ترجمة:
رويدة سالم
مراجعة:
محمد أسليم
كيف تبدو وجوه طاغية بقوة إقناع مطمئنة؟ كيف تتألق
فجأة أشكال منبثقة من حقل الفوضى ذات الإمكانات
اللامحدودة تألقاً لا يترك
أي مجال للشكّ؟ يبدو هذا للأغلبية مستقلاًّ عن تصاعد صخب الحشود. لا وجود لأية حقيقة
يمكن تقبّلها بهدوء. إن معنى لوحة فنية لا يمكن بأي حال أن يعتمد، بالنسبة لشخص استوقفته
هذه اللوحة يوماً في تأمّل مطوّل، على تقبّل شخص آخر لها.
من المؤكد أن وجهة النظر
هذه هي نفي لكلّ ما يمكن أن ينبثق بديهياًّ أمام لوحات معروضة؛ فكل زائر يبحث عن الحكم
الذي ينتظره الآخرون أكثر من بحثه عمّا يحبّه هو. ولكن لا معنى للإصرار على البؤس الذي
يغرق فيه كل شخص يشاهد أو يقرأ. بعيداً عن هذه الحدود السخيفة للحياة التي ترسمها العادات
الحالية لصالح الهرج عديم القيمة، كالهرج الذي تثيره لوحات الفنان فان غوغ واسمه، يمكن
فتح عالم لا ينتمي لهذا أو ذاك، عالم يُبعد الحشود بمكر، وهو
عالمنا نحن، عالم كائن
إنسانيّ قادر على التخلّص
بحركة سعيدة من معطفه الشتوي المغبر الثقيل عندما يحلّ الربيع.
لن يستطيع مثل هذا الكائن الذي تخلّص من معطفه وانساق مع الحشود
ببراءة - أكثر مما انساق معها باحتقار- أن يشاهد لوحات فان غوغ التراجيدية، دون أن
تثير فيه مشاعر الرعب، وهي لوحات تشبه الكثير من العلامات المؤلمة التي تصوّرُ الأثر
الملموس لحياة هذا الفنان، ولكن هذا الكائن نفسه يستطيع في المقابل أن يشعر بالعظمة
التي يمثّلها فان غوغ ليس في حد ذاته، فهو لا شيء، إنه لا زال يرزح تحت ثقل البؤس العام
في كل لحظة - ليس في ذاته فقط، ولكن أيضا في ما يحمله في عريه، والآمال اللامتناهية
للكائن البشري الذي يريد أن يحيا وأن يخلّص الأرض إن لزم الأمر من سلطة من قد لا يشبهه؛
وهو مشبع بهذه العظمة المقبلة كليّاً، تحوّل الرعب الذي كان يشعر به في داخله إلى رعب
هزلي - هزلي حتى في الأذن والبيت المغلق وانتحار «فانسون»: ألم يجعل هذا الرسام من
التراجيديا الإنسانية الموضوع الوحيد لحياته كلّها، سواء حينما يبكي أو يضحك أو يحبّ
أو خاصة حينما يناضل.
لا يمكنه في الواقع ألاّ
يندهش حد الاستغراق في الضحك أمام قوّة السحر الذي يستمر في الاكتمال أمام عينيه، سحر
قد يتطلب من متوحشين بدون شك حشداً كاملاً استحوذت عليه الثمالة والصيحات المتكرّرة
ودقات الطبول العديدة. فالأذن التي انتزعها فان غوغ من رأسه ليحملها إلى ذاك «المنزل»
(صورة مضطربة وطفولية على نحو فج، لهذا العالم الذي نحنُ إياه أمام الآخرين) ليست مجرد
أذن دامية، فهي أكثر بكثير من مجرد أذن، فقد اعتقد فان غوغ منذ سنة 1882 أنَّه من الأفضل
للإنسان أن يكون بروميثوس بدل أن يكون كوكب المشتري، وبالتالي فهو لم يقتلع من جسده أكثر من مجرد شمس.
يفترض الوجود الإنساني قبل
أي شرط آخر الثبات واستمرارية الأشياء وينتج عن ذلك موقف غامض إزاء كل تبديد كبير وعنيف
للقُوَى، إذ أن هذا التبديد سواء كان بفعل الطبيعة أو بفعل الإنسان نفسه، يمثل أكبر
التهديدات الممكنة. يؤدي الشعور بالإعجاب والنشوة التي يثيرها هذا التبديد إذاً إلى
الرغبة في تأمّله عن بعد. تستجيب الشمس لهذا المبدأ بالطريقة الأكثر ملاءمة لمثل هذه
الرغبة شديدة الحذر. هي ليست سوى توهج وفقدان هائل للحرارة والضوء ولهب وانفجار، لكن
بعيداً عن الذين يستطيعون، وهم محميون، أن يستمتعوا بالثمار الآمنة لهذا الدمار الكبير
- فالصلابة التي تحتمل المنازل الحجرية والخطوات تنتمي للأرض أو على الأقل لسطحها لأنّ
الحمم السائلة تتوهج في أعماقها.
إذ أخذنا في الاعتبار هذه
المعطيات وجب القول أنه بعد ليلة ديسمبر 88، وعندما لاقت أذن فان غوغ مصيراً يبقى مجهولاً
في البيت الذي سقطت فيه (لا يمكن أن نتخيل إلاّ بشكل ضبابي الضحك والضيق الذين يسبقان
بعض القرارات الغامضة)، شرع فان غوغ في منح الشمس معنى لم يُمنح لها حتى تلك اللحظة.
لم يدرجها فان غوغ في لوحاته باعتبارها جزءاً من الديكور، بل جعلها كالساحر الذي تهز
رقصته الحشود ببطء فتنساق مع حركات جسده. ففي هذه الحركات كفت كل لوحاته عن أن تكون
شعاعاً وانفجاراً وشعلةً كما كفّ هو نفسه عن أن يكون ذاته وقد ضاعَ مذهولاً أمام بيتٍ
من النور مشعّ مُتفجر وملتهب. عندما بدأت هذه الرقصة الشمسية فجأةً، انهارت الطبيعة
ذاتها وذوت النباتات وتماوجت الأرض كبحر سريع أو هائج. لم يتبق شيء من الثبات الذي
يمثّل دعامة الأشياء. تبدّى الموت بشكل من الشفافية كما تتبدّى الشمس من خلال دماء
يد نابضة بالحياة من بين العظام التي تشكّل الظلال. الزهور المتفتحة والذابلة، وذاك
الوجه ذو الألق التائه المحبِط (بفعل القلق أو التسلّط؟)، وضع عباد الشمس عند فان غوغ حداًّ لقوة القوانين الثابتة
والدعائم وكل ما يسيجُ العديد من الوجوه بأسوار ويمنحها طابع انغلاق مقرف.
لكن لا يجب أن يفسح هذا
الانتقاء المتفرّد للشمس مجالاً لخطأ عبثي ما؛ فلوحات فان غوغ لا تمثّل أكثر من طيران بروميثوس وتكريم للسيد المُبعد من السماء، كما أنَّ الشمس
فيها ليست طاغية بما أنها أسيرة.
بعيداً عن إدراك قوة الكارثة السماوية، وكأنه لم يتوجب سوى مدّ المساحات الأرضية الرتيبة
بعيداً عن كل تغيير، تنبهر الأرض من هذه الكارثة ومن هذا الفقدان من البريق الناسف، مثل فتاة اكتشفت فجأة فجور والدها وتهتّكه فأصيبت بالذهول والارتباك.
هذا ما يفسر الطابع الاحتفاليّ
الكبير للوحات فان غوغ. ألم يمتلك الرسام أكثر من معنى الزهور التي تمثل هي الأخرى على الأرض
كُلاًّ من الثمالة والاضطراب السعيد؛ زهور تينع وتتألق وتحني رأسها الملتهب في شعاع
الشمس ذاته الذي سيُعرضها للذبول. في هذه الولادة العميقة الكثير من الاضطراب الذي
يبعث على الضحك، إذ كيف لا يمكن إبصار سلسلة العقد التي تجمع بكل تأكيد كلاًّ من الأذن
والمَعزَل والشمس والموتِ وأكثر الاحتفالات بهجة. لقد قطع فان غوغ أذنه بموسى حلاقة
ثم حملها إلى منزل مغلق اعتاد التردّد عليه؛ هزَّهُ الجنون مثلما تُثيرُ رقصة عنيفة
نشوة جماعية. لقد رسم أحلى لوحاته، ثم احتجز نفسه لبعض الوقت في أحد الملاجئ، وبعد
18 شهراً من قطع أذنه انتحر.
ما عسى أن يعني الفن أو
النقد بعد أن يكون كل شيء قد حدث بهذا الشكل؟ هل يمكن أن نؤكد في الظروف الراهنة أن
الفن هو المسؤول الوحيد عن ضجيج الحشد في قاعات العرض؟ لا ينتمي فانسان فان غوغ إلى
تاريخ الفن، بل لأسطورة وجودنا الإنساني الدامية. إنه ينتمي للعدد القليل من أولئك
الذين بلغوا فجأة في عالم من الثبات والنوم نقطة الغليان الرهيبة التي من دونها يصيرُ
كلّ من يدعي الاستمرارية باهتاً ولا يمكن التسامح معه ثم ينحط. ذلك أنه ليس لمثل «النقطة
الغليان» هذه غير معنى واحد لمن يبلغها، بل للجميع ولو أنهم لا يدركون بعد ما يجمع
القدر الإنساني المتوحش بالتألّق والانفجار واللهب، وبالتالي بالقوّة وحدها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق