ترجمة: محمد عيد إبراهيم
لوحة لأندريه ماسون من وحي مؤلفات جورج باتاي |
عبثاً نرى، في مظهر
الأشياء، العلاماتِ البائنةَ التي تسمح للعناصرِ المنوّعة أن تتميّز كلّ عن سواها.
إن ما يصدمُ عينَي المرء لا يقرّر معرفةَ العلاقاتِ بين الغاياتِ المنوّعة فقط، بل
حالةَ العقل القاطعةَ المفترَضَةَ وعصيّةَ التفسير. فيكشف منظرُ زهرةٍ، وهو حقيقيّ،
مثولَ هذا الجزء المحدّد من نبات، لكن يستحيلُ التوقّفُ عند الرصدِ السطحيّ؛
فواقعياً، يستثيرُ منظرُ هذه الزهرة في العقلِ انفعالاتٍ مميّزةً أكثر بكثير، لأن
الزهرة تعبّر عن قرار نباتيٍّ مبهَم. بماذا يكشف الترتيبُ ولونُ التوَيج، بماذا
تفشي الآثارُ المتّسخةُ لحبّ اللّقاحِ أو طزاجةِ الأعضاء الأنثوية بما نعجزُ أغلبَ
الظنّ عن التعبيرِ عنه بنحوٍ كافّ لغوياً؛ فمن العبثِ (كما يحدثُ عامةً) تجاهلُ
هذا المثولِ الحقيقيّ عصيّ التفسيرِ ورفضُ محاولاتٍ معينة (بعبثٍ صبيانيّ) للتأويل
الرمزيّ.
ستكون لمعظم
التجاورات من لغة الأزهار سمة طارئة وسطحية،
قد نتوقّعها قبلما نستشير القائمة التقليدية. لو تقبّلت الهندباء النمو، الأَثَرةَ
النرجسيةَ، ولذوعةَ الزهرة الموجعةَ، فسنرى السبب في يُسرٍ أيضاً. لا يتضّح
بالموازنةِ هنا التبصّرُ بمعنى الأزهار السريّ، وقد يتبيّن المرءُ الميزاتِ المشهورةَ
أو الخرافةَ المقبولة. قد يبحث المرء عبثاً، بالإضافةِ، عن التماثلاتِ التي تنقل
بشكل لافتٍ فهماً خفياً للأشياءِ هنا محلّ السؤال. في الحقيقة، ما يهمّ قليلاً أن
زهرةَ الحمامة(*) رمزُ الحزن، زهرةَ
التنّين(**) رمزُ الرغبة،
وزنابقَ الماء رمزُ اللامبالاة... ومن المناسبِ إدراكُ أن مثلَ هذا التقريبِ قد
يتكرّرُ في أيّ وقت، وأنه قد يفي بإضفاء أهميةٍ أصلية إلى تأويلاتٍ أبسط، كمَن
يربط الوردةَ أو القربيون(***) بالحبّ. ولا ترمزُ
هاتين الزهرتين وحدهما، من دون ريب، للحبّ البشريّ ـ وإن كان التوافق منضبطاً أكثر
(كما يقول صاحبُ القربيون: "أنتِ التي أيقظتِ حبي"، فيضطربَ بتبليغهِ
هذه الزهرةَ الظليلة)، وهو مع الأزهار عامةً، وليس لأيّ زهرةٍ محدّدة، فُتنَت بأن
تتّسمَ بميزةِ الغرابة في كشفِ مثولِ الحبّ.
يبدو هذا التأويلُ
غيرَ مفاجئ: فالحبّ في الحقيقة قد يُطرَح من البدايةِ كوظيفةٍ طبيعية للزهرة. لهذا
فإن سِمتَه الرمزيةَ وافيةٌ، حتى هنا، كميزةٍ مستقلّةٍ، لا من مظهَرٍ يصدم
الحساسيةَ البشريةَ في غموض. وقد يكون ذا قيمةٍ موضوعيةٍ محضة. قد يربطُ الناس بين
بريق الأزهار وانفعالاتهم الغرامية، فهو، من الجانبين، بمثابة الظاهرةِ التي تسبق
الإخصابَ. من ناحيةٍ أخرى، قد يعزّز الدورُ الممنوح للرموز بتأويلات التحليلِ
النفسيّ، تفسيراً من ذلك النمط. وهو نمط في الحقيقة، دائماً، تقريباً، من التوازي
العرَضيّ يعلّلُ أصلَ استبدالاتِ الأحلام. ضمنَ أشياءٍ أخرى، نرى القيمةَ المعطاةَ
لتشيرَ أو تستوعبَ الأهدافَ معروفةٌ على نحوٍ لائق.
هكذا ينبذ المرءُ
سريعاً الرأي القائلَ بأن الأشكالَ السطحيةَ، إن كانت مغويةً أو مفزعةً، فهي تكشفُ
حلولاً معينةً مصيريةً للظواهرِ كافّةً، تلك التي تضخّمها الحلولُ البشرية. وهنالك
سببٌ معقول لصرفِ النظر عن إمكان استبدالِ الكلمة بـ المظهر كعنصر للتحليل
الفلسفيّ. سيكون من اليسيرِ تبيانُ أن الكلمةَ تسمحُ للمرءِ بتأملِ
سماتِ الأشياء التي تقرّر موقفاً نسبياً، بمعنىً آخر الميزات التي تجيزُ فعلاً
خارجياً. مع أن المظهر قد يعرِضُ هذه القيمَ الفاصلةَ
للأشياء...
يبدو أولاً أن المعنى
الرمزيّ للأزهار لا يُستقَى بالضرورةِ من وظيفتها. ومن الجليّ، في الحقيقة، أنه لو
عبّر المرء عن الحبّ بعونٍ من الزهرة، فالتويج، فضلاً عن الأعضاء المفيدة، يصبحُ
علامةً على الرغبة.
وقد ينشأ هنا اعتراضٌ
مزيّف ضدّ التأويلِ عبرَ قيمة المظهر الموضوعية. فاستبدال
العناصرِ المتجاورةِ، في الحقيقة، بالعناصرِ الجوهرية، لَهوَ أمرٌ يتّسق مع كلّ ما
نعرفه عفوياً عن الانفعالات التي تستحثّنا، لأن موضوع الحبّ البشريّ ليس عضواً، بل
لمَن يملكُ هذا العضو. هكذا نفسّر نسبةَ التويجِ إلى الحبّ بسهولة: لو استبدلنا
شارةَ الحبّ من فرْج الزهرة وقضيبها بالأوراق المحيطة، فهو دليل أن العقل البشريّ
يألف مثل هذا الاستبدال فيما يتعلّق بالناس. وعلى رغم أن الموازاةَ غيرُ منكرةٍ في
هذين الاستبدالين، إلا أنه يلزم أن نعزي للعنايةِ الإلهية الصبيانية الرغبةَ
الفريدةَ في إشباعِ هوسِ الناس: أنّى للمرء، إذن، أن يفسّر مثل هذه العناصرَ
الصارخةَ، المستبدلَة آلياً بأعضاءِ الزهرة الأساسية، وهي تتطوّر بهذه الطريقة
الباهرة؟
قد يكون أبسط بوضوح
أن نميّز سماتِ الأزهارِ المثيرةَ للشهوةِ، كالعطر والمظهر، التي تثير مشاعر
الرجال والنساء الغرامية عبر القرون. هناك ما يتولّد متفجّراً في الطبيعة، وقتَ
الربيع، كنوباتِ الضحك يتولّد، خطوةً خطوة، يستثيرُ كلّ منها الآخر فيكثّفه. قد
تتنبّه أشياء عدّة بالمجتمعات البشرية، لكن لا يسود شيءٌ ضدّ الحقيقة الطبيعية
التي تدلّ بها امرأة جميلة أو وردة حمراء على الحبّ.
هناك تفاعلٌ، لا يُفسّر
بالتساوي ولا يتغيّر بالتساوي، يمنح الفتاةَ والوردةَ قيمةً مختلفة تماماً: الجمال
المثاليّ. هنالك فعلاً حشدٌ من الأزهار الجميلة، حيث جمالُ الأزهار أندر قليلاً من
جمال الفتياتِ، ومن سماتِ هذا العضو من النبات. يستحيل قطعاً أن نستخدم وصفة
مجرّدة لتعدادِ العناصر التي قد تهب الزهرةَ هذه الميزة. والمثيرُ أن نلاحظ، على
أيّ حال، أن لو قال امرؤ: الأزهارُ جميلةٌ، فلأنها تبدو متوافقة مع ما يجب أن تكون
عليه، بمعنىً آخر، فهي تمثّل، كالأزهار، المثال البشريّ.
باللمحةِ الأولى على
الأقلّ، وعامةً: تتطوّر معظم الأزهار، في الحقيقة، على نحو ملحّ ونميّزها بالكاد
عن ورق الشجر؛ بعضها حتى بغيض، إن لم يكن شائناً. علاوةً، تتلفُ أجملَ الأزهارِ
قلوبُها بأعضائها الجنسيةِ المزغبة. فلا يتوافقُ كلياً باطنُ أيّ زهرةٍ مع جمالها
الظاهريّ؛ ولو مزّق أحد أوراق التويج، فكلّ ما يتخلّف خصلةٌ بائسةٌ نوعاً. أما
الأزهار الأخرى، فتقدّم حقاً أعضاءها الذكريّةَ الأنيقةَ المتطوّرةَ بما لا ريبَ
فيه، لكنها تناشد من جديدٍ الحسّ العام، ويتّضح من الفحص عن كثَب أن هذا الظُرف
شيطانيّ نوعاً: هكذا نرى أنماطَ زهرةِ الأوركيدِ الخصبةِ، النباتاتِ الظليلةَ، حتى
لَيفتتَن المرءُ أن ينعتها بأكثر الانحرافات البشرية المقلقة. وقد تُفشي الزهرةُ
من هشاشةِ تويجاتها أكثرَ أعضائها الفاحشة: وهو، بعيداً عن الإيفاء بمطالبِ
الأفكار البشرية، علامةُ إخفاقها. فبعد فترة قصيرة من البهاء، في الحقيقة، يتعفّن
التويج البهيّ تحت الشمسِ في غير احتشام، لأن النبات هلاك صارخٌ. تبدو الزهرةُ،
وهي تنبعث من نتن أكوامِ الروَث ـ على رغمِ أنها تبدو لوهلةٍ قد فرّت منه في
طيرانٍ ناصعٍ قيثاريّ وملائكيّ ـ كمن ارتدّ فجأةً إلى بؤسه الأصليّ: الأكثر مثالية أنها تُختزل سريعاً إلى خُصلةٍ من روَثٍ
متطاير. فلا تعمّر الأزهار حقاً كالأوراق التي لا تفقد من جمالها شيئاً، وحتى
بعدما تموت الأزهار؛ تذوي كالأراملِ الطروبِ العجائز اللاتي يتجمّلن بإفراط، تموت
في سفاهةٍ على سيقانها وهي تبدو كأنها تحملها إلى السحاب.
يستحيلُ المبالغةُ أن هذه التقابلات التراجيكوميدية المحدّدة ضمن سياق
دراما الموت، ستظلّ تمثَّلُ من دون نهاية بين الأرض والسماء، فمن الجليّ أن المرء
قد يعيد صوغَ هذا النزاعِ الساخر بتقديم هذا الابتذال المغثّي، لا بوصفه جُملةً،
لكن بدقّةٍ أكثر كبقعةِ حِبرٍ: الحبّ فوّاح كالموت. يبدو، حقاً، أن الرغبةَ لا تُجدي مع الجمال المثاليّ، أو بدقّةٍ أكثر،
تنشأ فقط كي تلطّخ وتُذوي الجمال الذي يعدّ بالنسبة لشخوصٍ عدّة حزانى ومنظّمين
مجرّدَ حدٍّ، حتميةً قاطعة. ولا تمثّل هذا الزهرةُ الأشدّ إبهاراً، فهي تابعةٌ لحشو كلام الشعراء
القدامى، كتعبير باهت عن مثال ملائكيّ، بل النقيض، كانتهاكِ حُرماتٍ فاحشٍ
وفاضح.
هنالك سببٌ معقول لنصرّ على الاستثناء المقدَّم بالزهرةِ، في هذا المقام،
على النبات. فلو داومَ المرءُ، في الحقيقة، تطبيقَ طريقةِ التأويلِ المقدّمة هنا،
بوجه العموم، فالجزء الظاهريّ من النباتِ قد وهِبَ معنىً غيرَ ملتبسٍ. حيثُ يعطي،
عموماً، مظهرُ السيقان المورقةِ انطباعاً بالقوة والمهابة. أما الالتواءات
المعتوهة من التعريشاتِ والجروحِ غير المألوفة من الأوراق، فتحمل بلا ريب شهادةً
على حقيقةِ أنها ليست جميعاً متماثلة في خلو انتصاب النباتات من الخطأ. ولا يسهم
شيءٌ بقوة في إدخال السكينة إلى قلب المرء ورفع معنوياته، إضافةً لأفكاره
المتسامية عن العدل والسداد، أكثر من مشاهد الحقول والغابات، جنباً بجنب مع أجزاء
النبات متناهية الدقّة، التي تبرهن أحياناً على نظام معماريّ قويم، فتسهم في
انطباع عام عن الدقّة. لا شقوقَ، كما يبدو ـ قد يقول المرء بغباء: لا دجَل ـ تزعجُ
بوضوحٍ انسجامَ الطبيعةِ النباتيةِ المقدّر. الأزهار نفسها، الضائعةُ ضمنَ هذه
الحركةِ الهائلةِ من الأرض إلى السماء، تستدقّ إلى دورٍ عرَضيّ، إلى انحرافٍ،
علاوة على ما يُساء فهمه ظاهرياً: إنها تُسهم فحسب في كسرِ الرتابةِ، تبعاً
للغوايةِ الحتميةِ الناجمة عن دفعٍ عامٍ من أسفلَ لأعلى. وكي ندمّر هذا الانطباعَ
المواتي، لا يلزم أقلّ من رؤية الجذور الخيالية والمستحيلة وهي تتجمهرُ تحت سطح
التربة، مغثّيةً وعاريةً كالقمل.
تمثّل الجذور، في الحقيقة، النظير التامّ للأجزاء المرئية من النبات. بينما
تتسامَى الأجزاءُ المرئية في نبلٍ، تتخبّط بالتربةِ الجذورُ الدبقةُ والخسيسةُ،
فتعشق النتنَ كما تعشق الأوراقُ النورَ. وهنالك سبب نلحظه، بالإضافة، أن القيمة
الأخلاقية المتحقّقة لمصطلح قاعدة توافق هذا التأويل المنهجيّ لمعنى الجذور: فما يمثّله الشرّ حتماً، بين الحركات، هو الحركة من أعلى لأسفل. وهي حقيقة يستحيل شرحها إن
لم نحدّد المعنى الأخلاقيّ للظاهرة الطبيعية، التي تُستلّ منها هذه القيمة، أو
بالدقّة بسبب من سمة المظهر البارزة، شارةً على حركات الطبيعة القاطعة.
يبدو مستحيلاً، فوق ذلك، أن نلغي الخصومة الفاضحة كتلك التي تميّز الساق عن
الجذر. تثبتُ خرافةٌ واحدةٌ بالتفصيلِ ذلك الاهتمامَ المرَضيّ، المتبدّي دائماً
بدرجةٍ أكبر أو أقلّ، في الأجزاء التي تغرز نفسها بالأرض. إن فُحشَ جذر اللّفاح(****) طارئٌ من غير شكّ، كأغلبية التأويلات الرمزية النوعية، لكنه لا يوافق هذا
النمط من التوكيد، المَدِين به جذر اللّفاح للنزعةِ الشيطانيةِ الخرافية، بما
يتأسّس على شكلٍ خسيسٍ جليّ. مثلما تُعرف القيم الرمزية للجَزَر واللّفت أيضاً
بوضوح.
والأصعب تبيان الخصومة ذاتها البادية في جزءٍ معزولٍ من النبات، الزهرةِ،
حيث يتّخذ معنىً درامياً استثنائياً.
ليس ثمةَ شكّ: في أن استبدالَ الأشكالِ الطبيعيةِ للتجريداتِ المستخدمة
حالياً من قبل الفلاسفةِ لا يبدو غريباً فقط بل عبثياً. قد يكون ثانوياً تماماً أن
يلجأ الفلاسفة أنفسهم غالباً، وإن بتناقض، إلى مصطلحات تستقي قيمتَهم من إنتاجِ
هذه الأشكالِ بالطبيعة، كحديثهم عن الخِسّة. لا يتضاربُ العمى مع الدفاع عن ميزات التجريد. كما أن هذا الاستبدال
يهدّد بحمل المرء إلى بعيد: قد ينتج، في المقام الأول، حسّاً بالحرية، توفّر المرء
الحرّ على ذاته بكلّ معنى الكلمة، والذي لا يحتمله تماماً الجزء الأكبر، والازدراء
المنهك لكلّ ما لا يزالُ ـ بفضل المراوغاتِ البائسةِ ـ متسامياً نبيلاً مقدّساً...
ألا تخاطر هذه الأشياء الجميلة بكونها تزلّ في تدرّجٍ غريبٍ، قُدّر له أن يجعلَ انتهاكَ الحُرماتِ أكثرَ دنَساً؟ كلمحةِ ماركيز
دو ساد المربكةِ، وهو حبيسٌ وسطَ مجانين، حينَ نالَ أجملَ الأزهار، فما كانَ منه
إلا أن قطفَ أوراقَها قاذفاً بها في مصرفٍ ملؤهُ رَوَثٌ سائل ـ في هذه الظروف، ألا
نرى لمثل هذا من تأثيرٍ غامر؟
الهوامش:
(*) columbine: زهرة ذات ألوان مبهجة، منظرها
يتّسم بالدلال، تنمو أكثر في شمال شرقيّ أمريكا. (م)
(**) snapdragon: زهرة ذات ألوان مختلفة، يشبه
وجهها التنّين، حيث يُفتح ويُقفل حين نكبسه أفقياً. (م)
(***) spurge: نباتات مزهرة، بالمناطق
الاستوائية، تُستخدم دواءً في الصين. (م)
(****) Mandrake: جذر نبات يشبه الأصابع، وكان يُستخدم سابقاً في الطقوس السحرية. (م)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق