الأربعاء، 1 أكتوبر 2014

المقدّس: جورج باتاي


حانت اللحظة لتحديد العنصر الحاسم نحو ما يتوجّه له البحث الغامض والملتبس، عبر انعطافات إبداع الأشكال أو الابتكارات اللفظية. لم يهجس "المطلب" الكبير، طبعاً، لمنح الفقراء اسم "الروح العصرية" ببساطة "كأس" كأنه "الجميل"؛ ليبعد نفسه بالريبة، بريبة مدّعاة أحياناً، من الطرق المفضية إلى "الحقيقيّ"، فتتبدّى عن "الخيّر" مشاعر مريبة، ماضية من تواضع عميق إلى حِنقٍ مُهين، من توكيد إلى نفي قاطع على حدّ سواء. أما شروط البحث، من جانب آخر، فملتبسة وتنحلّ سمة الهدف غير المحدودة كي تتحقّق. يحمل العذاب الطويل والعنف الحادّ وحدهما شهادةً على أهمية جوهرية للحياة لأجل هذا "المطلب" وغايته عصيّة التحديد.  
بدايةً، يلزم أن نُبيّن أنه لا توجد أمثلة لهذه الحركة من الشغف المستعر ضمن النطاق الضيق للابتكار الفنيّ. يبدو أن الرومانسية قد أُعيقَت بارتباكٍ فكريّ صارم، لو قورنت بحِمية "الروح العصرية". لم يعد الرومانسيّ ضمن نسق الابتكار الشكليّ مبدعاً. سمح لنفسه بحرية ما، ولم يفعل غير بسط نطاق الأساطير، كما منح عموماً أفكاراً شعرية، ساعدته، كما ساعدت سابقيه، كحوافز للابتكار اللفظيّ. لم يعد لضجر اليوم أيّ تطوّر فكريّ يُقارَن بما كان للرومانسية والفلسفة الألمانية المعتمدة عليها، لكن هذا الضجر تمّ توظيفه، بنوع من الدّوار، لاكتشاف الصيغة اللفظية أو الرمزية كمفتاح لهذا الوجود المملّ، الذي يتحدّى غالباً توظيفه بمبرّر الوجود. جعلَت السوريالية اليوم من نفسها داعماً لهذا المشروع، لكنه يميّز نفسَه كوريثٍ لهاجسٍ أسبق: تاريخ الشعر منذ رامبو، تاريخ اللوحة منذ فان جوخ، كشهادة متطرّفة ومعنىً للانقلاب الجديد.

لو ودّ امرؤ، بوضوحٍ مبدئيّ، أن يتمثّل "الكأس" المنشودة بعناد عبر أعماق غائمة، خادعة، متعاقبة، لاستلزم أن نلحّ على الحقيقة التي يصعُب أن تكون حقيقة جوهرية؛ فهي تتّسم، على النقيض، باستحالة الثبات. يعلّل مصطلح "اللحظة الثرية(*)" وحده، بقدرٍ من الدقّة، ما نلقاه مشاعاً في البحث، نقيضاً للمادة التي تصمد لاختبار الزمن، فهو يتلاشى بمجرّد أن يُرى ولا يمكن إدراكه. وإرادة تثبيت هذه اللحظات، المنتمية حقاً للرسم أو الكتابة، هي الطريقة الوحيدة لاستعادة الظهور، تستحضر الرسمة أو النصّ الشعريّ، لا الجوهريّ الذي ظهر ذات مرة. يرفع هذا من مزيج الترَح والفرَح، من القرف والعجرفة؛ لا شيء يبدو أكثر بؤساً ومواتاً من المستقرّ، لا نرغب في شيء أكثر ممّا يختفي. وهو يشعر بما يحبّ أن يهرب منه، يرتجف الفنان أو الكاتب من الفتور الذي يريده المتطرف؛ وتُستنفَد جهود عقيمة لابتداع دروب تسمح بإعادة التحقّق اللانهائية مما يهرب منه.   

الأمر الهامّ الحاسم في هذه الحركة أن البحث، المُباشَر فكرياً بمستحثّات الرغبة غير المشبَعة، يستبقُ دائماً المخطّط النظريّ لما ينشُده الهدف. ويفتح طبعاً التدخّل المتأخّر لتمييز الفهم مجالاً لاحتمالات خطأ فارغ، امتداده مثبّط، لكنه ليس أقلّ حتميةً، فقد لا تُحتَمل تجربةٌ من هذه الطبيعة، لو حاولت نظرية مستبصرة أن تُصلح مقدّماً نزعتَها وحدودَها. حين تستقرّ الأشياء ويحلّ الليل، تمنح "بومة منيرفا(**)" الربّةَ كشفاً بالأحداث الجارية لتقرّرَ معناها الخفيّ.  

يظهر وراء الحقيقة أن الفنّ، وقد عجز عن التعبير أياً كان، فهو يبلغه من الخارج، مقدّساً بلا شكّ ـ حيث استعملت الرومانسية احتمالات التجدّد ـ يظهر وراء الحقيقة أن الفنّ لم يعد يعيش إن لم يملك القوّة على بلوغ اللحظة المقدّسة من مصادره. للتقنيات التي تنهمك في اللعب إلى هذا الحدّ أن تعبّر عن مُعطىً له قيمته ومعناه. لقد أضافت إلى هذا المُعطى كمالَ التعبير المتحقّق، "الجميلَ" الذي قد نستردّه؛ في العلاقة مع "الحقيقيّ" هو الطريقة الأبسط لإقرار إن كان قد بلغ كمالَ الوسيلةِ المنشودة، وقد ظلّ "الخيّر" غريباً عليها، فلم يعد حكمه موجّهاً إلى ما يعبَّر عنه. وبالنتائج وسيلة نسبية، غيابٌ للقلق، وبراءة؛ أُقصيَت المرارة العميقة عن أداء الخطط هكذا، وتطلّبَت تقاليد المجتمع وقواه المبادرةَ والمسؤوليةَ. واختُبرت هذه المرارة بصَبّ الشكّ على قيمة هذه الخطط؛ ونُقلَت السلطة المنفية لتقديم الحقيقة إلى أشباح الماضي المخادعة وأطياف الأحلام المراوغة. حتى هذه الآونة، أصبح الفنّ، وكان وسيلةَ التعبيرِ الجوهريةَ، واعياً بالمشاركة الخلاّقة التي تضيف دائماً للعالم الذي تعبّر عنه؛ إلى هذه الآونة، وارتدّ من الحقيقة الماضية أو الحاضرة فأبدع حقيقته من ذاته، ولن يعودَ ببساطة جميلاً ولا حقيقياً، بل سيهيمن على الصراع مع الخير ضدّ الشرّ ـ وبسبب من قيمته الأسمى التي تمثّلها هذه الحقيقة ـ يهيمن كهِزّة أرضية عنيفة تُعجز أكثر المعارك فاجعةً.  

إن احتمال تحديد هدف معيّن لمثل هذا السعي الغريب هو بالتأكيد نتيجة لإخفاق هذا السعي أكثر مما للحظات النجاح الآبق. وأكثر نتائجه المتحقّقة: مرارة حمقاء ونفور متغطرس لذات المرء. بهذه النتائج ـ يوجز اسم رامبو وحده قدرتها على جعل كلّ شيء تقريباً خسيساً ـ يتأكّد المدى، الذي تبتعد فيه دورة التبادلات المحتملة بين المتذوّقين والفنانين والشعراء عن "الكأس"، التي من دونها تصبح أكثر وضوحاً وصفاءً، من حقيقة هذا الإخفاق ـ أن الوجودَ البشريّ غيرُ مُبرّر.  

طالما كان التحديد الذي قدّمته المسيحية بين الربّ وهدف الدين مفروضاً على الروح، فكلّ ما ندركه من عرض هذه "الكأس" أنه لا يختلط مع الربّ. ولهذا الفارق عقبة أن ننحّي الهوية العميقة الساكنة بين هذه "الكأس" وهدف الدين. لكن مع تطوّر المعرفة الملموس بتاريخ الأديان، يظهر أن النشاط الديني الجوهريّ لم يكن مباشرةً نحو كائنٍ (أو كائنات) مشخّص متعالٍ، بل حقيقة غير مشخّصة. لقد خلقت المسيحية الجوهر المقدّس، لكن طبيعة المقدّس، التي ندرك منها اليوم وجود الدين المضطرم، لأصعب شيء على الفهم الحاصل ما بين البشر: فالمقدّس لحظة مميزة لوحدة مشتركة، لحظة تواصل متشنّجة لما هو مكبوت عادةً. 
ينفتح فجأةً هذا الانفصال بين الجوهر المقدّس والمتعالي (هكذا يستحيل عليه الخلق) على مجال جديد ـ مجال هو للعنف، وربما للموت، لكنه مجال للدخول ـ لحِميةٍ تمسك بتلابيب الروح البشرية الحيّة. ولو انفتح مجال المقدّس، فلن يكون ثمة استفهام عن هذه الروح ناهيك عن تحطيم الحاجز؛ على هذه الروح أن تفهمَ ببساطة، لأنها طلبت وتطلب من دون إرجاءٍ، لأنها لم تطلب أبداً، ولا طلبت الآن، أن تصل إلى بُعد أقلّ. وليسَ لحقيقة "ندركُ أن الربّ ميتٌ" أن تفضي لسياقٍ أقلّ حسماً؛ فقد مثّل الربّ العقبة الوحيدة أمام الإرادة البشرية، وقد تحرّرت هذه الإرادة من الربّ، تخلّت، عاريةً، لشغف أن تهب العالم معنىً ثَمِلاً. وأياً كان مَن يبدع، مَن يرسم أو يكتب، فلم يعد يعترف بحدّ للرسم أو الكتابة؛ فقد صار له وحده، أن يتدبّر فجأةً كلّ تشنّج بشريّ محتمل، مع أنه لا يستطيع الفرار من إرث القوّة الإلهية ـ التي تنتمي إليه. ولا يعرف حتى إن كان هذا الإرث قد يستنفد ثم يدمّر ما يقدّسه. لكنه يرفض الآن أن يتخلّى "عمّا يهجس به" إلى مستويات مندوبي المبيعات، إلى ما يعمل وفقاً له الفنّ. 

الهوامش:
(*) Privileged Instant: استعمل هذا التعبير إميل درمنجم الذي يعود إليه أساس الشعر والصوفية ـ في مقالة بدورية "ميزري" (يوليو 1958): "اللحظة في أعمال الصوفيين وبعض الشعراء"، وتشير هذه المقالة خاصة لمفاهيم الصوفية، التي تنسب إلى "اللحظة" قيمة حاسمة، وتقارنها بالسيف الباتر. يقول أحد الصوفيين: "اللحظة، تقطع جذور المستقبل والماضي. السيف رفيق خطير؛ فقد يجعل سيده ملكاً لكنه قد يدمّره أيضاً. فهو لا يميز بين رقبة سيده ورقبة أيّ أحد آخر". والسمة المهلكة الخطيرة المبهمة العميقة للمقدّس تنعكس في هذا التمثّل العنيف ـ وقد تحدّث جان بول سارتر في "الغثيان" عن "اللحظات المكتملة" و"المواقف الثرية" بطريقة مميزة. (باتاي)  (درمنجم: مؤلّف كتاب: "حياة محمد"). (م)
(**)Owl of Minerva : في الأساطير اليونانية، تطير بعد حلول الليل. لكن الفيلسوف الألمانيّ هيجل يرى أنها محاولة لفهم الزمن أو حياتك، حيث لا يأتي الوضوح إلا متأخّراً. (م)                     


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق