الثلاثاء، 19 أبريل 2016

الكتابة شفاهاً؛ اكتب لي اكتب لي أي شيء ولكن شفاهاً: جان- لوك نانسي



ترجمة شوقي عبد الأمير

جان- لوك نانسي مفكر فرنسي عُرف ببحوثه ذات الطابع المنطقي "علم المنطق" وهو هنا يقدّم بحثاً عميقاً في مفهوم "الكتابة والمشافهة" سيكون من المهم مواكبته ومناقشته، خصوصاً من أولئك الذين في لغتنا مازالوا موزعين بين النص المكتوب والنص الملقى أو المُنشد، أي بين إنشاد الشعر وكتابته. هنا في هذه الدراسة المتميزة (مجلة "شعر" الفرنسية، العدد 92) يقدّم نانسي سؤالاً جديداً هو شفاهية الكتابة نفسها، وهو بذلك يضيف إشكالاً جديداً لم يكن معروفاً في معادلة الكتابة -المشافهة.


من يكتب يُجِبْ.
عمَّ يجيب (أو تجيب)، وعلامَ يجيب (أو تجيب)؟ لقد أعطى التقليد أسماء لذلك. هناك الملهمةُ والوحي الشعري والعبقرية والإلهام، وأحياناً الاهتمام أو الميل، وربما ضرورة من ضرورات النفس أو الأعصاب، هبَةُ السماء، أمٌ أو إيعازٌ مقدَّس، واجبٌ من واجبات الذاكرة أو النسيان، خلق أو إبداع ذاتي للنص. نقرأ في البيت الأول من "الإلياذة": «غنِّي أيتها الآلهة غضبَ أشيل...». في هذا المستهلّ من الأدب الغربي، لا يلفظ الشاعر سوى الجملة الأولى - أو بالأحرى الجمل التي تُفضي إلى السؤال الآتي: «أيّ إله قَذَفهم في الحرب»؟ والجواب: ليتو وزوس، وهو سؤال يستغرق كل القصيدة، التي سنسمع تيا وهى تغنِّيها.
جان -لوك نانسي
هوميروس لم يكتب شيئاً... إنه يترك الصوت السماوي يغنّي. وهو يغنّي بقدر ما يحاكي الأغنية السماوية -هذه الأغنية التي تطالبه بأن يغنِّيها، إنه يفعل ذلك بقدر ما ينتظر منها فعلَه كي يختفي هو ذاته في هذه الأغنية- فأغنيتُها تغدو أغنيتَه، ولكن مع بقائها على الدوام تلك الأغنية السماوية. إنه إذاً يَدَعُ الصوتَ يغنّي، أو يجعله بالأحرى يُسمَع، إنه يَرويه أو يُنشدُه. ومنذ ذلك الحين فإن مَن يكتب لا يكتب إلاّ من طريق تلقّي ما يُملى عليه بكل معاني هذه الكلمة. تلقّي الإملاء، هو القول من طريق الإعادة والإصرار، وهو كذلك أمر وإصدارُ تعليمات. من يكتبْ يلزم نفسه بالكتابة. إنه يستجيب إلى أمر، وحتى إلى تأنيب، أو بالأحرى إلى حضٍّ، تحريضٍ أو ضَغط. لكنه أيضاً يتلقّى الإملاء. إنه يُنيم بواسطة الكتابة النصَّ الذي يؤلفه وهو ينشد أو يردّد لهذا ا لغرض صوتاً آخر، صوتاً لا يكتب شيئاً، صوتاً هو كاتبٌ أعلى. من كلمة "إملاء"، اشتقَّت اللغة الألمانية -فضلاً عن الفعل "أملى"- فعلاً آخر يعني: ألَّف نصاً مكتوباً، وبالأخص قصيدة. من يكتُبْ يُجبْ بشكل أو بآخر، بواسطة صدى أو تنفيذ، بواسطة تدوين أو ترجمة على دكتاتورية مُمْلٍ ما. إن ما يبدو في "الإلياذة" وكأنه ردُّ تيا غير المسمَّاة وغير المشخَّصة، هو في الواقع بخلاف ذلك، جواب الشاعر المنشد على إملاء الصوت الإلهي، لكن هذه الإجابة تُقدَّم بشكل معكوس؛ ذلك أن الشاعر المنشد هو الذي يجيب، أو بالأحرى ليس ثمة سوى جواب واحد على جواب آخر، وما من أحد قد بدأ إطلاقاً. تلك هي صيغة ما يُدعى اليوم بالكتابة. هذا مع ملاحظة أن كلمة إجابة -باللاتينية- تعني في الأصل الأغنية التي تُغنَّى بتعاقُب الدروس. في الكتابة، يتعلق الأمر بالأغنية، وبالترديد أو بالجَرْس الداخلي الذي يشكِّل الأغنية.
 إن الشاعر المنشد وتيا لا يُجيبان بالاتجاه نفسه الذي يُجاب به عن سؤال، لكن في الوجهة التي يُجاب بما عن انتظار، أو في الاتجاه الذي تتجاوب فيه أصوات عدّة وتتناغم. إنهما يتجاوبان أو يجيب أحدُهما الآخر، لأن الإجابة تعني الالتزام بردٍّ مقابل أو التزام ديني و/أو قانوني: الردُّ على وعدٍ بوعدٍ متبادل «كما في الخِطبة التي تتمّ بين رجل وامرأة». مَنْ يكتبْ يُصغِ، ويلتزمْ في إصغائِه. وفي الإنكليزية كلمة "الرد" تعني الكلمة التي تأتي إلى اللقاء. الكتابة هي التزام باللقاء، وهي الذهاب إلى اللقاء. الكتابة هي أخذ موعد لقاء يمكن أن يكون خَفيّاً أو عابراً، أو مجرَّد تلاقٍ في اتجاهَين مختلفَين، ربّما حفيفٌ أو مسٌّ سريع، وقد يكون لقاءً طويلاً ومحادثةً مستمرّة وجهاً لوجه، كما يمكن له أن يحدث في التضاد، في الصدمة، في المواجهة بمعنى المجابهة، وفي التنافر. ولكنه دائماً يعني المجابهة، وإلا تتم أبداً بوجود طرف واحد فقط.
والإصغاءُ هو الرنين؛ أي أن تَدَعَ الأصوات القادمة من مكان آخر تهتزُّ وتتردَّد في داخلك، وأن تردَّ عليها بتركها تنعكس في جسد أصبح لهذا الغرض كثير التجاويف. هذه التجاويف ليست تجاويف أفلاطون؛ إنها ليست مغلقة ثم لا تلبث أن تُفتحَ على الخارج الذي يُلقي ظلالاً، ولكنه الانفتاح في ذاته بكل ما للمصطلح من معنى، إنه الانفتاح الداخلي، وهو الانفتاح ذاته بشكل مطلق. في الواقع إنه "أنا" باعتباري انفتاحاً، أنا باعتباري صندوقاً للترجيع الذي عليه تنعكسُ وتنزلقُ وتصطدمُ نبرات الأصوات من الخارج، نبرات الأصوات الحيّة. ولكن الصدى ليس ظلاً. وما يتبقَّى عمليةُ طرح، إنه التكثيف وإعادة التوافق، وتعديل الصوت أو النغم، مَن يكتبْ يُوجِدْ صدًى، وهو يجيب بإيجاده صدى. إنه يشارك ويقاسم التزامَ صوت من الخارج هو بدورِه التزامٌ إزاء هذا الصوت الذي يجعل الصوتَ الأغنيةَ المنفردة أو القصيدة ذات الصوتِ الواحد صوتاً مُتعدِّدَ الجوانب والإيقاعات. ولكن دون هذه التعدُّدية لن تكون الأغنيةُ المنفردة مسموعةً، وكذلك القصيدة ذات الصوت الواحد. أي أن أحداً لن يسمعها، وأنها قد تبقى صمَّاء إزاء ذاتها هى.

الجواب هو استعادةُ الصوت وإعادةُ إطلاقه بما يقول وبنبرته ولهجتِه. ومن دون هذه الاستعادة -أي من دون إجابة- الصوت حبيسَ ذاته. إن صوتاً حبيساً في ذاته لن يكون صوتاً. إنه صمتٌ لا يملكُ حتى حيِّزَ عُنوانه، إنه الخَرَس السجين في طنينه أو في زئيره أو في همسه. كلُّ صوت دائماً هو صوتان على الأقل، آي متعدِّدُ الأصوات بشكل من الأشكال. كل صوت يجب أن ينادي الآخر «غَنِّ»! ومن هنا تنبثق الأغنية التي تَسِمُ الصوتَ البشري  وكذلك الصوتَ الحيواني. والقصيدة الغنائية تعني توجيهَ الكلام أو الخطاب، إطلاقَ ردٍّ أو نداءٍ. الصوتُ البشري يدوِّي دائماً نحو صوت آخر، وينطلق من صوتٍ آخر أو داخلَ صوت آخر. إن ترجيعه الصائب لا ينفصل عن صدى إصغاء، فحين أتكلّم منفرداً وبشكل صامت "في دخيلتي" -إذا جاز التعبير، أي حين أفكر، أنا أسمع صوتاً آخر في صوتي، أو أسمع صوتاً يتردّد في حنجرة أخرى.
إن "الكتابة" هي تسميةٌ لترجيع الصوت هذا: النداء اللقاء، والالتزام الذي يستلزمه النداء واللقاء. وبهذا المعنى فإن كل كتابة هى "ملتزمة" بالمعنى الذي يسبق مفهوم الالتزام السياسي أو الأخلاقي، في خدمة قضية. الكتابةُ هي استخدام الصوت في الترجيع الذي يجعله إنسانيّاً: ولكن لفظة "إنساني" لا تعنى في هذه الحالة شيئاً سوى «ما يظهر أو ينبثق من الصدى أو  الترجيع». فالكتابة هي إذاً ترجيع الصوت بالذات، أو الصوت باعتباره صدى، أي باعتباره إعادةً في ذاته، عَبر مسافة "ذاتٍ" ما، إلى "الذاتية" التي تتيح له التطابق: في كل مرّة فريدة قطعاً من أجل عدد غير محدّد من اللقاءات الفريدة في كل مرّة. الكتابة "تحدِّد" -كما يقال- تدفُّقَ الكلام. ليس هذا التحديد سوى التسجيل، الحفظ، أو بقاء إمكان الترجيع. في حالة الكلمة الحيّة، أو في حالة الكلمة التي لا تنطلق إلاَّ لكي تؤكِّد إعلاماً فورياً، بلا مُهلةٍ ولا موعد. ينطفئ الصدى أو الترجيعُ بمجرّد وصول الإعلام إلى المخاطَب. أما في حالة الكتابة فإن المخاطَب هو قبل كل شيء ودائماً الترجيع بما هو ترجيع. هوميروس لم يكتبْ على الأقل إلاّ لملايين قرائه، لكل منهم فرداً فرداً وشعباً شعباً وجماعةً جماعة منذ زهاء ثلاثين قرناً. ولذا فإنه يستخدم قصيدتَه للدعوة إلى الصوت الإلهي بعد أن يجعل من نفسه صدى له. الكتابةُ المحدّدة أو الثابتة محفورةٌ في الخشب، في الشمع، على الحجر أو الورق، مرقومةٌ على الشاشة أو مسجّلة نقلاً عن صوت خطيب أو مُغنٍّ أو متحدِّث -الكتابةُ ليست ثابتةً إلا لأنها تسجّل هكذا حيِّزَ صدًى متجدِّدٍ دائماً.
حين يؤكد هيغل على أن حقيقةً مكتوبة لا تفقد شيئاً إذا كانت محفوظة خارج الظرف الوحيد لإنشائها أو تحريرها -وهكذا فإن عبارة «إنه الليل» المنطوقة ظُهراً- لا تعني بأن الحقيقة لا تمتُّ بصلة إلى إمكان التحقيق التجريبي، بل إنها لا تمتُّ بصلة إلى المخاطبة والترجيع. إذا قلتُ ظُهراً «إنه الليل» ما الذي أريد قوله إذاً وأي إصغاءٍ يمكن أن يبادر إلى تلقِّي قولي؟ إنَّ قول «إنه الليل» عند منتصف الليل يذكر شيئاً ما، لكنه لا يعلن شيئاً، أو أن هذه الجملة تُعلنُ معنًى لا بدّ أن يتجاوزَ المعنى المرجعيَّ المؤكّد بشكل مباشر. كما أن هذه الجملةَ المنطوقَ بها ظهراً -أي هذه الجملة المكتوبة- تعلن معنى يتملّص من المرجع ويشير إلى شيء آخر. هذا "الشيء الآخر" يتمثّل قبل كل شيء في توجيه الجملة وفي الرَّجع الذي تَوَجَّهَ عبرَه. ويمكن القول بالفرنسية إنها تستخدم معناها بواسطة أسلوبها أو تركيبها أكثر مما هو بواسطة معناها. يشير الأسلوب إلى الطريقة أو إلى فنّ التلفُّظ، بالكتابة أو بالموسيقى، والمجموع يُعتبر بمثابة وحداتِ معنى: إنها أغنيةُ المعنى.
إن أغنية المعنى ليست سوى المعنى ذاتِه، وليست شيئاً آخر. المعنى ليس هو المدلول ولا التسمية -الإحالة بواسطة مدلول إلى تَصَوُّر مُؤدٍّ أو مقصود وهو ذاتُه مفترضٌ بأنه خارج اللغة- إنه بالأحرى انفتاح المبنى أو الهيكل وحيويةُ الإحالة عموماً، الأمرُ الذي بواسطته يمكن لشيء ما مثل إحالة دالَّةٍ أن يوجد؛ إحالةُ الدال على المدلول المصحوب هي ذاتها إحالةُ الدال على المدلول حسبَ لعبةِ الفوارقِ في اللغةِ، وأخيراً، أو كي نبتدئ: إحالةُ صوت على إصغاء لا يمكن من دونها لأي واحدة من الإحالتَين الأخيرتَين أن تحدُثَ، لأن هذه مثل تلك، وهذه عبر تلك إجمالاً تفترض التفاهم «بالمعنى المزدوج للكلمة بالفرنسية - وبالألمانية يمكن أن تكون الطاعة أو الانتماء».
 وما تعنيه بكلمة "تفاهم" -أو "سماع"- ليس هو ما يعنيه القول أو الكلام، بمعنى أن هذه الإرادة قد تنتج الحقيقة الكاملة لقصدها أو لرغبتها. ينبغي قبل كل شيء سماعُ هذه الرغبة ذاتها، يجب فهمُ الفعل "عَنى" على أنه "عنى ذاتَه" في كلامه. سماع القول وهو يرغب في ذاته باعتباره قولاً أو كلاماً، إنما هو سماعُه - أو فهمُه يتردّد، تماماً بالاستماع إليه وهو يرغب في الآخر كموضع لصداه ولإحالته. المعنى باعتباره أغنية ليس هو قطعاً تلحين كلام أو نصّ: إنه الصفة البدائية المجلجلة للمعنى ذاته.
وإجمالاً فإن القول والرغبة في القول، قبل قول شيء ما، يقال هو إرادة، وهذه الإرادة، قبل إرادة شيء ما تعني قبل كل شيء القدرة على الإفصاح عن المكنونات، أي القدرة على استدعاء الذات وعلى الإجابة. وبعبارة أخرى، إذا كانت الكتابة هي الإجابة عن نداء بنداء آخر، أو إتاحة فرصة وتشكيل النداء بما هو نداء -مثل هوميروس الذي ينادي الآلهة التي هي ذاتها تنادي من أعماق اللغة والأسطورة، الممتزجتَين ببعضهما بطريقة مبهمة- فإن النداء والخطاب ليسا سوى المعنى: المعنى باعتباره انفتاحاً وليس مكانَ الإحالة.
 لا يمكن للمعنى إطلاقاً أن يكون إنتاج فعل واحد أو موضوع واحد من المعنى، لأن هذا الفعل -أو الموضوع- ذاته ينبغي على الأقل أن يعني المعنى الذي قد يُقدِّمه أو الذي قد يجده. لا بدّ له أن يُفهِم ولكي يُفهَم لا بدّ له أن يُدعى ولكي يُدعى لا بدّ له أن يَقدر على الترجيع - وأخيراً، لكي يُرجِّع لا بدّ له -في المقام الأول- أن يتوافر في داخله المكان والمدّة والحيِّز والانفتاح الذي هو شرط إمكان حدوث صدى، لأن هذا الأخير يستلزم علاقة اهتزاز أو "تموُّج"، وإيجاد "تعاطف" -أو مشاركة وجدانية، أو حتّى تناغم- كما يقول الموسيقيون. ولكن الترجيع كما ينبغي فهمُه هنا ليس فقط العلاقة بين نظامَين صوتيَّين متميِّزَين. إنه يشكّل قبل كل شيء الترجيع الصوتي في حدّ ذاته مع تمدُّده الخاص، وتضخيمه الخاص، وترجيعه الخاص.
الأغنية هي الترجيع الصوتي الإنساني للمعنى: فالمعنى هو ذاتُه مُشكَّل ومُعرَّفٌ بواسطة الفُسحةِ الداخلية لإحالته، وقبل كل شيء للإرسال الذي ينتقل عبرَهُ "إلى المخاطب" بحيث يودّ أن يكون ذاته جواباً على إحالته الخاصة. وبهذا المعنى، فلسنا نحن -أحدنا إلى جانب الآخر- سوى نقاط محدّدة على امتداد إرسال عام يصنعه المعنى من ذاته نحو ذاته، يبدأ ويضيع بعيداً عنا، في الكُلِّ المفتوح للعالم بلا نهاية. ولكن في الوقت ذاته، فإن هذه النقاط الفريدة التي هي نحن «أو النقاط العديدة الفريدة التي تتوالى تحت كل هوية شخصية أو جماعية» هي ذاتها بالضرورة البنية الرصينة أو غير المستمرّة للمسافة العامة التي يستطيع المعنى الترجيعَ في داخلها، أي الإجابة عن ذاته عبرها.
وباتصاله مع جميع النقاط الفريدة للاستماع أو القراءة، للفهم أو للتفسير والتأويل، للإلقاء أو لإعادة الكتابة، لا يقوم المعنى بشيء سوى أن ينقسم إلى عدد مماثل من المعاني الفريدة، «هنا يمكن فهمُ كلمة "معنى" بالمدلول الذي يشير إلى قيمتها كإرادةِ قَول وكذلك إلى قيمتها كقُدرةِ فَهم، كما يكون الأمر عندما يتعلَّقُ بالرشاد أو "العقل السليم" أو بالمعنى الفنّي. هاتان القيمتان هما بالطبع غير قابلتَين للانفصال عن بعضهما، كلتاهما موجودتان حاضرتان في المعنى ذاته للمعنى نفسه...». والمعنى المأخوذ بشكل مطلق أو في ذاته ليس سوى مجموع المعاني المتفرّدة. والمعنى اللامتناهي هو مُماثل للامحدودية تَفرُّداتِ المعنى. فليس هو معنًى عاماً، ولا هو معنى بإجمال أو بمحصلة المعاني المتفرّدة. إنه الترابط أو "التسلسل" وعدم استمرار هذه المعاني المنفردة. إنه انتقالُ وتقاسُمُ أحدهما للآخر، انتقال وتقاسم "إرادة قول" و"قدرة فهم" -لتحرُّكٍ وانكماش- هما في مجملهما شيء واحد، وهما الشيء ذاته، شيء المعنى. ولكن هذا الشيء هو من الدقّة بمكان بحيث إن حقيقتَه ليست سوى انتشاره.
إذا أردتُ أن أقول (شيئاً) فهذا يعني قبل كل شيء أني أريد أن أقول لنفسي شيئاً مباشرةً وفور رغبتي في أن أقول لك شيئاً؛ أي أني أريد أن أقول لك "أنا" وفي الوقت ذاته وفوراً أن أقول لك "أنت"، إليك أنت الذي يمْثُل في إرادتي باعتباره ذلك الذي يقول لي "أنتَ" لكي يناديني ويكلّمني ولكي أقول له "أنا". الكتابة -المشتقة من الفعل "كَتَبَ– يكتب" هي بشكل أكثر تحديداً اسم الفسحة الاستدراكية، أو الفاصلة التي في إطارها وبفضلها يستطيع المعنى أن يجيب، أن يرغبَ، أن يُحيلَ، أن يُرسل بشكل لا متناه من نقطة متفرّدة إلى أخرى مثلها -أي ما يعني أيضاً من معنى متفرّد إلى معنى متفرّد «من هوميروس -الذي لم يكن وحيداً بلا شك- إلى قارئه أفلاطون، إلى قارئه فرجيل، إلى قارئه أوغستان، إلى قارئه جويس، وهكذا دواليك إلى ملايينَ من قُرَّائه وناسخيه وناشريه ومجيبيه ومراسليه...». الكتابة تتوجّه إلى الجمهور غير المحدود الذي من دونه لا يتحرَّكُ فمٌ ولا أُذُن. كل سطر من سطور الكتابة هو "فمٌ/ أذن" يتبادلان ويتناديان ويصغيان ويجيبان بشكل متبادل...
من يكتُبْ يُجِبْ عن المعنى، فالمعنى بما هو كتابة إنما هو الإجابةُ عن نداء المعنى، أو بالأحرى الإجابة المستدعاة للمعنى. لكنه لا يكتفي بالإجابة عن المعنى، بل يجيء منه أيضاً. الكتابة تردُّ على المعنى... وهي الوحيدة التي تشهد بحضورها وبصوتها. إنّ نداءَها الموجَّهَ إلى غنائها يَعْدُل الشهادةَ عن حضورها الذي ليس له أي برهان آخر. والكتابةُ إجابةُ عن المعنى، إنها تجيب من أجله وتجيب منه: وهكذا فإنّها مسؤولة عنه -ومعه- عن كل ما يمكن أن نفهم من كلمة "معنى". إذا كان المسؤول هو ذلك الذي يجيب لا عن، بل من أو من أجل... فذلك لأنه هو الذي يلتزم بالأمر على هذه الشاكلة، بشكل غير مباشر أو بشكل فوري ومؤجّل - مؤجل ولكنه موعود. وملتَزَم به، بالإجابة عمّا يمكن أن يُطلب في هذا الموضوع أو ذاك من المواضيع التي يتحمّل المسؤول مسؤوليتَها. المسؤول يأخذ على عاتقه وعلى حسابه التزامَ شخصٍ آخر -وهو التزامٌ لا يستطيع شخص آخر أن يتعهَّد به- أو هو التزامٌ تجعله حالةُ الأشياء الحاضرة غير ممكن على الإطلاق. بإعلاني مسؤولاً عن مشروع ما -مثلاً- فأنا أتحمَّل الشيء الطارئ الذي يتضمّنه. المسؤولية هي جواب مبكر عن أسئلة، عن طلبات، عن استفهامات لم تتمّ صياغتُها بعد، وغير متوقَّعة. مَنْ يكتبْ يُصبحْ مسؤولاً بالمعنى المطلق. وهو بهذا المعنى يلتزم التزاماً كاملاً وغير محدود. وفي الوقت ذاته فإنه يشهدُ بوجود الكتابة ويحمل في دخيلته رغبتَها. والكاتبُ هو أيضاً مفسِّرٌ. وليس المفسِّر هو ذلك الذي يفكُّ رموز المعاني -مع أنه يفعل ذلك أحياناً- ويعيدُ صنعَها باستمرار أو بالأحرى حتى يتَّضحَ المعنى كاملاً. وليس المفسِّر هو ذلك الذي يوضح ما يقال، بل هو الذي يحمل الرغبةَ في الكلام إلى أبعد حدٍّ ممكن. المفسِّر يقوم مقام موضوع هذه الرغبة.
 وبإجابته عن رغبة المعنى، وبالتالي عن المعنى باعتباره رغبة، وبانطلاقه نحو هذه الرغبة وبترك العنان لنفسه كي تكون مملوكةً من لَدُنها، فإن مَن يكتب يتحمَّل المسؤوليةَ الكاملة واللامتناهية للمعنى بما هي مشاركةٌ منه. إن المعنى موجَّه ليُقتَسَم، وهو لا يفعل شيئاً سوى فتح الطريق المستمرّ واللامستمرّ، وسوى تبادل الرغبة غير القابلة للتبادل في كل مرّة متفرّدة يتمّ فيها الكلام. وهذه الرغبة تكون غير قابلة للتبادل؛ لأنها ليست إذاعة معنى. إنها لمسة حقيقة متفرّدة.
ما يحدث للمعنى في كل نقطة أو لحظة متفرّدة -في كل كتابة- ليس هو اكتمال اللحظة التي قد تستطيع البرهةُ النهائيةُ تقويمَها في قَناعة نهائية للمعنى "تفسير مُنتَهٍ". تأويلٌ مغلقٌ، معنىً مشروحٌ لكل الأوقات وإلى الأبد. وليست هذه لحظة ولا نهاية في محاكمة المعنى. وبهذا المعنى ليس ثمة محاكمة للمعنى. ليس ثمة شيء سوى رغبتها وتقاسمها. ما يحدث في اللحظة المتفرّدة هو عبارة عن التفرّد ذاته بما هو تقطيع للحقيقة داخل المعنى.
ومن يكتبْ لا يستطِعْ إلا أن يرتكب حماقات في الوقت الذي يكتب أثناءه كما جملة رامبو: «هذا مؤكّد، إن ما أقوله هو الإلهام». إنه يتلفظ هذه الجملة بلا أيّ غطرسة، ولكن أيضاً من دون أن يضعها عند الزاوية الضيِّقة الساخرة من الذات. القناعة هنا هي حقيقة الالتزام والمسؤولية داخل المعنى ومن أجل المعنى. الكاهن هو ذلك الذي يتكلم باسم الآلهة. ذلك الكاهن "الكاهن – الكاتب" يتكلّم دائماً باسم الآلهة نفسها، تلك التي لا اسم لها... الحقيقة المتفرّدة لا تنبثق أبداً من الكلام ومن الكتابة. ليس كاهناً من يظن نفسه كاهناً، ولا ذلك الذي يقرّر أن يكون؛ لأن هؤلاء ينغلقون داخل تمثيل "الأنا" التي هي عموميةٌ في مَظهر خصوصيةٍ، بدلاً من الانفتاح على الإحالة المتميّزة على "الذات". ولا يمكن للحقيقة أن تأتي إلى المعنى إلاّ إذا كان يتيح الوصول إلى لمستها. هذه اللمسة التي تقتطع من كتابه الحيّز غير المتميّز والفم المغلق، لا يمكن إلا أن تأتي من الخارج. وهذا الخارج ليس خارجَ سلطة ولا خارجَ فكر يُوحى. إنه الخارج الذي في داخله والذي من أجله تُلتزمُ المسؤولية. هذا الخارج لا يوجد في داخله شيء هو الذي في داخل إطاره لا تَسهرُ ولا تُراقب أية آلهة، أيّةُ مُلهمة، وأيّةُ عبقرية. إنه صمت الخارج هذا الذي يمتلك كل سلطة تثير وتستحق كل إلهام. وبمعنىً أوَّليٍّ فإن هذا الخارج هو خارج المعنى المطلق ذاته باعتبارهِ غريباً عن كل معنى، وبالتالي عن اللغةِ نفسها، عن اللغة مَصُوغَةً ومُؤلَّفةً وفقَ نظامِ المعاني المتعارَفة أو حتى وفقَ نظام المعاني الممكنة.
الحقيقة تتأتى من اللغة المفقودة أصلاً، أو من اللغة المنتظَرَة. وهي تنبثق من الصوت الذي يُرادُ فيه ويُبحث عنه في خلفيةِ الصوت -في أعماق الحنجرة، هنا حيث المِشرطُ يفتح فُسحةً أولى تصعد إلى الشفاه، ولكن الشفاه لم تعرفها بعد. إنما تأتي لغةً خارقة، وصرحَ لُغة لم يوجد إلاّ في اللحظة ذاتها، إمَّا انعطافاً، لهجةً أو أسلوباً، مثل الشقِّ المحفور بخنجر. ليس ترصيعاً، بل هو شقّ تجري ممارستُه في اللغة الجاهزة بشفرةِ خارج مصنوعٍ من اللا لغة ومن اللغة المنتظرة، وإما من رغبة اللغة كلِّها معاً وفي آنٍ واحد.
إن "أسلوب" الحقيقة أو (الحقيقة باعتبارها أسلوباً) لا يدين بشيء للزخرفة ولا للتحريض وإلا لاستغلال المعاني الجاهزة. إنه لا يستطيع أن يأتي إلاّ من الخارج. لمسةٌ وقِطعٌ تعودُ لخارج هو بحقٍّ خارجُ كلِّ معنى، وهو بالتالي المعنى الخارج عن ذاته، وهو أيضاً حقيقة المعنى باعتبار أنه هو ذاتُ انتقالِه "أو مروره" اللامتناهي، أو باعتبار أن ما يُعيبُه هو كونه بلا محتوى. للمجيء من الخارج، وللإجابة عن هذا الخارج وللإجابة منه، لا بدّ للتقطيع من أن يكون مديناً بشيء ما للحظ، للمفاجأة، وللَّحظة المؤاتية التي يتمثَّل فضلُها بأنها تمنح نفسها فقط لمن يُعرِّض نفسه للخارج، والذي انتهى به المطاف بالتالي إلى عدم الإصرار على قول ما يجول في ذهنه فقط، بل يترك المجال لهذه الرغبة كي تنطلق إلى قول ما هو ممكن.
ولكن كي يسمحَ المرءُ لنفسه بالتعرُّض لهذه النعمة ولنُدرتها فلا بد من انسحاب للُّغة. لا بدّ له من أن يكون مَسُوقاً إلى ما دون اللغة، أي حيث اللغةُ ذاتُها تعرف دائماً كيف تتشكّل، هناك حيث يبرز كائنٌ متحركٌ من المعنى، كائنٌ مقتدِرٌ على المعنى -تعرف أن ليس ثمة ما يقال بشكل نهائيّ. مَنْ يكتبْ يُجِبْ عن هذا الشيء، وهو يجيبُ من هذا الشيء. إنه المعنى وإنه الرغبة في القول، وهو منها التقاسم اللامتناهي. وليس هو بالكتلة الساكنة التي توجد خارج اللغة كـ"واقع" لا تستطيع اللغةُ بلوغَه. كلا، إنه الخارج الذي تقطعه اللغةُ ذاتُها وتقدِّمهُ في كل حقيقة تصنعُها أو تضرمُ النيران فيها. اللغة هي معرفة أو علم، وبهذا تكون العلم الخاص بالكتابة؛ لا ما تعرفه الكتابة ولا ما تعرفه كي تُكتَب كـ"فنّ كتابة"، لكن العلم الذي تصبح الكتابةُ بواسطته كاتباً. إنه علم ما تَشهدُ عليه. إنها تقدّم الشهادة عمّا يأتي: إن المعنى، لأنه إرسالٌ وإحالة، لأنه نداء وجواب، يمنحُ نفسَه أو ينهض في الانقباض أو الإفراط، إفراطٌ أو تفريطٌ بكل المعاني التي تُوقفها وتُهدِّئها الرغبةُ وجوابها. هذه الإجابة لا يمكن أن تكون بدورها إلاّ رغبةً أخرى ورغبة (شخص) آخر. الـ"أنا" التي ترغب و"أنت" الذي يرغب أن تقول لها "أنا"...
في هذا التضييق الذي يبعث على الغثيان يَختبئُ علم الكتابة -وأعني عندما تكون الفعل المنبثق عنه- مَن يكتبْ يعرفْ رغبةَ الآخر، وهو يعرفُ "أو هي تعرف" أن هذا العلم يجب أن ينقسم من ذاته كي يكون ما هو عليه: إجابةٌ والتزامٌ بحقيقةِ اللاعلم هذه.


المصدر: مجلة الغاوون، العدد 36، السنة الثالثة، بتاريخ 01 شباط 2011، صص 16-18

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق