الجمعة، 13 نوفمبر 2015

سـاد: جورج باتاي

ترجمة محمد عيد إبراهيم 
                                                                      
                                                                
وسط هذه الملحمة الملوكيّة نرى رأساً عاصفاً يومض، صدراً ثقيلاً يعبر مع البرق، الرجل القضيب، لمحة مهيبة ساخرة تلوي قسماته مثل تيتان(1) شبحيّ سامٍ؛ نحسّ برِجفة المطلق في الصفحات الملعونة، بأنفاس المثال العاصف بين هاتَين الشفتَين الحارقتَين. ادنُ قريباً فستسمع شرايين روح كلية، أوردةً متورّمة بدم قدسيّ تنبض في جثّة نازفة موحلة. مثل هذه البالوعة منقوعة في لازَوَرديّ، ثمة عنصرٌ نظيرُ إلهيّ بهذه المراحيض. سُكّ أّذنكَ عن قعقعة الحِراب وقصف المدافع؛ حوِّل عينكَ عن هذا المدّ الجوّال من الحرب، من الانتصارات أو الهزائم؛ فقد ترى شبحاً هائلاً ينفجرُ أمام الظلال؛ قد ترى قامةً رحبةً مشؤومة للماركيز دو ساد وهو يتبدّى فوق دهرٍ مخيطٍ بالنجوم.  
سوينبرن(2)

Depiction of the Marquis de Sade
 by H. Biberstein
لماذا زوّدتنا فترة الثورة بأمجادٍ من الفنون وعالمٍ من الرسائل؟ عنفٌ مسلّح منسجم بصعوبة مع ثراء الميدان الذي نستمتع به وقت السلام. تُبدي الصحفُ مصيرَ الإنسان بكلّ ما فيه من ذعر. هي البلدة نفسها، لا أبطال المآسي والروايات، تهب العقل رجفة مما تزوّدنا به من شخوص خيالية. أي رؤية فورية للحياة بائسة بالمقارنة مع تلك التي يفصّلها المؤرّخ بذكرياته وفنونه. لكن لو طبّقنا الشيء ذاته على الحبّ، الذي تقع حقيقته الجلية في الذكريات [كثيرة هي غراميات الأبطال الخرافيين، تبدو لنا عادةً حقيقيةً أكثر ممّا لدينا]، أَمِن الحقّ القول إن لحظة الحريق، حين يتكشّف منقوصاً بوعينا البليد، تستغرقنا كلياً؟ زمان التمرّد غير مرغوب فيه أساساً مع تطوّر الفنون. من اللمحة الأولى نرى الثورة فترة مجدبة في الأدب الفرنسيّ. ثمة استثناء واحد قد نقدّمه، لكنه يتعلّق برجل غير معتَرَف به ـ كان، وهو حيٌّ، ذا سُمعة، لكنها سُمعة سيئة: حالة ساد، فهو استثنائيّ جداً، يبدو أننا نؤكّد هذا الجدب بدلاً من إنكاره. 
لنبدأ فنقول إن الاعتراف بعبقرية ساد وجماليات ومغزى عمله مستَجدّ. وساهمت في ذلك كتابات جون بولون(3)، بيير كلوسوفسكي(4)، وموريس بلانشو(5). لم يحدث قبلها هذا الثناء الرائع الذي ساهم في تأسيسٍ بطيء بل أكيد لسُمعة ساد.  


ساد واقتحام الباستيل
ترتبط حياة ساد وأعماله واقعياً بحوادث تاريخية، لكن بأغرب طريقة ممكنة. فلم يكن الحسّ بالثورة من "معطيات" أفكاره، إن كان ثمة رابط كهذا بين العناصر المتفاوتة لشكله اللامنتهي ـ بين الدمار وبعض الصخور، أو بين الليل والصمت. وعلى رغم أن ملامح هذا الشكل تظلّ محيرة، إلا أن الوقت قد حان لتبيانها.  
لبعض الحوادث قيمة رمزية أكبر من اقتحام الباستيل. في الاحتفالية لإحياء ذكراها، يحسّ كثير من الفرنسيين بما يوحّدهم مع سيادة بلدهم وهم يشاهدون وشمَ مِشعلةٍ تتقدّم عبر الظلام. هذه السيادة الشعبية، وهي هائجة متمرّدة، صرخة لا تُقاوَم. وليس ثمة رمز احتفاليّ أفضل من التدمير المتمرّد لسَجن. الاحتفالية، كسيادة بالتحديد، هي جوهرُ إطلاق السراح، منه تتقدّم سيادة عنيدة. لكن، هل ينقص الحدث عنصر من المصادفة، هل تنقصه نزوة، لكيلا تكون له الأهمية ذاتها: ولهذا فهو رمزيّ، متباين عن الصيغة المجرّدة.   
يُقال إنه لم يكن لاقتحام الباستيل حقاً تلك الأهمية التي تُعزَى إليه. وهو أمر ممكن. فلم يكن في يوم 14 يوليو 1789 أيّ مساجين ذوات قيمة. وقد تأسّس الحدث من سوء تفاهم، سوء تفاهم، وفقاً لـ ساد، ابتدعه هو نفسه. ويمكن القول إن هذا العنصر الملتبس هو ما يمنح الواقعة بكاملها تلك النوعية العمياء، المجهولة نسبياً، من دون أن تكون أكثر من استجابةٍ لإملاءات الضرورة، كما يحدث في مصنع. لا تُنكر النزوة، أو المصادفة جزئياً الاهتمام الناشئ مع 14 يوليو، بل تمنحه أيضاً الاهتمام الطارئ.
حينما قرّر الناس أنه حدث سيرجّ العالم، إن لم يحرّره، كان أحد المحرَّرين المشؤومين في الباستيل هو مؤلّف "جوستين"، وهو الكتاب الذي يؤكّد لنا جون بولون في مقدمته أنه سيعرض أمامنا مسألة عويصة استغرقت حوالي قرن من الزمان للردّ عليها. سُجن ساد عشر سنوات وفي الباستيل منذ 1784. وهو أحد أكثر الناس تمرّداً وغضباً حين يتكلّم عن التمرّد والغضب، بإيجاز، هو وحش، مسكون بفكرة الحرية المستحيلة. أما مخطوطة "جوستين" فكانت في الباستيل حتى يوم 14 يوليو، لكن، مثلها كمخطوطة "120 يوماً في سدوم"، مهملة بزنزانة فارغة.
نعرف أن ساد كان يخاطب الحشود قبل يوم من الانتفاضة. يبدو أنه استغلّ الأنبوب المستعمل لصرف مياه المجاري كمكبّر صوت مدوٍّ، ومن بين أفعاله التحريضية الكثيرة كان هتافه عالياً بضرورة ذبح المساجين. وهو أمر متّسق مع الطبيعة التحريضية لحياته وأعماله كافّةً. لكن الرجل الذي يرزح تحت الأصفاد من عشر سنين كتجسيد غاضب منتظراً إطلاق سراحه من وقت طويل، لم تُطلق سراحه "غضبة" الدهماء. قد يحدث غالباً أن يسمح لنا الحلم بلمحة مكروبة عن إمكانية تامة تتكشّف في اللحظة الأخيرة جواباً محيّراً يُرضي رغبةً ساخطة. سُخط السجين يعيق إطلاق سراحه ثمانية أشهر. لقد طلب الحاكم نقل ساد، الذي كان متّفقاً بوضوح مع الثائرين. حين تحطّم المزلاج وملأ الدهماء الممرات، كانت زنزانته فارغة. تسبّب الهياج في فقدان المخطوطات المبعثرة من مؤلفّات الماركيز. 120 يوماً في سدوم، أول الكتب المعبّرة عن الغضب الحقيقيّ الذي كان يحمله وعليه أن يسيطر عليه ويكتمه، الكتاب الذي قد يُقال إنه سيهيمن على الكتب كافّةً، اختفى. وبدلاً من تحرير مؤلّفه، ضيّع الدهماء المخطوط الذي كان التعبير الأول عن الرعب الكامل من الحرية. 
كان 14 يوليو تحرراً عن حقّ، لكن بحسّ خفيّ من الحلم. ومع أنهم قد عثروا على المخطوط فيما بعد، ونُشر في عصرنا، إلا أن الماركيز نفسه سُلب منه. ظنّ أنه راح للأبد، مما ملأه باليأس. فكتب «هي أكبر محنة كانت السماء تجهّزها لي». ومات، من غير أن يعي أن ما فُقد بلا عودة سيصادفونه، فيما بعد، ويُنشر ضمن "آثار خالدة من الماضي". 


إرادة تدمير الذات
نرى أن المؤلّف وكتابه ليسا دائماً من نتاج فترة الطمأنينة. ويرتبط كلّ شيء، في هذه الحالة، بعنف الثورة، كما تنتمي شخصية المركيز دو ساد، وإن بشكل بعيد، إلى تاريخ الأدب. ودّ أن يدخله باعتراف الجميع كأيّ شخص آخر لكنه يئس من فقد مخطوطاته. لكن لا أحد ألحقه واضحاً بالرغبة والأمل نظراً لما كان ساد يرغب فيه ويحرزه بغموض: لم يكن انطلاقه للموضوعات والضحايا [الذين كانوا فقط لإشباع هوسه للرفض]، بل للمؤلّف وعمله نفسه. وقد يكون المصير الذي أراد ساد أن يكتبه، وبفقده عمله، شابه عنصر من الحقيقة مثيل لما كان في عمله ـ فهو يضمّ الأنباء السيئة عن التسوية ما بين الأحياء ومن يمارس قتلهم، بين الخير والشرّ، بل ونقول، بين الصرخة الأعلى والصمت. قد لا نعرف أن نبضات امرئ متقلّبة كمن يُطيع وهو يُدرج البياناتِ المتعلّقةَ بقبره في وصيته. ودّ أن يكون في زاوية من أرضه ـ لكن تلك الكلمات العنيدة، مهما كان سبب كتابتها، قد هيمنت وقضت على حياته:

«ما إن يمتلئ القبر، فانثروا عليه من ثمار البلّوط، حتى تتغطّى الأرض، في المستقبل، بالخَضار، وتصير الأيكة كثيفةً كما كانت، ثم تختفي آثار قبري من سطح الأرض، كما آمل أن تتلاشى ذكراي من ذاكرة البشر».  

في الواقع، لم تكن المسافة بين "دمع من الدم"، الذي بكى به 120 يوماً في سودوم، وحاجته للعدم، أكبر مما هي بين السهم والهدف. وسأُبيّن لاحقاً أن إحساسه الحقيقيّ بعمل عميق إلى ما لا نهاية كان في رغبة مؤلّفه أن يختفي، أن يتلاشى من دون أن يُخلِف أثراً بشرياً، فلا شيءَ عداه جديرٌ به. 


أفكار ساد
لنوضّح الأمر: فلا شيء أكثر عُقماً من أن نتّخذ ساد أدبياً، بجدّية. فمن أيّ زاوية نناظره، يروغ منا. أما عن الفلسفات العديدة التي بثّها في شخوصه، فليس لنا الحفاظ على أيّ منها. تثبت ذلك دراسة كلوسوفسكي. فقد كان يدرس أحياناً، عبر مخلوقات الرواية، لاهوت الكائن الشرير إلى حدّ فائق. وبأحيان أخرى كان ملحداً، لكن دون قلب بارد: فإلحاده يتحدّى الله ويفرش تدنيساً للمقدّسات؛ مبدلاً الطبيعة في حالة من الحركة الدائمة بالله. وفي حالات أخرى يكون وَرِعاً، وبأخرى مُجدّفاً. يقول الصيدليّ آلماني «يدها البربرية، تخلق الشرّ فقط؛ يسُرّها الشرّ؛ ويُتوقّع أن أحبّ مثل هذه الأمّ! لا! بل أُحاكيها، بل أَبغُضها. سأستنسخها؛ كما تريد، لكني سأمقتها في الوقت عينه».
مفتاح هذه المتناقضات في مقطع يضمّ جوهر أفكار ساد، نستلّه من رسالة سطّرها في 26 يناير 1782، "من زنزانة فانسين"، بتوقيع "دي أولنيه" ـ حيث كان اسم ساد الحقيقيّ متّهماً بدوافع أخلاقية؛ يهتف «أيها الإنسان! أمِن أجلك نقول ما الخير، أو ما الشرّ؟... تريد أن تحلّل قوانين الطبيعة وقوانين قلبك... قلبك الذي حفروه، هو نفسه معضلة لن تجد لها حلاً...». هو الذي لم يأن له فعلياً أن يرتاح وهناك ثلّة مبادئ يجب أن يحافظ عليها على نحوٍ قاسٍ. مع أنه ماديٌّ قطعاً، إلا أنه لم يحلّ مشكلته؛ فالشرّ يعشقه، والخير يُدينه. في الحقيقة، لقد عجز ساد الذي يعشق الشرّ، والذي قصد من أعماله قاطبةً جعل الشرّ مرغوباً، أن يُدينه أو يبرّره. وَصّفَ، بطريقته، الفلاسفة الغاوين، الذين يفتنهم، بينما لا يفتنونه، فعثر على مبدأ يستخرج الخاصّة اللعينة من أفعالهم التي تفيد ما يمتدحون. الخاصّة اللعينة نفسها التي ينشُدونها من هذه الأفعال. ويثبت آلماني بهتافه الممرور أنه يمنح أفكاره خطاباً مضطرباً غير يقينيّ. المسألة الوحيدة التي أيقن بها ساد أنه لا شيء يستحقّ العقاب ـ وعلى الأقلّ عقاباً بشرياً. يقول «القانون بارد في حدّ ذاته، لا يمكن نيله بالعواطف التي تسوّغ فعل القتل العنيف».
لم ينحرف ساد في ما يؤمن عن هذه العقيدة المميزة بعمق. كتب ضمن رسالة بتاريخ 29 يناير 1782 «تريد من العالم أجمع أن يكون عفيفاً ولا تشعر بأن كلّ شيء هالكٌ في لحظة إن لم يعد إلا الفضائل على الأرض... لا تريد أن تفهم أنه، لضرورة وجود الرذيلة، فليس من العدل أن تعاقبها فكأنك تهزأ بإشارة أمام أعمىً...». بالإضافة: «متّع نفسك، يا صديقي، متّع نفسك ولا تتخلّ عن البصيرة... متّع نفسك، أقول، اترك للطبيعة عناية أن تحرّكك على هواها وللأبدية أن تعاقبكَ». إن قمنا بشجب "تحرير" العواطف، والعقاب الذي يريد أن يتحاشاه، لوجدنا عنصراً تنقصه الجريمة. [يقول أهالي عصرنا، بتدقيق أكبر، إن الجريمة التي ترتّبها العاطفة خطيرة لكنها ليست أقلّ جدارة بالتصديق. ولا ينطبق هذا على القمع، الذي يخضع لحالة البحث عما هو مفيد، فضلاً عن أنه جدير بالتصديق].
سيتّفق كثير من الناس على أن لفعل القاضي سمة باردة وأنه، مع نقص عاطفته من أيّ عنصر للخطر، يُطبِق القلب. لكن لو عرفناه ووضعنا ساد بحزم أمام القاضي، لاعترفنا بأنه لا الاستقامة ولا الصرامة قد تسمح لنا بأن ننقص حياته تبعاً لأيّ مبدأ كان. فقد كان كريماً بلا حدود: نعرف أنه أنقذ مونتروي من السِّقالة وأن مدام دو منتروي، حماته، كانت تحمل رسالة مختومة ضدّه. لكنه صدّق عليها، بل وأوشك أن يترجّاها كي تستبعده كما فعلت مع نانو سابلونير، خادمه الذي رآه مرات كثيرة.
أثبت ساد لنفسه، بين 1792 و1793 أنه جمهوريّ متحمّس بجماعة "دي بيك(6)"، كان سكرتيرها ورئيسها. مع ذلك علينا أن نستدعي رسالة في 1791 كتب فيها:

«أنت تسألني عن مشاعري الحقيقية حتى تتبعها. لا شيء كان لبقاً كتلك الفقرة من رسالتك، لكن يصعُب عليّ كثيراً أن أردّ على سؤالكَ. بدايةً، ككاتب رسائل، فإنه عليّ التزامٌ أن أكتبَ كلّ يوم، إما لحزب أو لآخر، أؤسّس حركيةً بآرائي التي تنعكس في افكاري الداخلية. هل أريد حقاً سبرَ غورها؟ فهي لا تخدم حزباً بعينه بل خليط من ذلك كلّه. لستُ يعقوبيّاً(7)، أبغضهم من كلّ قلبي، أوقّر الملك لكن أمقت المفاسد القديمة؛ أحبّ كتلةً من الموادّ في الدستور، وتصدّني موادّ أخرى. أريد لمجده أن يعود إلى نبله فلا أرى ضرورة في نقضه. أريد من الملك أن يصير رأس الدولة: لا أريد جمعية وطنية بل مجلساً بغرفتَين، كما في إنجلترا، يمنح الملك سلطةً مخفّفة، متوازنةً مع نصف الأمة، مقسّمةً بالضرورة إلى نظامَين: فالثالث لا يفيد، لا جدوى مطلقاً منه. ذلك ما أفكّر فيه. مَن أنا؟ أرستقراطيّ أم ديمقراطيّ؟ فقل لي أنتَ، أرجوكَ... لأني عاجزٌ عن الردّ» 

قد لا نستنتج شيئاً واضحاً من هذه الرسالة، المكتوبة إلى بورجوازيّ كان يعاونه في جمع إيجاراته، عدا عبارة "حركيةً بآرائي" و"مَن أنا؟" تلك التي اتّخذها الماركيز المقدّس شعاراً له.
يبدو لي من تمعّني في دراستَي بيير كلوسوفسكي: "ساد والثورة" أو"صورة النظام عند ساد"، أنه رسم صورة مبدعة لمؤلّف "جوستين"؛ لم تكن غير نظام مفصّل، باستعمال ماهر لمظاهر الجدل، التي سعى عبرها لتوريط الربّ، والمجتمع الثيوقراطيّ، وثورة الإقطاعيّ الكبير الذي يريد أن يستبقي امتيازاته منكراً التزاماته. إلى حدّ ما، كانت دراستا كلوسوفسكي هيجليتَين، لكن تنقصهما دقّة هيجل. يؤسّس كتاب هيجل الشهير "ظاهراتية الروح"، الذي يحمل متشابهاتٍ مع الظواهر الجدلية، لكلٍّ جمعيّ دائريّ يتبنّى التطور الكامل للروح عبر التاريخ. بينما يستنتج كلوسوفسكي متعجّلاً من مقطع باهر في "فلسفة في غرفة النوم"، أن ساد يدّعي أنه يؤسّس لدولة جمهورية قائمة على الجريمة. إن التشريع لتأسيس إعدام الملك، على أنه إعدام للربّ الإله، لأمر مغوٍ في الحقيقة ـ فهو مفهوم اجتماعيّ قائم على اللاهوت، مسترشد بالتحليل النفسيّ، متعلّق بأفكار جوزيف دي ميستر(8). تحليلٌ هشٌّ قليلاً. فلم تكن كلمات ساد أكثر من إشارة منطقية، وأحد البراهين الألف من أخطاء البشرية التي لم ترتكب نفسها لأجل التدمير والشرّ. في النهاية، يمضي كلوسوفسكي بعيداً ليقول إن منطق دولمونسي(9) قد يكون هناك لإثبات زيف المبدأ الجمهوريّ. مع ذلك أدار المركيز ظهره لكثير من التخمينات المستحقّة؛ فالمشكلة الحقيقية مختلفة كلياً.   
يؤكّد جون بولون «حين أنظر حولي وأرى كثيراً من الكتّاب يكرّسون أنفسهم لرفض الحِيَل الأدبية لخدمة الحدث الذي يمكن سرده بمشقّة، نتذكّر، كونه إيروسياً ومفزعاً في آن ـ كتّاباً يشغفهم دائماً أن يتّخذوا المنحى المضادّ للإبداع، مصمّمين على خلق السامي من الشائن، والعظيم من الوضيع، وهو ما يحتاج من كلّ كلمة أن ترتكبه وتفضح مؤلّفه إلى الأبد... أتساءل إن كان علينا ألاّ نرى على الإطلاق فزعاً أو ذكرى، بدلاً من الابتكار أو المثال. أتساءل إن كان الأدب الحديث، فيما يبدو لي، أكثر شيء حيّ، أو مجرّد أحداث في أكثر شكل عدوانيّ، موجّه بالكامل نحو الماضي وقد عزّزه ساد...». ربما يخطئ بولون بشأن مساهمة مقلّدي ساد ـ فنحن نتكلّم عنه، معجَبين به، لكن لا أحد يحسّ بضرورة أن يشبهه؛ فنحن نحلم بـ "أهوال" أخرى. مع أن بولون يحدّد موقع ساد بصورة المعجَب. إلا أنه لم يتعلّق باحتمالات أو مخاطر اللغة. فهو لا يتصوّر عمله مستقلاًّ عن الموضوع الذي يوصّفه، لأن موضوعه مستحوَذ عليه من قبل ساد ـ في الإحساس الشيطانيّ بالكلمة. كتب إنه ضائع في الرغبة نحو الموضوع، وقد وظّف نفسه فيه كالكاهن. يقول كلوسوفسكي

«لم يكن ساد مجرّد يحلم. كان يرشد حلمه للعودة إلى الموضوع، الذي بدأه حالماً، بوسيلة منجزة ككاهن متأملّ يُشرِع روحَه للصلاة أمام سرّ قدسيٍّ. إن الروح المسيحية تنمّي وعيها أمام الربّ. لكن لو نَمّت الروح الرومانسية، التي لم تعد أكثر من حنين للحقيقة، لو نَمّت وعيها وهي تقدّم عاطفتها في تجرّد، لأصبحت الحالةُ الشجيّةُ وظيفةً للحياة، وقد نَمّت روح ساد وَعيها من خلال الموضوع، الذي يُسخط قوّته، لتسهم في حالة من القوّة الساخطة، كوظيفة نقيضٍ للحياة. أيّ، تحسّ بنفسها وهي تعيش في حالة من السخط».  

نضيف عند هذه النقطة أن الموضوع محلّ السؤال، عبر مقارنته بالربّ [كلوسوفسكي، كمسيحيّ، أول من رسّم هذه المقارنة]، لم يوهب كالربّ أن يصلّي له الناس. لأن الموضوع مثل [الكائن البشريّ] لا يزال حيادياً ـ عليه أن يتكيّف حتى لتُستقى منه المعاناة الضرورية. كي يتكيّف يعني أن ندمّره.  
سأبرهن أن ساد [المتباين عن الساديّ المعتاد، الغريزيّ] له هدف أن يصفّي الوعي مما كان قد حقّقه بـ "إطلاق سراحه" ـ مع أن إطلاق سراحه قاده إلى خسران الوعي. كأننا نقول إنه حقّق هدفه من تصفية الوعي عن القمع ـ من الاختلاف بين الموضوع والدافع. هكذا يختلف هدفه، عما بالفلسفة، بالطريق التي اختارها ليتحقّق. لقد بدأ ساد باختبار "إطلاق السراح" العنيف في الممارسة التي أرادها واضحة، بينما بدأت الفلسفة من الوعي البارد ـ من الوضوح المميز ـ كي تجلبه نحو نقطة الذوبان.  
لنبدأ ذلك سأناقش الرتابة الجلية لكتب ساد التي تعود إلى قراره بخضوع الأدب لتعبير الحدث الذي لا يمكن التعبير عنه. ويحقّ القول إن مثل هذه الكتب لا تختلف عما يمكن اعتباره عموماً أدباً بصورة أقلّ من امتداد لصخور فلاة لا لون لها تتباين عن المشهد الطبيعيّ المتغيّر المليء بما نحبّ من الجداول والبحيرات والحقول. لكن إلى أيّ مدىً يأخذنا لقياس الحجم أو تقييم عظمة ذلك الامتداد من الصخور؟


جنون ساد
لقد فصلَ ساد نفسه عن الإنسانية، فلديه انشغال واحد عبر حياته الطويلة استغرقه حقاً ـ يعدّده إلى نقطة إنهاك احتمالات تدمير البشرية، تدميرها مع إمتاعها بفكرة موتها والمعاناة. أما الوصف الأجمل فله معنىً محدّد بالنسبة له. فالتعداد المطوّل والرتيب كان يوفَّق في تقديمه وحده مع العدم، الفلاة، وهو ما كان يتوق إليه، ولا تزال تقدّمه كتبه إلى القارئ حتى الآن.
يتسرّب الضجر من بشاعة أعمال ساد، لكنه ضجر يشكّل تميّزه. كما يقول بيير كلوسوفسكي، إن رواياته التي لا نهاية لها أكثر شبهاً بكتب الصلوات من كتب المتعة. فالتقنية المنجزة وراءها تقنية «كاهن... يضع روحه في الصلوات أمام سرّه الأقدس». على المرء أن يقرأها كما كُتبت بنية سبرِ غور سرٍّ ليس أقلّ عمقاً ولا ربما أقلّ "قدسية"، مما لدى اللاهوت. كان هذا الرجل، البادي في رسائله مزعزعاً، فَكِهاً، مغوياً، متعصّباً، متيّماً، أو مسلياً، قادراً على الرقّة وحتى على الندم، قانعاً بنفسه، في كتبه، بممارسة ثابتةٍ في توتّر مُبرِح بل دائم، قاسٍ للأبد، ينبع من أكنافٍ تُحدّدنا. من البدء نضيع في مرتفعات يصعُب بلوغها. ولا يتبقّى ما هو متردّد أو معتدل. في اضطراب لا متناهٍ وعديم الشفقة، نرى موضوعات الرغبة مدفوعةً بثباتٍ نحو التعذيب والموت. النهاية الوحيدة التي يمكن تصوّرها هي الرغبة المحتملة للجلاّد أن يصبح هو نفسه ضحيةً للتعذيب. بوصية ساد، التي أشرنا إليها من قبل، تصل هذه الغريزة إلى أقصاها باستدعاء ما لن تُبقيه حتى المقبرة: فهي تقوده لأمنية أن «يتلاشى [اسمه] من ذاكرة الناس».
ولو رأينا العنف رمزاً لحقيقة عصيبة كانت تتملّكه ويتتبّعها إلى درجة أنه يعتبرها مجرّد سرّ، لربطناه بالصورة التي وهبنا إياها ساد عن نفسه.
فقد كتب في بداية "120 يوماً في سدوم":

«عليك الآن، يا قارئي العزيز، أن تجهّز قلبك وعقلك لأكثر قصة دَنِسة قد تُحكى منذ بداية العالم، لا يوجد كتابٌ نظير بين القدماء أو المحدَثين. تصوّر أن كلّ لذّة أمينة ـ أو أيّ لذّة يسمح بها ذلك البهيميّ الذي تتكلّم عنه دائماً، مع أنك لم تتعرّف إليه من قبل، وقد تسمّيه الطبيعة ـ أقول، تصوّر، ستمنحك هذه الملذّات المستبعدَة تفصيلياً من هذه المجموعة، وإن عثرت عليها بأيّ مصادفة فلأنها قد تصطحب جريمةً ما أو هي تلوّنَت بفعلٍ شائنٍ ما».

لقد مضى انحراف ساد إلى حدّ بعيد، حيث أحال أبطاله إلى جبناء، فضلاً عن أنهم أوغاد. وها هو وصف لأحدهم:

«مزيّف، قاسٍ، متعجرف، بربريّ، أنانيّ، مبذّر في لذائذه، وبخيل، بدلاً من أن يفيد، فهو كاذب، جشع، سكّير، جبان، سفّاح قُربى، لوطيّ، قاتل، حارق عمداً، ولصّ...». 

هذا هو الدوق دو بلونجي، أحد الجلاّدين الأربعة في "120 يوماً في سدوم". طفل صمّم أن يفزع هذا الضخم وما إن لم يعد يستخدم الدهاء أو الغدر ليتخلّص من عدوّه، صار رعديداً وجباناً. بلونجي، من بين الأوغاد الأربعة، كان أسوأهم بمعنى الكلمة:

« كان رئيس دو كيرفال عميد المجموعة. عمره قرابة الستين وقد خرّبه الفسوق منفرداً، فلم يكن أكثر من هيكل عظميّ. طويل، نحيل، بعينين غائرتين شاحبتين، فم ممتقع عليل، ذقن منتصب، وأنف طويل. مُشعِرٌ مثل الساتير(10)، بظهرٍ مُستوٍ ومؤخّرة ناعمة أشبه بأسمال متّسخة سقطت من أعالي فخذيه... كان كيرفال متعمّقاً في وحل الرذيلة والخلاعة فاستحال عليه الحديث عما عدا ذلك. لديه دائماً أكثر التعبيرات فُحشاً على شفتَيه ومن قلبه، يوشّيها بتجديفات تُسبّب رعباً حقيقياً يحسّ به هو وزملاؤه حول كلّ ما يتعلّق بالدين. ومما زاد اختلاطَ عقلهِ السُّكرُ المستمرّ، فمنحه لسنين عدداً مزاجاً من الحمق والوضاعة كان، كما يدّعي، أحد مباهجه العظمى».
  
كان الرئيس دو كيرفال "أحمق من رأسه إلى إخمَصيه"، "يتشمّم الشرّ"، "وضيع كلياً"، مما جعله مثالاً باذخاً للعنف: 

«لو كان عنيفاً في رغباته، لأصبح رباً عظيماً!، حين تثمله اللذة؟ لم يعد مجرّد إنسان، كان سفّاحاً ساخطاً. سيء الحظّ مَن يخدم عواطفه! تنفجر صرخات مروّعة وتجديفات فظيعة من قلبه المتورّم، تبدو ألسُن لهبٍ تندلع من عينيه، فيُرغي ويصهل ويتصرّف كربّ تهتّك حقيقيّ».

لم يتملّك ساد هذا العنف غير المحدّد. كانت له متاعبه مع الشرطة، غالباً، لكنها لم تره إلا مصدراً للريبة فقط، ولم تتّهمه بأيّ جرم حقيقيّ. نعرف أنه قد شقّ شحّاذة شابة بسكّين، روز كيللر، وصَبّ شمعاً ذائباً في جروحها. تبدو قلعة لاكوست في المقاطعة بحسّ من العربدات المنظّمة، لكن من دون هذه التطرّفات التي ابتكرها ساد لقلعة سيلنج المنعزلة، كما كان يحبّ تمثّلها، في بريّة صخرية. وهي عاطفة قد تكون أحياناً ملعونةً بما معناه أن منظر الآخرين وهم يعانون قد أثاره إلى درجة الجنون. في عبارة رسمية تحدّثت روز كيلر عن الصرخات المروّعة التي صاحبت انتعاظه. وهذه السمة، شاركه فيها، على الأقلّ، بلونجي. لا أعرف إن كنا منصفين في تأسيس هذه الانفجارات بمجرّد اللذّة. بعد نقطة معينة، لا يعود الإفراط مقياساً. هل يتكلّم امرؤ عن اللذّة حين يعلّق همجيّ نفسه بحبل مربوط في خُطّاف محفور في صدره ويطير حول الوتد؟ من دليلٍ في مرسيليا، نرى الماركيز وقد مزّق لحمه بسياطٍ سيورُها الجلديةُ محفوفةٌ بالمسامير. في الواقع، قد نمضي لبعيد. فبعض من خيالات ساد تثير غثيان أكثر النسّاك صلابة. لو ادّعى أحد أنه معجَبٌ بحياة أوغاد سيلنج، فَهْو يتباهى. بجانبهم يظهر بينوي لابر(11) حسّاساً. وما من زاهدٍ تخطّى حدود الغثيان إلى مثل هذا المدى.


من إطلاق سراحه إلى الوعي الصافي
لكن ذلك كان منزع ساد الأخلاقيّ. كان متبايناً عن أبطاله في أنه كان يستعرض مراراً مشاعره البشرية، وقد اختبر حالات إطلاق سراحه والنشوة التي بدت له ذات ميزة عظيمة بالنظر إلى الإمكانات الشائعة. لم يعتقد أنه يستطيع، أو يجب، أن يفصل حياته عن هذه الحالات الخطرة التي كانت تقوده إليها رغباته التي لا تُقهَر. وبدلاً من نسيانها، كما يفعل المرء غالباً، كان يجرؤ على النظر إليها وجهاً لوجه في لحظات سَوِيّته، بل ويسأل نفسه سؤالاً لا يُسبَر غوره أيّهم يرفع قدرَ الناس جميعاً. للآخرين من قبله الهفوات ذاتها، مع أنه ثمة تمييز أساسيّ بين إطلاق سراح العاطفة والوعي الصافي. 
لم يكفّ العقل البشريّ عن الانسجام، أحياناً، مع الضرورات التي تقوده إلى السادية. لكنه يحدث على نحو ماكر، في الظلام حيث ينبع من التوافق بين العنف، وهو أعمىً، ونقاء الوعي. السُّعار يطرح الوعي. والوعي، من جانب آخر، بإدانته الملتاعة، ينكر ويتجاهل سمة السُّعار. في عزلته بسجنه، كان ساد أول من يكشف تعبيراً نسبياً عن رغباته صعب التحكّم فيها، في نفي ما قد يؤسّسه الوعي في البنية الاجتماعية وصورة الإنسان. وليفعل هذا كان عليه أن يُسائل كلّ قيمة تُعدّ إلى اليوم مطلقةً. تعطينا كتبه شعوراً بأنه، مع انقلاب ساخط، يريد المستحيل ويضادّ الحياة. كان حاسماً كربّة بيت تسلخ أرنباً بسرعةٍ وفي حِذق [تكشف ربّة البيت انقلابَ الحقيقة، ويصبح الانقلاب، في هذه الحالة، هو نفسه عين الحقيقة].       
أسّس ساد نفسه على خبرة شائعة. الحسيّة، التي حرّرته من القيود المعتادة، ولم تكن تثيره بتمثّلها، بل بالتكيّف مع الموضوع الممكن. وبتعبير آخر، كان الدافع الإيروسيّ، وهو مجرّد إطلاق سراح [كما في أداء العمل، والاستقامة عموماً هي المعنية]، يشعله للتخلّص الملائم من موضوعه. ويلاحظ ساد «إن السرّ هو سوء الطالع بالتأكيد، فما من فاجر قد يلوذ بالرذيلة التي لم يطّلع عليها من التأثير العنيف للقتل على أحاسيسه...». ويهتف بلونجي «وهو أمر صحيح، فالجريمة تملك لبّه بجاذبيتها، بشكل مستقلّ عن اللذّة، حيث تشعل وحدها عواطفه».
لا يمكن إطلاق سراح موضوع العاطفة دائماً بفعالية. فهي تدمّر الكائن، وهي تطلق سراحه: بالإضافة إلى أن إطلاق السراح هو دائماً دمارٌ للكائن الذي يضع حدوداً لاستقامته. يحطّم الكشفُ نفسه هذه الحدودَ [فهي شارة للفوضى التي ينتجها الموضوع الذي يستسلم لها]. كما تربك الفوضى الجنسية تلك الأشكال المتّسقة التي تؤسّسنا، بالنسبة لنا وللآخرين، ككائنات معرّفة ـ تُحرّكها في لا نهاية هي الموت. هناك اضطراب، إحساسٌ بالغرق، في الحسّية الشبيهة بتعفّن الجثث. ومن الجانب الآخر، في كُربة الموت، نفقد شيئاً يروغ منا، فوضى تبدأ داخلنا، انطباع بالفراغ، وحالة ندخلها شبيهةً بتلك التي تسبق الرغبة الحسّية. كان ثمة شابٌّ لم يستطع حضور الدفن دون أن يختبر رعشةً جسدية، فكان عليه أن يغادر موكبَ دفنِ والده. اختلفَ تصرّفه عن السلوكِ المألوف. لكن ليس لنا أن نحدّ من الرغبة الجنسية حتى تصبح مقبولة ونافعة. ففيها عنصر من الفوضى والإفراط الذي قد يمضي لبعيد بما يعرّض الحياة للخطر مع أيٍّ ممن يتساهل فيها.
في تصوّر ساد أن هذه الفوضى وذلك الإفراط محمولان إلى أقصى تطرّف. ولا أحد، إن لم يكن أصمّ كلياً، يستطيع إنهاء "120 يوماً في سدوم" من دون أن يحسّ بالمرض: بالتقزّز من أنه مُستثار جنسياً من الكتاب: الأصابع المبتورة، العيون المقلوعة، أظافر الأصابع المخلوعة، العذابات التي يشدّد الرعب الأخلاقيّ من آلامها، الأمّ المجهَضة، من الدهاء والفزع، من قتل ابنها، الصرخات، الدماء والعفن؛ ويُسهم كلّ شيء في أن نشمئزّ. يخنقنا، وبدلاً من أن يخلق فينا إحساساً بالألم الحادّ، يولّد عاطفةً تُربك ـ وقد تقتل. كيف جرؤ على ذلك؟ كيف استطاع؟ مَن سطّر هذه الصفحات المنحرفة كان يعرف، مضى لبعيد قدر ما سمح الخيال: ليس ثمة ما هو محترم إلا وهزأ منه، ليس ثمة ما هو بِكر إلا ولَوّثَه، ليس ثمة ما هو مفرحٌ إلا وأرعَبه. كلّ منا متورّط شخصياً: مهما كان العنصر البشريّ ضامراً في هذا الكتاب، إلا أنه يصدمنا بتجديفه؛ أياً كان ثميناً ومقدّساً، فهو يظهر لنا كمرضٍ جلديّ. لكن ماذا لو مضى أبعد؟ هذا الكتاب، في الواقع، هو الوحيد الذي يبدو فيه العقل البشريّ عى حقيقته. ولغة "120 يوماً في سدوم" هي لغة كونٍ ينحطّ تدريجياً ونظامياً، لغة تعذِّب وتدمِّر كلّ كائن تستحضره.
وسط ربكة الحسّية يُجري المرء عملية ذهنيةً يكون مساوياً فيها لما هو عليه. يحرفنا مسار الحياة البشرية إلى آراء رشيقة: نتمثّل أنفسنا ككياناتٍ محدّدة تماماً. لا يبدو ما هو أكثر أماناً من الذات التي هي أُسّ التفكير. وحين يصدمنا موضوع يقوم بتعديلنا على هواه: لا يساوي قطّ إلا ما هو نفسه. يُخضعنا ما هو خارج كينونتنا المحدّدة أحياناً ليصبح لا نهاية مستغلقةً. كما يصبح في أوقات أخرى الموضوع الذي نتعامل معه، الخاضع لنا. ولنضف إن الفرد، الذي يتمثّل ما يتعامل معه من أشياء، لا يزال يُخضِع نفسه لنظام محدّد يثبته ضمنَ الرحابة. وإن جرّب عندئذٍ الحدّ من تلك الرحابة إلى قوانين علميةٍ [تضع علامات التساوي بين العالم والأشياء المحدّدة]، لأصبح مساوياً فقط لموضوعه إن ثبّت نفسه بنظامٍ يقمعه [وهو ما ينكره ـ ينكر ما يختلف فيه عما هو محدّد وخاضع]. هناك وسيلة واحدة في طاقته أن يفرّ من هذه المحدّدات المتنوّعة ـ تدمير الكائن الشبيه بنا. في تدمير هذه الحدود ننكر كائناتنا الزميلة؛ ليس لنا أن ندمّر موضوعاً خاملاً: فهو يغيّر لكنه لا يختفي: يختفي فقط الكائن الشبيه بنا، في الموت. العنف الذي تجرّبه كائناتنا الزميلة يتخفّى عن النظام المحدّد، يصبح أخيراً مما لا نفع فيه.
وهو أمر صحيح في التضحية. في الفهم المعصوب بالفزع من المقدّس، يترسّم العقل الحركة ليصبح مساوياً لما هو عليه [للكليّة غير المحدّدة التي ليس لنا أن نعرفها]. لكن التضحية مع ذلك هي الخوف من إطلاق السراح المعبّر عنه عبر إطلاق السراح. هي العملية التي يحرّر بها نشاط العالم الصافي [العالم الدّنِس] نفسه من العنف الذي قد يدمّره. وإن كان صحيحاً أن الانتباه في التضحية مركّز على عبور متقدّم من الفرد المعزول نحو اللامحدّد، فهو مع ذلك منحرف ناحية تأويلات المصادفة المعارضة كلياً للوعي الصافي. التضحية سلبية، قائمة على خوف أوليّ. الرغبة وحدها النشطة، والرغبة وحدها هي التي تجعلنا نعيش في الحاضر.   
يحدث هذا لو يستحضر العقل، الذي تعانده بعض العقبات، انتباهه المتباطئ ليُغِيرَ على موضوع رغبته التي يملك الوعي الدّنِس فرصةَ توظيفها. وقد يؤكّد هذا السخط والتخمة، والملاذ لأكثر الاحتمالاتِ تباعداً. في النهايةِ، يستلزم هذا التفكير المرتبط باستحالة إشباع الرغبة لحظياً، ليصبحَ من ثم طعمُ الإشباع أرهفَ وعياً. 
ويلاحظ ساد «إن الفَجَرة الحقيقيين يعتقدون أن الأحاسيس، التي يتواصلون بها عبر أعضائهم السمعية، هي الأكثر حدّة. وينتج عنه أن الأوغاد الذين ودّوا من قلوبهم أن تنتقع باللذّة قدر الممكن، يدبّرون فكرة معينة لتحقيق غرضهم». هؤلاء الحكّاؤون، بين عربدات سيلنج، يستحثّون العقل بكشف حساباتهم عن كافّة الرذائل التي يعرفون. هم كالعواهر العجائز الذين كانت خبرتهم الطويلة والدنيئة هي بداية صورة كاملة سلفت، وكانت معزّزة، بالملاحظة السريرية. لكن بقدر ما كان الوعي معنياً، فلهؤلاء الحكائين معنىً واحد. فهم يمنحون صيغةَ عرضٍ مفصّلٍ من واعظ، متجرّد بصوتٍ آخر، لمتاهةٍ تمنّاها ساد للتنويرِ في النهاية. والأهمّ، أن إبداعه الوحيد كان متخيَّلاً في عزلةِ زنزانة. كما أن وعيه المميز الحادّ، المتجدّد والمُعاد اختباره على قاعدة من الغريزة الإيروسية، قد تشكّل في الأحوال غير الإنسانية داخلَ سجن. فهل تحرّر ساد ليشبع عاطفته، مع أن السجن كان يمنعه؟ إن لم تعذّب العاطفة المزعومة أياً من يزعم بها، لكانت المعرفة الخارجية، تلك الموضوعية، هي المحتملة، لكن يصعُب الوصول للوعي الكامل، لأن الوعي الكامل يتطلّب تجربة الرغبة.   
"علم العِلَل الجنسية" للطبيب كرافت إيبنج(12)، أو الأعمال الأخرى من الطراز نفسه، لها تميّز على مستوى الوعي الموضوعيّ لأشكال السلوك البشريّ، لكنها تبقى خارج تجربة الحقيقة العميقة التي يكشفها مثل هذا السلوك. ثمة حقيقة عن الرغبة تتضمن هذه الأشكال عن السلوك، ولا يأخذ التعداد النسبيّ لدى كرافت إيبنج ذلك بالحُسبان. ونرى أن الوعي بالرغبة سهلُ النوال: فالرغبة وحدها تعدّل الوعي الصافي، لكنها فوق كلّ احتمال للإشباع فهو يقهرها. يبدو، من المملكة الحيوانية كافّةً، أن الإشباع الجنسيّ يحلّ محلّ "اضطراب الحواسّ". وحقيقة أن الناس تكبت هذا، عائدة إلى عنصر، مع أنه ليس واعياً بالكامل، منزوع من الوعي الصافي. وقد كان ساد هو الذي مَهّدَ الدربَ إلى هذا الوعي. لم يكفّ مطلقاً عن تتبّع خطّ التفكير المرتبط بجهوده لاستيعاب معظم معارف زمانه. لكن لو لم يُسجَن، لما كات حياته المضطربة قد أفضت لأن تمنحه إمكانية تغذية الرغبة المتسلسلة التي كان عاجزاً عن إشباعها.      
الأفضل أن نؤكّد على هذه الصعوبة، وأضيف إن ساد كان يعلن عن إشباع وعيه؛ فلم يكن قد توصّل إلى الوضوح التامّ. كان على روحه أن تصل، إن لم تكن بغياب الرغبة، فعلى الأقلّ باليأس الذي يُخلِفه عند القارئ بإحساسٍ من الألفة النهائية بين الرغبات التي يحسّ بها ساد ورغبات ذلك القارئ، فهي الأقلّ توتراً من حيث هي مألوفة. 


شعرية مصير ساد
قد تدهشنا هذه الحقيقة الغريبة والعصيبة، التي تنكشف أولاً في مسلك رائع ومدهش. إنها احتمالية الوعي في قيمته الأساسية، لكنها لا تستند مطلقاً إلى الخلفية التي ترمز إليها. فأنّى لهذه الحقيقة الناشئة أن تنقُصَها روعةٌ شِعرية؟ من دون هذه الروعة الشِعرية قد لا يكون لها منظورها البشريّ. فهي تسعى لتأسيس ربط العقدة الأسطورية بما تكشف عنه في النهاية من أعماق الأساطير. تتّخذ ثورةً ـ انفجار بوّابات الباستيل ـ لتسليمنا سرّ ساد. كان لديه من سوء الطالع أن يعيشَ هذا الحلم، حيث الاستحواذ هو روح الفلسفة، وحدة الموضوع والذات. هوية للتسامي بمحدّدات الكائن، بموضوع الرغبة، بالذات التي ترغبُ. وقد قالَ موريس بلانشو عن حقٍّ إن ساد «قد نجح في جعل سَجنه صورةً لعزلة الكون»، لكن هذا السجن، هذا العالم، لم يعد يثير حنقه فقد «طرح عنه كلّ مخلوقٍ آخر». كان "الباستيل"، حيث سطّر ساد كتاباته، بوتقةً شملَت محدّدات الوعي للكائن، فكانت نيران العاطفة تُدمّرها ببطء، بينما راح العجز يمدّ حبل حياتها.   



الهوامش:
1) Titan: الجبابرة أو الأرباب الذين حكموا الأرض في عصرها الذهبيّ، قبل ظهور أرباب الأولمب، في الأساطير الإغريقية. (م)   
2) Swinburne: شاعر وروائيّ وناقد إنجليزيّ (1837/ 1909). (م)    
3) Jean Paulhan: (1884/ 1968)، كاتب وناقد فرنسيّ، من أعماله: "الفزع في الأدب". (م)   
4) Pierre Klossowski: (1905/ 2001)، كاتب وفنان فرنسيّ، أخوه الأصغر الفنان بلاثيوس الشهير، وهو المسؤول عن إصدار طبعة جديدة منقّحة من كتاب "ساد": "120 يوماً في سدوم، وكتابات أخرى"، عام 1964. كما شارك في إصدار كثير من طبعات "جورج باتاي". كتابه "نيتشه والدائرة المفرّغة" له تأثير كبير على الفلاسفة: فوكو، جيل دي لوز، ليوتار. (م)    
5) Maurice Blanchot: (1907/ 2003)، كاتب وفيلسوف فرنسيّ، له تأثير كبير على النقّاد منظّري ما بعد البنيوية، أمثال جاك دريدا. (م) 
6) Section des Piques: مجموعة ثورية في باريس، تمثّل الشعب، كانت تدعو إلى عتق المساجين، والدعوة للحديث علناً عن نظام الحكم. (م)      
7) Anti-Jacobian: يعني أنه مسالم، ضدّ المتطرّفين. (م)       
8) Joseph de Maistre: (1753/ 1821)، فيلسوف ودبلوماسيّ، ما بعد الثورة الفرنسية، ضدّ التنوير. (م)  
9) Dolmance: شخصية في دراما ساد (فلسفة في غرفة النوم)، ملحد وشاذ جنسياً. (م) 
10) Satyr: اسطورة يونانية، من جنود بان إله المراعي، يُصوّر بقدمَي حصان وملامح معزى وجسم مشعر، لكن بذكَر منتصب دائماً. (م)   
11) Benoist Labre: قديسٌ فرنسيّ شاع أنه كان يأكل القمل من جسمه. (م)
12) Krafft-Ebingt: (1840/ 1902)، طبيب نفسيّ، نمسويّ ألمانيّ، اشتُهر بكتابه عن المازوخية. (م)          





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق