الخميس، 23 أبريل 2015

الضحك: جورج باتاي

ترجمة: محمد عيد إبراهيم

1) علينا أن نميّزَ:
- يربط التواصلُ بين كائنَين (ضحكةُ طفل لأمه، المداعبة، إلخ).
Yue Minjun : L'ombre du fou rire
- التواصل، عبر الموت، بما هو وراءنا (أساساً في التضحية) - لا مع العدم، لا يزال أقلّ مع الكائن الخارق، لكن مع حقيقةٍ لا نهائية (تلك التي أدعوها أحياناً المستحيل، وتعني: ما ندركه [نفهمه] بأيّة حال، ما لا نستطيع بلوغه من دون حلحلةِ أنفسنا، ما يُدعَى بخنوعٍ أنهُ الربّ). لو احتجنا فبمقدورنا أن نحدّدَ هذه الحقيقةَ (نربطها مؤقتاً بعنصرٍ محدّد) على مستوىً اجتماعيّ أعلى (أعلى من الفرد بمقياس تكوين الكائنات) أنها المقدّس، الربّ أو الحقيقة المخلوقة. أو يبقى أيضاً بحالة غير محدّدة (في ضحكٍ مألوف، ضحكٍ لا نهائيّ، أو نشوةٍ يذوبُ بها الشكلُ المقدّسُ كالسكّرِ بالماء).

تمضي هذه الحقيقة ما وراء الطبيعة (القابلةِ للتعريفِ إنسانياً) بقدرِ ما هي مُعرَّفةٌ، لا بقدرِ ما تملكُ من تحديدِ فوقَ طبيعيّ.
الاستقلال (مع احترامِ الطبيعة)، صعبُ البلوغ في حالةٍ منتهية، يؤدّي دورَه حين ننكرُ تلك الحالةَ (من دونها لا نتصوّرها)؛ فهي مَحقٌ لشخصٍ يريدها لنفسه أو نفسها. ولا يمكن أن تكونَ حالةً بل لحظةً (لحظةَ ضحكٍ أو نشوةٍ لا نهائيين...). يقعُ المَحقُ –مؤقّتاً- في زمنيةِ تنويرٍ شبيهٍ بالتواصل. 


2) ارتباط القطيعة في الضحك بالتواصل والمعرفة (في الضحك، عذابُ المضحِّي، اللذّة الإيروسية، الشِعر والنشوة)

في الضحك، على نحو خاصّ، ثمة معرفةٌ ممنوحَة للموضوع الشائعِ (وهي تتنوّعُ وِفقاً للأفرادِ محلّ السؤال، الأزمنة والأجناس، لكن لا تأتي الاختلافاتُ في الدرجة، بل فقط في الطبيعة). هذا الموضوع معروفٌ دائماً، لكن عادةً من الخارج. وقد يتطلّبُ تحليلاً صعباً لو جرّبنا معرفتَه الداخليةَ. 
النظامُ الممنوحُ معزولٌ نسبياً، يُدرَك كنظامٍ معزول، مما يمنحه ظرفاً حادثاً يجعلني أدركُ أنهُ مرتبطٌ كلٌّ بآخر (معرّف أو غير معرّف)، ومثلُ هذا التغيير يضحكني من وَقعِ شَرطين: 1/ أنه مفاجئ؛ 2/ أنه لا ينطوي على أيّ كبت.
أتعرّف على عابرٍ كصديق لي...
قد يسقط إلى الأرض كحقيبةٍ: فهو معزولٌ عن نظامِ الأشياءِ بالسقوط...
يدرك أمّه (أو أيّ شخصٍ آخر)، قد يخضع لعَدوَى - يفهم الطفلُ أنها تحبه، فيتحرّك من نظامٍ خارجَه إلى آخرَ شخصيٍّ. 
يأتي الضحكُ بالدغدغة من السابق، فهو الاتصال الحادّ - قطيعة من نظام شخصيّ (بقدرِ ما هو معزولٌ ضِمنه)- وهو عنصرٌ مؤكّد. 
على أيّ حال من المزاح، ثمة نظامٌ ممنوحٌ كأعزلَ يسيلُ، يسقط فجأةً في آخر.
ليس التدهور في الإحساس الصارم ضرورياً. لكن لو عجّلنا بالسقوط، فهو يفيد من جهة المفاجأة؛ بينما معاملة موقف الطفل، مفاجأة التغيّر (سقوط النظامِ الراشدِ -الذي للكبار- في نظامٍ صِبيانيّ) يوجَد دائماً في الضحك. الضحكُ غامرٌ، عموماً، حتى ضحكة الاعتراف في الطفل -التي تستدعي السطر التالي من فرجيل(*) على بالي: ابدأ، يا صغيري، التعرّفَ على ضحكةِ أمك. وفجأةً، يسقطُ ما يسيطر على الطفل في مجاله. وليس هذا تفويضاً بل اندماجٌ. ولا مسألةَ ترحيبٍ بانتصارِ إنسانٍ على أنماط متدهورة، بل حميميةٌ لتواصلٍ عبرها. يأتي الضحك، أساساً، من التواصل. 
  
على النقيض، لا ينتفع التواصلُ الحميم من الأنماط الخارجية للّغة، لكنه لُمَعٌ خبيثة مماثلة للضحك (قطيعة إيروسية، عذاب المضحِّي، أو استغاثة -في الشِعر). لتواصلِ اللّغةِ الصارم موضوعٌ يُعنَى بالأشياء (علاقاتنا مع الأشياء)، والقِسمُ الذي يجسّده خارجيٌّ سلفاً (إلا إن أصبحت اللغة منحرفة، كوميدية، شاعرية، إيروسية... أو إن لم تصحَبها إجراءاتٌ ناقلةٌ للعَدوَى). التواصل التامّ يشبه ألسُنَ اللّهب -تفريغٌ كهربيّ للبرق. جاذبيته هي القطيعة المبنية عليه والتي تُزيد توتّره تبعاً لِعُمقه. تتبدّى القطيعة التي هي الدَغدَغةُ للإرادةِ في ضوءٍ بغيض-  تمزُّقٌ وقلقٌ نحسّ به أكثر أو أقلّ وِفقاً للأنماط. في التضحية، القطيعةُ عنيفةٌ، وهي عنيفة أيضاً غالباً في الإيروسية. تجدها من جديد في الضحك الذي نوّه به فرجيل: أمّ تستثير ضحكةَ طفلٍ بأن تفتعلَ حركاتٍ معه، تُفضي إلى اختلالِ توازنٍ في الأحاسيسِ. تُدني وجهَها فجأة قربَ طِفلها، تنهمكُ في ألعابِ تعابيرَ مندهشةٍ أو تصرخُ في مرحٍ بسيط. 


المهمّ هو لحظةُ التواصلِ العنيفِ، حين تنسلّ الحياةُ من شخصٍ لآخر بشعورِ وقيعةٍ سحريةٍ. تواجه هذا الشعورَ نفسَه بالدموع. وعلى مستوىً آخر، لينظر كلٌّ إلى الآخر ويضحك، فقد يكونُ نمطاً من علاقةٍ إيروسية (تنتج القطيعة، في هذه الحالة، بتطوّر حميميةِ الجِماع). وما يأتي في اللّعب، عامةً، بإيروسية جسديّة أو نفسيّة هو الشعور نفسه بـ "الدمار السحريّ" المرتبط بشخص وهو ينسلّ في آخر.
في الصورِ المنوّعةِ التي قِوامُها اتّحاد كائنَين، تدخلُ القطيعة فقط في البدايةِ، ويبقَى التواصل فيما بعدُ مضبوطاً؛ من ثمّ الكثافة أقلّ رِفعةً. كثافةُ التواصلِ (وبالتالي الشعورُ السحريّ) هي مَهمّة المقاومة. نحسّ بانتزاعِ عقبةٍ أحياناً كتواصلٍ لذيذ. من هنا، ثمةَ جانبٌ أساس -أن هذه التواصلات لا متجانسة. وما يجلبه إليّ الالتحامُ هو وجودٌ آخر (يستجلب هذا الآخر إليّ كأنه أنا مع أنه في الوقت نفسهِ آخر)؛ وبقدر ما هو تحوّلٌ (نقيضُ حالةٍ) وليصبح منتَجاً فعلياً، يتطلّبُ الالتحامُ هذا اللاتجانس. حين لا يتضمّن معاملَ التحوّل (لو تمّ الالتحامُ، فهو مجرّدُ حالةٍ)، يدومُ كأنه ماءٌ أَسِن، بدلاً من مياهِ سَيلَين اثنَين يمتزجان معاً في هدير؛ ويُغيّرُ نزعُ المقاومةِ الالتحامَ إلى قُصورٍ ذاتيّ. وهنا المبدأ: تُستنفَد العناصرُ الكوميدية (أو الإيروسية) على المدَى الطويل. في لحظة امتزاجِ المياه، يَعنُف انسلالُ هذا في ذاك. أما المقاومةُ (فنفسُها، كما يتأسّسُ فردٌ في معارضةٍ حتى الموت) فتُنتَهَك. وليس لشخصَين متشابهَين أن يضحكا إلى ما لا نهاية أو يتجامعا بالطريقةِ نفسها.   
مع ذلك، فالضحك نادراً ما يتطابق مع فكرةِ التعاطفِ المشترك. وما يوضَع في اللّعب عادةً هو موضوعٌ كوميديّ، مواجهٌ بما يكفي (وإن نظرياً) لأن يُضحكَ امرأً، لا اثنَين. وكقاعدةٍ عامة، يضحكُ اثنان أو أكثرُ. يتردّد صدى الضحكِ، مكبَّراً من شخصٍ لآخر، لكن مَن يضحكُ قد لا يعي –ربما-  التفاهمَ المشترك؛ قد يعاملونه كعنصرٍ متواضعٍ أو لا يعونه قطّ. ليس بين مَن يضحكون أن تُستَبدَل القطيعةُ لتأتي الأُخرويّةُ في الصورةِ، لكن في حركةِ الموضوعِ الكوميديّ.    
أما التحوّل بين اثنَين يضحكان أو أكثرَ (أو أحد)، ضمنَ عالم الضحك، فيعزلُ تفاوتاً عمومياً بينَ عالمِ الإيروسية وذلك المُلازم للتضحية. 
كما يُمنَح النزاعُ الإيروسيّ (في الدراما) مشهديّةً، قرباناً لضحيّةٍ قد تصبحُ مصطلحاً وَسِيطاً بين المتعبّد وربّه/ ربّها: فليس الجِماعُ أقلّ من التضحيةِ ارتباطاً بالتفاهمِ المشتركِ (بينَ كائنَين) عن المشهدية. المشهدية والتفاهم المشترك صيغتان بدائيتان. تُقدّم علاقتهُما برمزيةٍ: عَدوَى (التفاهمِ الحميمِ بينَ كائنَين) مُعدِيةٌ (قابلةُ لتردّد الصدى اللانهائيّ). ويُسهِمُ تطويرُ صيغتَين ضمنَ عالمِ الضحكِ في طبيعته المعقّدة. ويَسهُل تمييزُ التعبيرِ عنهما بطريقةٍ مختلفة: في النزاعِ بين الحبّ والتضحية، وفي الحقيقة حيثُ يملك كلٌّ منهما قيمةً للآخر (رغبةُ الجِماع كمشهديةٍ وعنصرُ الاهتمامِ المشتركِ الحميمُ في التضحية).   
لو هناك ثمّةَ عَدوَى مُعدِية، فلأن عنصرَ المشهدية ذو طبيعةٍ مشابهة كما في تردّدِ الصدى. إن المشهديةَ للآخرين هي ما يجلبهُ التفاهمُ المشترك في اللّعبِ بينَ فردَين. في المشهدية، وبتعميمٍ أكبرَ في كلّ ثيمةٍ تلفتُ انتباهَ الآخرين (في التوريات، النوادر، إلخ)، لا تبحثُ عناصرُ التفاهمِ المشترك عن رغبتِها الخاصّة. لكن مَن يقترحون هذه الثيمات يتعقّبونَ رغبةَ الآخرين. ولا يلزمُ فردَين أن يرتبطا معاً. لأن التفاهمَ المشتركَ (العَدوَى) في معظمِ الأحيانِ يؤسّس عالَمَين ضدّ بعضهما الآخرِ كما يُحدّد نفسَه في تحوّلٍ، حتى سقوط فردٍ من أحد هذَين العالمَين في الآخر. والسقوطُ الأشدّ تعبيراً هو الموت. 
تتعلّق هذه الحركة بتصوّرٍ وَسِيط، حيث يتضمّن التفاهمُ المشتركُ من جديدٍ فردَين؛ أحدهما، مَن نتطلّع إليهِ (الممثّل)، قد يموتُ. إنه موتُ مصطلحٍ يَهِبُ التواصلَ سمتَه البشريّ. من هنا فصاعداً، لن يوحّدَ كائناً فرداً بآخر، بل كائناً فرداً بما وراءَ الكائناتِ.
في الضحكِ بالدغدغةِ، يمضي المُدَغدَغ من حالةٍ ساكنةٍ إلى حالةٍ تشنّجية -تُنفّره، تُخضعه وتحُطّ منه إلى حالةٍ لا شخصيةٍ من جوهرِ الحياة؛ فيفرّ من نفسهِ لينفتحَ على آخرَ (كان يُدغدغهُ). المُدَغدَغ هو المشهديّةُ، والمُدَغدِغ هو المشاهِد، لكنهما يتواصلان؛ لكن عزلَ المشهديةِ عن المشاهِد لا يتحقّق بينهما (فالمشاهِد لا يزال هو الممثّل، لا "الرائي"، إلخ).  
سآتي إلى هذه الفَرَضيّة: أن المُدَغدَغَ، وهو ثَمِلٌ -لمجردِ المرح وفرطِ المزاح- قد يقتل معذّبَه. فلا الموتُ يسكنُ الضحكَ فحسبُ، بل يمحقُ أيّ احتماليةٍ للتواصلِ بين اثنَين. ولا تكونُ قطيعةُ هذا التواصلِ سلبيةً فقط؛ من جِهة أخرى، بل مناظرةٌ للدَغدَغة. يتّحد الميتُ بالمدَغدَغ عبرَ أكثرَ من قطيعةٍ متكرّرةٍ للدَغدَغة. وبالمُشابهةِ، يوحِّدُ القتلُ بينَ المُدَغدَغ والموتِ-أو بالحَرِيّ، لأن الميتَ ميتٌ، بما وراءَ الميتِ. ومن ناحيةٍ أخرى، حينَ يبلغُ المرءُ حقيقةَ الموتِ، ينعزلُ المُدَغدِغ عن المُدَغدَغ كما تنعزلُ المشهديّةُ عن المشاهِد. 

الهوامش:
(*) Vergil: (70/ 19 ق.م)، شاعر ملحميّ رومانيّ، معروف بكتابه (الإنيادة)، إضافةً إلى بضع قصائد، وقد تأثّر بإلياذة وأوديسة هوميروس، كما أثّر في الثقافة الغربية عامةً، الكوميديا الإلهية لدانتي بخاصة. (م)            

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق