الاثنين، 11 مايو 2015

مرآوية مالارميه؛ ما الذي يعنيه فعل كتَبَ: فليب سولليرز


ترجمة:  محمد العرابي



»يمكنه أن يمضي قدُما لأنه يسير في السرّ«
إيجيتور

القطيعة
A.Renoire: Portrait of Stephane Mallarme
مرآوية مالارميه لو ساءلنا تاريخ الأدب على مدى مائة عام تقريباً، فإن ما يصدمنا أولاً، هو التعقيد واللبس المميزين لتجربة بعينها، تمتاز فضلاً عن حقيقة كونها تشكل فضاء أدبياً جديداً، وخبرة مكتسبة، وتواصلاً يعرف تحولات عميقة، فهي أيضاً تفكيرٌ يأخذ مكانته داخل مجموعة من النصوص، يدفعها إلى انفتاح لا نهاية له انطلاقاً منها ذاتها.
فكيف نحدد هذه الوضعية؟ وهل يقتضي ذلك إيجاد "بلاغة جديدة"؟ أم هل يقتضي الأمر- إذا كانت البلاغة تحمل رواسب ثقافية تمتد إلى ألفي سنة تعود إلى العالم الإغريقي اللاتيني-من كلام مشترك، قانوني وإقطاعي- ظهور شيء مختلف في جذريته، شيء يكون مرتبطاً بتأمل تزداد إلحاحيته مع توالي الأيام منصب حول الكتابة يقترح فيلسوف كـ جاك دريدا، في نص حديث وعمدة، تسميته بعلم النحو (grammatologie
وفي كل الأحوال فالغالب أن النشوء الواعي لمفهوم الأدب [الذي يمكن موقعته تحديداً في النصف الثاني من القرن19 بدورانه في فلك الحركة الرومنسية، وحول أسماء كـ فلوبير، بُّو، بودلير] لا يزال بالنسبة لنا في جزء كبير منه غير مفهوم.
في كوكبة من الأسماء تضم لوتريامون، رامبو، رايمون روسل، بروست، جويس، كافكا، السوريالية وما تولد عنها أو في علاقة معها، يحتل مالارميه، في رأينا، مكانة محورية ويحتفظ في آن بمسافة متساوية تبعده عن كلّ الآخرين. هذه الكوكبة لا يعوزها الانسجام كما يسود الاعتقاد للوهلة الأولى: إنها تمتدّ على خلفية فلسفية وجمالية مقوّضة من لدن كل من ماركس، كيركيغور، نيتشه، وفرويد [ولاحقاً من طرف اللسانيات]، ومن لدن ماني، سيزان، فاغنر، دوبوسيه -خلفية تحيل هي ذاتها على تحول علمي، اقتصادي، وتقني لا سابق له. نقول بأن مالارميه يحتل داخل هذه الحركة موقعاً مضيئاً، لأننا نعتقد بأن تجربته تعدّ الأكثر وضوحاً وتميزاً من بين التجارب الأخرى التي تناولت اللغة والأدب، وطرحهما المتبادل للنقاش والنتائج المترتبة عن ذلك.
وسنحاول هنا أن نقارب القصدية المترتبة عن هذا النقاش: القصدية التي تعطي فعل كتبَ بحسب صيغة رولان بارث، وظيفته غير المتعدية، والكشف من خلال القراءة عن معنى في غاية الحَرفية، وأن نحدد على وجه الإجمال، من خلال سلسلة من الإشارات التطبيقية والنظرية، أسطورة متماسكة تعدّ مرآة لواقعنا في مجموعه.
إن تجربة مالارميه المتماثلة والمختلفة في آن عن تجربة دانتي [«الهدم كان رديفاً لبياتريسيا محبوبتي» كما كتب في إحدى رسائله]، يمكن اختصاراً تحديدها كفعل منتج ونقدي يدور في فلك رمزية الكتاب [حول نهاية الكتاب وغيابه] والكتابة: هذه النزعة الرمزية التي طالما أُهملت، يبدو أنها تنبثق معه بشكل مختلف وجديد. وهذا لا يعني أن صفة "رمزي" التي أعطيت عموماً لفئة من الشعراء الفرنسيين الصغار تنطبق عليه أقلّ مما تنطبق على أي شاعر في العالم، وإن أصبحت صفة "رمزي" صفة قدحية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالأدب، بمعناه الضيق، وتحيل لاحقاً على مفهوم بالٍ، منغلق، مثالي، وأدبي بأسوأ معاني الكلمة، وتجلياً لنزعة الانحطاط الجمالي، باختصار، فهي ما ينبري كثيرون بدافع سوء نية مقصود ليجدوه عند مالارميه، باجتزاء مقاطع من أشعاره تكون فيها عيوبه ظاهرة للعيان. من البديهي أن هذه الوضعية لا تستقيم بغير سوء النية، أي سوء نية يشترك فيها عن قصد، إذا أمكننا القول، كل الذين يريدون بشكل موضوعي اختزال مالارميه في وضعية شعرية، بأن يجعلوا منه شاعراً، متصنعاً بدون شك ولكنه شاعر. وفي رأينا فـ مالارميه يصعب اختزاله في نمط من الثقافة لا يزال سائداً في مجتمعنا، يؤمن بجدوى التصنيفات المتآكلة. على العكس فهو يعتبر بالنسبة لنا أحد التجريبيين لـ «هذه الحركة الأدبية الجموحة التي لا تعاني من التمايز بين الأجناس و تريد كسر الحدود» [بلانشو]، حركة يتوجب علينا فهم مدلولها وغايتها، وسائلها وأهدافها الغامضة، إنها الشرخ والامتلاء اللذان يخاطباننا شرط أن نتخلى عن تحنيطهما في فكر هو الآن منسوخ و منبوذ.
و فيما يرى فيه البعض" إخفاقاً"، نهاية، جانباً مستنفذاً، نادراً و آفلا نحسّ نحن على العكس بداية متجددة، نداء، شيئاً صلباً، المجهول و الخطر نفسه.
إن "مسألة مالارميه" تشير اليوم إلى ماض و مستقبل، أو بالأحرى إلى هذه اللحظة من الزمن حيث لا يتميز الماضي من المستقبل، حيث يسهل بلوغ الماضي من كل النواحي ويبدو المستقبل مرتداً نحونا؛ هذه النقطة وهذا المنعطف التاريخي الذي يوحي بنهاية التاريخ؛ بداية العودة هذه، تنتظر منا فقط فكَّ رموز آثارها غير المتوقعة، وإنْعاشها العضوي، وإعادة تجميع وتوزيع عناصرها الأخيرة والجوهرية: بما يوحي بلمس الجوهر وإدراك الحدّ، مما يضعنا لاحقاً أمام غياب للزمن، وأمام فضاء متمنع على القبض، وكلية لا نهاية لها وإن كانت منتهية، ومنطق آخر، ووظيفة أخرى للضمير الذي لا يزال ربما فارغاً والذي استعملناه للتو: نحن.

بشكل لا يخلو من الدلالة قدَّم مالارميه نفسه أولا باعتباره المكمِّل صراحة لمسيرة بُّو وبودلير، عندما خصَّ الأخيرَ برسالة كلاسيكية في مظهرها ولكنها تحمل مع ذلك روحاً ثورية. بعد ذلك كل شيء سيتغير. كان ذلك إبان الأزمة التي أصبحت اليوم معروفة بين سنوات 1866 و1870، حيث سيوجه نقداً لاذعاً لقصائده البودليرية الأولى وسيعلن عن إحدى المسلمات الأساسية لفكره: الحيادية الحتمية للمؤلف. فأثناء كتابته لقصيدة "إيرودياد" و"تجويفه للبيت الشعري" واجه، كما قال، العدمَ والموت. حدث يفوق التصور في غرابته، لأن هذا العدم وهذا الموت [هذه اللامعقولية، وهذا الجنون] يمثلان البؤرة لأكثر كتاباته صعوبة: إيجيتور. فإيجيتور التي تعني إذن في اللاتينية، تبدو وكأنها تحل محل إذن أخرى، تلك الحاضرة في كوجيتو ديكارت. ديكارت الذي يشكل مع شكسبير، المرجعية الدائمة لـ مالارميه. مع مالارميه فالكوجيتو «أنا أفكر إذن أنا موجود» يصبح إذا أردنا الدقة: «أنا أكتب، إذن أنا أفكر في السؤال: من أكون؟» أو أيضا: «من تكون هذه الـ إذَن في الجملة: "أنا أفكر إذن أنا موجود"؟». هذه الـإذن، هذا الاسم، هذا الإيجيتور سيغدو بالنسبة إليه، كما سنرى، اللغة وقد وصلت إلى أحد أدوارها الختامية، إلى خلاصتها؛ مكان النفي والغياب ولكن أيضاًَ الوعي بالذات داخل الموت حيث يتم "إعفاءنا من الحركة"، مكان اللاشخصي المتفوق على "العِرق" [أي على التاريخ والنسب البيولوجي للفرد]- وهي تجربة لا تخلو مع ذلك من خطر ماحق وغير منتظر [يتحدث مالارميه عن «أعراض تسبب قلقا بالغا يؤدي إليها فعل الكتابة وحده»]. من خلالها ستتبلور لاحقاً نظرية وممارسة غير منفصمتين عن الكلية الأدبية، وهي كلية ستكون الكلية الوحيدة الممكنة للمعنى: «هذا الموضوع حيث كل شيء يتعلق بكل شيء، أي الفن الأدبي»، «أجل، نؤكد وجود الأدب، وإذا شئنا فهو الوجود الوحيد الممكن، إذا استثنينا الكل». «الكل، في العالم، موجود لكي يفضي إلى الكتاب». فكيف ينبغي لنا أن نفهم هذه الـ كل [والاستثناء الذي تتطلبه]؟
الحقيقة هي أن الأدب الذي اكتشفه مالارميه، أكبر بكثير من الأدب [سيذهب إلى حد الكلام عن علم اللاهوت]، أو بعبارة أخرى: كل شيء يجري كما لو أن الأزمة العنيفة التي يتستر تحتها الأدب ويبرز في آن، يختفي ويتحدد، تطرح السؤال ذاته، غير المحدد، للمعنى. ولقد وجد كلوديل سطحياً في مالارميه أول كاتب وقف أمام الخارج كما لو أنه أمام نص [وليس أمام مشهد] وساءل نفسه بوعي: «ماذا يريد هذا قوله؟» غير أن السؤال لا يكمن هنا: هذا لا "يريد أن يقول"، هذا ينكتب.
انزلاق من هذا القبيل يعَدُّ حاسماً من منطلق أنه يضع موضع تساؤل، ليس فقط النسق المألوف للأدب، والبلاغة التي تعرضت من قبل للخلخلة من طرف الرومنسية [وكل أنماط التلفظ التابعة للبلاغة بدءً بالحكي وحتى الفصاحة]، بل أيضا الفكرَ ذاته [ما دام أن «فعل فكَّرَ يعني كتَب من دون أقلام ومستلزمات»] وبالتزامن معه الاقتصادَ الخاص بهذا الفكر في العالم، واقتصادَ العالم مع الفكر وبالنتيجة، وفي الآن نفسه، التنظيمَ الاجتماعي. بعبارة أخرى: يفترض مالارميه من خلال الكتابة مبدأ للتأويل خاص وكوني -إعطاء معنى- ولكي تبرز كتابته هذا التطابق بين الإنتاج والتأويل، ستكون مرغمة على الخضوع لتحول سيضعها ظاهرياً في موضع قطيعة صريحة مع المرحلة التي سبقته. ويمكن اختصار هذه المرحلة في اسم واحد: فيكتور هوغو. لقد قام هوغو "بتشذيب" كل النثر (فلسفة؛ فصاحة؛ تاريخ) ليغدو نوعا من النظم (vers) ، و«إذ أصبح النثر هو النظم بالذات، فقد صادر بشكل شبه كامل، لدى كل من يفكر، ويلفظ خطاباً، أو يسرد الحق في أن يكون له خطابه الخاص». ولقد لفت هوغو الانتباه إلى أن النظم [الذي أطلق عليه مالارميه فضلاً عن ذلك السطر الكامل، العلامة العامة، والكلمة الكلية- وإذن الجملة النموذجية] باعتباره ظاهرة غير واعية هو بمثابة عرَضٍ للحدث: أدب. «إن الشكل المسمى نظماً هو ببساطة الأدب في حد ذاته؛ ويكون نظم في كل جهد تشتد فيه حدة النطق، أكان ذلك إيقاعياً أم أسلوبياً». بعد هوغو، سيتقهقر النظم: «كل اللغة المسبوكة على نموذج العروض، إذ تخفي تقطيعاتها الحيوية، تنفلت، من خلال تفكك حر، إلى آلاف العناصر البسيطة؛ انفكاك سأحدده ليس دون أن أشبهها بتعددية الأصوات الناظمة للسيمفونية، ولكن مع بقائها لفظية». وإجمالاً فلقد جمع هوغو في البيت الشعري، كلية الأشكال الأدبية تحت علامة فرد واحد، وقام بالقضاء على الأرثدوكسية وعلى طائفية الدلالة، ولاحقاً، مع الانقطاع الذي لحق النظم، أصبح من المفروض على كل واحد أن يتخذ مسلكاً لنفسه ويطور نفسه داخل لغته الخاصة: «يمكن لأي كان اعتماداً على لعبه وأذنه الموسيقية الفردية أن يصنع لنفسه آلة بمجرد أن ينفخ فيها، أو يحكها أو يضرب عليها بدراية؛ يستعملها لحسابه ويهديها أيضا إلى اللغة». «كل فرد يسهم بإيجاد عروض جديد، فيه شيء من نَفَسه». «لقد برز متأخراً، في رأيي، شرط حقيقي لا تقتصر الإمكانية فيه على التعبير عن الذات فقط، بل تتعدى ذلك بحيث تتغيَّر وتتعدَّل بحسب رغبتها«.
ثورة كبيرة، إذن، تضع فضلاً عن ذلك كل واحد أمام مسؤوليته الخاصة في سبيل ممارسة يكون عليها أن "تعيد خلق الكل" ليس مجازياً [علم الأدب يحجب الأدب، والبلاغة تحجب الكتابة] ولكن حَرفياً:
»هل ندرك حقا ما الذي يعنيه فعل كَتَب؟ إنه ممارسة قديمة وشديدة اللبس، ولكنه في الآن نفسه ممارسة محكمة وبالغة العناية، يرقد خلالها المعنى في خفايا القلب. إن الذي ينجز هذا الفعل، مقصي، بالكامل. واعتباراً لعدم وجود شيء، وتحديداً وجود شيء يكون انعكاساً لألوهية مبدَّدة، فسيكون لهذه اللعبة الخرقاء للكتابة بأن تدعي بمقتضى شكٍّ -نقطة الحبر المشبهة بالليل المطلق- بعض ما يجب عليها من إعادة خلق للكل، من خلال تذكرات مبهمة، حتى نثبت بأننا موجودون هنا فعلاً حيث علينا أن نكون [لأن وضعنا يبقى مع ذلك، إذا سمحتم لي ببلورة هذا الإدراك، عبارة عن عدم يقين]. ينبغي استدعاء صور كبريائنا واحدة فواحدة، وكل واحدة على حدى في تجلياتها القديمة وننظر. بكلام آخر إذا لم تكن الكتابة على هذا النحو، أي جمعاً لكميات مضافة إلى العالم بإمكانها أن تجعل وسواسه يضاهي مسلمات باذخة ومرموزة، باعتبارها تشكل قانونه، فوق الصفحة الشاحبة ذات الجرأة الكبيرة- فاعتقد، حقيقة، بأنها ستكون كتابة مضللة، بل وأقرب إلى الانتحار.
تضليل، انتحار: نرى أن الالتزام الأدبي، بالنسبة لـ مالارميه، ينطوي على خطورة بالغة. إننا ننسب إليه القول: «أعتقد أن العالم سيجد خلاصه في أدب راقٍ»، وإذا صدقت هذه النسبة فإن هذا القول ليس فيه ذرة من مزاح. أما بخصوص الانتحار فهناك امتناع عنه [«متوَّجاً يهرب الانتحار...»] بالضبط نتيجة التضليل المتجلي فيه: فالانتحار الحقيقي لن يكون إلا أدبياً. إنه يتطلب التضحية بذلك الذي يكتب، تضحية فريدة من نوعها «بالقياس إلى الشخصية». وبالفعل فليس هناك من ذات في حد ذاتها [فلا يمكننا إذن حذفها بقتل بعضنا البعض] ما دام أن الذات هي نتيجة لغتها. ينبغي إذن الدفع بهذه اللغة إلى حدودها القصوى لإدراك ما هو مطلوب، ومن هو الشخص موضع السؤال فينا. وستكون هذه مغامرة تستهدف المعوقات، بما في ذلك المساحة التي يشملها اللاشعور الذي سنكتشف لاحقاً بأنه يشكل ما يشبه الأرضية التي نقف عليها.


العلم
في مقام أول نصطدم بالتعددية في اللغات:
»خاصية اللغات غير المكتملة كامنة في أن عدداً منها، يفتقر للغة [الشعرية] الخالصة: فأن تفكر معناه أن تكتب بدون عُدَّة، بدون تشويش، لكن مع تعدد اللهجات، فوق الأرض، وإن كانت تتضمن طاقات شعرية من الكلام غير الفاني الذي يظهر من التلفظ الشعري للكلمات، ليؤكد أن أياً من هذه اللغات لا يمثل اللغة الشعرية الخالصة، في المقابل لو أن هذه اللغات وجدت هذه اللغة، فستكون هي نفسها التجسيد المادي للحقيقة[للفكر الخالص]...- فقط علينا أن نعرف أن لا حاجة لوجود للبيت الشعري مع وجود هذه اللغة الشعرية الخالصة: فهذا فلسفياً يصحح نقص اللغات، إنه تكملة سامية«
يمكننا إذن ترجمة كلام مالارميه بالقول إذا كان البيت الشعري هو "الأدب"، فإن "الأدب" فلسفياً هو الذي يصحح نقص اللغات. [وليست الفلسفة هي التي يمكن أن تحققه أدبياً]. أي أنه «المعنى الأنقى الذي أُعطِيَ لكلمات القبيلة»، بالمعنى الذي تقوم فيه هذه الكلمات بتصحيح إحداها للأخرى من خلال الموت-من خلال الخاصية السلبية- وتنطق من تلقاء ذاتها وتحملنا لاستشراف لغة واحدة ووحيدة. بيد أن هذا المسار ينفتح في الآن نفسه على العلم.
إن مالارميه يفصح هنا تحديداً، عن العلم الذي يمكن أن يتخذه الأدب، والذي لا تكون صورته كعِلم، شيئا آخر غير اللسانيات التي يجذِّر نوع من "العودة" إلى العصر الوسيط مصيرها التاريخي.
»يبقى العصر الوسيط، إلى الأبد بمثابة الحاضن، كما البداية للعالَم، الحديث». بالنسبة لـ مالارميه، فالأدب والعلم يوجدان من الآن فصاعداً في وضع تواصلي ضيق [على الثاني أن يمر الآن في الأول بغرض إعادة اكتشاف أصلي]. وفقه اللغة ["علم البارحة"] يتوفر في ذاته على ملاحظ متأن:
»إذا كانت الحياة تتغذى من ماضيها الخاص، أو من موت مستمر في الحاضر، فإن العلم سيجد ثانية هذا الأمر في اللغة: الأخيرة بتمييزها الإنسان عن بقية الأشياء، ستعود إلى تقليد الأشياء من جديد لأنها في الجوهر مفتعلة أكثر منها طبيعية، ومفكِّرة أكثر منها محتومة، وإرادية أكثر منها عمياء». [لنلاحظ بشكل عام الدقة المتناهية في التمييز بين الطبيعة والثقافة، بين الوعي واللاوعي، أو بالأحرى الإفصاح بأن هذا التمييز لا يشكل سوى لحظة تاريخية ستحُل خلالها جدلية اللغة التعارضات].
»بعثور العلم داخل اللغة المنشودة على تأكيد لذاته، فعليه أن يغدو الآن تأكيدا للغة«.
» العلم إذن ليس شيئا آخر غير النحو، التاريخي والمقارن، في مسعاه ليصبح عاما، وليس شيئا آخر غير البلاغة.»
النحو بالأحرى كما يراه مالارميه هو بمثابة «فلسفة مضمرة وخاصة، وهيكل للغة في نفس الآن»، من جانب آخر فهو يحرص على تمييز الكلام عن الكتابة، والقيمة اللفظية عن القيمة الهيروغليفية، ويسند فكره على تمظهر تتمتع فيه الكتابة باستقلال ذاتي، الكتابة التي بتأسيسها للفصاحة، وللرقص، وللموسيقى، تفضي بنا إلى الأساسي في مساهمته: الأفكار الكبيرة حول الكتاب، وحول المسرح. ومن هنا تأتي ضرورة التمييز بين وضعيتين للكلام: الأولى طبيعية وفورية [مرتبطة بدورة العملة النقدية «فعل الكلام ليس له من عبور إلى واقع الأشياء إلا تجارياً»، وتضم أيضا الروبورتاج الكوني، والصحافة، ومنظومة التفرُّع المعلوماتي لتلك المرحلة؛ بينما اعتبرت الثانية جوهرية- وهذا هو مجال الأدب باعتباره كتابة مولدة مستعادة مع الكتابة الآلية، واللاواعية، من عبارة مبتذلة ومثيرة للاهتمام. وهذا التمييز يقود مالارميه إلى غاية هذه الجملة المثيرة، حيث يمكننا أن نتعرف على أنفسنا بشكل تام: «كل شيء يتلخص في علم الجمال والاقتصاد السياسي». الإستطيقا هي عبارة عن ظاهرة تتكون من اقتصاد اللغة، والفكر نفسه ليس قابلاً للفهم بغير عبارات الاقتصاد [إنه "العقلية الاستهلاكية".] والاقتصاد السياسي يمكن إضاءته إذن انطلاقاً من اللغة، وسنرى بأن تفكير مالارميه المنصب على مفاهيم المسرح والاحتفال، والخيال يعد في هذا المجال من أكثر التأملات صرامة ودقة، برفضه للفقر المميز لنمط معين من الاقتصاد العاجز عن تنظيم لعبه، وحصته المستهلكة.
الآن وقبل أن نصل إلى الكتاب والمسرح، علينا أن نباشر نقداً للأدب، وخصوصاً مسعاه لأن يصبح أدباً واقعياً، وتعبيرياً. الخطأ الجمالي الأساسي -الخطأ الإقتصادي ـ السياسي- يكمن في الاعتقاد بأن اللغة أداة تمثيلية بسيطة. في مقابل التعبير الساذج الذي يتصور مثلاً، ترسيخ الغابة كغابة بمجرد وصفها، يضع مالارميه الإيحاء أي الكتابة التي تقف جنباً إلى جنب مع العالم، بالمعنى الذي يجعل من العالم كتابة، كتابة يمكن لها، وحدها، بأن تظهر العالم وتواصله:
»لقد وُجدت الطبيعة ونحن لا نضيف إليها شيئاً: نحولها فقط إلى مدن، وسكك حديد، وجملة من الاختراعات التي تؤثث فضاءنا المادي. وكل ما يمكننا أن نفعله دوما هو فقط القبض على العلاقات، بين زمن وآخر، أكانت هذه العلاقات نزْرة أم جَمّة؛ تبعاً لبعض الأوضاع الداخلية التي نريد أن نوسع العالم أو نختصره حسب رغبتنا.
بقدر فعل الخلق (créer): يكون المبدأ المتعلق بموضوع، منفلتاً، ينحدر إلى العدم.
يكفي أن ننشغل بأمر مشابه، ونقارن المظاهر وأعدادها كما تمس إقصاءنا: لنوقظ من خلالها، لغرض الزخرفة، الغموضَ في بعض الصور الجميلة، في نقط التقاطع. إن كلية المنمنمات التي تربط بينها، تتوفر على بعض القفزات المدوخة التي تحدث في حالة من الرعب غير المألوف، كما تتوفر على توافقات مقلقة. بانزياح كهذا تثير انتباهنا، بدل أن تقلقنا، أو أن تحقق تماثلها مع ذاتها، يعمل على حذفها بواسطة الانصهار. التشفير النغمي يقتل، جراء هذه الأسباب التي تكوِّن منطقاً من أليافنا «.
بالنسبة لـ مالارميه، الذي يبدو أنه أول من يدخل في هذه الكتابة المشعة لنص الظواهر، فإن منظراً طبيعياً، مثلاً، يصبح بمثابة "صفحة ريفية" حيث، وإن انحصرت الكتابة في مجموعة من العلامات المختزلة في رموز ذهنية، «لاشيء –كما يقول- يمكن أن ينتهك صور الوادي، والمرعى، والشجرة». والنص الكامل سيقدم نفسه إذاً كفضاء من الدرجة الثانية أو كانعكاس مرآوي بين إديو-نحوية وكتابة صواتية. وبافتراض أن اللغة تضطلع بوظيفة غاية في السلبية –أي أنها وضعت لا لكي تسمي شيئاً بعينه، ولكن لتشير إلى غياب ما نسميه- فإن إخراجها مسرحياً يؤدي في آن إلى انفتاح، وإلى إمكانية منشَّطة، وإلى تأكيد متناقض لما هو ملموس عن طريق الاستحضار [نـمـر بهذا من بعد ثنائي – شيء يحل محل شيء آخر، شيء يمثل شيئاً آخر، العلامة مكونة من دال ومدلول- إلى كثافة في المعنى، وإلى نظام ثلاثي يثوِّر مجموع العلامات]:

»على عكس الوظيفة البسيطة والتمثيلية للعملية النقدية، كما ينظر إليها أولاً العامة، فإن القول، قبل كل شيء، حلماً وأغنية، يستعيد لدى الشاعر فعاليته، بضرورة تكوينية فن خاص بالأعمال الفنية.
إن البيت الشعري الذي، من خلال مجموعة من الوحدات الصوتية، يعيد صياغة كلمة كلية، جديدة، وغير مألوفة في اللغة وتشبه التعزيمة، ينهي هذه العزلة التي يوجد عليها الكلام: وذلك بنفيه، بواسطة سمة مهيمنة، الصدفة المتبقية في الكلمات، رغم المحاولة المصطنعة لصبِّها بشكل متناوب في المعنى وفي الصوت، مما يحدث فيك هذه المفاجأة كونك لم تسمع مطلقا بمقطع من محادثة عادية كهذه، في وقت يسبح فيه الموضوع المنطوق المنبعث من جديد في أجواء جديدة«.
في اقتصاد من هذا القبيل، يصبح الصمت حينئذ عنصراً من اللغة من بين عناصر أخرى، مادام أنه يكون علينا في كل الأحوال«إقصاء ما لا ينقال الذي يكذب». هنا أيضاً يأتي الخطأ مما نعتقده غريزياً في ما لا ينقال، وما لا يُعبَّر عنه- وبحسب هذا الاعتقاد بالضبط، نحن مقتنعون بأنه علينا أن نعبر عن أنفسنا. إن الصمت في الكتابة، هو حتماً البياض، أي أنه «مسافة محررة ذهنيا»، المقابل الداخلي والعقلي للموسيقى التي هي ذاتها «مجموعة من علاقات موجودة في الكل«
»بحيث أن امتداداً متوسطاً لكلمات، تقع في إطار الإدراك البصري، تصطف بخطوط نهائية، ولا يمكن لذلك أن يتم بغير الصمت«.
يفصح مالارميه عن تقنية خاصة تجد "ضمانتها" في التركيب، وهي تقنية ترمي إلى قطع تيار تقلص المعنى حيث نحن مغمورون. ينبغي علينا دوماً التدخل في هذا اللعب، ولعبه كاملاً حتى لا يتلاعب بنا. لأجل ذلك ينأى الناسخ بنفسه عن ثرثرة المتكلم من خلال عملية قلب تقوم على الإحجام عن التعبير والبوح، أي بإصراره على جعل خطابه خطاباً موضوعياً، وبكلمات حرفية، خطاباً غير مجزأ، بسلوكه طقوسية معينة [نخرج هنا من سطوة الحقيقة]:
»الغبي يثرثر لكي لا يقول شيئاً، ويخطئ أيضاً في الحذف متبعاً الذوق السائد من أجل اللغو وبالتحديد من أجل ألاّ يعبر عن أي شيء، وهذا يمثل حالة خاصة وقد تكون حالتي أنا أيضاً«
من أجل فضح الثنائية صواب- خطأ، التي تقود الاقتصاد التعبيري سيكون علينا بالتالي أن نصل إلى هذه النقطة التي لا أعود فيها أنا الأهم بل لغتي:
» لمواجهة الصمت غير الجزئي، من أجل أن يحاول العقل الإيواء إلى وطنه أنا أطالب بإعادة بناء، كل-اصطدامات، انزلاقات، المسارات غير المحدودة والواثقة، حالة ما تكون غنية وتغدو مراوغة، عدم قدرة يحلو إنهاؤها، هذا الاختزال، وهذه السمة- الجهاز؛ أكثر مما أطالب بضجيج الصوتيات، التي ماتزال قابلة لأن تضخ، في الحلم«
وسندخل حينها في وعي الكتابة، في هذه «العدوى المتبادلة بين العمل الأدبي وبين الوسائل» حيث تكون الكتابة ذاتها هي التي تتكلم:
»كَتَب-
المحبرة، بلورة كوعي، مع قطرتها، في عمق الظلمات نسبية إلى أن يخرج شيء إلى الوجود: ويبعد تالياً، القنديل.
ولقد لاحظتَ بأننا لا نكتب ضوئياً فوق أرضية غامقة، أبجدية النجوم، وحدها وبذلك فهي تعلن عن نفسها إما منحرفة أو منقطعة؛ الإنسان يواصل كتابة أسود فوق أبيض.
هذه الثنية ذات التخريم الغامق، الذي يحتجز اللانهائي، المنسوجة من ألف طبقة، كل طبقة تنسج بحسب الخيط أو الامتداد الذي نجهل سره،- تجمع الخيوط المتشابكة المتباعدة، حيث يرقد بذخ في حاجة لإحصاء، ويرقد غول، وعقدة، وأوراق شجر وعملية عرْض.
مع اللاشيء من السرِّ، الضروري، الذي يبقى معبَّراً عنه قليلاً»
نجد هنا ما يسميه مالارميه بالفعل المقلَّص. الذي يعتبر في رأيه فعلاً بأساس حقيقي، وكل ما عدا هذا الفعل يصطدم بغياب فعلي للحضور [الحضور هو وهم ذلك الذي يحيى في حقل الحقيقة]، وهو غياب يجعل الانتحار ورفض الوجود مستحيلين بالمعنى الذي يجعلنا غير قادرين مطلقاً على الادعاء بأننا معاصرين لأنفسنا. وهو على العكس فعل موجه إلى المستقبل، قصدياً وبوعي من خلال عملية جذرية.


الاقتصاد
مع ذلك، فقد أصبح هذا الاختفاء الحتمي للكاتب في الكتابة التي أنتجها هو سلفاً، أمراً واقعاً لإبراز قراءة لن تكون كيفما اتفق. ففعل القراءة بالنسبة لـ مالارميه هو عبارة عن ممارسة، أي ممارسة يائسة على القارئ قبل كل شيء عوض الانسياق وراء تمثيلات، أن يدخل مباشرة إلى لغة النص [وليس إلى صوره أو إلى "شخصياته"]، عليه أن يعرف بأن ما يقرأه هو ذاته. فالعامة يتحكم فيها اللاوعي- وهذا ما يفسر أنها تقع، بمعنى ما، في دائرة السمعي والموسيقي. ولكن الفرد الذي يقرأ، وإن كان من العامة [وهو الأمر الذي لا يعود ممكناً إلا بها] يتحاور على العكس منها مع لغته الخاصة، التي يعثر عليها من جديد فيما يقرأه. «أسطورة، الأبدي: الوحدة الروحية من خلال الكتاب. لكل واحد نصيب كلي»، «منعزل مضمر متناغم يهب نفسه من خلال القراءة، للروح». وإجمالاً فالكتاب هو مسرح حركة مزدوجة: الأولى تلغي الكاتب [غالباً ما يقارن مالارميه الكتاب بالقبر] الذي يهجر الكلام من أجل الكتابة ويهيئ نفسه بذلك لتحول الزمن إلى فضاء:
»الأثر الأدبي الخالص يؤدي إلى الاختفاء الشفهي للشاعر، الذي يترك المبادرة للكلمات من خلال التصادم بين حدودها المتفاوتة المستنفرة«
الثانية: إعداد القارئ الذي بإمكانه بناء على ذلك تأكيد النصر المحقق على الصدفة والصمت:
»وحين ينتظم الأقل، تبعثراً، داخل شرخ، تكون الصدفة قد تقهقرت كلمة بعد كلمة، وتكون عودة البياض أبدية، البياض الذي كان مجانياً قبل برهة يصبح مؤكداً الآن، ليخلص إلى أن لاشيء موجود في الماوراء، ويؤصل الصمت«.
وإذاً هذا التأكيد وهذا التعرف للقارئ اعتماداً على ذاته، يصطدمان ليس فقط مع التكيف الذي يخضع له القارئ اجتماعياً، أي التكيف الذي بموجبه «يتم اختزال كل من الأفق والمشهد إلى نَفثة متوسطة من الابتذال» تبعاً لعادات الاستهلاك الجارية، ولكنهما يصطدمان أيضاً مع اللاشعور الذي يبرز النص، عن طريق تحويل قسري، في حلة ملتبسة وغير مقروءة- النص العائد ثانية من خلال الكتابة إلى اللاشعور. والقارئ عوض أن يعيش لبسه الخاص في علاقته بذاته يتهم النص بالغموض، دون أن يعي بأنه لا يفعل شيئاً كعادته دائماً غير الحديث عن ذاته وعن المعايير المتحكمة فيه. يكتب ملارميه: «ينبغي أن يكون هناك شيء من الغموض في قرارة الجميع، أومن إيماناً قاطعاً بأنه شيء يصعب فهمه، وأنه دال مغلق وخفي يسكن المشترك: على اعتبار أنه بمجرد قذف هذه الكتلة في اتجاه بعض الآثار، ولتكن واقعاً موجوداً مثلاً فوق صفحة من الورق، وفي رسالة بعينها–ليس في ذاتها- متسمة بالغموض: فان هذه الكتلة ستضطرب محدثة إعصاراً لن يتوانى عن بسط الظلمة فوق أي شيء بشكل كاسح وغاية في الفظاعة». «رداً على ما أتعرض له من هجوم ، يضيف مالارميه، أفضل أن أقلب الآية وأقول بأن المعاصرين لا يعرفون كيفية القراءة». هذه الملاحظات يمكن أن تكون فاتحة عهد جديد إذا أخذنا بعين الاعتبار التحليل النفسي وخصوصاً الفكرة الحديثة القائلة بأن اللاشعور مبنين بالضبط مثل لغة. هذا الدال المغلق والخفي الذي يتهيأ لـ مالارميه أنه موجود في كل واحد، تم تأكيده علمياً منذ تلك الفترة إذا أمكننا القول. إلى حدّ أن مسألة معرفة- القراءة التي ظن الجميع أنهم وجدوا لها حلاً، لا تزال مطروحة بحدة.
إن كتابة مالارميه، من خلال فضائها المختزل والمتعدد، وانقباضاتها، وعلاقاتها المضمرة، وتقاطعاتها الداخلية والخارجية، تصدمنا بهذه المسألة التي لا نتوفر على العموم على ما نواجهه بها سوى إجابات جاهزة: كون لغتنا عموماً هذه موروثة ومكتملة يجعلنا لا نفطن إلى أن فَكَّر يعني كَتَب وبأن قرأ يعني قراءة ما نحن عليه- وإذ يفلت منا سر اللغة، فإننا نتحامل قصداً على الأدب عموماً عندما نعجز عن القبض على اللاشخصي للعبته:
»نزع الصفة الشخصية، للمجلد بمقدار ما ننفصل عنه كمؤلفين، لا يتطلب مقاربة قارئ. فهذا كما نعلم من بين اللوازم الإنسانية البديهية: حدث، موجود. المعنى المكفن يتحرّك ويتأهب، في شكل جوقة، من الصحائف«.
إن الكتاب الذي سيستجيب لضرورة وجود الكتاب، ويستجيب لمعناه، أي «للكتاب كأداة روحية» سيُكتب بواسطة الإبدال وبشكل مبنين [هذه الكلمات هي كلمات مالارميه]. رأينا الموجب للإبدال [استحالة تحقيق "النزعة الواقعية"]. أما الموجب للبنية فنجده في قول مالارميه «نحتاج للقرار لنقصي بموجبه المؤلف». وهو ما يجعل من الضروري إعادة التفكير في وظيفة البيت الشعري في المسرحية ووظيفة المسرحية داخل المجلد،-وانطلاقاً من ذلك يمكننا أن نتجاوز المجلد من أجل فضاء جديد [داخل- نصي] بحيث ستقرأ الكتب بعضها بعضاً، وتضيء بعضها بعضاً، وتكتب بعضها بعضاً تاركة المجال أخيراً لنص حقيقي سيشكل التفسير الدائم للعالم، أي "التفسير الأورفي للأرض" والحرفية الشائعة للمعنى المقولب والـممسرح في النهاية. كل الكتب تضم تمازجاً لبعض الأقوال المعادة والمحسوبة». والكتاب الذي يستحق فعلاً أن يكون الكتاب [أي الذي يمنحنا الإحساس بالكل] «مكتوب في الطبيعة بحيث لا يترك أحداً يغمض عينيه إلا الذين يصرون على ألا يروا شيئاً.»؛ «كل من كتب، كان يحاول، بدون وعي منه كتابته». على الكتاب بالتالي أن يكون قابلاً للإنجاز، وسوف لن يكون للأدب لإنهاء كتابته، كالتاريخ الذي سيعرف اكتماله، من شيء آخر غير هذا التسامي كموضوع: «لا شيء يبقى على حاله دون أن يكون قد قيل». وخلافاً لـ هيجل الذي تصور نهاية التاريخ على شكل كتاب مغلق: فإن مالارميه يتصوره ككتاب يقوم بفتحه وبعثرته وقلبه، وإعادته إلى الفضاء حيث سنبرز إلى الوجود من أجل أن نحيى، ونكتب أنفسنا ونقرأها ونموت.
ولقد كان مالارميه يعرف بأنه لا يستطيع أن ينجز الكتاب: فهو على الأقل جعل المستحيل بمثابة هدف للأدب الآتي من بعده. أكثر من ذلك فقد سلط الضوء على مقاطع منه وأعطى علامات لتحققه، ووَجَّه فكرنا في هذا الاتجاه بما لا يترك أي مجال للاختزال:
»إن الكتاب، لأنه امتداد كلي للحرف، ينبغي له أن يستمد حركيته من الأدب مباشرة، ولأنه متسع ورحب، ينبغي له أن يقيم لعبه، من خلال التراسل، الذي يؤكد الخيال، بغض النظر عن الكيفية.«
»إن الكلمات تتفتح من، تلقاء ذاتها، بمئات الوجوه المعروفة، سواء كانت أهميتها كبيرة أم لا بالنسبة للذهن، أي بالنسبة للدماغ؛ من يدرك الكلمات خارج تواليها المألوف، وهي مقذوفة، على حواف المغارة، على مدى الزمن الذي تستغرقه حركيتها أو يستغرقه المبدأ، بما في ذلك ما لا ينقال من الخطاب: يدرك سرعة مرورها، قبل الانطفاء، إلى تقابلية من النيران المتباعدة أو المقدمة بطريقة غير مباشرة في شكل منسجم«
أحد هذه المقاطع [العودة المؤجلة لإيجيتور] سيشكل ديوان "ضربة نرد" حيث ستنسق الكتابة سلطاتها الجديدة [وهذا التنسيق لن يظهر كتركيب كتابي لمعنى، ولكن كانبثاق شبه تلقائي للفضاء المكتوب؛ ليس كحفظ وكتفهُّم لكلام سابق، ولكن كتدوين فعال هو بصدد بسط مساره؛ وليس كحقيقة أو كسِرٍّ لواحد، وهو مرجع إنسانوي دائماً، ولكن كحَرْفيةِ لا أحد في عالم مفتوح على الصدفة]
» الكل يحدث، باختزال، على شكل فرضية؛ مع تفادي السرد. نضيف بأن الاستعمال الصريح للفكر من خلال تقلصاته وامتداداته، وخطوط هروبه أو من خلال مخططه نفسه، يؤدي بالنسبة لمن يريد أن يقرأ بصوت مرتفع إلى توليفة موسيقية«.
هذا الفضاء الدلالي الجديد يقدم نفسه شاقولياً، واقفاً، والحاصل أن المساحة الموحدة للخطاب تبدو كما لو أنه أعيد نصبها وتمزيقها، كما لو أن نعش الكلام البلاغي تم نبشه وفتحه، كما لو أن اللغة تعرضت لاغتصاب أحدثه التصدع في عمق - في كتابة- الجملة. ويشكل ديوان ضربة نرد، بالفعل، كما هو معروف، جملة واحدة: ضربة نرد لا تبطل الحظ أبداً، خاضعة لنوع من البعثرة والتدمير النووي، ولنوع من الغليان المتواصل، وجراء ذلك فـالجملة التي لا نعرف منها إلا سطحها، تتبدى لنا كمنظومة بالغة التعقيد، كالخلاصة النهائية لكل تعقيد [مثل إسم] -أي كوجه وكتخم للتراكب الذي سيكون من الآن فصاعداً تجلياً للعالم، وللصدفة، وللعب، وللفكر حيث يعرِّف "الإنسان" نفسه [هذا فيما سطح الخطاب لا يمكنه أن يحيل في نهاية المطاف إلا على ثنائية يتعذر حلها: إنسان – عالم]
في هذا الفضاء غير الموحد بالمطلق وغير الأفقي، بل المشطور شاقولياً إلى اثنين -وهو ما يفترض مسبقاً فيزياء جديدة، وطبولوجيا جديدة-، لم نعد نعثر على العلاقة المألوفة بين شخص يخاطب شخصاً آخر ولكن على بنية مضاعفة تحيل على نص، خلالها يعبر كل من الناسخ والقارئ إلى نفس الجانب من الشاشة الخيالية، وعملياتهما تصبح متزامنة ومتكاملة. الذات والآخر يقولان نفسيهما معاً، حينما تتكلم الذات يسكت الآخر. بيد أن صمته هو أيضاً كلام فعال وقوي النبرة. يغدو الخيال مؤكداً، بمعنى أنه في كل لحظة تتم كتابته ومسرحته في أصله. الكتاب ليس شيئاً آخر غير العبور من العالم إلى المسرح، والتجلي المسرحي للعالم في صيغة نص، و"الاستعمال العاري للفكر"، والعمل (l’opération): الكتاب ليس مؤلفاً من بين مؤلفات أخرى ولكنه وضع كل ما هو موجود في حالة اشتغال.


الأسطورة
المسرح إذن هو القضية الأساسية، أي الكتاب ثلاثي الأبعاد. بيد أن نصوص مالارميه تقع داخل هذا المنظور منذ إيجيتور: «تتوجه هذه الحكاية إلى فكر القارئ الذي يخرج الأشياء ذاتها مسرحياً». بالنسبة لـ مالارمية فإن التفكير حول الكتاب لا يختلف -ما دام الأمر يتعلق بإماطة اللثام عن الكلية باعتبارها كتابة وباعتبارها معنى عن مجموع المشاكل المادية. والكتاب، عملياً، لم يوجد لكي يُقرأ ويغلق- ولكن من أجل أن يتم تفعيله، واستنفاذه، من أجل أن يمر في الواقع الذي، من دونه، سيبقى في حالة الخيال غير العضوي. إن مصطلح الخيال(fiction) مركزي لديه. حينما يريد أن يعرِّف "مجالاً للخيال"، "بمصطلح جامع مانع" [أي بمصطلح يسمح بالإحاطة بمجموع النشاطات الإنسانية] فإنه يضع مثلاً العلاقة:
صناعة ـــــــ تمويل
خيال
موسيقى ــــــ حروف
موضحاً بذلك بأن دورة النقود المتحكمة في التقنية تستجيب لتداول اللغة المنشطة عصبياً للفن [موسيقى، رقص، مسرح]. مجموع هذه العمليات -التي تكشف أحدها الأخرى ويردد بعضها صدى بعض إلى غاية الحرف الذي يتحكم فيها جميعاً- يسمى خيالاً، والكتاب، بعد أن يكون تعرض للتأويل وتم استيعابه وتجربته هو الذي يفرز المعنى من هذا التخييل، أي يفرز الواقع. بهذا الشكل ننتقل إلى صيغة جديدة من الفهم: إعادة الظواهر إلى أرقامها وإلى الحلقات التي تضيء تبادليتها. إن مالارميه يدرك جيداً بأن انحطاط الدين عائد إلى أن مسألة التبذير لم يعد مفكراً فيها في مجتمعنا. والقداس مثلاً، يثيره باعتباره تقنية للمجانية، أي باعتباره رمزية طقوسية يمكن أن يكون لها فعالية استثنائية:
»يستحيل ألاّ يكون الجنس البشري قد وضع سره الحميم والمجهول في شيء آخر غير الدين، الذي يجري الابتعاد عنه منذ زمن. ولقد أصبح الوقت مواتياً، مع وجود المسافة أو الحياد الضروري للقيام بالحفريات في الدين». المستوى الذي ستجري فيه الكتابة عملية الحفر سيكون إذن مستوى الأساطير-ويمكن للمسرح أن يغدو صيغة ظهورٍ لهذه الكتابة المحسوسة للأساطير المستعادة في اللاشعور، في مجتمع ظلامي يتحكم فيه المال. ويدرك مالارميه جيداً العوائقَ: فالمسرح يوجد في حالة انحطاط وتحقير لا سابق لهما. وتأسيس قصيدة شعبية معاصرة «بالإمكان أن يعجب بها جمهور قارئ اختُرع فجأة» ليس ممكناً بعد. ونحن لا يعرض علينا إلا أعمالاً محدودة، وميثولوجيات محصورة، و"تمثيلات"، كما أننا عاجزون عن رؤية الأشياء "مباشرة"، أي رؤية «المسرحية المكتوبة في سجل السماء المومئ إليها بالحركة المعبرة عن أهوائها [السماء] من خلال الإنسان. «
إن المسرح الذي يعدّه مالارميه من "جوهر علوي" هو «اللحظة التي يلمع فيها الأفق داخل الإنسانية، وهو انفتاح وجه الخرافة غير المعروف والمكبوت بعناية بالغة من طرف التنظيم الاجتماعي. «
وعلى النقد الساخر لـ غوتيي: «ينبغي ألا يوجد في الواقع سوى مسرح هزلي واحد -وعملنا يكمن في إجراء بعض التغييرات عليه من وقت لآخر»، يضيف مالارميه جاداً: «تعويض مسرح هزلي بالسر يشكل رباعية مسرحية متعددة هي نفسها تنتشر بالتوازي مع دورة أعوام متجددة، والأساسي في الأمر هو أن النص في ذاته يكون غير قابل للفساد مثل القانون. هذا ما يحدث تقريبا! «
وهذا ما يتطلب إذن مسرحاً مرتبطاً بالكتاب بالإمكان أن يتبدى فيه «المجال العقلي الذي ينصهر فيه المشهد وقاعة العرض». وبالفعل يقول مالارميه بأن «المسرح هو من نوع المواقف العقلية التي تشبه حيل المأساة»، ويحرص المسرح بشكل متزامن واعتماداً على الفضاء على إبراز هذا المسار المتواري بفعل الزمن: «يبين العمل الدرامي توالي العناصر الخارجية للفعل، دون حرص منه في أي من اللحظات على الواقع، كما لو أن شيئاً لم يقع في نهاية المطاف». وسيكون المسرح بمثابة قراءة للكتاب، وكتابته الفاعلة على «امتداد متاهة القلق التي يتخذها مسار الفن». والمقاربة المسرحية التي تنطبق عليها هذه الأسطورة هي هاملت الذي «إذ يقرأ في كتاب ذاته»، «فإنه يجسد فوق خشبة المسرح الشخصية ذات الأبعاد المأساوية الحميمة والباطنية»، أي «السيد المضمر الذي لا يمكنه أن يصير»، السبب في ذلك يقول مالارميه «لا مجال لوجود ذات أخرى، يجب أن يكون هذا واضحاً: صراع الحلم لدى الإنسان هو مع الأقدار التي يتعرض لها وجوده، الموزع بسبب التعاسة «
إن الخشبة التي تعتبر"نعمتنا الوحيدة" -المكان الوحيد حيث يمكن أن تتجلى لنا الكلية التي يطمح إليها الكتاب- هي بشكل ما لوحة النص حيث «الكل يتأثر بحسب تبادلية رمزية للنماذج فيما بينها وإلى حد ما مع صورة واحدة». «فنان الإيماء، المفكر، المسرحي يقتبس هاملت وفي تصوره العظمة التشكيلية والعقلية للفن. إن العالم يتضح إذن باعتباره كتابة تقع عند التقاء المسرح والكتاب، وهذا الالتقاء هو الرقص بالذات: يكفي أن ترسم الراقصة كتابتها الجسدية، حتى يقلد جسد الباليه، الملتف حول الراقصة النجمة، كتابة التجمعات النجمية، الكتابة المعكوسة لتلك التي تُخَطّ على الورق.
إن تصميم الرقص يبرز وظيفة الأشكال، التي تسفر بدورها عن مفتاح السلوكات أو الأنماط البشرية. التاريخ عبارة عن مأساة، والباليه نوع من الرمزية، أي مجموعة هيروغليفية، ويشكل الكل ميداناً للتخييل تصبح فيه القراءة «توقيعاً موسيقياً لأحاسيسَ من خلال جمل لا تنطق بقوة أبدا»
الراقصة «تشفُّ عبر ثنايا الحجاب الأخير، الذي سيظل يمثل دائما العري [في] المفاهيم، وتكتب بصمت [الـ]رؤيا على شاكلة علامة، تشكل ذات الراقصة». من المهم الإشارة إلى أن مالارميه يسجل هنا عرَضاً القرابةَ الموجودة بين هذه الكتابة وتلك الخاصة بـالحلم«
عندما نقرأ، نستطيع أن نشخِّص أنفسنا في كل مسرحية "من الداخل". ولكن في حالة ما إذا أردنا أن نمتلك وعياً بالكتابة الناتجة عن هذه القراءة، فعلينا المرور عبر خشبة العرض [عبر الحياة]. وهنا بالضبط تبرز المأساة الكامنة بفعل تمزق يؤكد «عدم قابلية غرائزنا للاختزال». وبذلك نصل إلى نوع «من الاحتفاء الموسيقي، وأيضاً التشخيص المسرحي الصامت للحياة، الذي يوكل السر إلى اللغة وحدها، وإلى التطور الإيمائي «
إن مالارميه يقرر إذن وجود «مسرح غير منفصم عن الذهن» مما يؤدي بالشاعر إلى أن «يوقظ، عن طريق الكتابة، منظماً للأعياد داخل أي منا». علينا إذن أن نستوعب الإمكانية التي تجعل النص يكون بمثابة مسرح وفي نفس الآن تجعل المسرح والحياة بمثابة نص، إذا أردنا أن نحظى بموقعنا داخل هذه الكتابة التي تحددنا: «بالنظر إلى أنه لا يوجد، في ذهن كل من جعل حلم الإنسانية هما ذاتياً، شيء سوى عدد محدَّد من الدوافع الإيقاعية الخالصة للكائن، التي هي العلامات سهلة التعرف؛ فإنه يروق لي كشفها من كل الوجوه«
إن اللغة التي تعثر من جديد على كلية التخييل هي بالنتيجة "الأساس" لكل فن ممكن:
»عند تقاطع الفنون الأخرى المنضوية أو المنحدرة منها، فان المتحكم فيها يكون إما التخييل أو الشعر«.
وهذا التخييل الأساسي ينكشف باعتباره تنسيقاً أركسترالياً للأساطير لأنه مرتبط مباشرة باشتغال الفكر الذي يصهر الأساطير من أجل إعادة صياغتها. وعلى هذه الشاكلة يمكننا أن نتصور فعلاً شاملاً، من كل ما هو مسرحي، نظري، تطبيقي، وعقلي يكون موجهاً لـ «تفتح الرموز أو لعملية تحضيرها»، وهو فعل لا يرتكز على الحكاية أو الخرافة [وهنا يكمن بالنسبة لـ مالارميه خطأ فاغنر]، أو على أسطورة خاصة بعينها، ولكن على انكشاف للأساطير وعلى مسعى لتوحيدها:
»هل معنى ذلك أن المسرح يتطلبها، الجواب بالنفي: فليس هناك من أساطير ثابتة، أو ممتدة على مدى قرون، أو شائعة على نطاق واسع، ولكن فقط أسطورة واحدة، متجردة من الشخصية، لأنها تكون مظهرنا المتعدد«
وفي هذه الحالة يمكن لـ مالارميه أن يكتب أيضاً بأن «الإنسان وبعد ذلك إقامته الأصيلة على هذه الأرض، يتبادل مجموعة متقابلة من التجارب «

"السيادخلية"
سيبقى علينا أن نحدد الدور الحقيقي للذي، إذ يكتب، ويقبل الموت من خلال الأدب، فإنه لا يجد غير سوء الفهم، داخل المجتمع حيث يعيش. الإحساس بهذا الوجود يأتي في بداية الأمر كنقص: «الوجود الأدبي، ما خلا واحداً، حقيقياً، يعمل على إيقاظ الوجود، داخل التوافقات والدلالات -، ينظر إليه، مع العالم، باعتباره مجرد نقص». وأيضاً هذا القول: «الأدب إذ يتوافق في هذه النقطة مع الجوع، يعمل على إقصاء السيد الذي يبقى [على جوعه] وهو يكتبه. هذا الشخص ماذا جاء يفعل، في نظر أقرانه، يومياً؟ «
فالكاتب أو الناسخ على وجه الدقة هو إذن، ومهما فعل، مقصي بالكامل، من منطلق اشتغاله على لاوعي اللغة، أي على العزلة المتجددة دوماً والخرساء، التي ينعتها مالارميه بـ «التقصير عن المصير الاجتماعي، في حدوده الدنيا». بيد أن هذا الانسحاب تترتب عنه نتائج متناقضة: فإذا كان يحول دون ربط علاقة مع محيطه ويمنع كل حيازة، وإذا كان يقضي «بإشباع بعض الغرائز الخاصة العازفة عن حيازة أي شيء، ويكتفي بتمضية الوقت فقط»، وإذا كان بذلك يحدد ملامح شخص لا يهمه الجاه وأن يكون له شيء بعينه، شخص «وحيد بالكامل فوق الأرض» -فإنه يجد نفسه بشكل غير متوقع في وضعية متطابقة مع الفرد الأكثر استلاباً: البروليتاري. في هذا الأخير بالضبط كان مالارميه يفكر وهو يكتب: «محزن أن يبقى إنتاجي، في جوهره، مثل غيم ساعة الشفق، لا طائل تحته»، «كوكبات النجوم تتعلم أن تضيء: طالما رغبت بأن يكون إلى جانب الظلمة المنتشرة في سماء القطيع الأعمى، نقط مضيئة، وفكر معين للتو، تمعن النظر، رغم أن هذه الأعين المختومة لا تلحظها- من أجل الفعل، ومن أجل الدقة، ومن أجل القول «
من أجل الفعل، ومن أجل الدقة، ومن أجل القول: إن الحياة الخاصة بذلك الذي يكتب نوعا من "السيادة الداخلية"، والعمل غير المجدي ظاهريا أو اللعب الناتج عنه، مرتبطان بالمستقبل الذي نعرف بأنه مكان كل عمل رمزي. وإن الأدب ينتمي إلى المستقبل والمستقبل، يكتب مالارميه: «لم يكن أبداً غير بريق كان ينبغي أن يحدث في السالف أو قريباً من الأصل». بدورانية غريبة فإن الإنسان النكرة، والإنسان الذي لا يملك شيئاً، يوجدان في تضامن عميق مع الإنسان الذي يملك ويعتقد بالتالي بأنه شيء ما. وليس من الخيانة في شيء ولا من القسر لفكر مالارميه إن أكدنا بأنه لم يبرز في النهاية سوى فكر واحد، فكر بإمكاننا فضلاً عن ذلك تسميته بالفكر الصوري: ذلك الخاص بالثورة، بمعناها الأكثر حَرْفية.

المصدر:

 : Philippe Sollers : Littérature et totalité in : L’écriture et l’expérience des limites, Seuil 1968 ,p-p67-87

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق