الاثنين، 11 أبريل 2016

تنهدات وجيب مليء بالحجارة: لويس بونويل



ترجمة تحرير السماوي

لو قيل لي: ما زال لديك عشرون عاماً للحياة، فما الذي تفعله في كل 24 ساعة من هذه السنوات المتبقية، سأجيب:
أعطوني ساعتين من الحياة الحيوية، وكل البقية المتبقية سأتركها للأحلام، شرط أن أتذكرها، لأن الحلم يظل في الذكرى سجين السرير.
Luis Bunuel par Salvator Dali
أنا أحب الأحلام، حتى الكوابيس منها، التي غالباً ما تزورني، وتكون مطوقة بالعوائق الأليفة. ما همَّ هذا الولع الجنوني بالحلم، هذه الرغبة في الحلم، غير المقيدة بأية محاولة لفك مغزاها، تنتمي إلى الميل الدفين في أعماقي الذي أوصلني إلى طريق السريالية.
"الكلب الأندلسي"، الذي سأتحدث عنه بعد قليل، تمخض عن أحد أحلامي وأحلام سلفادور دالي. بعد ذالك أخذت أضع الأحلام التي أراها في معظم أفلامي، محاولاً تفادي كل الشروحات المنطقية التي تلازم الأفلام عادة.
في أحد المرات قلت لأحد المنتجين المكسيكيين، الذي لم يفهم مغزى المزاح. «إذا جاء الفيلم قصيراً فسأكمله بأحد أحلامي» يعني هذا أن الدماغ يحمي ذاته في المنام من العالم الخارجي، الذي يكون أقل حساسية إزاء الضوء والضوضاء. ومن الداخل يبدو وكأنه يضرب برعودٍ حلمية تهبطُ عل شكل موجات، إلى الأسفل .
مليارات الصور تظهر كل ليلة، تتناثر عل الفور وتمَّحي.. كل شيء يمحى، كل شيء على الإطلاق. وفي ليلة واحدة يقوم هذا الدماغ، أو ذاك، بطاقة تخيليّة هائلة سرعان ما تُنسى.
وقد أفلحتُ بإمساك حفنة من الأحلام التي كانت ترافقني طيلة حياتي. بعضها كان تافهاً بشكل لا يصدق: أن أقعَ تحت شعور اللذة في قاع ما، أو يطاردني أحد النمور أو الثيران، وأكون فجأةً في غرفة أغلقها ولكن الثور يقتحمها... وهكذا.
وفي كل أحلامي أجدُ نفسي أمام ضرورة إعادة امتحاناتي وتجاربي، وبالفعل عليّ إعادة كل امتحاناتي، ولكني نسيت ما كان يجب معرفته. وهناك أحلام أخرى كالتي تواجه المسرحيين والسينمائيين: فلقد حلمت، ذات مرّة بأني عل خشبة المسرح، وعليَّ أن أقوم بتمثيل دور ما، ولكني نسيت أول المقطع. في الحلم يتجسد هذا المشهد بشكل مطول ومعقد أحياناً، فأصاب بالخوف والاضطراب، والجمهور يصفق دونما صبر، فأذهب للمدير وأقول «يا للفظاعة، ماذا عليَّ أن أفعل؟» فيجيبني ببرود: «هذا شأنك أنت»، وعندما ترفع الستارة، أُصاب بذعر لا حدود له .
في فيلم "سحر البرجوازية الخفيّ" حاولت إدخال بعض من هذه المشاهد بعد إعادة تركيبها.
حلم مرعب آخر كان يرافقني، وهو عودتي المتكررة إلى المعسكر، في عمر الخمسين أو الستين أعود ببزتي العسكرية إلى مدريد، حيث أديت خدمتي فيها. أشعر بانقباض في صدري وأنا أسحل جسدي بمحاذاة الجدار خوفاً من أن يتعرّف عليَّ أحد ما. ويعتريني إحساس بالعار، لأنني ما زلت جندياً في هذه السن المتقدمة. إنه الواقع ولا أستطيع فعل أي شيء تجاهه. فأذهب إلى القائد وأشرحُ له ظرفي، وكيفية عودتي للمعسكر بعد ما خضت كل هذه التجارب في الحياة. وأحياناً أخرى أعود كإنسان ناضج إلى "كالاندا" إلى بيت طفولتي، حيث تختبئ أحد الأشباح. إذ خرج إليّ شبح والدي بعد مماته .
أدخل بكل جرأة إلى إحدى الغرف المظلمة وأُنادي على الشبح أيّاً كان محاولاً إستفزازه، وأحياناً تبلغ جرأتي حد الشتيمة والإهانة، ثم أسمع من ورائي بعض الأصوات، ويُقْفلُ البابُ بقوة، فأصحو مذعوراً .
ويحدث لي أن أحلم بوالدي وهو جالس عل مائدة العائلة ووجهه في غاية الجدية. يأكل ببطء ولا يتحدث إلا نادراً. أنا أعلم بأنه متوفّى، ولكي أقول لوالدتي، أو لإخوتي الجالسين أمامي: «يجب ألاَّ نخبره بموته...».
كذلك يعذبني الإفلاس في الحلم: أن لا أملك أي قرش، ورصيدي في البنك خال، كيف أدفعُ فاتورة الفندق؟ إنها أحد كوابيسي التي تطاردني بعناد كبير.
وهناك حلم القطار الذي بقي وفيّاً لي. لقد حلمت به مئات المرات، ولكن بتفاصيل مختلفة، على النحو التالي:
أكونُ في قطار ما، ولا أعرف أين الحقائب موجودة في الشبكة فوق رأسي، وفجأة يتوقف القطار في المحطة، فأقف لأنزل وأتناول بعض المشروبات، وفي كل مرّة أكون حذراً جداً، لأنني سافرت كثيراً في هذا القطار في أحلامي. حالما أضعُ قدمي عل أرض المحطة يغادر القطار مسرعاً، ويتركني حائراً، وحيداً. إنه فخ! أنا أعلم ذلك تماماً. لذا أنا حذر جداً. أضع ساقاً في المحطة وأتطلّعُ يميناً وشمالاً، وأصفّرُ لحناً ما، كأن ليس في الأمر ما يهمّ. القطار لم يتحرك. والمسافرون من حولي ينزلون بكل هدوء، فأضع ساقي الأخرى على أرض المحطة، وثم.. وكطلقة المدفع يغادر القطار مسرعاً مع حقائبي، فابدأ بكيل اللعنات وأنا أقفُ وحيداً في المحطة، هكذا، وبشكل فجائي، ثم أصحو من منامي.
عندما أكون مع جان-كلود كاريير للعمل سويّاً، أنام في غرفة مجاورة لغرفته، فيسمعني أحياناً، في منتصف الليل وأنا أصرخ وأشتم من بين الجدران الأربعة، كاريير لم يعد يغضب مني، إنه يقول بساطة: «آه... لقد غادر القطار وتركه ثانية». وبالمناسبة، أنا لم أحلم يوماً بأني مسافر على متن طائرة. كم بودي أن أعرف: لماذا؟
أعلمُ تماماً، بأن لا أحد يهتم بأحلام غيره، ولكن كيف للمرء أن يتحدث عن حياته دون ذلك الجزء الخفي، اللامعقول، التخيُّلي، أو حتى الإشارة إليه؟
على كل حال، سأنتهي حالاً من سرد أحلامي. لقد تبقّى حلمان أو ثلاثة، أولها حلمي المتعلق بالعم رافائيل، الذي وضعته بتفاصيله تقريباً في فلم "سحر البرجوازية الخفيّ". إنه حلم يشبه الموت: العم رافائيل ساورا توفي منذ زمن بعيد، هذا ما أعرفه تماماً، ولكنني التقيه دوماً في أحد الأزقة الخاوية، أسأله بتعجب: «ماذا تفعل هنا؟» فيجيبني بحزن: «أنا آتي إلى هنا يومياً» وفجأة أجد نفسي في بيت مظلم، غير منظّم ومليء بنسيج العناكب. أرى رافائيل يدخله يومياً. أناديه، لكنه لا يجيب. أخرجُ من البيت وأواصل ندائي، ولكنه نداء موجّه إلى والدتي هذه المرة: «أُماه.. أُماه.. ماذا تفعلين هنا تحت الظلال ؟. «
هذا الحلم أثَّر فيّ، وترك انطباعاً قوياً في نفسي. كنت في السبعين من عمري، عندما زارني هذا الحلم أول مرة. بعد مضي فترة من الزمن رأيت حلماً آخر :
رأيت مريم العذراء وهي تشع رقة وحناناً، تمدُّ يدها إليَّ. إنها هي دون أدنى شك. تتحدث إليَّ بإبهام وشفافية غير مصدقة، وفي الآن ذاته أسمع، بكل وضوح، موسيقى "شارع الحليب"، لـ شوبرت .
كم أردتُ عادة تركيب هذه الصورة في أفلامي، ولكن القوة التأثيرية المقنعة كانت تتقصها.
أركع، وتغرق عيناي بالدموع، وأحس بإيمان عجيب يطبق عليّ، إيمان حارق لا يقاوم. وللأسف، غادرني هذا الحلم منذ 15 عاماً. ما الذي يمكن فعله لاستعادة حلم ضائع؟
استيقظت ذات مرة في مدريد، وأنا أضحكُ بشكل جنوني، لم أستطع التوقف. تساءلت زوجتي عن السبب باستغراب، فقلت لها: «لقد حلمت أن أختي ماريا أهدتني وسادة نوم..». هذه الجملة تخص المحللين... فقط .
وبهذا الخصوص أود التحدث عن غالا، والتي كنتُ أهرب منها باستمرار-وَلِمَ أُنْكِرُ؟- إلتقيتها أوّل مرة في العام 1929 في "كاداكيس" أثناء افتتاح المعرض العالمي في "برشلونة". جاءت آنذاك مع زوجها بول ايلوار وابنتهما سيسيل، ورنيه ماغريه وزوجته، وأحد مالكي المعارض البلجيكيين. كنت وقتذاك أسكنُ عند سلفادور دالي، على بعد كيلومتر واحد من مدينة "كاداكيس" .
قال لي دالي: «أنظر، لقد جاءت امرأة رائعة». وفي المساء إحتسينا بعض الخمور، ثم أوصلتنا المجموعة، أنا ودالي، إلى البيت سيرا عل الأقدام، كنت أسير مع  غالا حين قلت إن أكثر ما يزعجني في المرأة هو أن تكون ذات ساقين منفرجتين. في اليوم التالي ذهبنا للسباحة، فشاهدت أن غالا تمتلك تلك السيقان بعينها التي أشرت إليها مساء أمس، أما دالي فقد تغير كلياً بين ليلة وضحاها. اختفى كل تطابق بين فكرينا مما أدى لاحقاً إلى عدم كتابة قصة فيلم "العصر الذهبي" بحسب ما كنا متفقين عليه. لم يتحدث إلا عن غالا، مكرّراً كل ما تقوله. لقد أحدثت فيه انقلاباً كليّاً.
بول ايلوار والبلجيكي سافرا بعد مضي بضعة أيام. غالا وابنتها سيسيل بقيتا، فقررتا أن نقوم برحلة بين الطبيعة، مع ليديا، زوجة أحد الصيادين. وبينما كنا نسير أشرت إلى مكان جميل، وقلت لـ دالي بأنه يذكرني بلوحات سورولا، أحد الرسامين من "فالنسيا"، فانفجر دالي بفورة غضب، وصرخ: «كيف بإمكانك، وأنت في مواجهة صخور كهذه، أن تتحدث بهذه السخافات؟»
تدخلت غالا وأعطته كل الحق فيما قاله، وهكذا استمرت الرحلة، حتى شارفت عل نهايتها -وكنا قد شربنا الكثير- فأصبحت غالا مقرفة، وثقيلة النفس معي.
لا أنكر الآن السبب الجوهري الذي جعلها تتصرف على هذا النحو، ولكني لم أشعر بنفسي إلا قافزاً من مكاني. أمسكت بها وطرحتها أرضاً، ووضعت يدي على عنقها لكي أقضي عليها. سيسيليا الصغيرة هربت مع زوجة الصياد مرعوبة، واختبأت وراء الصخور. دالي ركع على ركبتيه متوسلاً أن أترك غالا تعيش. وبالرغم من غضبي الجامح كنت أعرف بأني لن أقتلها. كل ما أردته، هو رؤية طرف لسانها متدلياً من بين أسنانها. وأخيراً تركتها، ثم حزمت حقائبي، بعد يومين، وسافرت .
سمعت أن ايلوار في باريس -وقد سكنا فيما بعد، ولفترة من الزمن، معاً، في الفندق نفسه في المونتمارتر- لا يخرج مطلقاً دون مسدسه، لأن غالا أخبرته بأني أود قتلها .
إني أسرد تلك الحوادث لأن غالا زارتني في الحلم بعد مضي خمسين عاماً. (في الثمانين من عمري). رايتها في شرفة المسرح. حدثتها برقة. قامت وتوجهت نحوي وقبلتني على شفتي. بإمكاني تذكر حتى رائحتها، وبشرتها الناعمة. وهذا كان، بالطبع، حلمي المفاجئ في الحياة، أكثر من حلمي بمريم العذراء.
في باريس، عام 1978، عشت قصة غريبة: جاء صديقي الرسام المكسيكي غيرونيلا مع زوجته كرمل بارا -وهي مصممة مسرحية– وابنتهما إلى باريس. وأظن أن العلاقة بينهما لم تكن جيدة، فسافرت الزوجة إلى "المكسيك"، وبعد بضمة أيام بعثت إليه بورقة الطلاق. تساءل صديقي حول السبب باندهاش، فأجابه المحامى: «زوجتك قررت ذلك لأنها رأت حلماً» ونُفّذَ الطلاق .
أعتقد بأني لم أنم ولو لمرة واحدة بصورة مرضية مع امرأة في أحلامي، وبالتأكيد أنها ليست حالة نادرة، فالعائق الأكثر هو، دوماً، النظرات.
النوافذ المواجهة لغرفي، حيث أكون مع إحدى النساء، يطل منها أناس يراقبونني وهم يبتسمون، فأضطر لمغادرة الغرفة، أو البيت كله أحياناً، ولكن النظرات الساخرة تلحق بي بإصرار. ثم تأتي لحظة الذروة فلا أجد أمامي أي عضو جنسي. لا شيء عل الإطلاق كما التماثيل المصقولة تقف المرأة قبالتي .
أحلام اليقظة تتصف بذات الأهمية وقوة التأثير. فطيلة حياتي كنت أتصور نفسي - كالآخرين بالتأكيد- جسداً غير مرئي، وأصبح من خلال هذه الميزة جباراً، ومشهوراً في العالم. هذه الأحلام كانت تراودني بأوضاع مختلفة وعديدة أثناء الحرب العالمية الثانية. والأهم في أحلامي هذه، كان التوقيت: فيدي غير المرئية، مثلاً، تسلم هتلر رسالة تطالبه فيها بإعدام غوبلز، وغورينغ، وكل العصابة خلال 24 ساعة، وإلا أصبحت حياته مهددة بالخطر. فيصرخ هتلر بمساعديه: «من جلب هذه الرسالة؟».. أما أنا فأكون الشاهد الوحيد على جنونه. وفي اليوم التالي أقوم باغتيال غوبلز. بعدها أغادر إلى روما لألعب ذات اللعبة مع موسيليني، ولكني انتهز الفرصة، وأقتحم غرفة إحدى النساء الجميلات. أجلس أمامها دون أن تراني، وأتأمل جسدها وهي تخلع ملابسها، ثم أعود بسرعة لأضبط التوقيت المميت للقائد الذي يزبد ويرعد من شدة الغضب.. وهكذا تسير أحلامي بسرعة الريح .
عندما كنت طالباً في مدريد، درجت عل القيام برحلات في الطبيعة مع صديقي يبين بلو إلى "السيرا كواداراما"، فكنت أتوقف وأنظر إلى المدى الجميل قائلاً له: «تصور، لو كانت هناك سدود مسيّجة بأسوار مسننة مع أبراج للمراقبة، وكل ما في الداخل هو ملك لي وحدي. المحاربون، المزارعون، الفنانون، الكنسية.. كلنا نحيا بسلام. وإن اقتضى الأمر نطلق بعض السهام لإبعاد الفضوليين الذين يقتربون من بوابة القلعة الكبيرة.» الحياة في القرون الوسطى كان لها دوماً تأثير معين في حياتي. هي التي توحي لي بصورة الإقطاعي المنعزل عن العالم التي تحكم حياته القسوة والطيبة في آن، ولا يعمل كثيراً. بين الحين والآخر يقوم بعربدات حمراء، ويشرب المتَّى والنبيذ الفاخر، ويشوي الحيوانات فوق الحطب؛ وليس للزمن أي معنى يذكر، فالمرء يعيش في دواخل ذاته، وليس للسفر أي وجود إطلاقاً .
وتسبح خيالاتي لأتصور نفسي أقوم بقلب نظام ما، وأصبح ديكتاتوراً للعالم، لي سلطة تفوق كل سلطة معروفة، لا أحد يستطيع مخالفة أوامري. وأول عمل أقوم به في حلم اليقظة، هذا، يكون ضد قوة الجماهير، مصدر كل المخاوف، أما إذا واجهني انفجار شعبي كالذي أراه يومياً في "المكسيك"، فسأقوم -كما أتصور- بجلب مجموعة من البيولوجيين -طبعاً دون إحتمال أي اعتراض- وآمرهم بإفلات جرثومة مرعبةً عل الكوكب لتقضي عل ملياري إنسان. ثم أقول بكل جرأة «هيَّا... حتى لو أصابتني الجرثومة شخصياً». ولكني أحاول التملص من هذه المؤامرة لكتابة قائمة لإنقاذ بعض الأشخاص: أفراد عائلتي مثلاً، وأفضل أصدقائي، أيضاً، وعائلات أصدقائي، وأصدقاء أصدقائي. وإذ تتعبني فكرة الوصول بالقائمة إلى نهايتها، أتراجع .
في الآونة الأخيرة، ومنذ عشر سنوات تقريباً كنت أضع تصورات حول كيفية إنقاذ العالم من النفط، المنبع الأخر للتعاسة كلها. فأقوم بوضع 75 قبلة نووية تحت الأرض، وفي أهم المواقع النفطية في العالم، ثم أفجرها. فعالم دون نفط، كما كنت أتصور دوماً -وما زلت- هو جنة معقولة وفق مثاليتي ليوتوبيا القرون الوسطى. ولكني أعتقد، أن كافة المشكلات لا تحل بـ 75 إنفجاراً نووياً، لذا علينا الانتظار قليلاً، فلربما احتجنا إليها في يوم ما.
وفي إحدى المرات كنت في "سان خوزيه بوروا" مع لويس الكوريسا، نعمل عل وضع سيناريو فيلم معاً. ذهبنا إلى النهر وأخذنا معنا بندقية صيد. فجأةً أمسكت بذراع الكوريسا وأثرت إلى الضفة الأخرى: ثمة تحفة فنية على إحدى الشجيرات: نسر كبير.
سارع لويس بتصويب بندقيته نحوه وأصابه. سقط النسر وسط الأعشاب، فركض لويس عابراً النهر، وأمسك بالطائر الذي لم يكن سوى تحفة محنطة، ألصقت إلى إحدى ساقيه بطاقة البلد الذي اشتريتهُ منهُ، وكذلك سعرهُ .
وفي مرة أخرى كنت أتناول العشاء مع لويس، الذي لمح في الحال امرأة جميلة تجلس وحيدة بجانبنا فقلت له: لويس أنت تعلم بأننا جئنا للعمل، ولا أحبذ أن تضيع وقتك بتأمل النساء. «طبعاً، أكيد» قال معتذراً .
بعد لحظات، تحولت نظراته مجدداً نحو المرأة الوحيدة. ابتسم لها فردت عليه الابتسامة. غضبتُ وعدت أذكّرهُ بأننا جئنا إلى "سان خوزيه" من أجل إنجاز سيناريو الفيلم. رد عليّ بغضب «إذا كانت المرأة تبتسم للرجل، فما عليه إلا أن يجاريها...»
وقفت وغادرت المطعم. أما لويس فقد قام بواجبه. انتقل إلى طاولة المرأة وأخذ يتناول معها القهوة ومن ثم حمل «انتصاره الكبير» باتجاه غرفته، وأخذ يساعدها عل خلع ملابسها. بعد برهة اكتشف أن جسد المرأة موشوم بما يلي: كورتيسيا دي لويس بونويل .
لم تكن هذه المرأة سوى عاهرة ثمينة من المكسيك، جاءت إلى سان خوزيه بناء عل طلبي .
طبعاً إن كل هذه القصص -أعني قصة النسر والعاهرة- هي نتاج أحلام اليقظة وألاعيبها .
ولكني على يقين من أن لويس كان سيقع في الفخ في الحالة الثانية.


" الكلب الأندلسي"


دعاني دالي للإقامة عنده في "ميغواراس". وفور وصولي قصصت عليه حلمين غريبين :الأول حول غيمة كبيرة تشق القمر إلى نصفين، والثاني حول موسى حلاقة تجرح العين. وحكى لي دالي بدوره عن حلم رآه في الليلة السابقة: لقد حلم أن يده مليئة بالنمل، وأضاف «ليتنا نصنع من هذه الصور فيلماً».
لا أعرف بالضبط ما كان رأيي بهذا الاقتراح. كل ما أذكره هو كيف باشرنا بالعمل، وأنجزنا سيناريو الفيلم خلال أسبوع، وفق شروط بسيطة إلى غاية البساطة، اخترناها بتوافق كلّي، مزمعين على أن لا نترك أية فكرة أو صورة تعبر عن شروحات نفسانية أو ثقافية، بل أن نفتح أبواب اللامعقول على مصاريعها، مُقْحِمين في العمل الصور التي تقتحمنا، دون وضعها في تجربة الـ «لماذا؟».
كان أسبوعاً من التوافق التام. لم يحصل بيننا أي تناقض في الآراء. كنا قلباً واحداً وروحاً واحدة. إذا قال أحدنا، مثلاً، «رجل يعزف على الكونترباص»، واعترض الآخر عل ذلك، يكون صاحب الاقتراح متفهماً، وإن أُخذ الاقتراح بعين الاعتبار، ندرجه، على الفور، في سيناريو الفيلم، هكذا، دونما مصاعب ومشاحنات .
عندما أنهينا سيناريو الفيلم. كنت متأكداً أني سأقف أمام إنجاز غير عادي، إستفزازي، لا تقبله أية جهة منتجة عاقلة، لذا طالبت والدتي ببعض النقود، لأنتجه بنفسي. ثم عدت إلى باريس، وأنفقت نصف ما أعطتني إياه والدتي في المقاهي التي كنت ارتادها في معظم الليالي .
بعد ذاك بدأت اتصالاتي بالممثل بيير باتشف، وسيمون ماريويل، والمصور ألبرت دوفرغر. كنا خمسة أشخاص، أو ستة، في الاستديو، ولم يكن لدى الممثلين أي تصور مسبق لما سيفعلونه. قلت لـ باتشف «أنظر في النافذة، وكأنك تستمع من بعد لموسيقى فاغنر، ولكن بشكل منبري»، ولكن، ما الذي كان يراه أو يتأمله باتشف؟ هذا ما لا يعرفه. وقد كنت في تلك الفترة أملك بعض الخبرة التقنية، وبعض النظريات، الأمر الذي جعلني أتجاوب مع المصوّر دوفرغر بشكل رائع .
بعد الانتهاء من تصوير الفيلم، تساءلنا: ما الذي نفعله للفيلم؟ أين نعرضه؟ وكيف؟ وفي أحد الأيام قُدِّمتُ إلى تريادا، من نادي "دفاتر الفن"، وكان قد سمع بالفيلم الذي عرض في قلعة مان راي، وتواعدنا على أن نلتقي في "بار كوبول". في اليوم التالي عرفني مان راي بـ لويس آراغون، وكنت أعلم بأنه ينتميان إلى جماعة السرياليين .
آراغون، الذي كان يكبرنى بثلاث سنوات، تصرف إزائي برقة فرنسية متقنة جداً، تحدثنا قليلاً، ثم قلت له بأني على يقين من أن فيلمي سيصنّف بالسريالية.
مان راي وآراغون شاهدا الفيلم، وكان رأيهما أن يظهر إلى العلن بأسرع ما يمكن، وأن يقام له إفتتاح كبير.
كانت السريالية بمثابة نداء منتشر هنا وهناك: في الولايات المتحدة، وألمانيا، واسبانيا، ويوغسلافيا. حركة مؤلفة من أشخاص قرروا -دون معرفة بعضهم لبعض- استخدام كل الأشكال التعبيرية والغريزية واللامعقولة .
قصائدي التي نشرتها في اسبانيا كانت تعبيراً عن هذا النداء، الذي أوصلنا في النهاية إلى باريس. وهكذا كان الأمر حينها توجهنا، أنا ودالي إلى باريس وبدأنا العمل عل فيلم "الكلب الأندلسى"، حيث استخدمنا طريقة أوتوماتيكية. لقد كنا ننتمى للسريالية قبل أن يعلّمنا أحد أصول اللعبة. ولكني أعترف أن لقائي مع الجماعة السريالية كان حدثاً، أو منعطفاً مهماً في حياتي.
لقد تم اللقاء الأول في مقهى كورانو في ساحة بلانش، حيث كانت الجماعة تلتقي يومياً. تعرفت إلى مان راي، وآراغون، ومن ثم ماكس ارنس، اندريه بريتون، بول إيلوار، تريستيان تزارا، رينيه شارل، بيير اونيك، ايف تانغوي، جان آرب، ماكسيم الكسندر، رينيه ماغريه، الذين قدموا من أجل التعرف إليَّ بدورهم. المجموعة كلها كانت هناك، باستثناء بنيامين بيريه الذي كان في البرازيل وقتذاك .
صافحني الجميع ودعوني لتناول الشراب معهم، وأعطوني وعداً بالقدوم إلى افتتاح الفيلم .
تم افتتاح فيلم "الكلب الاندلسي" في "اورسولين"، وقد حضر المجتمع البرجوازي الكبير، وإثنان من النبلاء، وبعض الكتاب المشهورين، والرسامين -بيكاسو، كوربوسيه، كريستيان بيرارد؛ الملحن جورج آوريك– وطبعاً كل التجمع السريالي. أمّا أنا فقد كنت متوتراً جداً، كما يتوقع المرء -وأقف وراء الكواليس واضعاً اسطوانات راقصة، وقد ملأت جيوبي بالأحجار، تحسباً لأي فشل، حتى أرمي الجمهور بها .
فأنا أذكر ما حدث لفيلم "الصَّدفة والقسيس" لـ جرمان دولاك، المبني على سيناريو لـ أنطونان آرتو، فقد جابهه السورياليون بالاستهزاء والصفير. لذا، كنت جاهزاً لما هو أفظع .
ولكي لم أحتج لاستخدام الأحجار، فقد سمعت التصفيق من وراء الكواليس، فقمت بإخراج "قذائفي الحجرية" من جيوبي، ووضعتها عل الأرض بكل هدوء وحذر 
 .

"العصر الذهبي"


بعد فيلم "الكلب الاندلسي" لم أفكر بإخراج فيلم تجاري. أردت أن أحافظ عل سرياليتي بأي ثمن ولم يكن ممكناً أن أطالب والدتي بتمويل فيلم ثان، لذا قررت الابتعاد من السينما. ولكن الأفكار كانت تعج في رأسي :
عربة مليئة بالعمال تسير وسط صالون أنيق، أبٌ يقتل إبنه، لأن الابن يتسبب بإسقاط رماد سيجارة الأب. أفكار كتبتها كما جاءت في مخيلتي .
وفي أحد أسفاري حكيت تلك الأفكار لـ دالي، فأثارت اهتمامه جداً، وقال إنها تصلح أن تكون فلماً، ولكن كيف يمكن تحقيقه؟ عدت إلى باريس، والتقيت سيرفوس (من جماعة "دفاتر الفن") الذي أوصلني إلى جورج هنري ريفيرا، واقترح أن أعرض فكرة الفيلم على نُواي، فقلت له بأني لا أهتم بالنبلاء. وحاول سيرفوس وريفيرا إقناعي بخطأي: «أنهم أشخاص ممتازون ويجب التعرف عليهم «.
قبلت في النهاية، دعوة عشاء مع نورا وجورج آوريك. بعد ذاك قال لي شارل دي نواي «نحن نقترح عليك، أن تخرج فيلم مدته 20 دقيقة ولك الحرية المطلقة، ولكن بشرط واحد: لقد أعطينا سترافنسكي وعداً بأن يضع موسيقى الفيلم.«
»أنا آسف جداً» أجبتهم. «كيف لي أن أعمل مع رجل يخرُّ على ركبتيه، ويضرب عل صدره»- هذا ما كان المرء يحكيه عن سترافنسكي.
رد فعل نُواي جاء بطريقة غير متوقعة بالنسبة لي، وبهذا استطاع كسب تعاطفي: «أنت محق تماماً» قال ودون أن يرفع صوته واصل كلامه «أنت وسترافنسكي لا يمكن أن تتفقا. إذن، قرر مع أي ملحن تريد العمل، إنك أنت الذي سيقوم بإخراج الفيلم، وسنجد شيئاً ما لـ سترافنسكي». وافقت وأخذت دفعة نقدية كمقدمة لأفكاري، وسافرت إلى دالي في "فيغوراس" .
كان ذلك في العام 1929
وصلت إلى "فيغوراس" من "باريس" عبر "ساراغوسا" -حيث أتوقف دوما لزيارة عائلتي- لأكون شاهداً على فورة غضب رهيبة: والد دالي كان يسكن في الطابق الأرضي والعائلة. وكانت الخالة، وشقيقة دالي آنا-ماريا، في الطابق الأول .
فجأة، يدفع الوالد الباب بعصبية جنونية، ويقذف بابنه إلى الشارع وهو يشتم: أنت إنسان دنيء ومنحل. دالي يحاول الدفاع عن نفسه، فأقترب منهما، فيواجهني الأب بغضب وهو يشير نحو ابنه: أنا لا أريد هذا الخنزير في بيتي.
السبب الوجيه جداً لفورة غضب الأب كان أن دالي قام، في أحد المعارض في برشلونة، بالكتابة، على إحدى اللوحات: «إني أبصق بكل متعة على صورة والدتي..». بعد طرده، رجاني دالي بالذهاب معي إلى "كاداجاس". وهناك بدأنا العمل معاً ولكن، بعد يومين أو ثلاثة شعرنا بأن سحرة "الكلب الاندلسى" يطاردوننا .
هل كان ذلك تأثير غالا؟ لم نستطع الاتفاق ولو على شيء واحد. كلٌّ منّا كان يرى اقتراح الأخر سيئاً ومرفوضاً. قررنا الافتراق بروح من الصداقة. وواصلت كتابة سيناريو الفيلم في "هيير"، في ممتلكات شارل وماري نواي، وحدي وكان رأيهما فيما أكتب، دوماً: «ممتع»، و«ممتاز» و«نادر». دون مبالغة.
وفي النهاية أصبح الفيلم أطول من "الكلب الأندلسي"، أما دالي فقد كان يرسل لي ببعض أفكار، في البريد. وقد استخدمت جزءاً منها في الفيلم: أحدهم يمشي في حديقة عامة، وهو يحمل صخرة على رأسه، ثم يصل أمام تمثال يحمل، بدوره، صخرة على رأسه .
وعلق دالي على الفيلم بإعجاب شديد، عل طريقته: «إنه يشبه الأفلام الأمريكية..«
صُوِّر الفلم في استديو "حي بيلا نكور". في القاعة إلي صور فيها المخرج آيزنشتاين فيلمه "سوناتا الربيع". اجتمع في الفيلم غاستون مادون، الذي تعرفت إليه في مونتبارناس، وكان يعشق إسبانيا، ويعزف على الجيتار. وكذلك لياليس، التي لعبت دور البطولة، وكانت قد جاءت مع الساكوبرين -ابنة أحد الكتاب الروس- ولا أعرف بالضبط لماذا اخترتها. دوفرغر كان المصور وقد قام أحد مصممي المرح ببناء ديكور الأستديو، المشاهد الخارجية صورت في "كاتالونيا"، بالقرب من "كاداجاس" و"باريس". ماكس أرنست لعب دور قائد اللصوص. بيير بريفير لعب دور اللص المريض. وفيلم "العصر الذهبي" هو ثاني، أو ثالث، فيلم فرنسي ناطق. والصوت الذي يتخلل الفيلم قائلاً : «اقترب برأسك، هنا الوسادة أبرد..» هو صوت بول إيلوار.
لم أرَ الفيلم ثانية، ولا أستطيع الحكم عليه اليوم. دالي، قارنه بالأفلام الأمريكية -ربما بسبب تقنيته- ولكنه كان بمثابة تهمة فاضحة لتركيبة المجتمع المعاصر. الإفتتاح الأول تم في بيت نواي، حيث حضر بعض الأشخاص الجدد الذين يتحدثون بلكنة انجليزية. وعبروا عن إعجابهم بالفيلم بـ «ممتع»، «نادر».. فقط .
بعد ذلك عرض الفيلم في سينما "بانتيون"، وحضره المجتمع الباريسي الراقي، وبعض النبلاء. ماري لويس وشارل كانا يستقبلان الحضور، لأني لم أكن موجوداً، وقتذاك، في باريس.
بعد العرض خرج الجميع، وكان من المنتظر أن يعبروا عن رأيهم بالفيلم، لكنهم مضوا كالأصنام، دون أن يتفوهوا بأية كلمة .
في اليوم التالي ، طُرد نُواي من نادي "جوكي"، بحيث اضطرت والدته التوسط لدى البابا في روما، لأن الحديث كان يدور حول «انتهاك الحرم الكنس».
ثم عرض الفيلم في استديو 28، لمدة 6 أيام، بنجاح كبير، إلى حين بدأت الصحافة اليمينية بمهاجمته. أصحاب الصحف الملكية، والشبيبة الوطنية، هجموا على السينما، ومزقوا اللوحات السريالية التي كانت معروضة في القاعة، ورموا القنابل عل الشاشة، وحطموا الكراسي.
هذه هي فضيحة "العصر الذهبي". بعد مرور أسبوع واحد منع عرض الفيلم علناً، وبقى هذا المنع ساري المفعول طيلة 50 عاماً. لم يظهر إلا في عروض خاصة، وللمختصين بشؤون السينما.
عام 1980 رفع المنع، وعُرض في نيويورك. وفي العام 1981 استطاع الجمهور الفرنسي مشاهدته لأول مرّة.

مصدر النص الأصلي: عن مجلة Sinn und Form الألمانية الديمقراطية
مصدر الترجمة: مجلة الكرمل، العدد 11، سنة 1984، صص 324-333

هناك تعليقان (2):