الثلاثاء، 4 أغسطس 2015

كلمة مأدبة نوبل للشاعر سان جون بيرس: شعر

ترجمة: علي اللواتي


شعر

الكلمة التي ألقاها سان جون بيرس خلال مأدبة نوبل في 10 ديسمبر 1960



لقد قبلت، عن الشعر، التحية المرفوعة إليه هنا، وها أنذا أسارع بردها عليه.
ليست الحظوة، دائماً للشعر، ذلك أن التباعد مستمر، فيما يبدو، وبين العمل الشعري ونشاط مجتمع تستعبده الضرورات المادية. إنه انفصال يقبله الشاعر ولا يطلبه، وهو الوضع الذي يكون للعالم بدون التطبيقات العملية للعلم.
ولكن المقصود تكريمه هنا هو الفكر الخالص عند الشاعر والعالم. فعسى أن لا يعتبرا هنا على الأقل، كأخوين عدوّين. لأن التساؤل واحد، ذاك الذي يطرحانه فوق هاوية واحدة، ولا اختلاف بينها إلاّ في طرق البحث.
عندما نعي مدى مأساة العلم الحديث المكتشف لحدوده العقلانية حتى في مطلق الواقع الرياضي، عندما نرى في الفيزياء، مذهبين كبيرين يقرر أحدهما مبدأ نسبية عام، والآخر، مبدأ "كمياً" للشك واللاحتمية يحدّ إلى الأبد من دقة القياسات الفيزيائية، عندما نسمع أكبر مجدد علمي في هذا القرن، رائد الكونيات الحديثة وصاحب أشمل تصور تأليفي ذهني بلغة المعادلات، يدعو الحدس لنجدة العقل ويعلن أن «الخيال هو التربة الحقيقية لانبثاق نبتة العلم»، ذاهباً إلى حدّ المطالبة بأن يُعترف للعالم «برؤية فنية حقيقية»؛ أليس من الحق بعد ذلك كله أن تُعتبر الأداة الشعرية في مثل مشروعية الأداة المنطقية؟
والحقيقة أن كل إبداع للفكر هو أولاً "شعري" بالمعنى الأصلي للكلمة، وفي تعادل الأشكال الحسية والروحية، نجد أن لسعي العالم وعمل الشاعر في الأصل وظيفة واحدة. فأي من الفكر الإستدلالي واللمح الشعري أبعد مدى. وأي الأكمهين المتلمسين طريقهما في هذا الليل الأول، الحامل أدوات العلم أو ذاك الذي لا يهتدي بسوى ومضات الحدس، أيهما يعود من ذلك الليل قبل الآخر، محمّلاً بأكثر التماعات عابرة؟ إن الإجابة لا تهم. فالسر الغامض واحد ومغامرة الفكر الشعري لا تقل في شيء عن الإنفتاحات المأسوية للعلم الحديث. ولئن أذهلت نظرية امتداد الكون بعض الفلكيين، فإن لا نهائية ذات الإنسان –ذلك الكون- لا تقل امتداداً. فحيثما امتدت حدود العلم إلى أبعد مدى، وعلى طول قوس هذه الحدود سنسمع الحركة الدائبة لزمرة الشاعر خلف فريستها. لأن الشعر ليس «الواقع المطلق» كما قيل، بل هو أقرب رغبة فيه وأعمق إدراك له، إلى ذلك الحدّ الأقصى من الإتفاق حيث يبدو الواقع في القصيد مشكلاً لذاته.
إن الشاعر ليتقلد سلطة متجاوزة للواقع، لا يمكن أن تكون للعلم، وذلك بفضل الفكر التشابهي والرمزي، والإشراقة البعيدة للصورة الوسيطة ومن خلال توافقاتها اللاعبة على سلسلات لا تنتهي من التفاعلات والتداعيات الغريبة، وأخيراً بفضل أناقة لغة تحمل في انسيابها حركة الكينونة ذاتها. فهل توجد لدى الإنسان جدلية أعمق وقعاً من تلك، وأصدق تعبيراً عن الإنسان؟ وعندما يهجر الفلاسفة مجال الميتافيزيقا، يحدث أن يعوّض الشاعر، هناك، الفيلسوف. حينئذ يبدو جلياً أن الشعر، لا الفلسفة هو «الإبن الحقيقي للاندهاش» حسب عبارة الفيلسوف القديم، الذي كان أكثر الناس اشتباهاً في أمر الشعر.

ولكن الشعر أكثر من طريقة للمعرفة، إنه أولاً أسلوب حياة وحياة شاملة. لقد وُجد الشاعر في إنسان الكهوف، وسيوجد في إنسان العصور الذرية، لأنه بعض من الإنسان، لا يُطرح. فمن الضرورة الشعرية، وهي ضرورة روحية، وُلدت الأديان ذاتها، وبنعمة الشعر تحيا أبداً شرارة الألوهية في الصوان البشري. وعندما تنهار الميثولوجيات، تجد القداسة لها في الشعر ملاذاً، وربما قوة جديدة. وحتى في مجال الإجتماع الإنساني والمشاغل البشرية الأوّلية، عندما تخلي حاملات الخبز في الموكب القديم مكانها لحاملات المشاعل فمن اتقاد الخيال الشعري يشتعل دائماً حماس الشعوب المندفع بحثاً عن الوضوح.
الشعر فخر الإنسان السائر تحت عبئه من الأبديّة! فخر الإنسان السائر تحت عبئه من الإنسانية، عندما يبتدأ من أجله عهد فلسفة إنسانية جديدة، عهد كونية حقيقية واكتمال نفسي... والشعر الحديث ينخرط، وفاءً لوظيفته الخاصة بتعمق سرّ الإنسان، في مشروع ترمي سيرورته إلى تحقيق تكاملية الإنسان. فلا عرافة في هذا الشعر كما لا جمالية محض فيه. ولا هو فن المُحَنّط أو المنحرف، وليس تربية لآلئ اصطناعية، ولا يتجر بالأوثان أو الشعارات، ما كان ليكتفي بأي عيد موسيقي. إنه يتحالف، في سبله، مع الجمال، كأعلى ما يكون التحالف، دون أن يتخذ منه غايته أو يجعل منه فريسته الوحيدة. إن الشعر يرفض فصل الفن عن الحياة، والحب عن المعرفة، وهو فعل واندفاع، وقوة وتجديد، دأبه توسيع الحدود؛ إن الحب موقده، والتمرد شريعته، وموضعه في كل مكان، في الآتي. ولا يرضى أبداً أن يكون رفضاً أو غياباً.
ومع ذلك، فالشعر لا يأمل في شيء من فوائد العصر. ولأنه مرتبط بقدره الخاص، ومتحلل من كل انتماء مذهبي، فهو يرى في ذاته معادل الحياة نفسها التي لا ترى ضرورة في تبرير ذاتها. وإن الشعر ليعانق، في الحاضر، بضمة واحدة، كمقطع قصيد كبير، الماضي والمستقبل؛ يعانق، الإنساني وما فوق الإنساني، وكل الفضاء الكوكبي مع الفضاء الكوني. وليس الغموض المنكَر عليه من طبيعته الخاصة فتلك من شأنها الإيضاح، وإنما هو الليل الذي يكتشفه والذي من واجبه اكتشافهُ، ليل النفس ذاتها، وليل السر الغامض حيث يعوم الكائن البشري. ولقد رفضت عبارة الشعر الغموض دوماً، وهي لا تقل دقّة وجهداً عن عبارة العلم.
وهكذا نبقى مع الشاعر، بفضل التصاقه التام بما هو موجود، على صلة بديمومة الوجود ووحدته، فهو يؤمن بقانون تناغم شامل يحكم عالم الأشياء بأكمله، ولا شيء يحدث داخله يتجاوز بطبيعته حجم الإنسان. وما انقلابات التاريخ الأشد سوءً إلا إيقاعات فصلية داخل دورة أوسع، من التسلسلات والتغييرات. وإن جنّيات الجحيم الغاضبات، اللائي يعبرن المسرح بمشاعلهن العالية. لا يضئن سوى لحظة عابرة في انسياب موضوع الرواية الطويل. والحضارات التي تبلغ النضج لا تموت من أوجاع خريف واحد، وأقصى ما تفعله أن تتحول. فالجمود وحده هو المهدد بالخطر، والشاعر من يخرق، من أجلنا، ديدن الأشياء المعتادة.
وهكذا أيضاً، يجد الشاعر نفسه مرتبطاً رغم أنفه بالحدث التاريخي، ولا شيء غريب عليه من مأساة عصره. فليحدِّثْ الجميع، بكل جلاء، عن طعم العيش في هذا الزمان الشديد؛ لأن الأوان عظيم وجديد، ذاك الذي نستدرك فيه أنفسنا. ولمن عسانا نتنازل عن شرف العيش في عصرنا.
"لا ترهب" ذاك ما يقوله التاريخ، وهو يرفع يوماً قناعه العنيف راسماً بيده المرفوعة تلك الحركة المتسامحة للآلهة الآسيوية في ذروة رقصتها المحطمة –«لا ترهب، ولا تشك لأن في الشك عقماً وفي الخوف عبودية. والأحرى بك أن تنصت إلى هذا الخفق الموقّع الذي تمنحه يدي العالية المجدّدة، للعبارة الإنسانية الكبيرة الدائمة التكوّن. فليس صحيحاً أنه بوسع الحياة إنكار ذاتها ولا شيء حيّ يصدر عن عدم ولا بعدم يُشغف. ولكن لا شيء أيضاً، يحافظ على شكل واتزان تحت دفق الوجود اللاّمنقطع. ليست المأساة في التحوّل ذاته بل مأساة العصر الحقيقية في التباعد الدائب الإتساع بين الإنسان الوجودي والإنسان المطلق. فهل أن الإنسان المستنير على هذا المنحدر، ستغلّفه العتمة على المنحدر الآخر؟ وهل نضجُه، قسراً، داخل مجتمع لا تواصل فيه، إلاّ نضجاً زائفاً؟...»

فعلى الشاعر الموحّد الوجدان أن يشهد بيننا على ازدواجية قدر الإنسان. وإن في ذلك لمرآة أصفى أديماً تُرفع أمام الذات لاختيار حظوظها الروحية، ودعوةً في خضم هذا العصر ذاته، إلى وضع إنساني أجدر بالإنسان الأصلي. وإن في ذلك، أخيراً، لإشراكاً أكثر جرأة للروح الجماعية في دورة الطاقة الروحية في العالم... فهل يكفي، في مواجهة الطاقة الذريّة، مصباح الشاعر الطيني للإيفاء بقصده؟ -نعم، إنه لكاف إذا ما تذكر الإنسان الطين. وحسب الشاعر أن يكون ضمير عصره المبكّت.


المصدر: سان جون بيرس، آناباز منفي وقصائد أخرى، ترجمة وتقديم على اللواتي، الدار العربية للكتاب، الطبعة الأولى، 1985، صص 129-132

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق