الخميس، 14 أبريل 2016

أساطير رامبو: كامل عويد العامري




 

أساطير رامبو
              بعد عام من وفاة رامبو، في 1892، اقترح أحد معاصريه وهو آ. رتي (A. Rete) أن يعد الشاعر كأسطورة، وبعد نصف قرن ينصرف اتيامبل (Etiemble) في مؤلفه المشهور إلى مشروع "أسطورة رامبو" الذي صدر عام 1952-1961 في أربعة أجزاء «كان رامبو قد صرح بالنقد في سبيل المزحة، هذه الألزاس – اللورين من أدبنا» وفي الحقبة ذاتها، كان النقد يدّون بدقة أن رامبو كان يمتلك كل «سمات شخصية رواية».
           والحقيقة، ابتداءً من فيرلين، لدينا محاولات قليلة، لقراءة الشاعر هي أقل من محاولات اكتشاف السر في شعره وكان فيرلين، وهو الأول، من أطلق الوصف الذي صار ثروة، أي "الشاعر الملعون". إن عباراته المبالغ فيها ترى في أعمال رامبو الشعرية «سيرة ذاتية تتسم بحالة نفسية مدهشة»، وترى «نثراً من الماس البسيط كغابةٍ عذراء، وجميلاً مثل نمر».
          إن أسطورة «الرجل الذي ينتعل الريح» قد انطلقت، وأخذت تغذي قريحة خصبة، تلك القريحة التي ترى رامبو مغامراً روحياً أو، كما قال عنه مالارميه «عابر محترم، ومضة وصخب شهاب يلمع من دون سببٍ آخر كحضوره، الذي ينبعث وحده وينطفيء».
     من مغامرٍ إلى صبي شرير، ليست هناك سوى خطوة، يجتازها بنجامان فوندان بكتابه "رامبو الرائي". بينما يتناول آخرون الشاعر بجدية أقل، فيرى فيه آ. تيريف الـ«تلميذ المعتوه» ول. بيرتراند يرى فيه «بلاغي فاسد» بينما يرى فيه ت. كوبي «اللامبالي اللامع».
           وتقف في الضد من هذه التأويلات، مدرسة كاملة، على خطى إيزابيل رامبو، كانت تحاول وبعناء إعطاء الشاعر صورة «الصوفي في حالةٍ متوحشة. الذي يضيء كل دروب الفن والدين والحياة». ويرى بول كلوديل الذي كان يتذكر بأنه وجد من خلال قراءته لـ رامبو، طريق توجهه الديني. وهكذا أصبح الشاعر بقلم باتيرن بيريشون (Paterne Berichon)، وهو زوج شقيقة الشاعر «شهادة مؤلمة عن الحقيقة الكاثوليكية» ومنذ ذلك الوقت، يتابع هؤلاء آرائهم، فبعضهم يرى فيه «الصوفي الذي يشغله التجلي الرؤيوي»، مثل آ. رولاند دو رنيفيل، ويرى آخرون بأنه كان «لا أخلاقياً وملحداً». والفكرة الأخيرة مدعاة للتشويه، ما دامت تنبعث من واحدة من أكثر سير رامبو الحياتية الحقيقية، كما يقدمها ج. م. كاري في كتابه "حياة جان –ارثر رامبو المغامرة"، الذي طبع عام 1926 وأعيد طبعه عام 1949. غير أن رأي ج. مارتين أكثر تبايناً، فهو «لا يعتقد بأن هناك من له الحق أن يعد رامبو مسيحياً». ولكن مع ذلك فهو يبقى شاعر «المدخل العجائبي للمسيحية».
            وهناك مدرسة ثالثة، لا ترى فيه إلا مبدعاً، وخالقاً للشعر في حالته الصافية، الشعر الذي يرى فيه «الطريق المختصر العنيف للتاريخ والأدب» بحسب رأي ج. دوهاميل، أو «العبقرية العجولة» على حد تعبير، بول فاليري.
            ولكن هنالك تأويلات أخر ظهرت، مثل «المريض النفسي المعتوه» بحسب الدكتور لاكومبر و«المهووس الجنسي» كما يرى ر. فوريسون، و«الشاعر الملتزم، والمنشد للكومونة»، ومن ثم، صورة من يدعي الانحطاط التي تتكامل فيما هو شاذ ويقدم لقارئه «انطباعاً عن الجمال الذي يمكن أن يحس المرء به أمام علجوم بجلد كثير البثور المتناسقة، وأمام مصاب بمرضٍ زهري أو محطة القصر الأحمر في الساعة الحادية عشرة مساءً» –أنظر رمي دو غورمونت-.

            وإذا لم يكن رامبو بالأساس رجل أدب؟ ألا نرى لديه، كما يرى آ. فونتين، «غنج رجل أدب لا يتخلى عنه أبداً؟». يقدم لنا هنري ميلر وصفه كي نفهمه فيقول: «تقاومك فقرة؟ خذ كتابك في القواعد، ومعجم ليتري». وصفة يمكن أن تكون بسيطة، كي نفهم سر رامبو، هذا السر الذي يكمن بالنسبة لـ ل. دوديه في «حدته، ونوع الحرق ذي الختم الأحمر الذي تسببه لنا كل صفحة من صفحاته، نثراً وشعراً».
            وهناك بعض الأصوات التي لم تكشف عن نفسها في تناغم هذا الثناء والمديح. فبالنسبة للسرياليين ينبغي أن لا يهمل الجزء الثاني من "حياة رامبو" الجزء الذي تصعد فيه الدمية إلى الأعلى» على حد تعبير آندريه بريتون، أما ج. كريفيل، فهذا لا يملك سوى أن يحتقر «الحبة الكاثوليكية المسكرة لـ كلوديل وسي (Cie) ».
           لم يعد يبقى للشاعر سوى أن يكون ملهماً من إله، وإن كان آندريه بريتون يرى فيه بظرافة «إلهاً حقيقياً للنقاء، كانت تفتقر له كل الميثولوجيات» وبالمقابل، فإنه وبجديةٍ أكثر، هذا آ. رولاند دور "ينفيل" يستحضر [المملكة التي تفضل رامبو ونزل فيها ليخفف عنا الأسى].
           واليوم، ما الذي بقي من كل هذا الكم من الدراسات والصور المتناقضة، والنقاشات العنيفة؟ هنالك نص يجب على كل واحد منا أن يقرأه ليجد فيه الإجابات عن أسئلته، في الأقل إذا استطاع إلى ذلك سبيلاً.        

 ارثر رامبو … مقدمات الأسطوره
        كتب جيروم دوبوي وهو صحفي في مجلة الأكسبريس بعددها 17183 مقالاً قال فيه: «نشرت صحيفة "لا بلوم" [الريشة]، في صفحتها الأولى خبراً مقتضباً بلّغت فيه "العالم الأدبي" وفاة ارثر رامبو. وقالت أن المشاركة في تشييعه اقتصرت على والدته وشقيقته. ووعدت الصحيفة بنشر تفاصيل عن الخبر في عددها المقبل. ولكن صبيحة الثلاثاء في الأول من كانون الأول ديسمبر 1891، لم تخص الصحيفة رثاء رامبو بأكثر من ثلاثة أسطر. ويبدو أن مراسم دفن رامبو الأسرية الحميمة آذنت بولادة أسطورة الشاعر الذي لم يبع نسخة واحدة من أعماله قبل أن يقضي. وفي الأيام والأعوام التي تلت وفاته، انصرفت مجموعة من الشعراء، وأقارب وندماء سابقون، وذائع الصيت، فيرلين إلى رسم صورة شاعر "المركب السكران" التي بلغتنا اليوم. ويتقصى كتاب.». [مراسلات رامبو، الصادرة بعد وفاته، الجزء الأول]
       "Sur Arthur Rimbaud Correspondance posthume de 1891 à 1900الذي صدر عن دار فايار الفرنسية 2010، يبين صناعة صورة رامبو، وأطوار تحولها. وينشر الكتاب نصوص الرسائل التي تبادلها المقربون من رامبو، والأدباء والمثقفون الذين عرفوه. ويدور كلام هؤلاء عليه منذ يوم وفاته. ويناهز عدد الرسائل 1200 صفحة، مؤثرة وخلابة. فهي مليئة بأخبار رامبو ونوادره وحافلة بطرائفه. وبين أصحاب الرسائل هذه شعراء من أمثال فيرلين، وستيفان مالارميه وبول كلوديل وبول فاليري، والسياسي والصحافي شارل موراس، وجان جوريس من أبرز مؤسسي اليسار الفرنسي، والكاتب أندريه جيد.
      ويميط الكتاب الجديد هذا اللثام عن دور ايزابيل رامبو، شقيقة الشاعر، في تخليد ذكرى شقيقها. فهذه السيدة الريفية المؤمنة التي ترتدي أثواباً صلبة الأقمشة يزمها عند الخصر مشد ضيق، كانت شاهدة لحظات أخيها الأخيرة، ومعاناته الرهيبة في أثناء احتضاره، بمرسيليا. فكتبت أن شقيقها يشبه "قديساً" تقرب من الخالق قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة. وهذه أول اسطورة نُسجت في رامبو، وبعثت حيرة أصدقائه. ولكن ايزابيل لم تألُ جهداً لترويج الأسطورة هذه، في وقت انتشرت اشاعات تتهم الشاعر الراحل بأنه دهمائي خليع، ودرج على تخريب منازل أصدقائه الباريسيين، وبالغ في معاقرة الخمرة، وتاجر بالرقيق، وتسوّد على مجموعة من "العبيد" بأفريقيا.
      ولم تتراجع ايزابيل أمام الحملة هذه، وأنكرت صحة الاشاعات ودحضتها. وقاضت ناشر نسخة مقرصنة من أعمال شقيقها صدرت يوم وفاته. فاضطر الناشر الى مغادرة فرنسا. ونظمت احتفالات دينية على روح شقيقها في الكنائس، وطالبت بحصة أخيها من أرباح على شحنة "بطاريات مطبخ" كان يتولى رامبو بيعها في الصحراء، وأُهملت وتركت نهباً للجرذان والصدأ. وتزوجت ايزابيل بـ باترن بيرّيشون، وهو مثقف من كبار المعجبين بشقيقها، وطلب يدها قبل مقابلتها. فهي شقيقة رامبو، و«بهية الطلة بالتأكيد». فخشيت والدة رامبو، فيتالي، أن تكون ميول العريس الجنسية غير سوية. فسألت عنه "أميرالشعراء"، مالارميه، الذي سكّن مخاوفها.
      وإثر عقد قرانهما، واصلت ايزابيل وزوجها حملة تلميع صيت ارثر. فبرزت صورته تاجراً أميناً أدى دوراً ديبلوماسياً بارزاً في مفاوضات بين الزنوج والإيطاليين والإنكليز، في القرن الأفريقي. وهذا بعيد عن الواقع الجلي في مراسلات المقربين من رامبو. ولا يشبه شاعر "المركب السكران" صورته الأيقونية المطبوعة على قمصان المراهقين في أيامنا هذه. فالشيب غزا شعره. وهو خط السطور التالية في عدن، في 1884: «ربما آن أوان جمع بضعة آلاف الفرنكات من مدخرات حصلتها من هنا وهناك، والعودة الى البلد لأتزوج. والمرجح أن ينظروا إليّ هناك على أني كهل لا ترتضيه زوجاً غير الأرملة!».
      وأكثر ما يبعث على الدهشة هو أن رامبو، حين وفاته، رآه الناس شاعراً و"مستكشف" أصقاع بعيدة. فبعد أيام على وفاته، كرمته جمعية جغرافية، وأبّنته قائلة: «ذاع صيته شاعراً أكثر مما ذاع صيته مسافراً مستكشفاً». ويقول رب عمله في عدن، ألفريد باردي، إنه أشبه بـ«مذنّب مضيء لا يطيق الثبات في مكان واحد» في إشارة إلى تجواله المستمر. وفي 1901، نصب تمثال في محطة "شارلفيل ميزيار" يكرّم رامبو "الشاعر" و"المستعمر". وعلى خلاف فكرة شائعة، احتفى معاصرو رامبو بشعره غداة وفاته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق