الخميس، 19 نوفمبر 2015

مقاطع في الكتابة والغياب: موريس بلانشو

ترجمة بسام الحجار


بعد فوات الأوان (*)
Labyrinth by snugsomeone
كتب مالارميه لمؤلِّف ناشئ كان طلب منه نصاً بمثابة مقدمة لكتاب له أو دعم: «أنا أمقتُ المقدمات حتَّى تلك التي يكتبها المؤلِّفون أنفسهم فكيف بي وأنا أرى إلى تلك التي يضيفها آخرون. يا عزيزي، إن كتاباً حقيقياً ليس في حاجة لتقديم، إنّه يصدر عن حبٍّ من أوَّل نظرة، كما بين المرأة والعشيق ودونما حاجة لطرف ثالث، هذا الزوج...»
ولقد كتبت في منحىً آخر تماماً: "Noli me legere". حظر على القراءة يعني استبعاداً للمؤلف. «لن تقرأني» «فأنا لا أدوم كنص للقراءة إلا بمقدار الاستنفاد الذي يستلب منك كيانك ببطء أثناء الكتابة». «أبداً لن تعرف ماذا كتبت حتّى ولو لم تكتب إلا لكي تعرف«.
قبل الأثر، الأثر الفني، الأثر الكتابي أو الأثر الكلامي، ما من فنان، ما من كاتب أو ذات متكلمة، مادام النتاج هو الذي ينتج المنتج وذلك بخلقه أو إظهاره عن طريق البرهان عليه [وهذا ما يعلمنا إياه هيغل و(...) على نحو مبسّط: الفعل سابق على الكائن الذي لا يصنع ذاته إلاّ بصنع- ماذا؟ قد يكون أي شيء: إنَّ الحكم على أهمية أي شيء يتعلق بالزمن، بما يحدث، بما لا يحدث: ما يُسمَّى العوامل التاريخية، التاريخ، دون أن يعني ذلك البحث في التاريخ عن الحكم النهائي]. ولكن، إذا كان الأثر المكتوب ينتج ويبرهن على الكاتب، فهو حين يتم إنجازه لا يشهد إلاّ على تحلل هذا الأخير، على تلاشيه وعلى تغيبه ولكي نعبِّر بطريقة أكثر فجاجة، على موته، الذي، بأية حال لا يمكن أن يُحَط بصورة نهائية: إنه موت لا يفضي إلى أي عيان.
هكذا، قبل الأثر، لا يكون الكاتب موجوداً: كما لو أن وجوده خاضع لكفالة ويطلق عليه اسم "مؤلف"! والأصح إنه "ممثل"، تلك الشخصية الزائلة التي تولد وتموت كل مساء لأنها بالغت في إظهار نفسها للعيان، مقتولةً بالاستعراض الذي يجعلها بيِّنةً، أي مجرَّدةً من كل ما هو خاص أو كامن في حميمية ما.
من الـ "ليس بعد" إلى "لم يعد"، ذاك هو المسار الذي من شأنه أن يكون مسار من يطلق عليه اسم كاتب، ليس فقط زمنه المعلَّق أبداً، بل ما يجعله كائناً في صيرورة انقطاع.
هل تنبَّه أحد إلى أن فاليري في تخيله لطوبى  (Utopie) "السيد تست" كان، بمعزل عن رغبته، الأكثر رومانسية بين البشر؟ فهو يكتب في ملاحظاته بسذاجة: "أنا (Ego) -كنت أحلم بكائن يمتلك أعظم المواهب- لكي لا يفعل بها شيئاً، لكونه على يقين [كيف؟] من امتلاكه إياها. لقد أخبرت مالارميه بهذا في يوم أحد عند "ألكي دورسي". والحال، من يكون هذا الكائن، أكان موسيقياً أم فيلسوفاً أم كاتباً أم فناناً أم سلطاناً، الذي يقدر على كل شيء ولا يفعل شيئاً؟ إنه بالضبط العبقريةُ الرومانسية، إنه "الأنا" المتفوِّق على ذاته وعلى خلقه بحيث يمتنع، بخيلاء، عن الظهور، إنه إذن "إله" من شأنه أن يرفض كونه خالقاً، إنّه "الكلي- القدرة" اللامتناهي والذي لا يتنازل أو يقبل بأن يحدَّه أثر مهما كانت طبيعته حتى ولو كان متسامياً [أنظر: دوشان]. أو أنه ينبغي أن يستشعر الخارق في أكثر الأشياء عادية: ما من تحفة (chef-d’oeuvre) [ما أفقر ما أردأ مثل هذا "التزعم" (chef)، القبول بأن يكون الشيء هو الأكبر، هو الأسمى]. ولكل، إذا كان "تست" (teste) يخون نفسه فبسبب سر الابتذال، أي بسبب ما يظهره بوصفه غير مرئي. [أنا لا أنتوي الانتقاص من، فاليري بتبيان السذاجة المراهقة، في مشروعه المركزي، وبخاصة إذا كان يمكن أن تضاف إلى تلك السذاجة ضرورة الحذر الشديد: لا يمكن "للعبقرية" إلا أن تختفي، أن تتلاشى: ألا تترك أثراً، وألا تقدم على ما من شأنه أن يظهرها متفوقة فيما تفعله وحتى فيما هي عليه. المجهول الإلهي، الإله الخفي، الذي لا يختبئ لكي يضاعف خطوة من يعثر عليه في النهاية، بل لأنه يخجل من كونه إلهاً أو من كونه يعرف أنه إله – أو أكثر من ذلك، فالإله لا يمكن إلا أن يكون مجهولاً من ذاته وإلا لخلعنا عليه "ذاتاً" على صورتنا. ولست أعرف إذا كان فرويد وهو غير مؤمن، قد فكر في أنه جعل اللاشعور إلهاً له].
بعد هذين القوسين أعود إلى الصعوبة. إذا كان المكتوب (l’écrit)، اللاشخصي دائماً، يفسد ويطرد ويلغيا الكاتب بما هو كذلك، أو في الأقل الإنسان أو الذات الكاتبة [سيقول آخرون إنه يغنيه وإنه يجعله أكبر مما كان، وإنه يبدعه -حسب المفهوم التقليدي للمؤلف- أو إنه لا غاية له سوى أن يتيح له تمرين عقله — فاليري من جديد]، بلى، إذا كان الأثر الأدبي، في عمليته، مهما كانت صغيرة، على هذه الدرجة من القدرة على التدمير بحيث يستدرج المنفذ إلى معادل للانتحار، كيف يستطيع إذن أن يرتد [آه، يا أورفيوس أيها المذنب] نحو ذاك الذي يعتقد أنه يطلعه إلى الضوء ويقومه ويستسيغه ويرى نفسه فيه لكي يصح، في النهاية، قارئه المفضل وشارحه الرئيسي أو ببساطة التابع الموهوب الذي يعطيه تفسيره الخاص أو يفرضه، ويحل اللغز، ويكشف الشر ويقطع بشيء من السلطة [فالأمر هنا يتعلق بالمؤلف] السلسلة التأويلية، لأنه يدعي كونه المؤول المنشود، الأوَّل أو الأخير؟
Noli me legere [لن تقرأني]. ألهذه الاستحالة قيمة جمالية، وأخلاقية وانطولوجية؟ ينبغي أن نرى إليها عن كثب. إنها دعوة لَبِقة، تحذير مستهجن، وحظر كان دائماً قابلاً للانتهاك. «الرجاء عدم . . .» فإذا كان الأثر ينتمي إلى "اوريديسيوس"، فإن الطلب -البالغ التواضع- بعدم الالتفات والنظر إليه [أو قراءته]، يكون مقلقاً له [أي الأثر] وهو الذي يعلم أن "القانون" سيعمل على إخفائه [أو في الأقل على إيضاحه بحيث يمزجه بضوء ما] بقدر ما يكون مغرياً في عيني الفنان الذي تقتصر رغبته على أن يطمئن إلى وجود جميل ما يتبعه، وليس مجرد خيال لا طائل تحته أو عدم مكسو بكلمات نافلة. حتى مالارميه، الأكثر يسراً والأكثر تكتماً بين الشعراء يعطي بعض الملاحظات حول طريقة قراءة "ضربة نرد" وكافكا نفسه يقرأ قصصه لأخواته، وأحياناً أمام جمهور متفاوت، الأمر الذي لا يعني، في الحقيقة، أنه يقرأها لنفسه بوصفها كتابات -توكيد كتابي- بل يقبل بخطورة أن يعيرها صوته، وأن يستبدل الحكاية [أي لغز ما ينبغي أن يقرأ] بالبداهة الحيوية والشفهية لإلقاء ولحضور يفرضان، تبعاً لذلك، معنى الحكاية أو أي معنى ما .

إذ مثل هذه التجربة (tentation) ضرورية. وقد يكون الوقوع فيها أمراً لا يمكن تفاديه. أذكر هذه القصة: "السيدة إدواردا". من المؤكد أنني كنت من بين أوائل قرائها ومن بين الذين سرعان ما اقتنعوا [بعد أن أدهشتهم حتى البكم] بما يتضمنه هذا الأثر الأدبي [بضع صفحات فقط] من فرادة، فيما يجاوز الأدب وفيما لا يستطيع إلا أن يستبعد أي كلام يفيد الشرح والتعليق. فقط تبادلنا جورج باتاي وأنا بعض تعابير الانفعال، ليس كما نكلم كاتباً على أحد كتبه الذي يحظى بتقديرنا، بل سعياً مني لإفهامه بأن مثل هذا اللقاء [بكتابه] يكفيني مدى الحياة، كما من شأنه أن يكفيه مدى الحياة لأنه كتبه. كنا في ذلك الحين نعاني أسوأ أيام لاحتلال، وكان هذا الكتاب الضئيل -الأصغر حجماً بين الكتب، والذي نشر تحت اسم مستعار وحصر توزيعه في حلقة ضيقة- كان، إذن، بفعل طابعه السري، معداً لأن يغرق في الدمار المحتمل لأي واحد منا [كتاباً وقراء]. مزيد من الأثر لحدث جزيل، لأننا نعلم الآن ماذا حلّ به. إلا أنني دون مجانبة التحفظ، أود أن أضيف شيئاً. فبعد سنوات، وكانت الحرب قد وضعت أوزارها وتبدلت حياة جورج باتاي نفسه، طُلب منه أن يعيد طبع هذا الكتاب -أو، بصورة أدق، أن يعمل على إصداره في طبعة حقيقية. وقال لي ذات يوم إنه يأمل في كتابة تتمة لـ "السيدة إدواردا" وسألني عن رأيي في هذا الأمر مما أثار لدي إحساساً بالرعب الحقيقي. فلم استطع إلا أن أجيبه كما لو أنني تلقيت ضربة ما: «هذا مستحيل. أرجوك، لا تمس الكتاب» ولا أذكر أن المسألة قد أثيرت منذ ذلك الحين، على، الأقل فيما بيننا. ومازلنا نذكر أنه لم يستطع تمالك نفسه عن كتابة مقدمة وقعها باسمه، ومما لا شك فيه أنه إنما فعل ذلك فلكي يدخل اسمه على النص سعياً لأن يتحمل [ولو بطريق غير مباشر] مسؤولية كتابة كانت لا تزال تعتبر فضائحية. ولكن تلك المقدمة، مهما اكتست من أهمية، لم تضف شيئاً إلى هذا الضرب من "المطلق" الذي مثلته "السيدة أدواردا"، شأنها في ذلك شأن التعليقات الظرفية التي أثارها النص في حينها [وعلى الأخص تعليقات لوسيت فيناس وبيار-فيليب جانوان]. كلّ ما يمكن قوله، وكل ما أستطيع قوله هو أن القراءة قد تبدلت على الأرجح. الإعجاب، التأمل، المقارنة مع مؤلفات أخرى، أي الأمور التي تستكمل، وبذلك تلغي أو تعادل. فإذا أعلت من شأن الأدب فالأدب يردها إلى حجمها هي، مهما كان مقدار الأهمية الذي تُعطاه. يبقى عري كلمة "كتابة"، الذي يعادل العرض الملتهب لتلك التي كانت ذات ليلة، وباتت إلى الأبد، "السيدة أدواردا".
*****

التكرار الأبدي(**)
-يُطلب مني- أحد ما في داخلي يطلب مني- أن أتواصل مع ذاتي، عبر التذييل الإيضاحي لهذين النصين. القديمين، واللذين لقدمهما [نحو خمسين سنة]، ودونما اعتبار للصعوبات السالفة الذكر، لا أستطيع أن أعرف من هو الذي كتبهما، وكيف تمت كتابتهما ولأي الضرورات المجهولة قد خضعا. أذكر [وليس هذا سوى تذكار مخادع ربما] أنني كنت غريباً عن الأدب المتداول آنذاك ولا أعرف سوى الأدب الذي يوصف بأنه كلاسيكي، مع بعض الانفتاح النسبي على فاليري وغوته وجان- بول. باختصار لا شيء مما يهيئ لهذين النصين البريئين حيث تلوح البشائر القاتلة للأزمنة المقبلة. لقد تم تناول "الكلمة الأخيرة" (1935) بعمق (...). ومع ذلك لم ينشر النص إلا بعد مرور اثنتي عشرة سنة في سلسلة "العصر الذهبي" تحت إشراف هنري باريزو. ولكن حدث أن هذا الكتاب كان آخر إصدارات سلسلة لم تعد تتوفر لديها سوى إمكانيات الزوال، فلم يوزع للبيع. [هذا إذا لم تخني الذاكرة].
وبالطبع فإنّ الإحساس بأنك لم تبدأ بالكتابة حتى تصل، منذ البداية، إلى النهاية [وهى صدفة الالتقاء بالكلمة الأخيرة] لا يمكن، أو في الأقل، لا يعني إلاّ الأمل في التخلي عن المهنة [الكتابة] وأن تجد السبيل الأقصر لأن تنتهي منها منذ البداية [ولكي أكون صادقاً ينبغي ألا أنسى أنني في نفس الوقت أو في الأثناء، كنت أعمل على كتابة "توماس الغامض"، الذي قد يكون يعالج المسألة نفسها، لكنه على سبيل الدقة لا ينتهي، بل على العكس من ذلك كان يجد في معرض السعي للإبادة [الغياب] استحالة التهرب من الكائن [الحضور]. الأمر الذي لم يكن في الحقيقة مجرد تنافر بل تطلب دوام تعس في فعل الموت نفسه]. بهذا المعنى كانت الحكاية ["الكلمة الأخيرة"] محاولة لقطع الطريق على الكتاب الآخر الذي كان قيد الانجاز، لكي يتم لي تجاوز «الذي لا نهاية له» والتوصل، عبر سرد له طابع خطي أوضح لكنه شديد التعقيد، إلى قرار المكتوم: ومن هنا، ربما، ينبع هذا الحشد النافر للغة، والقرار المستهجن بأن تحرم هذه الأخيرة أي سند لها، "الشعار" (أو الكلام السائر) [ما من حاجة لكلام قسري أو تقريري، وهذا يعني ما من حاجة لكلام - كلا: هناك فقط كلام للقول وكلام لكي لا يقال]، والتخلي عن أن تكون «سيداً وحكماً» -وهو تخل نافل في ذاته- الرؤيا أخيراً، تلك التي تنتهي بسقوط آخر "برج"، "برج" بابل بالتأكيد، في الوقت الذي يهرع فيه المالك إلى الخارج [الكائن الذي ضمن لنفسه دائماً تعريف "الملك الخاص"- الإله بالطبع، ولو كان بهيمة] وكذلك الراوي الذي حافظ على امتياز"الأنا"، والفتاة البسيطة الرائعة، تلك التي تعرف على الأرجح كل شيء، بأكثر أشكال المعرفة تواضعاً.
إن مثل هذه الاستعادة أو تحفيز الذاكرة -إذ مفارقة مثل هذه الحكاية- لها السمة الرئيسية في أن تروي، كما حدث فعلاً، حادث الفرق الكلي، والذي لا تنجو منه الحكاية نفسها، وهكذا تبدو مستحيلة أو عبثية إلا إذا كانت تدعى التنبؤ معلنة للماضي عناصر مستقبل ماثل فيه أو مخبرة عمّا هو موجود دائماً حين لا يكون هنالك شيء: أي الـ"ثمة" التي تحمل اللاشيء وتحول دون العدم لكي لا ينجو هذا الأخير من صيرورته التي لا تنتهي والتي يكون حدها التكرار والأبدية .
تنبئ أيضاً، ولكن بالنسبة لي [اليوم] بطريقة تزداد انغلاقاً على التفسير، لأنني لا أستطيع أن أفسر عناصر النص إلاّ انطلاقاً من الأحداث التي طرأت والتي لم تعرف إلا لاحقاً، بحيث أن هذه المعرفة اللاحقة لا تضيء، بل تنزع الفهم عن الحكاية التي أعطيت عنوان "الحب البريء" -أبهدف قلب المعنى؟- أو توجس الفكرة السعيدة (1936). إن الموضوعة التي اعترف بها أولاً، وذلك لأن "كامو" [ألبير] سيجعلها "مألوفة"، أعني سيجعلها على عكس ما تعنيه، ترد بين الكلمات الأولى: "الغريب". الغريب، من هو؟ ما من تعريف كاف هنا. إنه قادم من الخارج. يلاقي استقبالاً جيداً، ولكن وفق القواعد التي لا يستطع أن يلتزم بها، الأمر الذي يضعه في معمعة الاختبار-على عتبة الموت. وسوف يستخلص هو نفسه مغزى الاختبار ويفصله لقادمين جدد: «سوف تتعلمون في هذا البيت أنه ليس من السهل أن تكونوا غرباء. وسوف تتعلمون أيضاً أنه ليس سهلاً ألاّ تكونوا كذلك. فإذا ما كنتم تندمون على هجرتكم من بلادكم فستجدون كلّ يوم هنا مزيداً من الأسباب التي تدعوكم للندم. ولكن إذا ما توصلتم لأن تنسوا ولأن تحبوا إقامتكم الجديدة فسوف يُعمل على إعادتكم من حيث أتيتم، وهناك، إذ تجدون أنفسكم مرة ثانية بلا بلاد سوف تستأنفون منفى جديداً». فالمنفى ليس سيكولوجياً ولا انطولوجياً. والمنفي لا يتكيف مع كيانه الجديد كما لا يتخلى عن هذا الكيان والأصعب أنه لا يستطيع أن يجعل من المنفى أسلوباً في الإقامة. قد يستدرج المهاجر إلى طلب الجنسية [التجنيس]، ولو كان ذلك عن طريق الزواج، لكنه يظل مهاجراً. ذلك أن الهرب حيث لا منافذ للفرار هو الضرورة التي يستقيم بها نداء الخارج. هل هي محاولة لا طائل تحتها؟ السجن ليس سجناً. والحراس لهم نقاط ضعفهم، هذا إذا لم تكن غفلتهم تنتمي إلى المظاهر الخادعة لحرية من شأنها أن تكون إغراء ووهماً. وكذلك التهذيب البالغ، أعني المودة الصادقة لأولئك الذين يطبقون القانون قسراً، ألا تشبه ذلك "التأديب" الهادئ والصلب الذي، لسنوات خلت، أوقع في شراكه، ذات الطابع الإنساني المزعوم، حشداً من الخاضعين طوعاً، غير القادرين على تبيان البربرية المقنعة التي أتاحت لهم أن يعيشوا، مؤقتاً، في كنف نظام متضامن .
مع ذلك يصعب، بعد فوات الأوان، أن نغفل التفكير في ذلك. يستحيل ألا نذكر تلك الأشغال المجانية في معسكرات الاعتقال، حين كان أولئك الذين قضوا فيها- ينقلون من موضع إلى آخر، ثم يعيدون نقلها إلى نقطة البداية، جبالاً من الحجارة لا في سبيل مجد أهرام ما بل في سبيل دمار العمل وكذلك دمار الشغيلة البائسين (...) الأمر الذي يؤكد أنه إذا كان من الممكن أن يصبح المتخيل واقعاً ذات يوم، فذلك لأنه هو نفسه له الحدود الصارمة ولأنه يستشف الأسوأ لأن الأسوأ هو دائماً الأبسط الذي يتكرر دائماً .
ولكنني لا أعتقد أن "الحب البريء" يمكن أن تؤول كقراءة لمستقبل خطر. فالتاريخ لا يحتكر المعنى كما أن المعنى ، الملتبس دائماً — المتعدد- لا يخضع لآلية رده للتحقق التاريخي، حتى ولو كان هذا التحقق هو الأكثر مأساوية والأعظم خطباً. ذلك أن الحكاية [السردية] لا تترجم. فإذا كانت تمثل توتر سر تنشأ حوله ويظهر دون أن يتضح، فهي إنما تكشف عن حركتها الخاصة فقط. تلك الحركة التي تقدر أن تولد لعبة فكّ الرموز أو التأويل، لكنها تبقى في غمرة ذلك "غريبة" بدورها. ومن هنا يبدو لي، ومهما بدا أن الحكاية تخط الاحتمالات التعسة لمصير يائس، أنها تبقى، بما هي حكاية سردية، خفيفة ولا مبالية وتتمتع بوضوح لا يثقله ولا يحجبه ادعاء معنى خفي أو خطير. قد يطرح علي بأنَّ التساؤل الذي تفترضه الحكاية السردية، انسجاماً مع العنوان، يمكن أن يعبر عنه في أشكال مختلفة، وكلها بالضرورة ساذجة أو تبسيطية: مثلاً، لماذا، في مثل هذا العالم، تظل مسألة سعادة الأسياد على هذا القدر من الأهمية ولكنها في المحصلة تبقى دائماً غير قابلة للحل؟ فهناك المظاهر الخارجية، وليس هناك سوى المظاهر الخارجية، فكيف نطمئن إليها؟ وكيف لا نعمل على تمحيص أشياء أخرى؟ (...) إنها أسئلة، ولكنها على قدر من التعميم بحيث يصعب استدراج أجوبة لها أو بحيث تظلّ أسئلة مهما كانت الأجوبة التي نسوقها أجوبة عليها. والحكاية السردية تتضمنها كلّها ربما ولكن شريطة ألا نستجوبها، أي ألا نردها [الحكاية السردية]، عبرها [الأسئلة] إلى مضمون، إلى لا شيء يمكن آن يتم التعبير عنه بطريقة أخرى .
حكاية سردية بائسة المصير على كل صعيد. إلا أنها بالضبط تلك التي تقول، في خبرها، كل ما تريد قوله أو، أكثر، تبدو كالوضوح المسبق والمتقدم على الدلالة الرصينة أو الملتبسة التي يخطها أيضاً، إنها هي التي من شأنها أن تكون قصة الحب البريء، المعبود الصغير الجائر والمذموم الذي للسبب نفسه الذي تنم عنه، يكون سعيداً في بؤس المصير الذي تعبر عنه والذي يكاد يغير عناصر إغرائه باستمرار. هذا ما من شأنه أن يكون قانون الحكاية السردية، سعادتها، وبسبب ذلك، بؤسها، وليس، وفق ما كان فاليري يتهم به باسكال، لأن الشكل الجميل من شأنه أن يقوض بالضرورة فظاعة كلّ حقيقة مأساوية ويجعلها قابلة للاحتمال البشري ، بل ولذيذة [آلية التطهير (catharsis)] . وإنما قبل كلّ تمييز بين شكل ومضمون، بين دال ومدلول، وحتى قبل الفصل بين الخبر والمنطوق، هناك "القول" (le dire) الذي لا يوصف، مجد "صوت سردي" يتيح إمكان السماع الواضح دون أن تقدر أن تحجبه صفاقة أو ألغاز أو الفظاعة الرهيبة لما يمكن أن يتم إيصاله .
لذلك أرى وعلى نحو يختلف عمّا ذهب إليه أدورنو ((Adorno، عن حق ربما، أنه لا يمكن أن توجد حكاية سردية - خيالية لأوشفتز [وأشير هنا إلى "اختيار صوفي" (***)]
إن ضرورة الشهادة [من فعل: شهد] هي وازع أن تشهد الذي لا يستطيع أن يقوم به سوى الشهود المستحيلين -شهود المستحيل- وبعضهم نجا ولكن نجاتهم لم تعد هي الحياة، إنها القطيعة مع التوكيد الحيّ، والإفادة بأن هذا الغنم الذي هو الحياة [الحياة غير النرجسية، بل من أجل الآخر] قد أصيب بشبهة حاسمة لا توفر شيئاً. وانطلاقاً من هذا يمكن أن يكون كل سرد [كل رواية]، أعني كل شعر، قد فقد الدعامة التي قد يقوم عليها كلام آخر، وذلك بعد أن خمدت غبطة الكلام الذي يُنتظر في ظل أكثر أنوع الصمت تواضعاً. إن النسيان يؤدي وظيفته بلا ريب ويتيح أن تستمر كتابة الأثر الأدبي حتى الآن. ولكن هذا النسيان، نسيان سقط فيه كل احتمال، تقابله ذاكرة عاجزة وبلا ذكرى يسكنها، عبثاً، السحيق في القدم. لقد كان على البشرية أن تموت في مجملها بالاختبار الذي أخضعت له عبر بعض الأشخاص [أولئك الذين يجسدون الحياة نفسها. أي تقريباً شعب كامل موكول لوجود دائم]. إن هذا الموت مستمر حتى الآن. ومن هنا الوازع الذي يدفعنا لئلاَّ نموت مرة واحدة، دون أن يقدر التكرار أن يعمل النهاية القصوى على الدوام أمراً عادياً ومألوفاً (...)
الحياة تستمر ربما. فلنتذكر خاتمة "المسيح" [كافكا]. إذ لم يكد "غريغور سامسا" يلفظ أنفاسه الأخيرة في غمرة اليأس والعزلة حتى بُعث كل شيء واستسلمت شقيقته، برغم كونها الأكثر تعاطفاً معه، لأمل التجدد الذي يعد به جسدها الفتيّ. كافكا نفسه فكّر أنه كان يرمي بظّل ما على الشمس، وأنه بعد أن يغادر سينعم أهله بسعادة أكبر. مات، إذن. وماذا حدث؟ لا ينبغي أن ننتظر سوى القليل. كلُّ الذين أحبهم تقريباً لاقوا حتفهم في هذه المعسكرات، التي، مهما تنوعت أسماؤها، يمكن أن نطلق عليها الاسم نفسه: أوشفتز .
إذ هذا الأفق [اللاأفق] هو الذي لم أكن أستطع أن آمل في جعله دليل قراءة "الحب البريء" و"الكلمة الأخيرة". ومع ذلك يبقى أن نتأمل في الموت البلاعبارة وربما البلانهاية، حتى النهاية. «صوت يأتي من الضفة الأخرى. صوت يقاطع قول ما قيل سابقاً» (إيمانويل لفيناس).
*****

مقاطع من كتاب "الحيز الأبدي"(****)

اللامتناهي والمتواصل
العزلة التي تتناهى إلى الكاتب عبر الأثر الأدبي تتبدّى فيما يلي: الكتابة هي الآن اللامتناهي، المتواصل.
فالكاتب لا يعود ينتمي إلى مضمار التفوق [أو الأستاذية] حيث التعبير يعني التعبير عن الدقة وعن يقين الأشياء والقيم وفق معنى حدودها. ما يكتب نفسه يسلم من ينبغي أن يكتب إلى توكيد لا سلطة له عليه. توكيد هو نفسه لا قرار له ولا يؤكد شيئاً، وليس الراحة ولا مهابة الصمت لأنه ما لا يتوقف عن الكلام عندما يكون كل شيء قد قيل، ما لا يسبق الكلام لأن الكلام يحول دون أن يكون كلام بدء، كما يجرده من الحق ومن القدرة على الانقطاع.. أن أكتب يعني أن أكسر الرابط الذي يجمع بين الكلام وبيني. أن أكسر الصلة التي، في مخاطبتك "أنت"، تمنحني كلام تواصل يستمده الكلام منك "أنت"، لأنه يدعوك؛ إنه الدعوة التي تبدأ في أنا لأنها تنتهي إليك أنت. أن أكتب يعنى أن أقطع هذه الصلة ويعني، أيضاً، أن أسحب اللغة من سياق العالم وأن أجرده من كلّ ما يجعل منها سلطة ومن خلالها إذا تكلمت أنا يكون العالم هو الذي يكلم نفسه، إنه النهار الذي ينبني بالعمل، بالنشاط وبالزمن .
الكتابة هي اللامتناهى والمتواصل. ويقال أن الكاتب يتخلى عن استخدام كلمة "أنا" ويلاحظ كافكا  بدهشة وبلذة مستحبة، أنه استطاع أن يدخل إلى ملكوت الأدب حين استطاع أن يستبدل "الأنا" بـ "هو". هذا صحيح ولكن التحول أعمق بكثير. فالكاتب ينتمي إلى لغة لا يتكلمها أحد، ولا تخاطب أحد، وليس لها نقطة ارتكاز ولا تكشف عن شيء. يستطيع أن يعتقد أنه يؤكد ذاته عبر هذه اللغة ولكن ما يؤكده هو الأكثر خلواً من الذات. ومادام الكاتب، بوصفه كذلك، يعدل في نظرته لما يكتب، لا يعود في إمكانه أن يعبر عن ذاته ولذلك لا يستطيع أن يستدعيك أنت ولا أن يمنح الكلام لآخر. فهناك حيث يكون، وحده الكائن يتكلم - ما يعني أن الكلام لا يتكلم، لكنه يكون، لكنه يستسلم لسلبية الكائن البحتة .
حين تكون الكتابة الاستسلام اللامتناهي يفقد الكاتب الذي يقبل بأن يدعم الجوهر سلطة أن يقول "أنا" ويفقد عندئذ سلطة أن يجعل الآخرين يستخدمون كلمة "أنا". وكذلك لا يستطع بأية حال، أن يحيي شخوصاً تستمد حريتها من قدرته على الإبداع. ففكرة الشخصية، كما في الشكل التقليدي للرواية، ليست سوى صيغة تواطؤ يحاول الكاتب من خلالها، وهو الذي يستدرجه الأدب إلى خارج ذاته بحثاً عن جوهره، أن ينقذ صلاته بالعالم وبذاته .
أن أكتب يعني أن أجعل من ذاتي صدىً لما لا يستطع أن يكفَّ عن الكلام - وبسبب ذلك، ولكي أصبح الصدى ينبغي، على نحو ما، أن أفرض عليه الصمت. فضيف إلى هذا الكلام المتواصل قراري، وسطوة صمتي الخاص. وأضفي الطابع الحسي، عبر توسطي الصامت وتوكيدي المتواصل، على الهمس العملاق الذي به تصبح اللغة، عبر انفتاحها، صورة أو متخيلاً، وأعماقاً ناطقة وامتلاء غامضاً هو الفراغ. إن هذا الصمت يجد مصدره في الانمحاء الذي يدعى إليه كل من يكتب. أو أنه منبع امتلاك الأسلوب، هذا الحق الذي تحتفظ به اليد التي لا تكتب، أي ذلك الجزء من الذات القادر دائماً أن يقول لا وحين يقتضي الأمر يلجأ إلى الزمن، ويوطد دعائم المستقبل (...)
إن النبرة ليست صوت الكاتب، وإنما هي حميمية الصمت الذي يفرضه على الكلام، مما يجعل من هذا الصمت شيئاً يخصه هو، أي ما يتبقى منه في الكتمان الذي يحيله إلي العزلة. فالنبرة تصنع الكتاب الكبار ولكن قد لا يكون الأثر الأدبي معنياً بما يجعله كبيراً (...).

اللجوء إلى "اليوميات"
يبدو من المستهجن بعض الشيء أن يشعر الكاتب بحاجة ملحة إلي الحفاظ على صلة بذاته، بدءاً باللحظة التي يتحول فيها الأثر الأدبي إلى بحث عن الفن ويصبح أدباً. ذلك أن الكاتب يشعر بنفور حاد من واقع فقدانه ذاته لصالح هذه القدرة المحايدة. تلك القدرة التي لا تمتلك شكلاً أو غاية والتي تبدو في خلفية كل ما يكتبه .
نفور وخوف يعبر عنهما هذا الحرص الذي يبديه كثير من المؤلفين على كتابة ما يطلقون عليه اسم "اليوميات". وفي مثل هذه الحال، لا علاقة لليوميات بكل الميول والنزعات الرومنطيقية. فاليوميات ليست اعترافاً، وليست مجرد سرد لشجون الذات. إنها حفل تذكاري. وماذا ينبغي أن يتذكر الكاتب؟ يتذكر ذاته، شخصه الذي لا يكتب [حين يتوقف الكاتب عن الكتابة]. يتذكر شخصه الذي يعيش حياته اليومية، أي حين يكون حيّاً وحقيقياً وليس مائتاً وفاقداً لكل حقيقة. ولكن الوسيلة التي- يستخدمها لكي يتذكر ذاته هي -يا للعجب- عنصر النسيان نفسه: الكتابة .
من هنا نرى كيف أن حقيقة "اليوميات" لا تكمن في الملاحظات والهوامش الشيقة والأدبية التي تشتمل عليها وإنما تكون في التفاصيل النافلة التي تردُّ "اليوميات" إلى الحياة اليومية. فاليوميات تمثل نوعاً من تتابع المحطات التي يدونها الكاتب ليعرف نفسه حين يستشعر التحول الخطير الذي يطرأ عليه. إنه طريق. لا يزال قابلاً للحياة، نوع من الطريق الدائري الذي يحاذي ويراقب وأحياناً يقترن بالسبيل الآخر حيث التيه هو السعي الأبدي .
لا يزال الكلام -هنا- يتناول بعض الأمور الحقيقية. ومن يتكلم -هنا- يحتفظ باسم ما، ويتكلم استناداً إلى هذا الاسم. والتاريخ الذي يدوِّن هو تاريخ زمن مشترك تحدث فيه الأمور كما تحدث حقاً. إذ غالباً ما تكتب اليوميات -هذا الكتاب المطلق التماسك- خوفاً من القلق والخوف [هو نفسه]، خوفاً من الوحشة التي تتسرب من الأثر الأدبي إلى ١لكاتب.
واللجوء إلى اليوميات يعنى أن من يكتب لا يرغب في قطع صلته بالسعادة، وبتوالي الأيام التي تكون أياماً بحق أو تتعاقب فعلاً. اليوميات تجذّر الكتابة في الزمن، في خضع اليومي المؤرخ والمحفوظ عبر تاريخه المدون. قد يكون المدوَّن هنا ليس سوى خداع وقد يكتب في معزل عن أي هاجس في نقل الحقيقة، لكنه مدوّن بالحدث، وينتمي إلى المشاغل والحوادث البسيطة، إلى علاقات العالم، إلى الراهن، إلى الزمن الجزئي الذي قد يكون عدماً أو هباءً لكنه لا يُرَدُّ في تجاوز دائم لذاته وفي اتجاه الغد، في اتجاه الغد حتى اللانهاية .
تشير اليوميات إلى أن كاتبها لم يعد قادراً على الانتماء إلى الزمن بصلابة السعي الطبيعي، بطاقة العمل والمهنة، ببساطة الكلام الحميم وقوة النزف. لم يعد، في الحقيقة، تاريخياً لكنه أيضاً لم يعد راغباً في هدر الوقت. ولأنه ما عاد يجيد غير الكتابة فهو يكتب، في الأقل، بثقل تاريخه اليومي، بما يلائم مشاغل نهاراته .
قد يكون كتَّاب اليوميات أفضل الكتاب قاطبة. وذلك لأنهم يجانبون حدَّ المغالاة في الأدب. هذا إذا كان حد المغالاة هو فعلاً [غياب الزمن].

الافتتان بالزمن الغائب
الكتابة هي الاستسلام للافتتان بالزمن الغائب. وهنا نقترب، بدون شك، من جوهر العزلة. فغياب الزمن ليس نمطاً للسلبية البحتة. إنه الزمن حيث لا شيء يبدأ، حيث تستحيل المبادرة وحيث قبل التوكيد على الذات هناك عودة التوكيد. ليس نمط السلب البحث بل على العكس من ذلك هو زمن بلا نفى، بلا قرار، حين يكون "الهنا" هو "اللامكان" أيضاً، وحين ينكمش كل شيء إلى صورته وتتعرف "الأنا" نفسها بسقوطها في حياد "الهو" الملتبس. زمن "غياب الزمن" بلا حاضر، بلا حضور. وهذه "البلا حاضر" لا تشير إلى ماض. في ما مضى كان وقار "الأنا" وقوتها الفاعلة. وما زالت الذكرى تشهد لهذه القوة. الذكرى التي تعتقني من تذكارات الذي مضى وتحررني إذ تهبني وسيلة استحضار الماضي ساعة أشاء، واستخدامه وفق مقاصدي الراهنة. فالذكرى هي حرية الماضي. ولكن ما هو بلا حاضر لا يتقبل أيضاً حاضر الذكرى. الذكرى توثق الرباط بالحدث: هذا ما كان ولم يعد الآن، وعمّا هو"بلا حاضر" وما ليس هنا، حتى بوصفه الشيء الذي كان في السابق، نقول هذه العبارة القارة: لم يسبق أن حدث هذا، ولم يحدث على الإطلاق ومع ذلك يتكرر ثانية، ومن جديد حتى اللانهاية. إنه بلا نهاية، بلا بداية. إنه بلا مستقبل .
زمن "غياب الزمن" ليس ديالكتيكياً [جدلياً] وما يظهر فيه هو واقع أن لا شيء يظهر فيه. الوجود الذي في عمق غياب الوجود والذي يكون حين لا يكون هنالك شيء. والوجود الذي لا يعود وجوداً حين يكون ثمة شيء. كما لو أن الكائنات لا تكون إلاّ بفقدان الكائن .
إن حركة الانعكاس التي تحيلنا باستمرار إلى حضور الغياب في غياب الزمن - ولكن إلى هذا الحضور بما هو غياب، إلى الغياب كتوكيد لذاته [حيث التوكيد لا يؤكد شيئاً وحيث لا شيء يؤكد ذاته باستمرار في ضبابية المجهول]. إن هذه الحركة ليست ديالكتيكية ولا تتنافر التناقضات فيها ولا تنسجم. وحده الزمن الذي له يصبح النفي سلطتنا، قد يكون "وحدة المتنافرات" كل ما هو جديد في غياب الزمن، لا يجدد شيئاً. وكان ما هو حاضر ليس راهناً. كل ما هو حاضر لا يمثل شيئاً، يمثل نفسه وينتمى، منذ تلك اللحظة، وإلى الأبد، إلى العود الأبدي. هكذا لا يكون لكنّه يعود ولكنه يعود كماض انقضى، بحيث لا أعرفه بل أتعرفه ولهذا التعرُّف أن يقوض فيّ المعرفة وحق الامتلاك (...).
هذا الزمن ليس الثبات المثالي الذي نمجده باسم الأبدي، وفي هذه المساحة التي نحاول أن نقاربها كأن "الهنا" قد اضمحل في "اللامكان"، إلا أن "اللامكان" "هنا" والزمن الميت هو زمن حقيقي حيث يكون الموت حاضراً، ويصل، لكنّه لا يني يصل، كأن وصوله يجعل من زمن وصوله زمناً عقيماً. فالحاضر الميت هو استحالة تحقيق الحضور. إنه استحالة ماثلة هنا، كما الأشياء التي تقترن بكل حاضر، كما ظل الحاضر الذي ينوء به الحاضر ويخفيه.
عندما أكون وحيداً - لا أكون وحيداً، إنّما أعود في هذا الحاضر إلى ذاتي في صيغة الآخر. ثمة شخص ما حين أكون وحدي. وواقع أن أكون وحدي يعني أن انتمي إلى هذا الزمن الميت الذي هو ليس زمني أو زمنك أو الزمن المشترك مع الآخرين. إنه زمن شخص ما. وهذا "الشخص" هو ما يبقى هنا حين لا يعود هنالك أحد (...). هذا الشخص هو الهو المبهم. صيغة الغائب التي يشارك فيها كل الغائبين. لكن، من ذا الذي يشارك فيها حقاً؟ ليس هذا أو ذاك. ليس أنا أو أنت. إذ لا أحد يشارك في صيغة الغياب(...).

الصورة
لماذا الافتتان؟ الرؤية تفترض المسافة، القرار الفاصل، القدرة على أن تكون بعيداً وأن تتجنب الالتباس في كل تماس ممّا يعني أن هذا الانفصال قد أصبح، بالرؤية، لقاء. لكن ما الذي يحدث عندما نرى، برغم المسافة، أن ما نراه يلتصق بنا بطريقة آسرة، وحين تصبح طريقة النظر نوعاً من اللمس أو يصبح النظر احتكاكاً عن بعد. حين يغلب المرئي على البصر، كما لو أنه يؤخذ أو يصاب أو تحتله الظاهرة مباشرة؟
لا يعني هنا التماس الفعلي، أي طابع المبادرة والحركة في عمليه اللمس الحقيقي، بل تعني النظر المستلب، المستغرق في إيماءة ثابتة وفي قاع بلا قرار.
الصورة تحدث بفعل الاحتكاك المتباعد. والافتتان شهوة الصورة. الافتتان هو ما يفقدنا القدرة على إعطاء معنى ما، وهو ما يفارق طابعه "الحسي"، يهجر العالم، وينكفئ إلى ما وراء هذا العالم ثم يستدرجنا [ يغوينا؟] ولا يعود إلى حقل أبصارنا لكنه، برغم ذلك، يؤكد ذاته بحضور غريب عن راهن الزمن وعن المثول في مكان.
هكذا يجد البصر في ما يجعله ممكناً القدرة على إلغائه. القدرة التي تعلقه ولا تصدّه. تمنعه من التلاشي، وتعزله عن كل بداية. تجعل منه بصيصاً محايداً لا يخبو ولا يضيء الذاكرة المقفلة للبصر المقفل عنى ذاته(...)٠

أن تكتب
أن تكتب يعني أن تدخل في العزلة المؤكدة حيث يتهددك الافتتان. وهو الانقياد لغياب الزمن حيث نود البداية الأبدية. الكتابة هي الانتقال من "الأنا" إلى " الهو". فما يحدث لي لا يحدث للأخر والحدث غُفْل لأنه يعنيني أنا ويتكرر في الشتات الذي لا ينتهي. الكتابة هي توسل الكلام تحت وطأة الافتتان. والبقاء، عبر الكلام، على صلة بالمكان المطلق، حيث تعود الأشياء إلى حالة "الصورة". وحيث الصورة التي تشي بوجهٍ ما تصبح وهماً لما لا وجه له وتستحيل من شكل يُصاغ في الغياب إلى حضور "بلا شكل" للغياب نفسه. تستحيل إلى منفذ صفيق وملتبس يفضي إلى ما يكون حاضراً هنا. عندما يفقر العالم أو عندما يكتظّ(...).





الهوامش:
(*) "بعد فوات الأوان" نص –تذييل كتبه موريس بلانشو عام 1982، وصدر ضمن كتاب يحمل نفس العنوان (من ص 85 –إلى ص100)
(**) "التكرار الأبدي" عنوان لنصين هما: "حب بريء" (1935) و"الكلمة الأخيرة" (1936). والنص الذي ننشر ترجمته الكاملة: "بعد فوات الأوان" هو تذييل نقدي وضعه الكاتب لطبعة 1983 (م.)
(***) رواية "اختبار صوفي" للكاتب الأمريكي ويليام ستايرون (م.)
(****) هذه النصوص المختارة من كتاب موريس بلانشو: "الحيّز الأدبي" (غاليمار- 1955) ليست سوى شذرات لا تستطيع الترجمة إلا أن تخون مصادرها. لذلك اخترنا أن ينقطع الكلام أحياناً لكي تستمر القراءة (م.)


المصدر: مقاطع في الكتابة والغياب، موريس بلانشو، ترجمة بسام الحجار، مجلة الفكر العربي المعاصر، العدد 36، خريف 1985، صص 65-72




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق