ترجمة: أيمن حسن
Culpabilité, Antoine Monmarché |
أتذكّرُ رجلاً شابّاً – رجلاً لا يزال
شابّاً– صدّه الموتُ عن الموت– وربما خطأ الحيف.
نجحت قوّات الحلف في تثبيت أقدامها على
التّراب الفرنسيّ، بينما كانت القوّات الألمانيّة المهزومة تقاتل عبثاً بشراسة غير
مجدية.
في منزل كبير (يُدعى «القصر»)، سُمع
طرق خفيف على الباب. أعلم أنّ الرّجل الشّاب ذهب يفتح الباب لزوّار جاؤوا حتماً طلباً
للنّجدة.
وهذه المرّة، صراخ :
»إلى الخارج جميعكم.«
ملازم أوّل نازيّ بادر بلسان فرنسيّ
طلق إلى حدّ الخزي بإخراج كبار السّنّ ثم امرأتيْن في مطلع الشّباب:
»إلى الخارج، إلى الخارج.«
هذه المرّة، كان. رغم ذلك، لم يحاول
الشّاب الفرار لكنّه كان يتقدّم ببطء شديد في هيئة رهبانيّة. دفعه الملازم الأوّل،
أراه عيارات فارغة ورصاصًا. حدثت بالفعل معارك هنا، هذه الأرض ساحة حرب؟
اختنق
الملازم الأوّل في لغو غريب مُظهراً أمام الرّجل الّذي ازداد سنّاً (يشيخ الإنسان بسرعة)
العيارات الفارغة، الرّصاص وقنبلة يدوية، ثمّ صرخ عالياً :
»هذا ما توصّلتَ إليه.«
أمر النّازيّ رجاله باتّخاذ مواقعهم، حسب العادة، لرمي الهدف
البشري. قال الرّجل الشابّ: «أدخلوا على الأقلّ عائلتي». أي الخالة (94 عاماً)، أمّه
الّتي تصغرها سنّاً، أخته وزوجة أخيه. موكب هائل، بطيء صامت، و كأنّه قد قُضي الأمر.
أعلمُ —و هل أعلم— أنّ الّذي كان يستهدفه
الألمان منتظرين الأمر النّهائي أحسّ آنذاك بشعور غريب بالخفّة، بشيء من الغبطة (بيد
أنه لا يمتّ للسّعادة بصلة)، —هل هو فرح طاغ؟ هل هو التقاء الموت بالموت؟
لو كنت
مكانه، لما حاولت سبر هذا الشّعور بالخفّة. ربما أصبح فجأةً عصيّاً على الكسر. ميّتاً—
أبديّاً. لعلّه الانتشاء. بل هو الشّعور بالرّحمة تجاه الإنسانيّة المعذبة والسّعادة
المتمثّلة في استحالة أن تكون سرمديّاً. منذ ذلك الحين، صارت تربطه بالموت صداقة خفيّة.
في تلك اللّحظة، رجوع مباغت إلى الواقع،
اندلاع ضجيج هائل لمعركة قريبة. أراد رفاق المقاومة نجدةَََ رفيق عرفوا أنّه في خطر.
ابتعد الملازم الأوّل مستطلعاً ما كان يحدث. بقي الجنود الألمان في حالة تأهّب مستعدين
للمكوث كذلك في ثبات من شأنه أن يوقف الزّمن.
لكن ها قد اقترب أحدهم قائلاً في لهجة
حازمة: «نحن لا ألمان، روسيّون»، و تابع في شبه ضحكة: «جيش فلاسوف»، مشيرًا إليه بأن
يختفي.
يبدو لي أنّه قد ابتعد، ولا يزال يراوده
شعور الخفّة ذاك، إلى أن وجد نفسَه في غابة بعيدة تسمّى «غابة الأريقى» حيث احتمى في
ظلّ الأشجار التي كان يعرفها جيداً. و هكذا، وبعد وقت طويل، ثاب فجأةً إلى رشده في
الغاب الكثيف. حرائق في كلّ مكان، سلسلة متتابعة من اللّهب وكلّ المزارع تضطرم. عرف
فيما بعد أنّ ثلاثة شبّان من أبناء المزارعين بعيدون كل البعد عن المعارك قُتلوا. شبابُهم
كان ذنبَهم الوحيد.
حتّى الخيول المنتفخة على الطّريق وفي
الحقول كانت تشهد بأنّ الحرب دامت طويلاً. في الحقيقة، كم من الوقت انقضى؟ لماذا عندما رجع الملازم الأوّل واكتشف غياب الشابّ
القاطن بالقصر لم يسمح للغضب وللغيظ بدفعه إلى حرق «القصر» (الّذي كان شامخاً وعظيماً)؟
لأنّه كان «القصر». إذ حُفر على واجهته تاريخ 1807، و كأنّها ذكرى لا يمكن تحطيمها.
هل كان مثقّفاً إلى درجة أن يعرف أنّها السّنة المشهورة لإيينا عندما مرّ نابليون على
متن حصانه الرمادي الصّغير تحت نافذة «هيجل» الذي رأى فيه «روح العالم»، كما خطّ لصديق
له؟ إنّهما الزّيف والحقيقة. فلقد نهب الفرنسيّون وخرّبوا بيت هيجل كما كتب لصديق آخر.
لكن كان هيغل يجيد التّفرقة بين العرَضيّ والجوهري. سنة 1944، أولى الملازم النّازي
للقصر الاحترام أو التّقدير الّذي لا تستحقّه المزارع. و بالرّغم من ذلك تمّ التّفتيش
في كلّ مكان. سُرق بعض المال، وفي غرفة منفصلة تدعى «الغرفة العالية»، عثر الملازم
الأوّل على أوراق وعلى مخطوط كبير ربّما احتوى على خطط حربيّة. وها قد رحل أخيرًا.
كلّ شيء كان يحترق إلاّ «القصر». لقد حُقن دمُ النُّبلاء.
حتما راود الشّابَّ همُّ الحيف منذ ذلك
الحين. لا وَجْدَ بعد الآن، بل الشّعور بأنّه لم يبقَ على قيد الحياة إلاّ لأنه كان
في نظر الرّوس ينتمي إلى طبقة نبيلة.
تلك هي الحرب: حياةٌ للبعض وفظاعةُ قتلٍ
للآخرين.
ظلّ رغم ذلك الشّعور بالخفّة الّذي أعجز
عن تفسيره يراودني لحظة التأهب للموت رمياً بالرّصاص: هل تحرّرتُ من الحياة؟ هل هو
انفتاح اللاّنهائي؟ لا فرح ولا ترح. ولا غياب الخوف، بل لعلّها منذئذٍ خطوة في العالم
الآخر. أعلم، أتصوّر أنّ هذا الشّعور الّذي لا يمكن سبره غيّر ما تبقّى من حياته، كما
لو أنّ الموت الخارجي لم يعد بوسعه إلاّ أن يصطدم بالموت داخلَه.
»أنا حيّ. كلاّ أنت ميّت.«
عاد بعد فترة إلى باريس والتقى «اندريه
مالرو» الّذي روى له أنّه تمّ اعتقاله (دون أن تُكشَف هُويّته) وأنه
تمكّن من الهروب تاركاً وراءه مخطوطًا
»لم تكن سوى خواطر في الفنّ يسهل تأليفها من جديد، لكن يستحيل
الأمر بالنّسبة إلى مخطوط«
أمر بالقيام بأبحاثٍ مستعيناً ببولهان
لكنها لا يمكن أن تكون مجدية.
لا يهمّ. وحده يبقى الشّعور بالخفّة
وهو الموت ذاته أو بعبارة أدقّ لحظةُ موتي الّتي هي منذ ذلك الحين في حالة انتظارٍ
دائم.
المصدر: الفصلية الثقافية نزوى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق