - العدد 382 شباط 2003 |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق