السبت، 23 أبريل 2016

شارل بودلير: أمي



ترجمة: سعيد بوخليط

الرسالة الأولى: باريس، الخميس 09 يونيو1857
أطمئنك، بأن لا يساورك أي قلق بشأني، بل أنتِ من يشغل بالي، وبشكل قوي. بالتأكيد، ليست الرسالة التي بعثتيها إليَّ المفعمة كلياً بالحزن، من ستهدئ روعي. إذا استسلمتِ له، فستصابين بالسقم، وسيكون الأمر بمثابة أسوأ المصائب، ثم بالنسبة إليَّ، أكثر أنواع القلق التي يستحيل عليَّ مقاومتها. أريد منكِ،  ليس فقط أن تبحثي عن وسائل للترفيه، لكن أريد أكثر ظفركِ بمتع جديدة. أتبين جيداً أن السيدة أورفيلا  (Orfila)، تعتبر امرأة حصيفة.
Charles Baudelaire's Macabre by Mihajlo Stojanovski
أمّا عن صمتي، فلا تحاولي معرفة السبب في موضع آخر، سوى مع هذه الكآبة، التي تستحوذ عليَّ أحياناً وتمنعني ليس فقط من الانكباب على أيّ عمل، بل وحتى القيام بأبسط الواجبات، فأشعر جراء ذلك بخزي كبير. أيضاً، أريد أن أكتب خلال الآن ذاته هذه الرسالة، وأعيد إليك كتابك عن قداس الصلاة ومعه مجموعة أشعاري.
لم يكتمل كتاب الصلاة تماماً، فحتّى أكثر العمال ذكاء، أزعجهم كثيراً، تصحيح بعض التفاصيل الصغيرة. هذا آلمني قليلاً، لكن اطمئني.
أما بخصوص القصائد [صدرت منذ خمسة عشر يوماً]، فقد توخيت أولاً عدم الكشف عنها، لكن عندما فكرت في الأمر ملياً، بدا إليَّ، بما أنكِ سمعت، أحاديث عن هذه المجموعة، على الأقلّ من خلال الملخصات التي سأرسلها لك، بالتالي سيكون خجلي أكثر حمقاً من احتشامك المتطرّف. لقد أبقيت لنفسي ستة عشر نسخة، مكتوبة  على ورق عادي، ثم أربعة أخرى دُونت على ورق رفيع، احتفظت لكِ بواحدة منها، وإذا لم تصلك بعد، فلأني ارتأيت إرسالها في شكل مجلد– تعلمين بأني لم أعتبر قط الأدب والفنون كمطاردين لغاية غريبة عن المزاج وتكفيني جمالية المفهوم والأسلوب. غير أن هذا الكتاب المعنون بـ: "أزهار الشر"، الذي يقول كل شيء، اكتسته مثلما ستلاحظين جمالية كئيبة وباردة، وقد أنجزته بجنون وصبر. إضافة إلى هذا، يكمن الدليل على قيمته الايجابية، في كلّ الشرّ الذي تضمنه. عمل، يبعث لدى الأشخاص هيجاناً، بل ذعرت بدوري من الرعب الذي استلهمته، فحذفت منه الثلث مع توالي تعديلات مسودّاته. لقد استنكروا لدي كل شيء، فكر الإبداع وكذا معرفة اللغة الفرنسية. أسخر من كل هؤلاء الأغبياء، وأعلم بأن هذا العمل بمميزاته وهفواته، سيرسم طريقاً في ذاكرة الجمهور المثقف، بجانب أفضل قصائد فيكتور هوغو وتيوفيل غوتيه بل وحتى بايرون (Bayron).  فقط توصية واحدة: بما أنك تعيشين مع أسرة الآنسة "إيمون" فلا تتركي هذه المجموعة الشعرية ملقاة بين أفرادها. أمّا بخصوص الكاهن، الذي تستضيفينه، بالتأكيد بوسعك تقديمها له. سيحكم علي بأني آثم، ولن يجرؤ على التصريح لكِ بهذا. لقد أشاعوا اللغط الذي سيلاحقني، بيد أنه لن يكون شيئاً. إن، حكومة على كاهلها انتخابات باريس المرعبة، لاتمتلك وقتاً لملاحقة مجنون. 
ألف اعتذار، نتيجة كل هذه التصرفات الصبيانية للخيلاء. لقد فكرت حقاً، في التوجه إلى منطقة "هونفلور" (Honfleur)، لكنّي لم أمتلك شجاعة إخبارك. أتوخى مداواة  كسلي بالكيّ، وأن أفعل ذلك مرّة وإلى الأبد على شاطئ البحر، بعمل عنيد، بعيداً عن كلّ اشتغال تافه، سواء بالانكباب على جزئي الثالث المخصص لـ ادغار بو، أو مسرحيتي الأولى التي يلزمني حقا تأليفها طوعاً أم كرهاً. لكن لدي أعمال، يلزمني القيام بها، لايمكنها أن تتم داخل فضاء لاتوجد فيه خزانات، ودون جهاز للطبع ومتحف. يجب، قبل كل شيء، أن أفرغ من نصوص: تطلعات إيستيتيقية وقصائد ليلية ثم اعترافات متناول للأفيون. 
القصائد الليلية بالنسبة للمجلة  المعنونة بـ"عالمين''، أمّا آكل الأفيون فهي ترجمة جديدة لكاتب رائع غير معروف في باريس، خصصتها لصحيفة ''لومونيتور'' .    

لكن يلزمني التريث [لماذا لا أقول كل شيء؟] قبل الخوض في سيرة السيد "إيمون"، إنه صديقك، وأحرص على عدم إزعاجك. هل تظنين مع ذلك، أن أتغاضى عن دونيته ووحشيته والطريقة الفظة، التي قابل بها مصافحتي خلال ذاك اليوم المؤلم [المقصود هنا مراسيم جنازة أوبيك (Aupick) يوم 30 أبريل1857]، حيث فقط لإرضائك، ولاشيء  سوى هذا، شعرت بالاهانة أكثر، لأني لم أتحمل أي إهانة منك طيلة هذه السنوات الطويلة؟
- هل أنسيلا (Ancella)، على مايرام، لم أراه سوى مرتين منذ ذهابك. هل لازال شارد الذهن وفهمه بطيئاً، وهل يحب دائماً زوجته وابنته دون أن يحمر وجهه. 
أعيد لك رسالة هذا الشخص الذي أجهله، فأنا لا أعرف من هو دوران (Durand).
عندما ذهبت لزيارة قبر، زوج أمي، انذهلت فعلاً أن أجد نفسي، أمام حفرة فارغة، فاتصلت بالمحافظ الذي نبهني إلى عملية التحويل، وأعطاني كمرشد قطعة ورق صغيرة. أكاليلك التي أذبلتها الأمطار القوية، وُضعت بعناية على المدفن الجديد، وقد أضفت لها أخرى. 
أقبِّلك أمي العزيزة، بمحبة.
******

الرسالة الثانية: باريس، 6 ماي 1861.
أمي الغالية، إذا امتلكت حقاً عبقرية الأمومة، ولم يلمسك بعد السأم، فحاولي القدوم إلى باريس للبحث عني ورؤيتي. لأني ونتيجة لألف سبب مرعب، لا يمكنني الذهاب إلى منطقة "هونفلور" ساعياً وراء ما أتوخاه كثيراً، فلا بأس إن أظهرت قليلاً من الشجاعة واللطف. نهاية شهر مارس، كتبت لكِ: لن نلتقي أبداً؟ لقد كنت أعاني من أحد هذه الأزمات، حيث استشراف إمكانية حدوث الحقيقة الفظيعة. لا أعرف ما بوسعي منحه، كي أقضي أياماً بجوارك، فأنتِ الكائن الوحيد المتعلقة به حياتي، فقط لثمان أيام أو ثلاثة بل مجرد ساعات.  
إنك لا تقرئين بتمعن رسائلي، تظنين أني أكذب  أو على الأقل أبالغ حينما أخبرك عن إحباطي وصحتي وكذا هول حياتي. ألح عليك، أريد رؤيتك ولا يمكنني الإسراع نحو وجهة "هونفلور". لقد تضمنت رسائلك أخطاء كثيرة، وأفكاراً مغلوطة، يمكن لحديثي معك أن يصححها، مادامت صفحات من الكتابة، لا تكفي لتقويضها.
خلال كل مرّة أتناول فيها القلم، كي أشرح لك وضعيتي، يتملكني الخوف، ثم الخوف من قتلك وتحطيم جسدك الضعيف. وأنا باستمرار، دون أن تشكي في هذا الأمر، على حافة الانتحار. أعتقد، أنك تحبينني بشغف، بعقل أعمى، أنت تمتلكين مزاجاً كبيراً جداً! لقد أحببتك بولع خلال طفولتي، فيما بعد، وجراء سلوكاتك الجائرة، لم أعد احترمك، كما لو أن ظلماً أمومياً، بوسعه أن يجيز في المقابل غياباً للاحترام من طرف الابن، لقد استحضرت الأمر دائماً، على الرغم كما هي عادتي، تجنبت الحديث عن الموضوع. لم أعد قط ذاك الطفل العاق والعنيف. تأملات مسهبة، حول مصيري وكذا مزاجك، ساعدتني على فهم جل أخطائي وكل سخائك. لكن عموماً، حدث الأسوأ جراء تهورك وأيضاً أخطائي. قدرنا بالتأكيد، أن يعيش أحدنا من أجل الثاني، وننهي حياتنا، بأقصى ممكن من النزاهة والرقة. هكذا، وجراء الوقائع الرهيبة التي مررت منها، فسيقتل أحدنا الثاني، سنتبادل القتل، في نهاية المطاف. بعد موتي، لن تنعمي أبداً بالحياة، هل الأمر واضح. فأنا الشيء الوحيد، الذي يجعلك حية. بعد موتك، لاسيما إذا وقع الأمر بسبب رجة، كنت مصدرها، فإنني بلا ريب سأقتل نفسي. موتك، الذي تتكلمين عنه غالباً باستسلام مفرط، لن يصلح أمراً فيما يتعلق بوضعيتي، وسيكون المجلس القضائي مؤيداً [ولما لا يكون كذلك؟]،ولن ينتقم أحد، لكن إضافة لآلامي سينتابني شعور مرعب جراء العزلة المطلقة. في المقابل، أن أسعى إلى قتل نفسي، يعتبر سلوكاً عبثياً، أليس كذلك؟ ستقولين لحظتها «لقد غادر هذا العالم وترك أمه العجوز وحدها». اعتقادي! وإن لم أكن أمتلك هذا الحق على وجه التحديد، فأظن بأن حجم  آلام التي أكابدها منذ ثلاثين سنة، تجعل صنيعاً مثل ذلك مبرّراً. ستجيبين «إلهي!». أتمنى من كل قلبي[بصدق لا يعلمه أحد غيري!] الإيمان أن كائناً خارجياً ولا مرئياً يهتم بمصيري، لكن كيف يمكنني الاعتقاد بذلك؟ [تدفعني فكرة الله إلى التفكير في ذلك الكاهن الملعون، وما ستحدثه لك رسالتي من أحاسيس مؤلمة، بالتالي لا أريد أن تستمعي إليه. ذاك الكاهن هو عدوي، ربما من باب الحمق فقط].
بالرجوع إلى فكرة الانتحار، وهي فكرة ثابتة، تتواتر لدي خلال فترات متكررة، لكن يجدر بي طمأنتك بخصوص إشارة، مفادها أنه لا يمكنني الإقدام على التخلص من ذاتي، دون ترتيب أموري، كل أوراقي في "هونفلور" (Honfleur) تحيط بها فوضى عارمة، ممّا يدعوني إلى المبادرة للقيام بعمل كبير، لكن ما إن أتواجد هناك، فلن أستطيع أبداً انتشال نفسي من جوارك،لأنه عليك أن تفترضي، كوني لا أريد تلويث منزلك بفعل يثير الاشمئزاز. فضلاً عن هذا، ستصابين بالجنون؟ لماذا الانتحار؟ هل نتيجة ديون؟ نعم، مع ذلك، يمكن السيطرة على هذه الديون. لكن الدافع مرده خاصة شعوري بتعب لا يطاق، نتيجة وضعية مستحيلة، استمرت طويلاً. أشعر مع كل دقيقة، أني لم أعد أطيق الحياة. لقد ارتكبتِ في حقي تهوراً كبيراً خلال فترة شبابي، بالتالي فتهورك هذا وأخطائي القديمة، يكتمان أنفاسي، ويعملان على تطويقي. وضعيتي فظيعة. هناك أفراد يوجهون إلي التحية، وآخرون يبدون إعجابهم نحوي، ثم ربما آخرون يحسدونني. وضعيتي الأدبية، أكثر من جيدة، بحيث يمكنني القيام بما أريده، سأطبع كل مسوداتي، ولأني صاحب فكر غير محبوب، فلا أكسب إلاّ قليلاً من النقود، لكني أخلّف شهرة كبيرة، أدرك ذلك شريطة امتلاكي شجاعة أن أحيا، لكن صحتي الروحية رديئة، بل ضائعة ربما. لازالت لدي مشاريع: الديوان الشعري: قلبي العاري. ثم روايات ومسرحيتين، إحداهما للمسرح الفرنسي. فهل، سأتمكن من إتمام كل ذلك؟ لا أعتقد. تعتبر وضعيتي المتعلقة بالكرامة، مرعبة، وهنا تكمن المأساة الكبرى. لا أستريح أبداً. شتائم، سباب، كلمات جارحة، فلايمكنك أن تتصوري الأمر، سياق يفسد الخيال ويشله. صحيح، أني أكسب قليلاً من المال، لكن لولا ثقل ديوني  لصرت ثريّاً، مع أني لا أملك ثروة، تأمّلي جيداً هذا الكلام. بوسعي أن أمدك بالمال، ويمكنني مساعدة جين (Jeanne)، دون أن يشكل ذلك مجازفة. سنتحدث عن هذا الموضوع، بعد قليل. أنت من أثار هذه التفسيرات. كل هذا المال الذي يهدر، بناء على نمط عيش مبذر ومنحرف [لأنني أعيش بشكل سيئ جداً] ثم تسديد أو بالأحرى استهلاك غير كاف لديون قديمة، ومصاريف جانبية، ثم ورق مدموغ إلخ. بعد قليل، سآتي على الأشياء الايجابية، بمعنى الحالية. لأني حقيقة، أحتاج إلى من يمدني بطوق النجاة، وأنت وحدك بوسعها إنقاذي. أريد اليوم، إخبارك بالحقيقة كاملة. أعيش وحيداً، بدون أصدقاء، ولا عشيقات ولا كلب ولا قطة، أي مع من أتقاسم همومي، ولا أتوفّر سوى على صورة لأبي، الصامت دائماً. أعيش هذه الوضعية القاسية، التي اختبرتها خلال خريف 1844 إنها استسلام، أسوأ من الجنون. لكن صحتي الجسدية التي أحتاجها من أجلك، ولأجلي، وكذا إتمام واجباتي، تمثّل أيضاً إشكالية! يلزمني أن أحدثك عنها، إذا تكرمت عليّ فعلاً بقليل من الإصغاء.لا أريد الخوض، في تلك الآفات العصبية التي تحطمني يوماً بعد يوم، فتلغي شجاعتي، مصحوبة بتقيؤات وأرق وكوابيس وإغماءات. لقد تحدثت غير ما مرّة بهذا الخصوص، لكن ليس مجدياً، أن أكون محتشماً معك. تعلمين، أني تعرضت لمرض السفلس، خلال فترة الصبا، واعتقدت فيما بعد أني شفيت منه تماماً. غير أنه، باغتني ثانية، بمدينة "ديجون" (Dijon)، سنة 1848، ثم هاهو يعود آخذاً شكلاً جديداً، بقع على الجلد وعياء غير مألوف، يمس مختلف مفاصل جسدي. بوسعك تصديقي، لقد عانيت ذلك، ثم ربما تفاقم ألمي، مع الحزن الذي غمرني. تلزمني حمية صحية صارمة، بيد أني  لايمكنني الامتثال لها، حسب طبيعة حياتي.
سأترك كل هذا جانباً، متوخياً أن أستعيد ثانية أحلامي الشاردة، قبل الرجوع إلى المشروع الذي سأخبرك عنه، وأطرحه معك حيث يشعرني بلذة حقيقية. فمن يدري، هل سيكون بوسعي مرة أخرى، أن أفتح لك روحي، التي لم تقدريها قط أو تدركين خباياها! أكتب هذا بلا تردد قدر معرفتي بصحته.
عشت في طفولتي حقبة حب شغوف بك، أسمع وأقرأ دون خوف، لم أخبرك قط بهذا الشعور. أتذكر، نزهة على عربة جياد، لما غادرتِ مؤسسة للرعاية، حيث كنت مُبعدة، وأظهرت إلي ما أبدعتيه من رسومات بالريشة، كي تبرهني أنك فكرت في طفلك. ألا تدرين، أني صاحب ذاكرة مدهشة؟ بعد ذلك، نزهات طويلة وعواطف محبة دائمة! على امتداد شارعي"سان أندريه للفنون" و"نيلي". لقد شكل  ذلك، بالنسبة إلي أفضل الأوقات للحنان الأمومي. أعتذر لك، عن وصفها بالوقت الأمثل، مادامت على النقيض، جسدت بالنسبة إليك الأسوأ. لكني، كنت دائماً،حيّاً فيك، وأنت فقط إلي. كنت، في ذات الوقت معشوقة ورفيقة. ستفاجئين ربما،لأنه بوسعي أن أتكلّم بشغف عن زمن ولى. أنا بدوري اندهشت، ربما لأني تبينت مرّة أخرى الرغبة في الموت، تتواتر الأشياء القديمة داخل فكري بشكل متوقّد جداً.
فيما بعد، كم هي فظيعة التربية التي حاول زوجُك تلقينها إليَّ، لقد بلغت سن الأربعين ولا يمكنني التفكير في فصول الثانوية، بغير أن أتوجع، أولاً أستحضر الخوف الذي ألهمني إياه زوج أمي. مع ذلك، أحببته مثلما أضمر له اليوم ما يكفي من الحكمة كي أنصفه. غير أنه في النهاية، كان أخرق بعناد. أريد، بسرعة المرور على هذا الموضوع، لأني أرى الدموع في عينيك.
أخيراً، وجدت سبيلاً للنجاة، وصرت منذئذ متحرّراً من كل قيد، فانغمست فقط في اللذة، والإثارة الدائمة، والأسفار، والأثاث الرائع، واللوحات، والفتيات، إلخ. لازلت أضمر ذكريات ذلك حتى اليوم، بنوع من المرارة المفرطة. أمّا فيما يخص الوصي القضائي، فليست لدي بهذا الخصوص سوى كلمة واحدة أقولها: أعرف اليوم القيمة الكبرى للمال، وأدرك جاذبية مختلف الأشياء التي تقود صوبه. أتصور، عدم اعتقادك أنك كنت ماهرة، وتعملين من أجل إسعادي، مع ذلك هناك سؤال يؤرقني: كيف حدث عدم حضور هذه الفكرة في ذهنك: «من الممكن أن لا يمتلك صغيري بنفس مستواي، عقلاً ممنهجاً، لكن بوسعه أيضاً أن يصبح شخصاً رائعاً من نواح أخرى. في هذه الحالة، ماذا أصنع؟ هل أدين، وجوده الثنائي المتناقض، وجوداً محترماً وآخر محتقراً؟ هل أحكم عليه بأن يجر غاية شيخوخته، سمة يرثى لها، تزعج وبمثابة مبرر للضعف والكآبة؟». من البديهي، أنه في حالة انعدام الوصي القضائي، لبذرت كل ما أملك. مع ذلك، ينبغي أن يأسره ذوق العمل، بحيث مع  تواجد هذا الوصي القضائي، ضاع كل شيء، وها أنا ذا رجل كهل وشقي. فهل يعود الشباب؟ جوهر السؤال، يكمن هنا.
كل هذه الإحالة على الماضي، ليس لها من هدف ثان سوى إظهار، أن لدي بعض الأعذار التي أريد التحجّج بها، إن لم تكن تبريراً كاملاً. إذا، أحسست بمؤاخذات من خلال ما كتبته، فاعلمي جيداً على الأقلّ، بأن هذا لايؤثر قط سلباً، على تقديري لقلبك الكبير واعترافي بوفائك، لقد ضحيت دائماً، وليس لك غير عبقرية التضحية، وأطلب منك المزيد، رأفة أكثر منه حقاً، وألتمس منك في الآن ذاته التضحية والدعم والتفاعل المطلق بيننا، كي أنتشل نفسي من المشكلة. أرجوك، أنتظرك، أنتظرك. فأنا على وشك الانهيار العصبي، وأن تخور شجاعتي ويتلاشى طموحي. أرى تواصلاً للرعب، ثم تتعطل حياتي الأدبية إلى الأبد، فأتبين وقوع كارثة. يمكنك فعلاً، أن تحلي ضيفة عند أصدقاء لـ أنسيل (Ancelle)  مثلاً، لمدة ثمانية أيام. لا أدري ما بوسعي تأديته، مقابل رؤيتك ومعانقتك. أستشعر كارثة، بالتالي لايمكنني حالياً المجيء عندك، فباريس بالنسبة إلي سيئة. فيما سبق، وخلال مرتين، ارتكبت تهوراً جسيماً، وصفتيه بقسوة أكبر، وانتهيت بأن فقدت رشدي.
ألتمس سعادتي وسعادتك، قدر إحساسنا معا بها. لقد سمحتِ لي، بأن أفتح معك قضية مشروع، هو كالتالي: ألتمس، أنصاف الحلول. سأتصرف في مبلغ كبير، يقارب مثلاً 10000 فرنك. أضع على الفور تحت تصرفك 2000 فرنك، كي تواجهي ضرورات غير متوقعة أو متوقعة، متطلبات الحياة، ملابس، إلخ... ثم لمدة سنة، ستستقر جين (jeanne) في منزل، سأدفع ثمن ضرورياته ومستلزماته. على أية حال، سأحدثك عنها بعد حين. مرة أخرى، أنت من دفعني نحو هذا الأمر. ثم أخيراً، 6000 فرنك بين أيادي أنسيل (Ancelle) أو مارين (Marin)، مبلغ سينفق على مهل، شيئاً فشيئاً، وباحتراس بطريقة لتأدية ربما ما يزيد على 10000 فرنك، بغية الحيلولة دون حدوث أي جلبة أو صخب داخل منزل منطقة "هونفلور".
إذن هاهي سنة ملؤها السكينة، وسأكون حقاً غبياً ولئيماً، إذا لم أستغل هذه الفرصة، من أجل استعادة شبابي. كل المال الذي ادخرته خلال هذه الفترة [10000 فرنك أو ربما فقط 5000 فرنك] سيسلم إليك. لا أخفي عليك، أيّاً من شؤوني وكذا مكاسبي. فعوض، أن يسد هذا المال الحاجة، سيتم كذلك استثماره في تسديد الديون، وهلم جرّاً خلال السنوات المقبلة. هكذا، يمكنني ربما بفضل تجدد الشباب الذي سيحدث أمام عينيك، تسديد كل المصاريف، دون أن يتقلص رصيدي إلى أقل من 10000 فرنك، وبغير احتساب حقاً لمبلغ 4600 فرنك، المتعلق بالسنوات السابقة. هكذا، سيتم إنقاذ  المنزل، لأنه أحد الاعتبارات التي وضعتها باستمرار نصب عيني.
إذا أمنت بمشروع الغبطة هذا، فأود الاستقرار ثانية، مباشرة مع نهاية الشهر. ألح عليك، طلباً لمجيئك، تعلمين بأن هناك حشد من التفاصيل، يصعب على رسالة الإحاطة بها. أريد بكلمة واحدة، أن لا يصرف أي مبلغ إلاّ بعد موافقتك، في إطار حوار ناضج بيننا، أي تصبحين باختصار، وصيي القضائي الحقيقي. فهل سنكون مضطرين للتأليف بين فكرة مفزعة جداً، مع أخرى في قمة النعومة، كما تجسدها الأم!.
في هذه الحالة، يلزم القول وداعاً للمبالغ الصغيرة، والمكاسب الضئيلة، 100 و200 فرنك، من هنا أو هناك، مصدرها روتين الحياة الباريسية. ستلزم إذن، تنظيرات كبيرة وتأليف كتب سميكة، يجبر التعويض عنها انتظار وقت طويل. لا تستشيري إلا نفسك، ثم ضميرك وإلهك، مادمت تتمثلين سعادة الإيمان به، ولا تكشفي عن أفكارك لـ أنسيل (Ancelle) إلاّ في نطاق الممكن، نعم هو شخص طيب، لكن عقله محدود، فلا يمكنه الاعتقاد بأن استساغة ذات سلبية للتوبيخ إرادياً، يجعل منها شخصية مهمّة. لقد تركني، مصدعاً بعناد، وعوض التفكير فقط في المال، ينبغي أن ألتفت شيئاً ما إلى سعادتي، والاستراحة والحياة. في هذه الحالة، بوسعي القول، أنني لن أكتفي بإقامات لمدة خمسة عشر يوماً، وشهر أو شهرين، بل ستكون إقامة دائمة، إلاّ إذا أتينا معاً إلى باريس...
أيضا فكرة خاطئة لديك، يستحضرها دائماً قلمك، وينبغي تصحيحها. أنا لا أشعر قط بالسأم في العزلة، ولا قط عندما أكون بجانبك. أعلم فقط، بأن أصدقاءك هم أصل معاناتي. أقرّ، بذلك.
تراودني أحياناً، فكرة الدعوة إلى اجتماع لمجلس العائلة، أو التقدّم إلى محكمة. تعلمين جيداً، بأنه إذا كانت في جعبتي أشياء جميلة، ينبغي الإخبار عنها، فلن تكون سوى هذه: لقد ألفت ثمانية أجزاء في ظل شروط مرعبة. يمكنني أن أكسب مصدر عيشي، لكن ديون شبابي، تغتالني؟ لا أقوم بهذا، احتراماً لك، ومراعاة لحساسيتك الفظيعة. أعترف لك، بهذا عن طيب خاطر. أكرّر لك، بأني ألزمت نفسي عدم اللجوء إلى أي شخص، سواك. وانطلاقاً من السنة المقبلة، سأخصص لـ جين (Jeanne)، مدخر الرأسمال المتبقي، تتمكن معه من الانتقال نحو جهة ما، حتى لا تظل في عزلة مطلقة. لقد وضعها أخوها في مستشفى، بهدف التخلّص منها، ثم حينما غادرت باعت نصيباً من أمتعتها وملابسها. منذ أربعة أشهر، أي منذ رحيلي عن منطقة "نيلي"، منحتها سبع فرنكات. أرجوك، امنحيني الطمأنينة والعمل، وشيئاً من الحنان. من البديهي، أنه حسب قضايا الراهنة، هناك أشياء تضغط بشدة، هكذا ارتكبت الخطأ من جديد في هذه التلاعبات البنكية الحتمية، جعلتني أختلس لحساب ديوني الشخصية، العديد من مئات الفرنكات، التي ليست من حقي. لقد كنت بالمطلق مضطراً لذلك. في المقابل، اعتقدت بديهياً، أني أصلحت فوراً الخطأ، فقد رفض شخص متواجد بلندن أن يعيد إلي 400 فرنك لازالت في ذمته، ثم شخص ثان مسافر، يفترض أن يعيد إلي 300 فرنك. دائماً، اللا-متوقع. لدي اليوم الجرأة الرهيبة، كي أقرّ بخطئي، إلى الشخص المعني بالأمر. ماذا سيحدث؟ لا أعلم شيئاً. لكني، أردت أن أريح ضميري. أتمنى عدم حدوث ضجة، مراعاة لاسمي ولموهبتي، وأنه يلزمنا فعلاً الانتظار.
وداعاً، أنا منهك. ولكي نعاود الحديث عن جانبي الصحي، فلم أستمتع بالنوم ولم أتناول طعاماً منذ تقريباً ثلاثة أيام، أشعر بالانقباض، ويجدر بي أن أشتغل.
لا أقول لك وداعاً، لأني أتشوّق لرؤيتك. آه! اقرئي رسالتي بتيقظ، من أجل فهمها جيداً. أعرف أن هذه الرسالة ستحزنك بوجع، لكنك ستجدين فيها بالتأكيد نبرة من الرقة والحنان، بل وأيضاً الأمل، الذي لم تسمعيه سوى نادراً جداً.
******

الرسالة الثالثة: بروكسيل، الثلاثاء 20 مارس 1866
حبيبتي أمي، لست في حالة جيدة ولا سيئة، أشتغل وأكتب بصعوبة، سأشرح لك السبب [منتصف شهر مارس سقط بودلير منهاراً داخل كنيسة "سان لوب- دو- نامور''، الأمر الذي كشف معاناته من اختلالات دماغية، وحينما عاد إلى فندق ''المرآة الكبيرة''، كتب هذه الورقة التي تعتبر آخر ما خطته يده] لقد ارتأيت منذ مدة، الكتابة إليك، وأظن هذا الليلة أو غداً صباحاً، سأجيبك بناء على مختلف ما تطلبينه مني. لقد اضطررت، تأجيل سفري إلى باريس، لكني سأقوم به، فهو ضروري على وجه الإطلاق. من الآن فصاعداً، لن تغيب كثيراً رسائلي عنك.
عزيزتي أمي الصغيرة المسكينة، أنا سبب كونك قلقة! (inquiète) [مع 't'واحدة]. تتغير الإملاء كثيراً، في فرنسا بحيث يمكنك فعلاً من جهة أخرى، أن تسمحي لنفسك ببعض العجائب اللغوية الصغيرة، مثل نابليون ولامارتين. إذا لم تتلق الرسالتين في نفس الوقت، فإنك ستتوصلين بالثانية يوماً واحداً، بعد هاته. 
أقبِّلك.
          شارل.
إذا أردت قراءة عملي:عمال البحر. سأبعثه لك، في غضون أيام قليلة.

مصدر النص الأصلي:
Ma chère Maman: De Baudelaire a Saint-Exupéry ;des lettres d écrivains . Gallimard ;2002.
     
 
      

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق