السبت، 9 مايو 2015

التجربة-الحد: موريس بلانشو


ترجمة: جورج أبي صالح
مراجعة: فريق مركز الإنماء القومي                                                                   

1
تأكيد الفكر السالب وشغفه

Gilles Berquet
ليُسمح لي، وأنا أفكّر في جورج باتاي، بالتأمل أمام غياب بدلاً من ادّعاء عرض ما يتعيّن على كلّ واحد أن يقرأه في كتبه. وهذه الكتب بالذات لا تشكّل إطلاقاً جزءاً صغيراً جداً من الحضور الغائب، ومجرّد أثر له. إنها تعبّر عن الأساس وهي أساسية. ليس فقط بجمالها وروعتها وقوتها الأدبية التي لا تضاهيها أية قوة أخرى، إنما بعلاقاتها مع البحث الذي تنمّ عنه. ومن المذهل حتى أن يكون فكر بمثل هذا التحرّر من التماسك الكُتُبي قد استطاع أن يتوكَّد إلى هذا الحدّ، دون أن يفضح نفسه، في أثر تحتفظ القراءة بالقدرة على بلوغه: شرط أن تتناوله ثانيةً في مجمل تعابيره وبإبقائها في الوسط، إلى جانب التجربة الداخلية، والمذنب، والجزء اللعين، الكتب التي نشرها باسم آخر غير اسمه، والتي لا مثيل لقوة حقيقتها: إنني أفكّر أولاً بـ السيدة إدواردا (Madame Edwarda) التي تكلَّمتُ عليها سابقاً مسمّياً إياها بضعف «أجمل رواية في عصرنا».
إن من شأن قراءةٍ كهذه أن تزيل النعوت التي نحاول بواسطتها أن نجعل ما نقرؤه مثيراً للاهتمام. بالتأكيد، إن الجمع بين كلمات الصوفية والشبق والإلحادية يسترعي الانتباه. فالتكلم على كاتب معاصر وكأنه إنسان دخل في حالة انخطاف وتصرَّفَ تصرفاً إلحادياً ومدح الفسق واستبدل المسيحية بالنيتشوية والنيتشوية بالهندوسية بعدما طاف حول السرّيالية [إني أختصر بعض التقارير السليمة النيّة] يعني تقديم الفكر في عرض مسرحي وخلق شخصية خسالية دون أقلِّ اهتمام بدقائق الحقيقة. من أين تأتي هذه الحاجة إلى عدم البحث عن الحقيقة إلاّ على مستوى الطرفة وبواسطة زيف الإثارة؟ بالطبع، إن كلاًّ منا –كما نعرف- مهدَّد بغوليمه (Golem)*، ذلك التمثال الصلصالي الغليظ، صُنونا الزائف الصنم الساخر الذي يجعلنا مرئيين والذي أتيح لنا، ونحن أحياء، أن نحتجّ عليه بكتمان حياتنا؛ لكن، إذا به يديمنا، وقد بتنا أمواتاً: كيف نمنعه من أن يجعل من اختفائنا، ولو كان الأكثر صمتاً، اللحظة التي يتعيَّن علينا فيها، وقد حُكم علينا بالظهور، أن نجيب بسرعة على الاستنطاق العام بالاعتراف بما لم نكُنْه؟ وأحياناً يكون أقرب أصدقائنا، ذوو النيّة السليمة بالتكلّم عنا وحتى لا يتخلّون عنا بسرعة زائدة عند غيابنا، هم الذين يساهمون في هذا التنكير الخيّر أو المؤذي الذي سيرانا فيه الغير من الآن فصاعداً. كلا، لا خلاص للأموات، الذين يموتون بعد أن يكونوا قد كتبوا، وأنا لم أميّز قط في الخلود الأكثر مجداً غير جحيم متكلّف حيث يظهر النقّاد –نحن كلّنا- بمظهر شياطين حقيرين.
لقد فكّرت في هذا طويلاً، ومازلت أفكّر فيه. لا أرى كيف يسعنا أن نستحضر بعبارات صحيحة فكراً بمثل هذا التطرف والحرية، إذا كنّا نكتفي بتكراره. ويصحّ هذا عموماً على كلّ شرح. فالشارح لا يكون أميناً عندما ينسخ بأمانة؛ فما يستشهد به، الكلمات والجُمَل، بفعل كونها مستشهداً بها، تغيّر المعنى وتتجمّد أو بالعكس تأخذ قيمة مفرطة الكبر. فالتعابير القوية جداً التي يجوز لجورج باتاي أن يستعملها تخصّه هو وتحتفظ، تحت سلطته، برزانتها؛ لكن، أن يحدث لنا أن نتكلّم بعده على يأس ورعب وانخطاف ونشوة، فلا يسعنا غير أن نشعر بخَرَقنا وأن نشعر أكثر بريائنا وتزويرنا. لا أقول إن استعمال لغة مختلفة تماماً، مجرّدة من هذه الكلمات الهادية، يقرّبنا أكثر من الحقيقة، لكن القراءة تبقى، على الأقل، سليمة في وفاقها الأكثر براءةً مع فكر مصون.
ضمن هذا المنظور، أعتقد أن عمل الخطاب المصاحب –وهو عمل يجب أن يميل إلى التواضع- سوف يقتصر على اقتراح نقطة يمكننا أن نسمع منها بوجه أفضل ما ستبرزه القراءة وحدها. ومع ذلك، يمكن أن تتغيّر هذه النقطة. لنبحثْ أين نأخذ مكاننا حتى لا تُعتبر التجربة-الحد، تلك التي سمّاها جورج باتاي «التجربة الداخلية» والتي يجذب إثباتها بحثه إلى نقطة ثقلها الأكبر، حتى لا تُعتبر بأنها ظاهرة غريبة، وفرادة عقل خارق، بل تحفظ لنا قوتها الاستجوابية. سوف أذكّر بإيجاز بما هو مقصود.
التجربة-الحدّ هي الجواب الذي يلقاه الإنسان عندما يكون قد قرَّر أن يطرح نفسه للبحث جذرياً. وهذا القرار الذي يعرّض الكائن كلّه للخطر يعبّر عن استحالة التوقف مطلقاً عند أي تعزية أو أيّ حقيقة كانت، ولا عند فوائد ولا عند نتائج الفعل، ولا عند يقينيات المعرفة والإيمان. إنها حركة اعتراض تعبر التاريخ كلّه، لكنها تارة تنغلق في نظام، وطوراً تخترق العالم وتمضي لتنتهي في ما وراء العالم حيث يركن الإنسان إلى غاية مطلقة [الله، الكائن، الخير، الأبدية، الوحدة] وينكر نفسه في جميع الأحوال. مع ذلك، نرى أن هذا الشغف بالفكر السالب لا يختلط مع الشكوكية ولا حتى مع حركات الشك المنهجي. إنه لا يحقّر مَن يكنّه، ولا يعجّزه، ولا يعتبره غير قادر على الإنجاز. بالعكس، إنما لنكن هنا أكثر انتباهاً. من الممكن أن تتحقّق في الإنسان كلياً ضرورة أن يكون كلّ شيء. وفي الواقع، الإنسان هو أصلاً كلّ شيء! إنه كذلك في مشروعه، إنه الحقيقة الآتية من كلّ الكون الذي لا يتماسك إلّا بواسطته، وهو كذلك على هيئة حكيم (sage) الذي يشتمل خطابه على كلّ إمكانيات الخطاب الناجز، وهو كذلك في منظور مجتمع متحرّر من عبودياته. ألا يتعيّن علينا أن نقول بأن التاريخ ينتهي تقريباً منذ الآن؟ مما لا يعني بأنه لن يحدث شيء بعد الآن ولا بأنه لن يكون على الإنسان، الفرد، أن يتحمَّل آلام المستقبل وجهالاته؛ لكن الإنسان ككائن شمولي يملك الآن كلّ أنواع المعرفة، وهو يستطيع كلّ شيء، ولديه جواب على كلّ شيء [صحيح أنه على كلّ شيء فقط، وليس على الصعوبات الخاصة؛ التي يجيب عليها أيضاً بإلزام الخاص بالتخلي عن ذاته، لأنه ليس للخاص مكان في حقيقة الكلّ]. بالتأكيد، ولعلّنا بهذا نزيد الشكوك حول نهاية التاريخ هذه التي نعد أنفسنا بها. شكوك، ربما؟ إنما لنتأمل أكثر: مَن يشك بنا إذاً؟ الأنا الصغيرة، الضعيفة، الناقصة، التعيسة، الجاهلة كلّ شيء تقريباً والمحبوسة في عناد ذاتها (ego): بالنسبة إلى هذه الأنا الصغيرة، ليس هناك طبعاً سوى نهايتها الخاصة، نهاية تندم عليها لا سيّما وأنه لها أفق، في أنانيتها، نهاية كلّ الأنوات الأخرى؛ وهذا السبب الصغير إما أن يجعلها تتخلّى بسرعة عن نهاية معقولة ويلقيها في العذابات المجاملة للوجود العبثي(1). وإما أن يهيئها للأمل بحياة أخرى حيث سيتعرَّف على نفسه في الله. سوف أعود إلى ذلك والحالة هذه. بالنسبة للجميع، وبشكل أو بآخر، التاريخ يلامس نهايته [«الخاتمة القريبة»]: بالنسبة لإنسان العقل الكبير، لأنه يفكّر في نفسه ككل ولأنه يعمل بلا كلل على جعل العالم معقولاً: بالنسبة لإنسان العقل الصغير، لأنه، في تاريخ هائج وبلا نهاية، تكون النهاية في كلّ لحظة كما لو كانت محدَّدة قبلاً؛ بالنسبة لإنسان الإيمان، لأن العالم الآخر ينهي التاريخ منذ الآن، بمجد وأبدياً. أجل، عند التأمل في الأمر جيداً ، نرى أننا نعيش تقريباً في منظور التاريخ المنتهي، جالسين الآن على ضفة النهر، محتضرين ومولودين من جديد، ومغتبطين لرضى هو رضى الكون، رضى الله إذاً بالنعيم والمعرفة.
والحال أن الشغف بالفكر السالب يتقبّل هذه النهاية المتعجرفة التي تعد الإنسان بإكمال ذاته. لا يتقبّلها فحسب، إنما يعمل لها: فالفعل الذي يربطنا بهذا المستقبل ليس في الواقع شيئاً آخر غير «السلبية» التي بواسطتها يتحرّر الإنسان فينا ناكراً نفسه ككائن طبيعي، بالخضوع للعمل، وينتج نفسه بإنتاجه العالم. ذلك أمر رائع. فالإنسان يصل إلى الرضى بقرار عدم الرضى المستمر؛ إنه يكمل، لأنه يذهب إلى آخر إنكاراته كلها. ألا ينبغي أن نقول بأنه يبلغ المطلق، بما أنه سيكون قادراً على أن يمارس كلياً –أي أن يحوّل إلى فعل- كلّ سلبيته؟ لنَقُل ذلك. لكننا ما نكاد نقوله حتى نصطدم بهذا القول مثلما نصطدم بالمستحيل الذي يردّنا إلى الوراء، كما لو أننا، بقوله، نجازف في الوقت نفسه بمحو الخطاب، هنا يتدخّل الاعتراض الحاسم. كلا، الإنسان لا يستنفد سلبيته في الفعل؛ كلا، إنه لا يحوّل إلى مقدرة كلّ العدم الذي يكونه؛ ربما يستطيع أن يبلغ المطلق بالتساوي مع الكلّ، وبصيرورته ضمير الكل، إنما الشغف بالفكر السالب هو أبعد من هذا المطلق، لأنه قادر أيضاً، إزاء هذا الجواب على تقديم السؤال الذي يجعله معلّقاً، وإزاء إكمال الكل، على المحافظة على الضرورة الأخرى التي تحي اللانهاية، على شكل اعتراض.
لنحاول أن «نوضّح» هذه اللحظة على وجه أفضل. إننا نفترض الإنسان في جوهره راضياً؛ لم يعد له، كإنسان شمولي، ما يفعله، إنه بلا حاجة، وهو، حتى لو كان لا يزال يموت فردياً، بلا بداية ولا نهاية، مستريح في صيرورة كلّيته الجامدة. التجربة–الحدّ هي التجربة التي تنتظر هذا الإنسان النهائي، القادر مرةً أخيرة على عدم التوقف عند هذه الكفاية التي يبلغها؛ إنها رغبة الإنسان العديم الرغبة، وعدم رضى الشخص الذي هو راضٍ «كلياً»، والعيب الخالص، حيث ثمة مع ذلك إتمام وجود. التجربة–الحدّ هي تجربة ما هو خارج كلّ شيء، عندما يقصي الكل كل خارج، تجربة ما يبقى برسم البلوغ، عندما يكون كلّ شيء مبلوغاً، وبرسم المعرفة، عندما يكون كل شيء معروفاً: المتعذّر بلوغه بالذات، والمجهول بالذات. إنما لنر لماذا يمكننا أن ننسب إلى الإنسان ما سنسمّيه أيضاً [خطأ] هذه «الامكانية»، ليس المقصود أن نغتصب رفضاً نهائياً انطلاقاً من الاستياء الغامض الذي يرافقنا حتى النهاية؛ وليس المقصود حتى تلك القدرة على الرفض التي بواسطتها يحصل كلّ شيء في العالم، بما أن كلّ قيمة، كلّ سلطة، تُقلب من قبل أخرى، أوسع في كلّ مرة. إن ما تتضمّنه قضيّتنا هو شيء مختلف تماماً، وهو بالضبط ما يلي: ثمة نقص أساسي خاص بالإنسان، كما هو وكما سيصير عليه، يتأتى منه ذلك الحق بأن يطرح نفسه بنفسه للبحث وباستمرار. ونستعيد ملاحظتنا السابقة: الإنسان هو ذلك الكائن الذي لا يستنفد سلبيته في الفعل، بحيث إنه يحتاج، عندما يُنجز كلّ شيء، وعندما يتمّ «العمل» [الذي يه يصنع الإنسان نفسه أيضاً]، وبالتالي، عندما لا يعود هناك ما يعمله، يحتاج لأن ينوجد، مثلما يعبّر عن ذلك جورج باتاي بأبسط تعمّق في حالة «السلبية العاطلة عن العمل»، والتجربة الداخلية هي الطريقة التي يتوكّد بها هذا الإنكار الجذري الذي لم يعد له ما ينكره. يقال إن الإنسان يملك القدرة على الموت تتجاوز بكثير وللغاية تقريباً ما يلزمه للدخول في الموت، وقد استطاع على نحو رائع أن يكوّن لنفسه سلطة، من هذا الإفراط في الموت؛ وبواسطة هذه السلطة، الناكرة للطبيعة، بنى العالم، باشر العمل، وأصبح منتجاً، ومنتجاً ذاتياً. غير أن ذلك –وهذا أمر غريب- لا يكفي: يبقى له في كلّ لحظة ما يشبه قسطاً من الموت لا يستطيع توظيفه في النشاط؛ في أكثر الأحيان، لا يعرف ذلك، فلا وقت عنده؛ أما إذا توصّل إلى الاستشعار بهذا الفائض العدمي، بهذا الفراغ المتعذّر استعماله، وإذا اكتشف أنه مرتبط بالحركة التي تميته إلى ما لا نهاية، كلما مات إنسان ما، وإذا استولت عليه لا نهاية النهاية، فإنه يتعيّن عليه أن يستجيب لضرورة أخرى، ليست هذه المرة ضرورة الإنتاج، بل الإنفاق، ولا النجاح بل الفشل، ولا العمل والتكلّم بشكل نافع، بل التكلّم بلا جدوى والتعطّل عن العمل، وهي ضرورة ذات حدّ معيَّن في «التجربة الداخلية».
قد نكون الآن في وضع أصحّ لكشف ما يجري في موقف كهذا ومعرفة السبب الذي حمل جورج باتاي على أن يتناول فيه ثانيةً فكر السيادة. لأنه للوهلة الأولى، كان يحق لنا ألاّ نتأثر بالطابع الاستثنائي لهذه الحالات المدهشة. فللإنسان انخطافاته. حتى ولو كان ذلك موهبة خارقة، فكيف يمكن لبلوغ حالات كهذه أن ينبئ بشيء ما أولئك الذين ما زالوا غريبين عنه، وأن يغيّر، وربما يوسّع، الفضاء الإنساني؟ ألسنا نخضع للجاذبية التي تحتفظ بها لفظة صوفي؟ وعندما يحدّثوننا عن نشوة انخطافية، ألا تتأنّى حركة الاهتمام التي تفاجئنا من الإرث الديني الذي لا نزال المؤتمنين عليه؟ لقد استفاد الصوفيون دائماً من وضع خاص في الكنائس وحتى خارجها. إنهم يشوّشون الراحة العقدية[الدغماتية]، إنهم مقلقون؛ أحياناً غرباء، وأحياناً فاضحون؛ لكنهم منفصلون على حدة، ليس فقط لأنهم يبقون حَمَلة بداهةٍ ظاهرة من وراء كل شيء، إنما لأنهم المشاركون والمتعاونون في الفعل الأخير: توحيد الكينونة، دمج «الأرض» و«السماء». علينا إذاً أن نحذر هذه الخطوات ولابدّ لنا من القول بأن الرفض الصارم الذي لا يَكِلّ، لجميع المسلّمات الدينية، كما لجميع الرؤى والاعتقادات الروحانية التي تنطوي عليها الحالات «الصوفية»، هي أساسياً وأولاً من ضمن الحركة التي نَصِفُها.
ومن الواجب حقاً على من التزم بالشغف بالفكر السالب، عبر قرار حازم، ألاّ يبدأ بالتوقف عند الله، ولا عند صمت أو غياب الله، وألاّ تستهويه –وهذا أهم أيضاً- الراحة في الوحدة (Unité)، بأي شكل من الأشكال. ويمكننا أيضاً أن نعرض الأشياء بطريقة مختلفة: في التصوّر الذي استخدمتُه بينما كنت أتكلّم على نهاية التاريخ بطريقة مجازية قليلاً، نفهم أن كلّ المعنى الذي عبَّرتْ عنه الكلمة الأسمى مستعاد بالنشاط الإنساني وهو يحترق بشعلة مضيئة في نار الفعل ونار الخطاب: ففي النقطة التي نصل إليها، «في نهاية الأزمنة» التقى الإنسان تقريباً بنقطة النهاية، مما يعني أنه لم يعد هناك آخر غير الإنسان وأنه لم يعد هناك خارج خارجه بما أنه، إذ يؤكد الكل بوجوده بالذات، يفهم كل شيء بفهم ذاته في دائرة المعرفة المنغلقة.
إذاً، إن المسألة التي تبرزها التجربة-الحدّ حالياً هي التالية: كيف يمكن بَعدُ تجاوز المطلق [على هيئة الكليّة]؟ كيف يسع الإنسان الواصل بعمله إلى القمة، وهو الكونيّ والأزلي، المنجز ذاته باستمرار والناجز باستمرار، والمتكرّر في خطاب لا يفتأ يتكلّم على نفسه بلا نهاية، كيف يسعه ألاّ يكتفي بهذه الكفاية، وأن يطرح نفسه للبحث كما هو؟ في الحقيقة، إنه لا يسعه ذلك، ومع ذلك، فإن التجربة الداخلية تقتضي هذا الحدث الذي لا يتعلّق بالامكانية؛ إنها تفتح في الكائن الناجز فجوة صغيرة تتسرَّب منها وتفيض زيادة تطغى على ما هو كائن وتركد. فائض غريب. ما هو هذا الفائض الذي يُبقي الإنجاز أيضاً ودائماً غير منجز؟ من أين تأتي حركة الإفاضة هذه التي لا تُقاس بالقدرة التي تستطيع كل شيء؟ ما هي تلك «الإمكانية» التي تُتاح بعد تحقّق كلّ الإمكانيات وكأنها اللحظة القادرة على قلبها جميعاً أو على سحبها بصمت؟ عندما يجيب جورج باتاي على هذه الأسئلة متكلّماً على المستحيل –إحدى آخر الكلمات التي نشرها- لا بدّ من الإصغاء إليه بدقة؛ لابدّ من الاستماع بأن الامكانية ليست البعد الوحيد لوجودنا، وأنه قد يكون متاحاً لنا أن «نعيش» كلّ حدث يخصّنا في علاقة مزدوجة، مرةً نعيشه كشيء نفهمه، ندركه، نتحمّله ونسيطر عليه [ولو بصعوبة وألم] بربطه بخير ما، بقيمة ما، أي في النهاية بالوحدة؛ ومرة أخرى، نعيشه كشيء يخفى على كل استعمال وعلى كلّ غاية، بل شيء يفلت من قدرتنا على تجربته لكننا لا نستطيع أن نفلت من تجربته؛ أجل، كما لو أن الاستحالة، تلك التي فيها لا يعود بإمكاننا أن نتمكّن، كانت تنتظرنا وراء كل ما نعيشه ونفكّر فيه ونقوله، إذا بلغنا ذات مرة أقصى هذا الانتظار دون أن نخلّ قط بما فرضه هذا الفائض وهذه الزيادة، فائض الفراغ وزيادة «السلبية» الذي هو فينا الصميم اللامحدود لشغف الفكر(2).
هنا نبدأ بإدراك الأهمية التي أسمّيها [بلا سخرية] الفكرية للتجربة-الحدّ، والسبب الذي لا تجعلها ناجمة عن فرادتها بل عن الحركة التي توصل إليها والتي لا تنفصل عنها، بما أن صفاتها الفريدة لا تفتأ تعبّر في لحظة واحدة وحتى اللمعان عن لا نهاية طرح الأمر للبحث. هذا ما ينبغي أولاً إعادة قوله: «ففقدان الوعي» الانخطافي ليس سوى الاعتراض الذي هو التقاطه في ذروة الانقطاع والتخلّي. التجربة ليست المخرج. إنها لا ترضى، وهي بلا قيمة، وحسبها كما هي تُفرغ من معناها كلّ الإمكانيات الإنسانية وكلّ معرفة وكلّ كلام وكلّ صمت وكل نهاية وحتى تلك القدرة على الموت التي نستمدّ منها آخر حقائقنا. إنما، هنا أيضاً، يجب الاحتراس من الاستنتاج بخفة يعزوها إلى لاعقلانية ما أو بمقارنتها بفلسفة عبثية. فعدم المعرفة الذي يقال عنه إنه ينقل الانخطاف، لا ينتزع قطعاً صحة المعرفة مثلما أن عدم المعنى، المتجسِّد آنياً في التجربة، لا يحيد عن تلك الحركة المؤثّرة التي بها يجهد الإنسان بلا كلل في أن يعطي لنفسه معنًى. بالعكس أشدّد على ذلك مجددًا، قائلاً إنه فقط فيما وراء المعرفة الناجزة، تلك التي أكّدها لينين بإعلانه أن «كل شيء» سيكون مفهوماً ذات يوم، يُعتبر عدم المعرفة الشرط الأساسي الذي ينبغي تلبيته، ليس عدم المعرفة الذي ليس بعدُ سوى طريقة للفهم [المعرفة المعلّقة من قبل المعرفة نفسها] بل طريقة الارتباط أو البقاء في علاقة [ولو من خلال الوجود] حيث العلاقة «مستحيلة».
وعليه، يبقى أن نقول شيئاً صعباً. سوف أذكّر بالقضية السابقة: «التجربة الداخلية هي الطريقة التي يتوكّد بها الإنكار الجذري الذي لا يعود له ما ينكره». هذا ما حاولنا الآن توضيحه بتبياننا أن التجربة لا تتميّز عن الاعتراض. لكن، من أي نوع هو إذاً التأكد الذي يرجع إلى لحظةٍ كهذه أن تقيمه؟ بماذا يمكننا الادّعاء بأنه يؤكّد؟ إنه لا يؤكّد شيئاً، لا يكشف شيئاً، لا يبلّغ شيئاً بحيث يمكننا الاكتفاء بالقول بأنه «اللاشيء» المبلّغ أو أيضاً عدم إنجاز الكل المدرَك في شعور بالكمال، إنما، في هذه الحالة، نوشك أن نجوهر (Substantiaser) «اللاشيء»، أي أن نُحلّ محل المطلق ككل لحظته الأكثر تجرّداً، حيث يتحوّل اللاشيء فوراً إلى كلٍّ ويتجمَّع بدوره بلا حق. أم أننا يجب أن نرى في ذلك آخر انقلاب جدلي، آخر درجة –خارج السلّم!- يرفض منها الإنسان، هذا الرأس المنجز على مستوى الكون، يرفض البناء كله ليلاً، وبإزالته هذا الرأس الكوني، يستمد من الإنكار النهائي مزيداً من النور، وتأكيداً إضافياً، هو ذاك الذي يضيف إلى الكل حقيقة التضحية بالكل؟ بالرغم من طابع حركة كهذه، المغالية إلى حدّ أنه لا يسعنا ادعاء انكارها [اعطاؤها معنىً واضحاً، إلى حدّ يصبح بإمكاننا رفضها، فهي غير قابلة للرفض]، أودّ أن أقول بأن التجربة-الحدّ هي أكثر مغالاة أيضاً.
ذاك أن فعل الإنكار الأقصى الذي افترضناه الآن، والذي مثَّله بحث عديم الرأس (Acéphale) لبعض الوقت بالنسبة إلى جورج باتاي مازال ينتمي إلى الممكن. القدرة تستطيع ذلك، الذي يستطيع كلّ شيء، حتى إزالة نفسه كقدرة [انفجار النواة نفسها، أحد حدود العدمية]. إن فعلاً كهذا لا يجعلنا ننجز قط الخطوة الحاسمة، الخطوة التي تردّنا –وبدوننا تقريباً- إلى مفاجأة الاستحالة، بتركنا ننتمي إلى عدم القدرة الذي ليس فقط إنكار القدرة. التجربة-الحدّ تمثّل بالنسبة للفكر شيئاً شبيهاً بمصدر جديد. وما تمنحه إياه هو الهبة الأساسية، الإسراف في التأكيد، وهو تأكيد ليس، لأول مرة، نتاجاً [نتيجة الإنكار المزدوج]، وهكذا، ينجو من كل حركات وتعارضات وانقلابات العقل الجدلي الذي لا يعود بوسعه أن يبقى له دوراً في مملكته، بما أنه قد كَمُل قبله. إنه حدث تصعب الإحاطة به. فالتجربة الداخلية تؤكّد، إنها تأكيد صرف، ولا تفعل غير التأكيد. إنها لا تتوكّد حتى، لأنها ستخضع حينئذٍ لذاتها: إنها تؤكّد التأكيد. وبذلك يستطيع جورج باتاي القول بأنها تحتفظ في ذاتها بلحظة السلطة، بعد أن تكون قد خفّضت قيمة كل السلطات الممكنة وحلَّت حتى فكرة السلطة. إنها الـ «نعم» الحاسمة. والحضور دون أي شيء حاضر. في هذا التأكيد الذي تحرَّر من جميع الإنكارات [وتالياً من جميع المعاني]، والذي نبذ وعزل عالم القيم، الذي لا يقوم على تأكيد –على حمل ودعم- ما هو كائن بل يمكث فوق الكينونة وخارجها، ولا يخضع تالياً للأونطولوجيا أكثر منه للجدلية، في هذا التأكيد يرى الإنسان أنه حُدِّد له، بين الكينونة والعدم وانطلاقاً من لا نهاية ما بين الاثنين هذا المُتلقّى كعلاقة، وضع سيادته الجديدة، سيادة كائن بلا كينونة في صيرورة بلا نهاية لموت يستحيل أن يموت. وهكذا، فالتجربة-الحدّ هي التجربة بالذات: الفكر يفكّر في ذاك الذي لا يفكَّر فيه! الفكر يفكّر أكثر مما يستطيع التفكير، في تأكيد يؤكّد أكثر مما يمكن تأكيده! هذا الأكثر هو التجربة، التي لا تؤكّد إلاّ بزيادة التأكيد، والتي تؤكّد، في هذا الفائض، بدون شيء يتوكّد، وبالنهاية لا تؤكّد شيئاً، إنها تأكيد ينجو فيه كل شيء، وينجو من الوحدة. حتى إن هذا كل ما في وسعنا إعلانه بشأنها: إنها لا توحِّد ولا توحَّد. من هنا تبدو أنها تُؤدَّى بالأحرى من جهة المتعدِّد وبفضل ما يسمّيه جورج باتاي «الحظ»: كما لو أنه، لتأديتها، كان لابدَّ ليس فقط من محاولة تسليم الفكر للمصادفة [وهي هبة صعبة أصلاً]، بل من تسليم أمرنا للفكر وحده الذي يرسل أيضاً، في عالم موحَّد مبدئياً ومجرَّد من كل مصادفة، ضربة نرد مفكّراً بالطريقة التأكيدية الوحيدة على مستوى التأكيد الصرف: تأكيد التجربة الداخلية.
لا يمكن لمثل هذا التأكيد أن يبقى على حاله. إنه لا يبقى على حاله وحتى إنه يوشك باستمرار، عبر وضع نفسه في خدمة القوة، أن ينقلب ضد سيادة الإنسان بأن يصبح أداة لهيمنته، بحيث يظهر وكأنه يمنح الأنا [Le «je»] التي تظنّ أنها توصَّلت إليه الحق المتعجرف بالادّعاء مذ ذاك بأنها المؤكَّد الأكبر. لم تكن الأنا قط موضوع التجربة؛ «إنني» لا أنجح في ذلك أبداً، لا الفرد الذي أنا هو –ذرّة الغبار تلك- ولا أنا [Le moi] الجميع التي يفترض أنها تمثّل الوعي المطلق بالذات: بل فقط الجهل الذي يجسّده الأنا –الذي- يموت [je-qui-meurs]، بوصوله إلى ذلك الحيّز حيث لا يموت. بموته، كـ «أنا»، بصيغة المتكلّم [الشخص الأول]. ينبغي إذاً للمرة الأخيرة تعيين السمة الأكثر غرابةً –الأكثر ثقلاً- لهذا الموقف. إننا نتكلَّم عليه كما لو كان تجربة، ومع ذلك فإنه لا يسعنا القول أبداً بأننا جرَّبناه. تجربة ليست حدثاً مُعاشاً ولا هي حالة من حالاتنا نحن أنفسنا: إنها في الأكثر التجربة-الحد حيث تسقط الحدود ربما، والتي لا تدركنا إلاّ في النهاية، عندما تتوكّد السيطرة التي لا يعود ثمة تأثير عليها حيث يكون المستقبل كله قد أصبح حاضراً، بقرار النَعَم الحاسم.
تجربة اللاتجربة.
حَوْد عن كل ظاهر وعن كل خفي.
لو كان الإنسان لا ينتمي أصلاً بطريقة ما إلى هذا الحَوْد الذي يستخدمه في أكثر الأحيان ليحيد عنه، فكيف يسعه أن يلج في الطريق التي تزول سريعاً في سبيل ما يغيب عن كل بصر، لن يصل إليها، وأنه، كغائب إلى الأبد، لن يجد حتى الليل الآخر، الزائف، الباطل، المضطرب أبدياً والمنطوي في لا مبالاته؟ كيف يمكنه أن يرغب فيه؟ وكيف يمكنه أن يرغب فيه رغبة بلا أمل ولا تمييز تجعل منه إنساناً بلا أفق، رغبة في ما لا يمكن بلوغه، ورغبة ترفض كل ما قد يشبعها، وتالياً رغبة في ذلك النقص اللامتناهي الذي هو الرغبة في تلك اللامبالاة التي هي الرغبة، رغبة في استحالة الرغبة، حاملةً المستحيل ومخبئةً إياه وكاشفةً إياه، ورغبةً هي في ذلك بلوغ المتعذر بلوغه، ومفاجأة تلك النقطة التي لا يتمّ بلوغها في مأمن، حيث لا يُعطي قرب البعيد إلّا في البعد، كيف يمكن للفكر –إذا افترضنا أنه مؤكّد للحظة من اللحظات– كيف يمكنه أن يرجع من بلوغ كهذا وأن يردّ إليه، إن يكن معرفة جديدة فأقله –على مسافة ذكرى- ما يلزم للبقاء تحت رقابتها؟
الجواب غير متوقع. قد لا يكون ذاك الذي كان من شأن جورج باتاي أن يقبله، بل أن يقرّه، ومع ذلك فإنه هو ذاته وكتبه ومفاجأة لغته، وغالباً اللهجة الفريدة لخطابه الصامت هي التي تسمح لنا باقتراحه: إن ما يتعذّر على أي كائن أن يبلغه في أوّلية اسمه، وما لا يمكن للوجود ذاته، في إغراء خصوصيته الطارئة وفي لعبة شموليته الزلقة، أن يحتويه، وما يفلت حتماً إذاً، يستقبله الكلام ولا يحفظه فحسب، إنما انطلاقاً من هذا التأكيد الغريب دوماً والخفي دوماً، المستحيل والمتعذّر تبليغه، انطلاقاً منه يتكلّم متّخذاً إياه مصدراً، وفي هذا الكلام أيضاً يفكّر الفكر أكثر مما يستطيع التفكير. وليس أي كلام على الأرجح فهذا الأخير لا يسهم في الخطاب، لا يضيف شيئاً إلى ما هو مصوغ قبلاً، بل يريد فقط أن يوصل إلى ذاك الذي ينتهي إلى "الانتشار"، خارج كل جماعة، إذا لم يعد عنده ما يقوله "مع" كونه قد استُهلك: معبّراً آنذاك عن الضرورة القصوى.
التجربة هي هذه الضرورة، فهي غير موجودة إلاّ كضرورة، وبصفتها هذه لا تُعتبر أبداً ناجزة، بما أن أي ذكرى لا تستطيع تأكيدها، وبما أنها تتجاوز كلّ ذاكرة وبما أن النسيان هو وحده على مستواها، النسيان الهائل الذي يحمله الكلام.
لقد حقَّ لـ جورج باتاي أن يكون المسؤول عن هذا التأكيد، الأكثر شفافيةً والأكثر كُمدة (الغموض كشفافية) الذي لا يتذكّره الإنسان إنما الذي يبقى منتظراً في انتظار اللغة، وذلك بإبقائه العلاقة مفتوحة مع هذا التأكيد وبإيقاظنا، رغماً منا وبعيداً عنا، على هذه العلاقة التي كانت قدرته الوحيدة، القدرة على الألم الشديد وعلى الفرح الشديد. سوف أضيف أنه، بدلاً من أن يدّعي الاحتفاظ بها لوحده، فقد كان همّه الدائم ألاّ يتركها تتوكّد بعزلة، مع كونها أيضاً تأكيداً للعزلة، بل أن يشيعها. ويوماً؛ أطلق عليها أرقّ اسم: الصداقة. لأن كلّ أثره يعبّر عن الصداقة –صداقة المستحيل الذي هو الإنسان- ولأننا نتلقّى منه هبة الصداقة تلك، كذليل على الضرورة التي تربطنا إلى ما لا نهاية وللغاية بذواتنا، أودّ أن أقول عنه مجدداً ما كتبته عنه قبل سنوات عدّة عند صدور التجربة الداخلية، مستشهداً برأي نيتشه في زرادشت، وما زادت من صحته عشرون سنة من التأمل والاهتمام وعرفان الجميل والصداقة: «إن هذا الأثر قائم بذاته تماماً»

2
لعبة الفكر

أودّ، باستعادتي الأفكار السابقة في شكل آخر أن أكمّلها ربما، سوف أقول أولاً ما يلي: «لقد كانت لـ جورج باتاي، بطريقة فريدة ربما في مجتمعنا، القدرة على التكلّم وليس على الكتابة».
إنني لا ألمح هنا إلى مواهب متصلة بالفصاحة، إنما إلى شيء أهم: واقع حضوره من خلال الكلام، وفي هذا الحضور الكلامي، واقع استلفات الانتباه بعمق، من خلال المقابلة الأكثر مباشرةً. هذا لا يعني أنه كان مهيّأ للعب دور سقراطي أو لإقامة أيّ تعليم أو حتى للتصرف بتلك الطريقة البارعة التي تسمح بها الكلمات المنطوقة. وأقلّ من نيتشه أيضاً، كان يتمنّى أن يكون على حق، ولم تكن ممارسة النفوذ، بواسطة الإشارات أو المَثَل، لتدخل في نشاطه.
بمعزل عن المحتوى والشكل، فإن ما يجعل هذه القدرة على الكلام ظاهرة لكل مُحاور هو أن التكلّم شيء جسيم: ما أن نتكلّم، وحتى بأبسط الطرق والأفعال، حتى يكون المقصود شيئاً مفرطاً، متوقّعاً في تحفظ الخطاب المألوف. تلك هي الهبة الأولى التي قدّمها لنا هذا الكلام الصحيح: التكلم هو حظ والتكلم هو سعي وراء فرصة مؤاتية، هي فرصة علاقة مفرطة "فوراً". ثمة هبة أخرى مرتبطة بهذه الجسامة: التكلم هو الخفّة بالذات. ففي أكثر الأحيان، عندما نتكلّم، أو كذلك، إذا كنا نسمع أحدهم وهو يتكلّم، لا بدّ لنا بعد ذلك من الشعور بالانزعاج، كما لو أنه من العار استعمال الكلمات، ولو لقول أشياء مهمة، ولو لقول أشياء تافهة. في الحالة الأولى، لأننا شوّهناها بالتكلم عليها ببراعة زائدة، وبرعونة زائدة؛ وفي الحالة الثانية، لأننا نشوّه الكلام نفسه في جدّيته. لن أؤكّد أن كل مقابلة مع جورج باتاي كانت خالية من هذا الشعور، إنما بأن الكلام كان يأخذ على عاتقه حينئذ انزعاجه الخاص، وبمجرَّد أن يشعر به، كان يدّعي مسؤوليته ويحترمه ليردّه إلى حركة مختلفة. هنا، أصبح عيب الكلام توسّطه، والطريقة التي يتوّجه بها أحدهم، بقرار معاد امتلاكه باستمرار، إلى شخص آخر ليستجيب لصراحة حضور [تماماً مثلما لا يمكن أن ينفصل سمو الكينونة وعظمتها عن انحطاطها].
كان لابدّ من العودة إلى فكرة الحضور هذه المرتبطة بفعل الكلام. فهذا الحضور نادر. إنه لا يختلط مع سمات واقع مادي محدَّد. حتى الوجه، في تأكيده المرئي الذي لا يُنسى ليس واضحاً كما يمكن أن يكونه الكلام عندما يبين الحضور فيه. من هنا ينبغي استبعاد الخطوة المسرحية للأصوات، وحيل التعبير المتعمَّدة، وحتى الإبراز الفوري للحركات المحسوسة. إن ما هو حاضر في هذا الحضور الكلامي، مذ يتوكّد، هو بالضبط ما لا يُرى ولا يُبلَغ أبداً: ثمة شيء ما هناك، يتجاوز الإدراك [إدراك الشخص الذي يقوله والشخص الذي يسمعه على السواء]. فهذا بيننا، وهو يقوم بين، والمقابلة هي الاقتراب انطلاقاً من ما بين الاثنين هذا، من هذه المسافة المتعذرة الاختصار التي ينبغي الحفاظ عليها إذا شئنا الإبقاء على العلاقة مع المجهول التي هي هبة الكلام الوحيدة.
وهكذا، فإن لأبسط حركات الاتصال شرطها الخاصة، لأن كل شيء يكون موضوع بحثٍ في كل كلمة منطوق بها. إننا لا نتكلّم أبداً دون أن نقرّر ما إذا كان العنف، عنف العقل الذي يريد أن يثبت وأن يكون على صواب، عنف الأنا المالكة التي تريد أن تتوسّع وأن تنتصر، سيكون مرة أخرى قاعدة الخطاب. ففي التحفظ، حيث لا يعتبر جورج باتاي نفسه متعادلاً، حتى وهو يتكلم مع صديق قديم جداً، ليست المسألة مسألة حذر ولا حتى اهتمام بالمُحاور فحسب، بل أكثر من ذلك بكثير: إنها دعوة صامتة إلى الانتباه لمواجهة خطر الكلام المشترك، وكذلك مهارة في هذا الاحتراس الذي يسمح وحده بقول كلّ شيء، وأخيراً، التلميح إلى التوجّه نحو المجهول، الذي يكون شخصان معاً، مرتبطان بشيء جوهري، مضطَرّين تقريباً لإظهاره فوراً. كلام كثير الاحتراس، موجَّه نحو الداخل، ودالّ بهذا الاحتراس على الفكر المركزي المستحيل، ذاك الذي لا يُفكَّر فيه.
***

هنا، يجدر التساؤل حول المعنى الخاص لمثل هذه الحركة الشفهية، بما أنه يعود إلى جورج باتاي أن يمنحها صفة عمقية خاصة. لماذا التكلم بدلاً من الكتابة؟ ما الذي يخطر في البال من خلال تلك الضرورة التي تتحقّق أو تغيب عندما يجري التكلّم بطريقة تورّط الفكر مباشرةً؟ لنتذكّر أن المقصود ليس تعليم شيء ما أو استخلاص الحقيقة كما فعل سقراط، بالانتقال من الواحد إلى الآخر لتثبيت البحث عن الحقيقة بتقلّبات حديث مستمرّ. إنما لنتذكّر أن المقصود ليس كذلك –أقلّه على هذا المستوى- ما يسمّيه ياسبرز (Jaspers) حوار الوجودات، تلك الحركة التي بها يقيم كائنان علاقة ما بطريقة محسوسة، حيث يكون عدم التحفظ لازماً، عندما لا ينكشف السرّ الخفيّ إلاّ ليُسلَب ويُدنَّس. إذا كان التكلّم يوجب هذا الاحتراس الذي هو تنبيه أكثر مما هو تحذير، فذاك لأنه غير مألوف بالنسبة للفكر: فما يغريه دائماً هو اللامألوف. ليس ثمة استكشاف في ما يصبو إليه، إنما في كل مرّة بداية جديدة، والقرار بأن يعرض نفسه على المجهول الذي يدعم قصده. ومع ذلك فإن عدم الألفة هذا الذي تحافظ عليه الغرابة في الكلام هو أيضاً ألفة الفكر، وهو يمرّ بهذه الألفة الفظّة، الصامتة، أعني الضمنية المخصَّصة من أجل أن يُفتح بين متحاورَيْن اثنين، في الحيّز المعروف والقابل للارتياد، حيّز آخر تختفي فيه الإمكانيات العادية. إن هذا الحيّز الذي تفتحه ألفة الفكر غير المألوفة، هو حيّز الانتباه. لكن، لابدّ من الإيضاح فوراً بأن مَن يتكلّم لا يحتاج فقط إلى مستمع منتبه. فالانتباه هو بين هذا وذاك: نقطة الالتقاء، العلامة على ما بين الاثنين التي تقرّب بفصلها، إنه يفرغ المكان من كلّ ما يزحمه ويجعله منظوراً. إنه غياب شديد، معمَّق بألم أحياناً، وانطلاقاً منه وبالتزامن معه يمكن أن يتوكّد الحضور الكلامي. انتباه لا شخصي، بمعنى أنه ليس انتباه شخص معيّن، بل ترقّب ما هو موضع بحث، بواسطة الكلام، بين الأشخاص الموجودين. غير أنه انتباه يستجيب لتفاهم كائنين، مَدفوعين كليهما بقرار دعم حركة البحث ذاتها، وتالياً، بقرار الوفاء [بلا ثقة ولا ضمانة] لهذه الحركة الدقيقة نفسها: هنا، ينشأ وعد متبادل يعهد في لعبة الفكر إلى صراحة مشتركة، تلك اللعبة التي يلعبها إنسانان متكلّمان، والتي بها يُطلَب من الفكر في كلّ مرة، أن يؤكِّد علاقته بالمجهول.
لنفهم إذاً أن الأساس في هذه اللعبة، هو المقصود: بلوغ تأكيد لا متناه. ولنفهم أيضاً أنه في هذه اللعبة، المستغنية عن كلّ أساليب أو قواعد اللعب، بما فيها أساليب وقواعد البلاغة والخالية من أية وسائل أخرى غير حركة الكلام الأكثر بساطة، لا مجال لأن يربح المشاركون، أي لأن يبرهنوا ويثبتوا في سبيل حقيقة ما برسم المعرفة. فاللاعبون [إنني أحافظ على هذه الصورة حتى ولو أفسحت مجالاً لسوء الفهم] لازمون لمواصلة مباراة ليست بالنسبة إليهم سوى نهاية مباراة، غير أن إحياءها يخدعهم هم أنفسهم بطريقة غير متوقّعة، يجعلهم المسؤولين المؤقتين عن فكر المجهول هذا. لنفهم إذاً لماذا يمكن ألاّ يكون المتكلّم أدنى مرتبةً من الكتابة. فالكلام يحمل معه الصفة الطارئة التي تربط في اللعب الفكر بالصدفة. إنه يخضع مباشرةً للحياة، لأمزجة العيش وأتعابها، ويتقبّلها كحقيقته الخفيّة: إن لاعباً متعباً قد يكون أقرب إلى انتباه اللعب من اللاعب البارع، المسيطر على نفسه وعلى الانتباه. والكلام هو بوجه خاص عرضة للهلاك. لا يكاد يُقال حتى يزول، ويضمحلّ نهائياً. إنه يُنسي. فالنسيان يتكلّم في ألفة هذا الكلام، ليس فقط النسيان الجزئي والمحدود، إنما النسيان العميق الذي ترتفع فوقه كلّ ذاكرة. فمن يتكلَّم يكون منسياً سلفاً، ومن يتكلّم يفوّض أمره للنسيان. بتعمّد تقريباً، أعني بربط حركة التفكير -التأمل، كما يسميه جورج باتاي أحياناً- بضرورة النسيان هذه. فالنسيان هو سيّد اللعبة.
***

إن جورج باتاي، المتكلّم بهذه البساطة، بجاذبية الكلام الخفيفة هذه، والحاضر بكلامه لا في استخدامه إياه للتعبير عن إحساس مؤثّر إنما للتأكيد، في التحفظ والاحتراس، على الاهتمام الذي ما سمعه محاوروه قط متقاعساً عنه، قد ربط مواربات المقابلة بلعبة الفكر اللامحدودة، أودّ أن أشدّد على هذه النقطة. عندما نتكلّم لنقول شيئاً نعرفه أصلاً، إما لإشراك شخص آخر في معرفته لأن ذلك يبدو لنا صحيحاً، وإما بالأحرى للتحقّق منه بإخضاعه لرأي جديد. وأندر من ذلك هو كلام يفكّر بينما يعبّر عن نفسه –وربما لأن الميل للكلام لا يشجّع التفكير الذي يحتاج إلى صمت، والذي يحتاج أيضاً إلى وقت، إلى وقت فراغ، رتيب ومتوحّد لا يمكن تقاسمه، دون انزعاج، مع محادث آخر، صامت بدوره. مع ذلك، يحدث في نوع معيّن من الحوار أن يتمّ هذا التفكير بمجرَّد كون الكلام مقسوماً، ومضاعفاً: فما يُقال مرةً من جهة، يُعاد قوله مرةً ثانية، من الجهة الأخرى، ولا يُعاد تأكيده فحسب إنما [لأن هناك تكراراً] يُرفَع إلى نوع من التأكيد الجديد حيث تنشأ علاقة بين الشيء المُقال، المغيَّر مكانه، وبين اختلافه، ويصير أكثر حدّةً، أكثر مأساوية، إنما ليس أكثر توحّداً، بل يصبح بالعكس معلَّقاً مأساوياً بين نقطتي جذب. إن حواراً من هذا النوع هو بالضبط ما يقود إليه الكلام المتورّط في لعبة الفكر، مثلما استحضره لنا جورج باتاي بحركة كانت خاصةً به. إن هذا الفكر الذي تُخاض لعبته بلا نهاية الفكر، كرهان –بلوغ تأكيد لا متناه- لا يتحقّق على شكل دعوة إلى السؤال والجواب، ولا إلى التأكيد، بل إلى الاعتراض. إنه يستبعد كل مناقشة، يهمل كل مناظرة [هذا العمل الذي يتشارك فيه شخصان لهما آراء مختلفة بخلافاتهما، فيواجهان أطروحة بأخرى في سبيل الوصول إلى توفيق جدلي]. ففي الحوار الذي نتفحَّصه، يكون الفكر نفسه موضع اللعب بدعوتنا إلى أن ندعم في اتجاه المجهول لا نهاية هذه اللعبة، عندما يكون التفكير، حسبما أراده مالارميه (Mallarmé) إرسال ضربة نرد. فليس المقصود، في هذه الحركة، هذه المفاهيم أو التصورات أو تلك، أياً تكن أهميتها، إنما دائماً التأكيد الوحيد، الأوسع والأشدّ، بحيث يكون من شأنه، وقد استنفد الفكر، أن يعزوه إلى قدرة مختلفة تماماً، إلى قدرة ما لا يمكن بلوغه ولا التفكير فيه. لا يمكن إلاّ وأن يظلّ هذا التأكيد كامناً، غائراً في كل ما يؤكَّد بشأنه: ليس فقط لأنه لا يمكن السيطرة عليه، إنما لأنه يفلت من كلّ وحدة، حاملاً معه العلاقة المتحفظة للغاية التي ينجم عنها كل ما يتوكَّد. علاقة مخيفة تنفتح على الخوف، كما يقول جورج باتاي، ويستمرّ الكلام من خلال لعبته في إلزامنا بالردّ        عليها: «-الخوف... أجل الخوف، الذي تبلغه فقط لا نهاية الفكر...».
لنحاول، انطلاقاً من هنا، أن نحدّد طابع الحوار الذي ينتج عن ذلك، بدلاً من تسميته حواراً، ينبغي كلاماً جَمْعياً (parole plurielle) إذا كان هذا الأخير، في بساطته، هو البحث عن تأكيد لا يوحِّد ولا يوحَّد، محيل باستمرار إلى اختلاف وأكثر ميلاً باستمرار إلى الاختلاف، مع أنه ينجو من كل إنكار. إنه كلام غير جدلي أساساً: إنه يقول الآخر (autre) تماماً الذي لا يمكن تحويله إلى النَفْس (Le même)، ولا أن يأخذ مكاناً له في كل (un tout)؛ كما لو كان المقصود عدم التكلّم إلاّ حين يُفتَرَض، بقرار مسبق، أن «كل شيء قد قيل آنفاً». من هنا ذلك الموقف الغريب للمتحاورين: فهم ليسوا معاً، مع أن الأساس يجمعهم، بما أنه لا يوجد حيث هم، بالمعنى الحصري، كلّ ممكن؛ إنهم يقولون الشيء ذاته، متكلّمين في الاتجاه ذاته، لأنهم لا يناقشون ولا يتكلّمون على موضوعات قابلة للمعالجة بطريقة مختلفة، إنهم ناقلوا الكلام في سبيل ذلك التأكيد الوحيد الذي يتجاوز كل وحدة، وهم لا يتعارضون إذاً ولا يتميّزون في شيء لجهة ما يتعيّن عليهم قوله، ومع ذلك، فإن مضاعفة التأكيد والتفكير فيه، يميّزانه دائماً بشكل أعمق، مكتشفَيْن الاختلاف اخفي الخاص به والذي هو غرابته المستورة على الدوام: من هنا وجود تفاهم يتعمّق باستمرار، إنما بلا اتفاق، وهو تفاهم مبنيّ على فجوة لا ينبغي سدّها ولا حتى فضحها. يمكننا القول إن أحد هذين الشخصين المتكلمين هو حتماً "الغير" الغامض –ومَن هم "الغير"؟ المجهول، الغريب، الغريب عن كل مرئي وغير مرئي والذي يأتيني ["أنا"] مع ذلك ككلام عندما لا يعود التكلّم هو الرؤية. أحد الاثنين هو الآخر، ذاك الذي هو، في أكبر بساطة إنسانية، قريب باستمرار مما لا يمكن أن يكون قريباً "مني": قريب من الموت، قريب من الليل. لكن، من أنا؟ وأين هو الآخر؟ الأنا أكيد، أما الآخر فلا. إنه غير محدّد، غير قابل للتحديد، ومع ذلك، فهو يتكلّم كل مرة وهو، في هذا الكلام، أكثر آخَرية من كل ما هنالك من آخر. هكذا يكون الكلام الجمعي ذلك الكلام الوحيد حيث إن ما يُقال منّي ["أنا"] مرةً يكرَّر من "الغير" مرة أخرى، ويُردَّ هكذا إلى اختلافه الجوهري. إذن، إن ما يميّز هذا النوع من الحوار هو أنه ليس فقط تبادل أقوال بين أناوين (deux Moi) اثنين، بين شخصين بصيغة المتكلّم، بل إن الآخر يتكلّم فيه في ذلك الحضور الكلامي الذي هو حضوره الوحيد، كلاماً محايداً، لا متناهياً، عديم القدرة، حيث تكون لا نهاية الفكر هي المقصودة، تحت حماية النسيان.
***

ربما يظهر السبب الذي يجعل هذا النوع من التعبير يتجاوز حركة الاتصال ذاتها. إنه يتجاوز كلّ جماعة، وهو غير مخصَّص لإبلاغ شيء ولا لإقامة علاقة مشتركة بين كائنين، ولو بواسطة المجهول. [فالمجهول كمحايد لا يمكن أن يقوم مقام الوسيط، بما أن العلاقة معه –التأكيد اللامتناهي- تسقط خارج كل علاقة]. لذلك أيضاً، لا يمكن اعتبار الكلام الجمعي مجرد حوار، بمعنى أنه لا يصبو إلى المساواة ولا إلى المعاملة بالمثل. بالطبع، سوف يتكلّم المتحاورون مع بعضهم من الند إلى الند، إذا تكلّموا مع بعضهم، إنما بمقدار ما يجيبون على ذلك الغير اذي يتطابق كلامه تارةً مع كلام أحدهم وطوراً مع كلام الآخر، بمقدار ما يكون هناك، كل مرة، اختلاف لامتناه بينهم، وهذا اختلاف لا يمكن تقويمه من زاوية التفوق أو الغلبة.
وفي الوقت ذاته، لا ننسى أن لعبة الفكر هذه لا يمكن أن تُلعب وحدها، فهي تحتاج إلى شريكين في اللعب، ويجب أن يورّطهما في اللعب القرار نفسه والصراحة نفسها والعلاقة بالبرهان نفسها. ولمزيد من التوضيح، يمكننا القول إن الحديث الذي يتابعانه، وتلك الحركة بالتوجّه معاً نحو لا نهاية التأكيد، مماثل لحوار اللاعبين بالنرد: فهؤلاء يتحاورون، لا بالكلمات التي يتبادلونها –فهم صامتون بشغف- إنما بواسطة النرد الذي يرمونه بالتناوب في وجه الليل الشاسع للحظ المتعذّر إمساكه الذي يجيبهم كل مرة على نحو غير متوقع. هنا، لا يلعب الشريكان الواحد ضد الآخر، إنما يلعبان بالأحرى الواحد للآخر، لعبة تفصلهما، تقرّبهما أكثر، وإذا كان الكلام هو، في هذه الحالة، النرد ذاته الذي يُرمي والذي يسقط في حركة مزدوجة تتحقَّق خلالها مضاعفة التأكيد الذي ذكرناها آنفاً(3)، فإن الحوار لن يقوم إلاّ بلعب شخصين دفعةً واحدة، برمية نَرْد واحدة، دون أي ربح آخر غير إمكانية اللعب، وهي إمكانية لا تتوقف على قدرتنا على البلوغ، عندما تكون لا نهاية الفكر هي المقصودة، بواسطة الكلام.
لن أتعمّق أكثر في معنى قضيّة بمثل هذه الكثافة. حسبي أن اقول، ضمن المنظور ذاته، إن ألفة الفكر غير المألوفة تقيم بين شخصين متكلّمين، يجمع بينهما الأساس، بُعداً وقرباً لا حدّ لهما. كما بين لاعبين ربما. ألفة غير شخصية لا يمكن أن تُستَبْعَد منها تماماً خصوصيات كل شخص، لكنها لا تأخذها في الاعتبار مبدئياً. يستطيع كل لاعب أن يراهن على وجوده الخاص، لكنه، كلاعب، بلا خصوصية، ومُشْرَك في اللعب مغفلاً [بلا اسم]، ومحوَّل إلى الحقيقة المطلقة للخطر اللامتناهي الذي ينزع منه كل واقع اجتماعي محدَّد: بلا تاريخ، بلا طرفة، مجهول هو نفسه من خلال تلك العلاقة المجهولة حيث يتوكّد ويستدعي كل مرة [كما لو أن ذلك قاعدة ضمنية] أن ننسى كل ما نعرفه عنه أو على الأقل ألاّ ندخل هذه المعرفة في اللعبة. إنها علاقات غريبة مميَّزة، حصرية أحياناً لا تحتمل بسهولة مشاطرتها مع آخرين، علاقات اختفائية في وضح النور، لا يضمنها شيء، وتمثّل هي نفسها، عندما تكون قد دامت عمر إنسان بكامله، الحظ غير المتوقع، الحظ الفريد الذي قامت من أجله. 

3
التمرّد، جنون الكتابة
       
1- قراءة ساد صعبة، إنه واضح، سَلِسَ الأسلوب، وذو لغة صريحة. إنه ينشد المنطق؛ يفكّر، ولا يهتم إلاّ بالتفكير؛ وهذا العقل، الخالي من الأحكام المسبقة، يتكلّم ليُقنع، وبالاستعانة بالحقائق التي يعطيها شكلاً عاماً، والتي تبدو له بديهية إلى حدّ أن كلّ اعتراض يُعزى بقوة إلى اعتقاد باطل. إنه يصبو إلى العقل، وبالعقل يهتم، بعقلٍ يقترحه على الجميع وسيكون موافقاً للجميع.
أظن أنه لا ينبغي نسيان ذلك أبداً، أي علاقة ساد هذه بعقل ما [من هنا الطابع البرهاني لأقل كتاباته والذي يهزأ به الواعظون]. وكيف ستنساه القراءة، وهي تصادف حالاً هذا الطموح، هذا الشرط المعقول، إنما كيف لا تنساه، وهي تصادف حالاً كل ما يلزم لدحضه: التناقضات الأكثر وقاحةً، حجج تنقلب، قضايا لا تصمد، تنافر أمانٍ ومبادئ نتفاجأ بها إما بشدّة وإما شيئاً فشيئا؟ يستطيع كلّ واحد أن يختبر ذلك بنفسه. ولن أذكر غير مثل عام واحد مقتبس من الكتيّب المشهور(4). ففي الجزء الذي يعالج موضوع الدين، يطالب المؤلَّف باستبعاد هذا الأخير إذا أردنا أن يكون عندنا مواطنون صالحون وآباء صالحون وأزواج صالحون؛ أمّا المبرّر الذي يثبت ذلك فهو أن رجالاً مذعورين، جهلة وأذلاّء، كما هم جميع المؤمنين، لا يستطيعون القيام بواجباتهم المدنية لكونهم قد فقدوا كلَّ إحساس بالحرية. لكنه، في الجزء الثاني، يوصينا بمثال مختلف تماماً، وإذا به يقترح علينا أولاداً بلا أب ويقرّ شيوع النساء وشيوع الرجال ويلغي العائلة أخيراً، وبتأكيد قوي يقول: «لا تتصوّروا أن تصنعوا جمهوريين صالحين ما دمتم تعزلون الأولاد الذين ينبغي ألاّ ينتموا إلاّ إلى الجمهورية داخل عائلاتهم». حسناً، ها قد اقتنعنا. لكننا في موضع آخر أو في الوقت ذاته، نتبيّن فكرة مختلفة كلياً: أولاد بلا أب، نعم، إنما ليس من أجل رفعة الجمهورية بل من أجل سهولة الفسق؛ النساء الشائعات للرجال [والرجال الشائعون للنساء]، ليس من أجل شيوعية شريفة للأعراف إنما لتيسير الاستمالة إلى البيوت المخصَّصة للدعارة؛ أما العائلة، فإذا كنّا لم نعد الآن مستعجلين لإلغائها، فذاك للحفاظ بوجه أفضل على الزنا، كما على كلّ الانحرافات التي ستزول معه، بدءاً بارتكاب المحارم الذي يكتب عنه ساد بدعابة خفيّة خاصة به: «أسمح لنفسي بأن أؤكد بأن ارتكاب المحارم يجب أن يكون قانون كلّ حكم يكون الإخاء أساسه». لنتوقف هنا. فإن قارئاً سوف يلقي الكتاب من يده مقتنعاً بخرق مؤلِّفه؛ بينما سيحتفظ به قارئ آخر بسبب هذا الخرق. وأعتقد أنهما سيكونان كلاهما على خطأ. ربما كان ساد مجنوناً مثلما لابدّ أن نكون جميعاً في أوقاتنا الليلية الحلوة، غير أن ما يكتبه لا يقع تحت طائلة هذا الحكم. والدليل هو أننا معرّضون لطريقة في الفهم تفوتنا، ومع ذلك تجذبنا. بسبب ذلك، فإننا، رغماً عنّا وعلى الرغم من رغبتنا في منطق بسيط، نستأنف القراءة، مجذوبين بحركة لن تتوقف من بعد.
2- ثمة شيء يُبحث عنه في ساد. وهذا البحث، الذي هو بحث عن وضوح جديد، لا يتواصل على طريقة استفهامية، إنما بتأكيدات واضحة، مضمونة، وحاسمة على الدوام. وذلك خاص به. إن العقل التحليلي، بمسلّماته وسرعته الإثباتية، موضوع هنا في خدمة مبدأ نهائي لا يُكتشف، وذي جاذبية لا تأخذ في الاعتبار قطعاً تحديدات التحليل. وهذا المزيج، هذا الخليط من الوضوح والغموض هو ما يربكنا ويعقّد قراءتنا، جاعلاً إياها عنيفة باطنياً. عنفٌ أشدّ بكثير من عنف الانقلابات القاسية، والتي تفيد بالأحرى لتسليتنا ما لم تكن تمثّله. بالطبع، يمكن القول إن ساد يكتفي بأن يستمدّ من عصره ذلك العقل الوضعي الهادئ، مثلما يستمد منه اللغة الواضحة والكتابة الخطيّة (Linéaire) الخالية من الظلال. وسوف نضيف بأنه يجعلها تخدم بطريقة ما حقائق أو مبررات لا تتوافق معها. أما وقد قيل ذلك، فإنه يمكن أن يصمد. أعتقد أنه ينبغي أن نوضح فكرتنا بطريقة مغايرة. فما يوجد من مغالاة عند ساد، في تجربته وفكره، وضرورة الإفراط تلك، لا يؤكد فقط حقه في العقل، ولا يكتفي بالإقرار بتوافقه مع مبادئ عقل وضعي [عقل المادية الملحدة] بل يعرف أنه أكثر إدراكاً من هذا الأخير، لأنه يبالغ أكثر منه في الحركة الماثلة فيه ولا يخشى أي عاقبة. المسألة عند ساد هي دائماً مسألة منطق: فهو يشعر أنه أكثر دقّةً وأكثر ارتباطاً وحتى أكثر تماسكاً –تماسك يشتمل على التفكك- من الآخرين، والهيجان الذي يستولي عليه هو في أكثر الأحيان هيجان عقل مقموع، معاق في تقدّمه الذي يوشك أن يلقيه في المهاوي. أن يكون العقل قادراً على صيرورة نشيطة، وأن يكون هو نفسه في صيرورة نشيطة، وأن يكون هو نفسه في صيرورة دائمة، بما أنه في الأساس حركة، فتلك هي إحدى حقائق ساد، ويمكننا القول إن تلك هي أيضاً الحركة التي تثير نتاجه، وهي حركة مفرطة طبعاً، إنما أن يكون المرء عاقلاً فهذا يعني دائماً أن يكون أولاً عاقلاً بإفراط.
3-  العقل المفرط. ولن أشدّد على مختلف الطرق التي يكشف بها نتاج ساد هذا الإفراط. إنما للتعداد – للتبسيط- يمكن القول إن هناك ثلاث طرق:
-   الأولى ذات طابع موسوعي. والمقصود هو إحصاء كلّ الإمكانات البشرية، وبالضبط تلك التي تُعتبر مشوَّشة والتي هي أقوى مظاهر الطاقة، التي بدونها لا يعود العقل طبيعياً [لا يعود تلك النار التي أشعلتها الطبيعة والتي فيها تحرق هذه الأخيرة وتحترق بطريقة لا تقبل الفساد].
-   الثانية ذات طابع جدلي. وهذه إحدى السمات البارزة لنتاج ساد، والتي لم تعد مجهولة. إنني أحيل القارئ هنا إلى البحث المكتوب بعنوان عقل ساد وكذلك أفكار جورج باتاي وبيار كلوسوﭭسكي العميقة. عندما يؤكد بأن جلّ ما فعله هذا النبيل الداعر هو التفتيش في المبادئ المادية الوضعية عن الحجج السهلة القادرة على تبرير سوء سلوكه، وعندما يُضاف أنه ظاهرة عصرٍ وأنه ينتمي إلى عصره، فإنما يُقال الحق حتى ولو استخدم ساد، جلياً، للتنديد بالإلحاد المادي، وحتى ولو سارع البعض، في الوقت نفسه، إلى ردّ المغالاة الموجودة عند ساد إلى لا أخلاقية العصر. يُقال الحق باستثناء أن ساد لا يسعى قطعاً في كتبه إلى التبرؤ من سلوكه الذي كان يبدو له دائماً عادياً للغاية، وأنه، مع ذلك، إذا كان هذا تبريراً، فإنه تبرير أحمق، إذ يميل إلى إظهاره فرضيا بأنه مذنب في جرائم هائلة لم يقترب منها أبداً. لكن، أن يفتِّش عن معنى لفكره الذي لا يميّزه، بحق، عن مقدرته التخيّلية، وأن يتساءل على طريقة التأكيد: لماذا يمكن أن أتصوَّر ذلك؟ وإلى أي حدّ من التخيّل الزائد يمكن أن أصل؟ وماذا يعني هذا النزق، وهذه الحركة الرائعة، وربما الفريدة، إنما غير مخصَّصة قطعاً، كما هي، لي وحدي والتي يكمن أساسها في سبب خفيّ؟ فصحيح تماماً أن ذاك هو اهتمامه وأن هذا الاهتمام، الماثل في كلّ نتاجه، يتوكد فيه باستمرار كعمل عقل أكبر، سواء كان هذا العقل يتهيّأ أم يتغيّر أم يتهيّأ بالانهيار. إنما لماذا صفة الجدلية؟ أو ليس هناك شيء من المجاملة أو من التهوّر في قول هذه الكلمة الموعودة بمستقبل كبير إلى هذا الحدّ؟ ساد ليس هيغل، فثمة بون بينهما. لكنني لا أرى أية مفارقة تاريخية في إطلاق صفة الجدلية بالمعنى الحديث على الطموح السادي** أساساً إلى بناء سيادة الإنسان العاقلة على قدرة إنكارية متعالية، وهي سلطة لا يفوته أن يقرّ بها لمبدأ أوضح وأبسط عقلٍ وضعي. كيف تُبين هذه القدرة الإنكارية اللامحدودة وتلغي دورياً، بتجربة دائرية، مفاهيم الإنسان والله والطبيعة لتؤكّد في النهاية الإنسان الكامل «الإنسان الفريد من نوعه»، وكيف ينتهي إذاً إنكار لا متناه، بتطابقه مع كل مراحل تجربته –تطابقاً ليس توفيقاً بل حدث خاطف- إلى التماسك كتأكيد هو أيضاً لا متناه، فإنني أعتقد أنه لا يسعنا قراءة ساد دون الاعتراف بأن هذه هي بالضبط حقيقة الحركات المشوَّشة التي ستكشف نفسها في نتاج واسع.
-   إنها تستكشف نفسها فيه بواسطة حركة الكتابة. وهذا هو الشكل الثالث الذي يظهر فيه اعتدال عقل مفرط. فالكتابة هي جنون ساد الخاص. لا يفتَّش عن هذا الجنون في انحرافات أخلاقه التي سمّاها هو نفسه بهذا الاسم دون تردّد، والتي يرى فيها إما مجرّد نتيجة لجبلته ومزاجه وإما، على نحو أبرز، علامة على حريته، تلك التي، بتنحيته جانباً، تحرّره من الأحكام المسبقة لمجتمعه إلى حدّ التأكيد بأنه سيتخلى بشدّة عن هذا المجتمع يوم يكفّ هذا الأخير عن مقاومتها. إنه لتصريح رائع. وبسرعة كبيرة، يكفّ عن التفريق بين نفسه وعزلة سجنه، ومن هذه العزلة الدفينة التي كانت ترعبه [مضاعفاً: هي بنفسها، ومن خلال العقاب الذي كانت تمثّله له] نشأت وانطلقت، حين انقلب الرعب إلى اغراء. الحاجة إلى الكتابة المتعذّر كبتها، كطاقة كلامية مخيفة لم تعد تهدأ. ينبغي قول كلّ شيء. فأوّل الحريات هي حرية قول كلّ شيء. وهكذا يعبّر، على شكل مطالبة ملازمة من الآن فصاعداً لجمهورية حقيقية، عن الضرورة الأساسية. غير أن "الكل" المقصود في حرية قول كل شيء هذه، لم يعد فقط شمولية المعرفة الموسوعية [ولو كانت معرفة إمكاناتنا المنحرفة] ولا حتى مجمل تجربة يتحقَّق فيها المعنى بحركة إنكار موصلة إلى نهايتها –خطاب دائري هو إذاً التأكيد، المبثوث والمنجز، على السيطرة على كلّ شيء.
إن قول كلّ شيء عند ساد، كل ما يُسمع في كتبه كاجترار هائل لكلام أبدي، واضح أبديًا، وفارغ أبدياً، يذهب إلى أبعد من ذلك أيضاً. لم يعد المقصود هو كل الممكن الذي يقدَّم ويُبان فيه. وهو ليس أيضاً –كما ظُنّ بسهولة زائدة –عموم القيم التي يمنعنا دين أو مجتمع أو أخلاق من التعبير عنها. المحظور يلعب دوره قطعاً، في حركة اللاتحديد هذه، كحدّ يجب تجاوزه. لكنّ هذا ليس إطلاقاً الحدّ النهائي. وفي وسع ساد أن يحسّ بمتعة، بمتعة عادية صحية، في المشاهد القوية التي يتخيّلها، حيث تُهزّأ جميع حقائق عصره وحيث يقول ما لا يُقال، وينصح بالرعب. فتوجيه السبِّاب وتظيم الشرّ والدفاع عن الشهوات الإجرام، كلّ ذلك هو بالنسبة إليه أقل شيء لا يحرم نفسه منه، إنما لا مجال لأن يكتفي به. فثمة شيء أعنف يتجلّى في جنون الكتابة هذا؛ عنف لا يفلح في استنفاده أو تهدئته كل إفراط خيالٍ رائع أو شرس، إنما دائماً أقل من احتداد كلام لا يحتمل التوقيف مثلما لا يتصوّر نهاية. عنف قوي بقدر ما هو بسيط، يتوكدّ بكلام لا لبس فيه، خال من كلّ قصد خفيّ، يقول دائماً كل شيء بلا تكلّف ولا يتصنّع بشيء، متكلّماً هكذا بطهارة، خالياً فعلاً من تلك البذاءة غير المحتشمة التي ستعكّر بها الكلام قريباً انفعالات شاتوبريان العظيمة، دون أن يندّد به أي قانون. هنا تُردّ الوقاحة الكبرى إلى القوة التكرارية فحسب، وهي وقاحة سرد لا يصدم بالمحظور لأنه لم يعد ثمّة محظور آخر [كل هذا النتاج –الحدّ يخبرنا إياه برتابة إشاعته المخيفة] غير وقت ما بين القول (l’entr-dire)، ذلك التوقف الصرف الذي لا يمكننا بلوغه إلاّ بالاستمرار دوماً في الكلام.
4- الكتابة هي جنون ساد الخاص. والحرية لا تخلّص من هذا الجنون، الذي سبّبه السجن أو على الأقل أوصله إلى ما هو عليه، من قوة غامضة وخفيّة دوماً، إنما هي تضيف إليه بالأحرى جنوناً آخر يجعله يعتقد بأن في وسعه أن يتوكّد في وضح النهار، وكأنه مخزون أو مستقبل الإمكانات المشتركة. وهكذا تتزامن للحظة –الوقت الذي تلتقي فيه الثورة والفلسفة وراء قضبان الحديد(5)– هاتان الفُرجتان التاريخيتان، المختلفتان كثيراً طبعاً، واللتان تبقى إحداهما ذكراً دائماً وتفتح التاريخ بينما تُشكّل الأخرى ما يريد التاريخ دوماً أن ينغلق عليه. لن أدخل في فحص سلوك ساد السياسي خلال السنوات التي كان فيها، على نحو يضايق كثيراً فاضلي الثورة ويرضي كثيراً فاضلي الثورة المضادة، "مواطناً نشيطاً"، يتكلّم ويكتب ضد الملك، ويتكلّم ويكتب إكراماً لمارا (Marat)، وحيث ظهر في الجمعية التأسيسية فخطب أيضاً وترأس خليّة البستوني [خليّة روبسپيير]، واقترح عبادة لا آلهة، ودافع عن أفكاره الخاصة حول مفهوم السيادة وانتزع تبنّيها، وأطلق أسماء ثورية على شوارع باريس، وكان حتى عضواً محلّفاً، بكل سرور، في هيئة اتهامية. ويمكننا أن نتناقش بلا كلل حول مشاعره، وحول ما إذا كان متوافقاً أم لا، بصدق أو برياء، مع سلوكه وتصاريحه الخارجية. لا أظن أن في ذلك لغزاً كبيراً. فهو نفسه غيّر رأيه. وقد صحّ ذلك على الجميع، حتى على سان جوست وروبسبيير اللذين لم يكونا أول من طالب بسقوط الملكية –وذلك ببساطة لأن حقيقة الأحداث كانت تتفوّق على الأفكار دائماً. لقد كان حذراً، إنما بدون حذر حقيقي، ولم يكن دائماً كثير التقلّب، ذاك التقلب الذي يعني الوفاء لسرعة الصيرورة. ولأنه حذر، فإن شيئاً لم يمنعه من البقاء بعيداً أو محاولة الهرب: كان بمقدوره ذلك. حتى لو أخذنا في الاعتبار كل الأسباب الأخرى التي كانت تحمله على البقاء في باريس، فقلّما كان هناك شك في أنه سيبدي أشدّ الاهتمام بما كان يحدث وبأن جزءاً كبيراً منه يجد نفسه في ذلك. أي جزء؟ ذلك الجزء الغامض [الغريب] الذي كان يحكم عليه بالكتابة بلا نهاية دون أن يتمكن من أن يجعل منه كاتباً حقيقياً، مستساغاً اجتماعياً. أعتقد أن كلمة توافق هي الأصحّ. فمع ساد –وبدرجة عالية جداً من الحقيقة المفارقة- لدينا أول مثل [ولكن هل ثمة مثل ثان؟] على الطريقة التي يمكن أن تتوافق بها الكتابة، وحرية الكتابة، مع حركة الحرية الحقيقية عندما تقع هذه الأخيرة في أزمة وتسبب فراغاً تاريخياً. لكنّ هذا التوافق ليس تماهياً. وليست دوافع ساد هي تلك التي أطلقت الطاقة الثورية. إنها تناقضها حتى. ومع ذلك، لولاها، ولولا المغالاة المجنونة التي مثلها اسم ساد وحياته وحقيقته، لحُرمت الثورة من قسط من عقلها.
5- لتكوين فكرة عن تصورات ساد السياسية، أظنّ أنه يكفي الاستشهاد بنصوص قليلة. فعنوان الكتيّب(6) ذاته، المتّسم بتهكّم خفي، يكلّمنا بوضوح كاف. فهو يقول إنه لا يكفي أن يكون المرء في جمهورية حتى يكون جمهورياً؛ ولا أن يكون عنده دستور حتى يكون في جمهورية؛ ولا أخيراً أن تكون عنده قوانين حتى يدوم الفعل التأسيسي، تلك السلطة المبدعة، ويبقينا في حالة تكوّن مستمرّ. ينبغي بذل جهد –ومزيد من الجهد باستمرار- وهنا التهكّم الخفي. من هنا الاستنتاج المضمر بأن العصر الثوري مازال في بدايته. إنما من أي نوع سيكون هذا الجهد؟ ومن سيطلبه منّا؟ ساد يسميه تمرّداً، وهو الحالة الدائمة للجمهورية. بتعبير آخر، فإن الجمهورية لا تعرف حالة بلا حركة فقط –وهي في ذلك مماثلة للطبيعة. وهذا الاهتزاز الدائم ضروري أولاً لأن الحكومة الجمهورية مُحاطة بحكومات معادية تكرهها أو تحسدها [فرضية المحاصرة]: لا سلام للإنسان الذي استيقظ دفعة واحدة؛ فالتيقّظ الثوري يستبعد كل هدوء، ومذ ذاك، يكون السبيل الوحيد للبقاء هو عدم اعتماد نهج محافظ أي عدم الراحة. وهو موقف يعتبره ساد متناقضاً مع الأخلاقية العادية التي ليست سوى جمود وركود: «حالة الإنسان الأخلاقية هي حالة سلام وهدوء بينما حالته اللاأخلاقية هي حالة حركة دائمة تقرّبه من التمرّد الضروري الذي يتعيّن على الجمهوري أن يبقى فيه دوماً الحكم الذي هو عضو فيه». هو ذا سبب أول، إنما هناك سبب آخر يُعطي لنا بتفكير جريء جداً: إن كلّ الأمم التي تريد أن تحكم نفسها اليوم في جمهورية ليست مهدَّدة فقط بالعنف الخارجي: فهي بنفسها، بماضيها، عنيفة أصلاً من الداخل أو مجرمة وفاسدة، حسب مصطلح العصر. فكيف ستتغلَّب على هذا العنف القائم الموروث إن لم يكن بعنف أقوى، وأرعب أيضاً، بما أنه بلا تراث، وأصلي تقريباً؟ إن الفضيلة التي يضعها كلّ المشرّعين في أساس الجمهورية لا تناسبها إلاّ إذا كان بوسعنا بلوغها دون ماضٍ، خارج التاريخ نفسه وببدء التاريخ معها. لكننا أصلاً في التاريخ وفي الجريمة ولن نخرج منهما دون المزايدة في العنف والإجرام. [فرضية نقرّ بها تماماً، ولا يكفي أن نسخط عليها بتسميتها هيغلية لمنعها من أن تكون حقيقة]. ولكن، هل سنخرج منها يوماً؟ وما سيكون الفرق؟ ماذا نكون قد كسبنا؟ أولاً تغيير مصطلحي: فما كان يسمى جريمة سوف يسمّى طاقة: إنه تغيير غير مهم، ومع ذلك، تترتب عليه نتائج جسام. فالعالم المقبل لن يكون عالم قيم. فلا الخير ولا الشر سيكونان قطبيه؛ ولا الفضيلة ولا الرذيلة، إنما العلاقة بهذا الأساس التي يستجيب لها، بالتماهي، الإثبات والنفي المدفوعين إلى أوجهما. عندما يقول ساد: «كلّ شيء جيد عندما يكون مفرطاً»، فإن هذا الإفراط الذي يختلف عن حالة الغليان ويمرّ بما يسمّيه دولمانسيه (Dolmancé) الخمول، والذي هو حالة توتر شديد وفقدان واضح للإحساس، يدلّ على الأخلاقية الوحيدة للإنسان الطاقي كما يدل على نوع السيادة التي يمكن أن يطمح إليها في حركة الحرية هذه حيث لم يعد يشعر، ولو مركَّزاً في ذاته، أنه متميّز عن الانحلال الذي هو السمة المشتركة للكل. الإفراط، الطاقة، الانحلال، تلك هي الكلمات الرئيسة للعصر الجديد(7).
6- لنُعِد الآن القراءة الكاملة للمقطعين اللذين ألمحتُ إليهما. أظن أننا سنفهمهما بوجه أفضل إنطلاقاً من الفكرة الشاملة التي يجدان موضعهما فيها. «لقد شعر مشرّعو اليونان تماماً بالضرورة المهمة لإفساد الأعضاء، حتى ينجم عن انحلالها الأخلاقي المؤثر على ذاك المفيد للجسم، التمرّدُ الضروري دوماً في حكم موفَّق تماماً، كالحكم الجمهوري، لابدّ من أن يثير كره وحسد كل ما يحيط به. كان هؤلاء المشرّعون يعتقدون أن التمرّد ليس قط حال أخلاقية: مع ذلك، يجب أن يكون الحالة الدائمة لجمهورية؛ وسيكون إذاً من المحال ومن الخطر الاشتراط بأن يكون الذين يتعيّن عليهم الإبقاء على الاهتزاز اللاأخلاقي، الدائم للجسم، بأن يكونوا هم أنفسهم أشخاصاً فاضلين جداً لأن الحالة الأخلاقية لإنسان ما هي حالة سلام وهدوء بينما حالته اللاأخلاقية هي حالة حركة دائمة تقرّبه من التمرّد الضروري الذي يتعيّن على الجمهوري أن يبقي فيه دوماً الحكم الذي هو عضو فيه». وهو ذا النص الثاني الذي لا يقل عنه وضوحاً: «ثمة تفكير خاص جداً يخطر لي هنا، لكن، بما أنه صحيح رغم جرأته، فسأفصح عنه. إن أمّة تبدأ بحكم ذاتها في جمهورية. لن تقف على قدميها إلا بواسطة فضائل، لأنه للوصول إلى الأكثر، لابد من البدء دوماً بالأقل؛ غير أن أمة قديمة وفاسدة أصلاً، تريد أن تتمرّد بشجاعة على الحكم الملكي لتعتمد حكماً جمهورياً، لن تصمد إلا بجرائم كثيرة؛ ذلك لأنها الآن في الجريمة، وإذا كانت تريد الانتقال من الجريمة إلى الفضيلة أي من حالة عنيفة إلى حالة هادئة، فستقع في جمود ينتج عنه سريعاً انهيارها الأكيد»(8). إنني بقراءتي ثانيةً لهذا المقطع، أقرّ بأن كلمة جريمة ضرورية تماماً ويجب أن تحافظ فيه على طاقتها الاستحضارية والتحريضية. فللجريمة قوةُ بريق، وحريةُ تحدٍّ، وروعةُ استدعاء تثير دائماً لسان ساد وقلبه على السواء، لكنها ليست أقل إثارة للغة الثورة الصارمة. فهل هو ساد أم سان جوست الذي قال: «لا شيء يشبه الفضيلة مثل جريمة كبرى»؟ وذلك التأكيد الأكثر لغزاً مما يبدو عليه: «الفضيلة تتطابق مع الجريمة في زمن الفوضى» -وتلك النصيحة المخصَّصة لتُدوي بشدّة في جمعية اليعقوبيين: «سلّحوا الفضيلة بحذق الجريمة ضد الجريمة»، حيث يكفي، بقصد الصراحة، أن نستبدل الحذق بالعنف –كيف يمكن أن يكون صواب الفعل هنا إلاّ عنيفاً؟- حتى نهتدي إلى الجوهري عند ساد. أخيراً، عندما يمدح سان جوست الطاقة منذ خطابه الأول، بقوله عنها: «الطاقة ليست القوة»، فإنه يقول شيئاً يحاول كل نتاج ساد أن يقوله أيضاً بمزيد من الاحتداد. [أذكّر بالعبرة الأخيرة لمؤلف جوستيين وجولييت: لا يكون البشر سعداء أو تعساء حسب الكثير أو اليسير من الفضيلة أو الرذيلة، إنما حسب الطاقة التي يظهرونها، لأن «السعادة تتوقف على طاقة المبادئ ولا يمكن أن يمتلكها من يتردد باستمرار»] لنقرأ أيضاً سان جوست «الحل هو تمرّد العقول الفعلي»، وساد: «يجب أن يكون التمرد هو الحالة الدائمة للجمهورية». فما الذي يميّز لا أقول بين هذين الرجلين الغريبين عن بعضهما بقدر ما يمكن أن يكونه رجلان متعاصران قريبان الواحد من الآخر، إنما بين هذين الحُكمين المطلقين بالتساوي؟ إن ذلك واضح. ففي رأي ساد أن التمرد يجب أن يكون تمرّد العادات وتمرّد الأفكار على السواء؛ يجب أن يطال كل الإنسان وكلّ ما في الإنسان؛ بل أكثر من ذلك: إن التخريب المستمر والمفرط في آن سوف يشكّل السمة الدائمة لحياتنا المرفوعة باستمرار إلى أعلى درجاتها، أي إلى أقرب نقطة من نهايتها، بما أنه حيث توجد الطاقة، كإدخار للقوى، توجد الطاقة، كإنفاق للقوى، وهذا إيجاب لا يتحقق إلا بأكبر قدر من السلب. أفهم أن يندَّد هنا باليوتوبيا وبخطر اليوتوبيا [التي تتميّز على الأقل بعدم كونها فقط يوتوبيا الشرّ]. إنما لندع الآراء جانباً.
7- ثمة نص ثالث من شأنه أن يساعدنا على توجيه تأويلنا بشكل أفضل. إنني أقتبسه من الجزء الرابع من قصة جولييت: «حكم القوانين فاسد؛ وهو أدنى من حكم الفوضى. وأكبر دليل على ما أقول هو ضرورة أن يغرق الحكم نفسه في الفوضى عندما يريد أن يصلح دستوره. لكي يلغي قوانينه القديمة، فإنه مضطرّ لإقامة نظام ثوري حيث لا قوانين قط؛ وعن هذا النظام تنشأ في النهاية قوانين جديدة، لكن هذه الحالة الثانية هي حتماً أقل صفاء من الأولى، بما أنها مشتقة منها، وبما أنه كان لابد من تلك الأولى، أي الفوضى، للوصول إلى الثانية، أي تكوين الدولة». إنه نص واضح ظاهراً وموضَّح أيضاً بنصوص أخرى كثيرة حيث نسمع ساد وهو يؤكد بأنه لا يوجد حكم حرّ واحد –ولأي سبب؟ لأن الإنسان هو وسيكون، في كلّ مكان، ضحية القوانين. فالقوانين قادرة على ظلم يجعلها باستمرار أخطر من أي نزوة فردية. إن الشهوة الخطرة لإنسان فرد قد تؤذيني، إنما في النطاق الذي ستحدّده لها شهوتي الخاصة. أما القانون الذي يُلزمني في كل مكان، فلا مجال للطعن فيه: القانون يقضي بأن أكون دائماً محروماً من نفسي، ودائماً بلا شهوة، أي قليل الذكاء وعما قريب غبيّاً. من هنا تلك الانتقادات التي تتكرّر بكل الأشكال: القانون جائر لأنه يملك السلطة ويغتصب السيادة، التي لا ينبغي أن يفوَّض أمرها أبداً فيما يخصّ الأساس؛ والقانون، المبتكر لاحتواء أهواء جاري قد يحميني، لكنه يتركني بلا ضمانة ضد تأكيدات القانون الخاصة، الأكثر فساداً والأكثر قسوةً، لأنها لا تمثّل أبداً شيئاً حراً، ولا تمثل غير قوة باردة، عديمة الحرية؛ وهي أخيراً تضعف وتزيّف علاقات الإنسان الصحيحة، سواء مع الطبيعة أو مع مستقبل المعرفة: «لولا القوانين والأديان، لكان مستوى المجد والعظمة الذي كانت ستبلغه اليوم المعارف الإنسانية متعذّر التصوّر؛ فمن الغريب كم أخّرت هذه الكوابح المعيبة مسار التقدم... إننا نجرؤ على التنديد بالأهواء، ونجرؤ على تقييدها بقوانين... وإلى الأهواء الشديدة وحدها يُعزى الإبداع وروائع الفنون... إن الأفراد الذين لا تحرّكهم أهواء شديدة ليسوا سوى أناس قليلي الذكاء؛ فالمرء يصبح غبيّاً عندما لا يعود صاحب هوىً»(9). إنها سلسلة قناعات ينهيها هذا التأكيد المذهل: «لا تتفجَّر الأعمال العظيمة إلا لحظة صمت القوانين»، لكن من الواضح أن تأكيداً كهذا سيظل عديم الأهمية، وإنه من الأفضل الاكتفاء بخلاصة تنمّ عن تسوية: إذا كان لابدّ من قوانين، فيجب أن تكون قليلة العدد وليّنة؛ وإذا كان لابدّ من أن "تعاقب" الذين نستمرّ في تسميتهم مذنبين، فلا ينبغي أن تطمح إلى إصلاحهم؛ أخيراً، يجب ألاّ تتعدى أبداً على الحياة نفسها، ويستحيل التساهل حول هذه النقطة، لأنه إذا لم يكن بوسع شعب ما أن يظهر حقه في السيادة فكيف سيكون باستطاعته أن يفوّض حقه في الحياة، يعني بالنهاية حقه في الموت؟ «أياً كان الاحترام الذي تفرضه عليّ سلطة جان جاك روسّو، فإنني لا أسامحك، أيها الرجل العظيم، على كونك قد برّرت حق الموت...» إنه إخطار لا يصدر في الحقيقة عن ساد، بل عن سان جوست مرة أخرى. مما لا يعني أن هذا الأخير قد جعل مطلب الفوضى مطلبه. فلا شيء كان سيرعبه أكثر من ذلك. ويبدو لي أن لكلمة قانون، في فمه، عندما يلفظها، الصدى الغريب ذاته والصفاء ذاته اللذين يكونان لكلمة جريمة في فم ساد. مع ذلك، وبالضبط لأن القانون هو دائماً فوق القوانين ولأنه دائماً محقَّر من قبل القواعد، فإن سان جوست يطالب، هو أيضاً، بأن يكون هناك عدد قليل من هذه القوانين [«حيث يوجد الكثير منها، يكون الشعب عبداً»]. ويؤكد أن القوانين المديدة هي كوارث عامة، وأنه يرفض كل ما من شأنه أن يقدّس باسم القانون قوة القمع المدنية، التي يقول عنها بصلابته المهيبة: «أنا لا أرضى بأن أخضع لأي قانون يفترضني كافراً بالنعمة وفاسداً». وفي موضع آخر، في جملة مقتضبة تعبّر عن كل شيء تقريباً، يقول: «في البدء، ليس للمواطن علاقات إلا مع ضميره والأخلاق؛ إذا نسيهما، تكون له تلك العلاقة مع القانون؛ وإذا احتقر القانون، لا يعود مواطناً: هنا تبدأ علاقته مع السلطة». ينتج عن ذلك أن القانون ليس سوى بداية سياق طويل من التقهقر تصبح السلطة في نهايته، وقد غدت قمعية، غارقة في القوانين، مثلما حدث في ظل الملكية. «أما الخضوع للقوانين، فليس هذا واضحاً»، «القوانين المفرطة تقابلها مؤسسات مدنية دون الكفاية». «إذا أردتم تأسيس جمهورية، انتزعوا من الشعب أقل ما يمكن من السلطة». «إذا أردتم إعادة الإنسان إلى الحرية، فلا تضعوا قوانين إلا له، ولا ترهقوه تحت ثقل السلطة». في ظل الملكية «كان القانون يصنع من أطهر الميول جريمة» –إنها حكمة على وزن البحر الإسكندري كان ساد مهيّأً دوماً لتقبّلها، مثلما كان يعترف دائماً بأن «الاستبداد معنيّ برخاوة الشعب»، لأن الاستبداد لا يقوى إلا من ضنى الطاقة، القادرة وحدها على الحد منه، والتي هي المبدأ الصحيح الوحيد في نظر ساد.
8- يسمّي ساد إذاً نظاماً ثورياً الزمن الصرف حيث يُبقي التاريخ المعلَّق ذكراً دائماً، وذلك الزمن الحالّ في أثناء ذلك (temps de l’entre-temps) حيث يسود بين القوانين القديمة والقوانين الجديدة صمت غياب القوانين، وتلك المدة التي تطابق بالضبط فترة ما بين القول حيث ينتهي كلّ شيء ويتوقَّف، بما فيه دافع التكلم الأبدي، لأنه لا يعود حينئذٍ ممنوعاً. إنه لحظة الإفراط والانحلال والطاقة التي لا يعود الإنسان خلالها –كما سيقول هيغل بعد سنوات قليلة- سوى حركة اللانهاية التي تلغي ذاتها بذاتها وتولد باستمرار في زوالها، و«مفسقة الحقيقة حيث لا يستطيع أحد أن يظلّ زاهداً». إن لحظة الجنون الصامت هذه، المعلَّقة باستمرار، هي أيضاً اللحظة التي يبلغ فيها الإنسان، في توقف يتوكد فيه، سيادته الحقيقية، بما أنه لا يعود هو نفسه فقط ولا الطبيعة فقط –الإنسان الطبيعي-، بل ما ليست عليه الطبيعة أبداً: الوعي بالقدرة اللامحدودة على التدمير، أي على الإنكار، التي بواسطتها يتكوَّن وينحلّ باستمرار. تلك هي النقطة القصوى لفكر ساد التي لا يستقر فيها دائماً إنما التي ينزع ويصل إليها. خصوصاً في الجزئين الثامن والتاسع من "جوستين الجديدة". وحيث لا تبذل جولييت، في صرخات رائعة، جهداً أقل لرفض الطبيعة من ذاك الذي بذلته لرفض القوانين والأخلاق والدين. فالطبيعة، كما تقول، ليست أكثر حقيقة من الله نفسه. «آه، أيتها الصبيّة، إنك تخدعيني ربما، مثلما كنت مخدوعة سابقاً بالخرافة الإلهية الكريهة التي قيل إنك خاضعة لها. إننا لا نخضع لك أكثر مما نخضع لها». «أجل، يا صديقي، أجل، إنني أكره الطبيعة». وهكذا، في لحظة من اللحظات، في تلك اللحظة الخارقة التي يخصّها ساد بصفة الثورية، تصمت القوانين، القوانين الاجتماعية والقوانين الأخلاقية والقوانين الطبيعية، وذلك كي تخلي المكان لا لهدوء أي عدم كان –كعدم ما قبل الولادة مثلاً-، إنما لتلك القدرة على الانحلال التي يحملها الإنسان في ذاته مثل مستقبله، والتي هي حبور الإهانة [لم يكن في هذا الاقتراب للّحظة العاصفة القصوى أي شيء كئيب في النهاية، ولم يكن فيها غير روعة وبشاشة]. وحاجة إلى التجاوز هي قلب العقل، الذي هو طبعاً خطر، مرعب، بل الرعب عينه بالمعنى الحصري، إنما الذي لا يُنتظر منه أي شيء مشؤوم، ولكن بشرط واحد: «عدم الافتقار أبداً إلى القوة اللازمة لتجاوز الحدود الأخيرة»، تماماً مثلما يقول سان جوست، بكلمة يجعلها إيجازها مرتعدة: «الفضيلة هي مبدأ الحكم الجمهوري، إن لم يكن الرعب».
9- إن ساد، الذي أُفرج عنه في نيسان 1790م اعتقل كمشتبه في كانون الأول 1793م، قد أسهم خلال أربع سنوات تقريباً في قيام الجمهورية، وشارك خلال ستة عشر شهراً في الثورة، لا في واجهة المسرح إنما كرجل له دور عام، يتكلّم باسم الشعب ويمارس وظائف هامة. لا يمكن نسيان ذلك. فثمة شيء من ساد يخصّ عهد الرعب كما أن شيئاً من عهد الرعب يخص ساد. إننا نتذكر النص الشهير الذي يشبه إحدى صور إپينال (Epinal): «يقال إنه عندما تعب روبيسبير وكوتون وسان جوست وكولو ووزراؤه من أعمال القتل والإدانات، وعندما شعرت هذه القلوب القاسية ببعض التبكيت، وعند رؤية الأحكام العديدة التي كان يجب عليهم أن يوقّعوها، كانت الريشة تفلت من أصابعهم فيمضون إلى قراءة بعض صفحات من جوستين ويعودون للتوقيع». إن هذا النص المكتوب سنة 1797م بقلم ڤييه (Villers)، لم يُكتب للتنديد بـ ساد ككاتب لاأخلاقي فحسب إنما لتعريضه للخطر بجعله شريكاً لأسياد الثورة. وهذا النص، في حماقته، يقول مع ذلك شيئاً صحيحاً، بمقدار ما يلتقي فيه رجال متعارضون حول ما تنطوي عليه حرية حركتهم من إفراط وحول ذلك الاعتقاد المشترك بأن تجربة الحرية تمرّ دوماً بلحظة قصوى: من يجهلها، يجهل كل شيء عنها. إذاً، ما الذي يميّز هؤلاء الرجال المعتبرين كلهم سفلة؟ يبدو ذلك في بادئ الأمر بدهياً. عندما صعد سان جوست آخر مرة إلى منبر المجلس قبل التاسع من ترميدور ليرسم عن الإنسان الثوري صورة مكوَّنة من مبادئ راسخة: الثوري هو إنسان صلب، عاقل، زاهد، وبسيط، إنه العدو اللدود لكل رياء، لكل تساهل، لكل تكلّف، إنه بطل الرشاد والاستقامة(10)، فإن هذه الصورة الأخلاقية لا تشبه تلك التي قد تُرسم عن الإنسان الكامل، إلاّ فيما يختصّ بصلابة المبادئ –ذلك أن أرباب الفسق أيضاً هم بدورهم زاهدون بفعل الشبع وفاترون بفعل الحساسية الزائدة ومتقشفون بفعل الإفراط في المتعة، وبسطاء بفعل التجرد من كل خبث. عندما يأخذ سان جوست على ديمولين (Desmoulins) في أثناء اتهامه، بأنه قال: الشرف مثير للسخرية، المجد والخلود غباء فإن هذا المأخذ كان يطال ساد أيضاً، لكنه كان، في رأيي، مديحاً له، لأن كلمة مجد هذه، التي نجدها في جميع خطابات ذلك العصر والتي هي أيضاً على لسان جان بول مارا، لا نصادفها أبداً تقريباً في كتابات ساد الذي لا يرى فيها أيضاً سوى وهم، مثلما لا يرى في الخلود سوى غش بارد الأسلوب(11) [ولابدّ من الإيضاح أيضاً بأن مآخذ سان جوست كان يستهدف في ديمولين المتشكّك اللطيف، في حين كره الأحكام السبقية، عند ساد، وما سيُسمّى فيما بعد ضرورة العقل النقدي، أي شغف الإنكار المحض، هو الذي يمنعه من الاكتفاء بهذه القيم المعترف بها بسهولة مفرطة]. وأخيراً، عندما يستنكر سان جوست انحلال الأخلاق بإلحادية النفوس(12) ففي هذه النقطة ربما، سوف نجد أشدّ الاختلاف بين الفلسفتين –إن لم يكن بين الرجلين– وهنا أيضاً أجيز لنفسي بأن أقول إنه لصالح ساد كذلك. «إننا مغمورون بكتابات محرَّفة: هنا تؤلَّه الإلحادية المتعصّبة والمتزمّتة؛ فنخال أن الكاهن أصبح ملحداً وأن الملحد أصبح كاهناً. يجب الكفّ عن الكلام في هذا الموضوع! إننا بحاجة إلى الطاقة: فيقترحون علينا الهذيان والضعف». إنه اتهام يستهدف المشبوهين المعتقلين أصلاً والذين يوجد في عدادهم، وفي ذلك التاريخ بالذات، الماركيز دو ساد. أن يكون قد اعتقل بسبب العلاقات التي كانت له سنة 1971م أم بسبب معارضته للتدابير التي اعتبرها جذرية فوق الحدّ [مثلاً، إنشاء جيش ثوري في باريس، أشبه بنوع من حرس الطاغية الذي أوشك أن يكون، في نظره، ملاذاً للطمّاعين والغاصبين، ومرة أخرى، أبى أن يعرض على التصويت، كونه رئيساً لخليته، "عملاً فظيعاً" و"وحشياً"]، أم ببساطة لأنه كان يجذب المواقف التشهيرية باستمرار، كونه ارستقراطياً ومتهوّراً، فهذا صحيح ومحتمل. أما أن يكون أيضاً قد عرّض نفسه للشبهة بسبب تعصبه الإلحادي، فإنني أصدّق ذلك بطيبة خاطر: ذاك أنه قبل ثلاثة أسابيع من اعتقاله، خطب على منصة الجمعية التأسيسية مدافعاً عن مشروع عبادة للفضائل كان قد احتفل بها، بالأناشيد والبخور، على مذابح الكثلكة المحوَّلة لغرض آخر- وبأية عبارات؟ بعبارات يتحدَّث فيها عن نفسه، بطريقة تكاد تكون مكشوفة: «طالما سخرت الفلسفة خفيةً من حركات الكثلكة المضحكة؛ أما إذا كانت قد تجاسرت على رفع صوتها فقد كان ذلك في زنزانات قلعة الباستيل حيث ألزمها الصمت بعد قليل استبدادُ الوزارة. «إيه! من قال إن الاستبداد لم يدعم الاعتقاد الباطل؟...» وقبل ذلك بقليل، قال: «لقد أزال عهد الفلسفة أخيراً عهد الدجل؛ أخيراً، استنار الإنسان، فحطّم بيدٍ اللعب التافهة لدين عبثي وأقام باليد الأخرى مذبحاً لأعزّ إله على قلبه. فقد حلّ العقل محلّ مريم في معابدنا...» لقد حظي مشروع الإلحادية البارزة هذا [بما أنه لم ترد فيه، إطلاقاً، أية إشارة إلى أي كائن أسمى] بالتقريظ، إنما كان لابدّ من أن يسترعي الانتباه المعادي لأولئك الذين كانوا يستلمون الحكم، والذين كانوا كلهم تقريباً من عابدي اللّه وحده وكانوا يخشون، فوق ذلك، من أن تشكّل مثل هذه العبادة المُشركة، المثيرة لعموم الشعب الذي لماّ يزل كاثوليكياً، ذريعة لمبادرات الثورة المضادة. إن موطن القوة عند المرء هو غالباً سبب هلاكه. فكان لابدّ من أن يصحّ ذلك على ساد. كانت الإلحادية معتقده الأساسي، وشغفه، ومقياسه للحرية. حين كان سجيناً في الباستيل، رجته السيدة دو ساد أن يخفي مشاعره؛ فردّ بأنه يفضّل الموت ألف مرة على إخفاء حقيقته، ولو في رسائل شخصية، ومن أول كتاباته "حوار كاهن محتضر" الشهير حيث يعبّر أبلغ تعبير عمّا سيحافظ عليه دائماً وحتى النهاية: اليقين بالعدم. إنه لم يرعبني قط، وإنني لا أرى فيه غير التعزية والبساطة؛ كل الأنظمة الأخرى هي من صنع التكبّر، أما هذا فهو وحده من صنع العقل». إنه تصريح ينبغي ضمّه إلى تصريح إحدى شخصياته: إذا كانت الإلحادية تريد شهداء، فلتقل ذلك، ودمي جاهز تماماً»، كما ينبغي ضمّه أخيراً إلى ذلك التأكيد، الذي هو أحد أكثر تأكيدات ساد حسماً وأحد مفاتيح النظام، حيث جاء: «إن فكرة الله هي الخطأ الوحيد الذي لا يسعني أن أغفره للإنسان». فالله هو الخطيئة الأصلية، تلك التي تفسّر كوننا عاجزين عن الحكم ببراءة.
10- نجا رأس ساد من المقصلة بفرق ضئيل، وذلك بفعل الخطأ ليس إلاّ؛ ولو لم ينجُ منها، لكان عهد الرعب قد قدَّم لنا شهيد الإلحادية، بفعل سوء فهم آخر.
لقد أُطلق سراحه في شهر تشرين الأول 1794م، بعد تحقيق وبعد شهادة من خليّة البستوني، التي كانت قد أذلَّته في بادئ الأمر [أيام روبسبيير] آخذةً عليه قوله إنه يتعذّر ممارسة الحكم الديمقراطي في فرنسا(13)، لكنها عادت الآن لتمدح حسّه المدني ومبادئه كوطني صالح، فبدأ آخر حياته كرجل حرّ. والحالة هذه، ماذا يفعل؟ كلّ ما يلزم لتقويض هذه الحرية التي يتعلّق بها كثيراً. هذا لا يعني أنه يسيء التصرف. فبعد أن انفصل منذ 1790م عن المتقشفة رينيه دو ساد، التي حرّرها حيناً من فضيلتها ثم وقعت ثانية في اللامبالاة، عاش حياة زوجية مع شابة ناعمة وحسَّاسة لم تتركه بهد ذلك. شيطانه ليس شيطان الشبق. بل أخطر. إنه جن سقراط الذي قاومه سقراط دائماً والذي كان يودّ أفلاطون ألاّ يستسلم له: جنون الكتابة، حركة لا محدودة، لا متناهية، ودائمة. لقد ظُنّ زمناً طويلاً، عندما أعتقل سنة 1801م، أنه أوقف لأنه تحدّى بونابرت برسالة هجاء مجهولة. وقد حكم جيلبير لولي (Gillbert Lely) بالعدل على هذا التقليد المجازي بإفراط. صحيح أن ساد سُجن في ﭭنسين والباستيل في ظل الاستبداد الملكي، وأنه اعتقل في سان لازار وبيكبوس في سجون نظام الحرية (Liberté). ,انه اقتيد إلى سانت-ﭙيلاجي وبيساتر وشارنتون من قبل الطغيان العسكري المتوَّج بعد قليل، غير أن ما يجدر إيضاحه، وملاحظته برأيي، هو أن مؤلَّف جوستين وحده لا الخصم السياسي هو من حكمت عليه بالسجن مدى الحياة الأخلاق العالية لبونابرت، أي للمجتمع بأسره. لأن تلك هي حقيقة ساد: حقيقة خطرة بقدر ما هي واضحة، معروضة بجلاء، ومعبَّر عنها ببساطة –بالضبط في الصفحة الأخيرة من "رواج الرذيلة" وبالشكل الأسهل قراءةً [بالأحرف الكبيرة]: «يجب على الفلسفة أن تقول كل شيء، مهما ارتعد الناس من ذلك». كل شيء. لقد كان هذا السطر وحده كافياً لتعريضه للشبهة، وهذا المشروع كافياً لإدانته، وتحقيقه كافياً لإدخاله السجن. ولا مجال لإلقاء المسؤولية على بونابرت وحده. فنحن مازلنا نعيش عهد بونابرت ما. ومازال ساد ملاحقاً وبسبب الضرورة ذاتها: قول كل شيء، يجب قول كل شيء، الحرية هي حرية قول كلّ شيء، وتلك الحركة اللامحدودة التي هي نزعة العقل، أمنيته الخفيّة، وجنونه.



الهوامش:
* الغوليم: مسخ في الأساطير اليهودية يضفي عليه الحاخامون صفات سحرية.
1.  إننا نرى مجدداً كم أن إشكالية العبث ليست سوى طريقة سهلة للانكباب على المعنى، «لخلق المعنى».
2.  هذه هي المسألة التي يثيرها باتاي هنا، بشكل آخر، عندما يربط الحركة الإنسانية بلعبة المحظور والمخالفة [تجاوز الحدّ المتعذّر تجاوزه]. فالمحظور يحدّد النقطة التي تتوقّف عندها القدرة. والمخالفة ليست عملاً تبدو عاجزة عنه في بعض الظروف، قدرة بعض الناس وسلطتهم. إنها تدلّ على ما هو بعيد المنال كلياً: بلوغ المتعذّر تجاوزه. وهي تُتاح للإنسان عندما لا تعود القدرة، فيه، هي البُعد الأخير.
3.  إن ما بحاول الواحد –"الأنا"- قوله بكلّ دقة كلامية وفي اتجاه معاكس للمصادفة [ النرد يسقط]، يؤكّده "الآخر" في الوقت نفسه انطلاقاً من اللامحدود نفسه، انطلاقاً من المجهول الذي يرتبط على الدوام بغرابة النهاية المتعذر إدراكها [النرد المرمي]. بحيث إن هناك، كما نلاحظ، تزامناً بين حركتي الكلام: لابدّ تقريباً من أن يسقط نرد الكلام ثانيةً، خاضعاً للجاذبية التي تجعل الكلمات ضرورية، حتى يُرمى النرد، والسقوط الثاني –الاستحقاق- هو الذي يتطابق، بتحوّله إلى سقوط لا متناه، مع الحيوية القادرة على خلق الحظ.
4.  المقصود هو صفحات لـ ساد مقتبسة من الفلسفة في الصالون، ومكتوبة تحت عنوان: أيها الفرنسيون، مزيداً من الجهد إذا أردتم أن تصبحوا جمهوريين [ في شأن "الكتابات السياسية"، أحيل القارئ إلى:
Œuvres Complètes de Sade, Volume VIII, J. –J Lauvert.
**  نسبة إلى ساد نفسه.
5.  التعبير هو لساد الذي يطبّقه على نفسه: «أيها الفرنسيون المحظوظون، لقد شعرتم بذلك بسحقكم أنصاب الرعب وتلك السجون الكريهة حيث كانت الفلسفة وراء قضبان الحديد تصرخ لكم بذلك، قبل أن تشكّكوا بالطاقة التي ستجعلكم تحطّمون السلاسل التي خُنق بها صوتها»
6.  الكتيّب المذكور آنفاً: «أيها الفرنسيون، مزيداً من الجهد...»
7.  لنذكر بلاك في الحال وليس نيتشه: «الطاقة والحياة الوحيدة. الطاقة هي نعيم أبدي»، وحتى فان غوغ: «ثمة حسنة في كل حركة طاقية»، لأن الطاقة هي الفكر [الحدّة، الكثافة، رقّة الفكر المدفوع إلى مداه الأقصى].
8.  يقول سان جوست بالعكس، إنما على نحو مشابه: «الثورات تسير من الضعف إلى الجرأة ومن الجريمة إلى الفضيلة».
9.  العبارة نفسها عند هلقيثيوس: «يصبح المرء غبياً عندما لا يعود صاحب هوى»
10.  في خطاب آخر، يقول سان جوست أيضاً: «الرشاد البسيط، قوة النفس، برودة العقل، حماسة قلب حار وطاهر، التقشف، والنزاهة، ذاك هو طبع الإنسان الوطني»
11.  في خطابه الهادئ، يوم التاسع من ترميدور، سوف يفكّر سان جوست على النحو ذاته تقريباً: الشهرة هي شائعة باطلة، لنُصغ إلى العصور المنصرمة، فإننا لن نسمع شيئاً»
12.  في أحد أروع خطاباته حيث توجد الجملة التالية: إن الذين يصنعون نصف ثورات قد حفروا لأنفسهم قبراً»
13.  أن يكون ساد قد تكلّم هكذا، فهذا محتمل. وهذا يظهر  صدقه وقلّة احتراسه. فالنص يقول: «مجرياً باستمرار في أحاديثه الخاصة مقارنات مستمدة من التاريخ اليوناني والروماني ليثبت استحالة إقامة حكم ديمقراطي وجمهوري في فرنسا». مستحيل «بدون جهد ومزيد من الجهد»؛ ذاك هو موضوع الكتيّب الذي وضعناه؛ لم تكن تلك جريمة؛ فقد كان ذلك يُقال في كلّ مكان. وكان أيضاً رأي سان جوست الذي يرى أنه بعد ليكورغُس، جاء طغاة هدموا عمله الإصلاحي؛ «حقائق محزنة».



المصدر: مجلة العرب والفكر العالمي، العدد 10، سنة  1990، صص 60-81

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق