ترجمة:
نوفل نيوف
الباحثة الروسية أوكسانا تيموفيّفنا |
وصفه
مارتِن هايدِغِر بـ «أكبر العقول
النيِّرة في فرنسا». فإذا
أخذنا بالحسبان ما لدى الفيلسوف هايدِغِر من غرور مَرَضيّ وغيرة تجاه "زملاء
الكار"، عرفنا أنّ قيمة هذا الإطراء كبيرة. فمَن هو سعيد الحظّ هذا الذي
استحقّ إطراء هايدِغِر؟ إنّه الكاتب والمفكّر الفرنسي الشهير جورج باطاي
(1897- 1962).
وقد
كرَّست الباحثة الروسية أوكسانا تيموفيِّفنا المتخصِّصة بالفلسفة الفرنسية
كتابها: ("مدخل إلى الفلسفة الإيروسية عند جورج باطاي"، موسكو، 2009)
لإعادة بناء صورة العالم عند واحد من مؤسّسي ما بعد الحداثة.
تقوم
الفلسفة الإيروسية في العادة، خلال تاريخها الطويل، على المقابلة بين قطبين هما: الروحيّ
(الإيروسيّ الخاصّ)، والجسدي (الجنسيّ). ووَفقاً لهذا التقليد الذي يعود بجذوره
إلى الفلسفة القديمة (أفلاطون)، وسكولائية القرون الوسطى (توما الأكويني)،
كان الجدل يُحسَم لصالح الروحيّ. ورغم أنّ بعض فلاسفة عصر الأنوار (هيلفيتسي وديدرو)،
أو مَن جاء بعدهم من الفلاسفة المادِّيين (الذين قلّدوهما، أصلاً) كانوا، بالعكس،
يؤكِّدون على الجسديّ (الفيزيقيّ)، فإنهم كانوا أقلية.
إنّ
إبداع جورج باطاي يتعدّى حدود الأطر المعتادة. فالإيروسية، حسب مؤلِّف كتاب
"الزُّرقة السماوية"، هي السمة الأساسية التي تميِّز الإنسان عن الحيوان.
صحيح أنّ جورج باطاي يرينا ظهور الإيروسية نفسَه على نحوٍ شديد التناقض: «لقد عرف إنسان النياندرتال الموتَ منذ كان
يغطِّيه الشعر كالوحش. وعلى هذه المعرفة ظهرت الإيروسية التي تميِّز حياة الإنسان
الجنسية من حياة الحيوان الغريزية البهيمية». كما أنّ الإيروسية تتّصف عند الفيلسوف باطاي
بمنظومة محدّدة من المحرّمات التي تتناقض مع الطبيعة الهدّامة، القاتلة، وبذلك
تختلف الإيروسية عن حياة الغريزة البهيمية عند الحيوانات.
إن
المحرّمات (التابوهات) تشكِّل الثقافة التي تناقض الطبيعة أيضاً. ذلك أنّ «نفي الطبيعة، حسب رأي باطاي، يعني
نفي الحيوانيّ الذي يؤلِّف دعامة سلبية الإنسان»، كما تقول تيموفيِّفا. وفي المحصّلة،
كما ترى الباحثة، «فإنّ الجسد
الخاص هو تحديداً ما يصبح، بهذه الطريقة، موضوع النفي. ومن هذا النفي (الكاذب،
الموهوم)، حسب باطاي، يبدأ تاريخ الإنسان، على كلّ حال». ولذلك فإنّ مفاهيم مثل "الرغبة"،
و"التغاير"، تتجاور في قاموس الفلسفة الإيروسية عند باطاي وتقف
جنباً إلى جنب مع مفاهيم "الفقد"، و"السيادة"، و"السرّي".
على أنّ هذه مفارقة من نوع خاص أيضاً.
نظنّ
أنّ هناك خصوصية لافتة أخرى بعدُ، تتّصف بها أيضاً فلسفة باطاي وسيرته على
حدٍّ سواء، هي "الأثر الروسيّ".
إذ
تلفت أوكسانا تيموفيِّفا انتباه القراء إلى أنّ التجربة الاشتراكية التي
أجريت في الاتحاد السوفيتي كانت في نظر الفيلسوف "قفزة إلى الموت" بالنسبة
للوعي الفرديّ الغربي، فيما كانت روسيا تبدو له "ثقباً" من نوع خاص. أمّا
إذا ما تركنا جانباً مثل هذه الآراء، فإنّ علينا أن ننوِّه بوجود خطوط متوازية
معينة بين إبداع جورج باطاي ونثر الأديب الروسي أندريه بلاطونَف. والباحثة
تيموفيِّفا تشير في كتابها أيضاً إلى هذه الخطوط المتوازية.
إلا
أنّ هذا ليس كلّ شيء. ذلك أنّه كان للمفكّر باطاي في بداية عشرينات القرن
العشرين لقاءات كثيرة في باريس مع ليف شِستوف (فيلسوف روسيّ هاجر بعد
الثورة). وتحت تأثير شِستوف تحديداً شرع باطاي يقرأ باهتمام كلاً من
دَستويِفسكي، وكِركيغور، وباسكال، وأفلاطون. زِد على
ذلك أنّ باطاي قام بمساهمة كبيرة في ترجمة كتاب شِستوف "الخير
في تعاليم الكونت تولستوي وفريدرك نيتشه" إلى الفرنسية (صدر في باريس سنة 1925).
وهناك
"أثر" آخر: فقد تعرّف باطاي في سنة 1931 إلى الكاتب والشخصية
الاجتماعية بوريس سوفارِن، فانضمَّ إلى "الحلقة الشيوعية الديمقراطية"
التي أسسها سوفارِن (انحلّت بعد بضع سنوات). وفي سنة 1931 أيضاً شارك باطاي
في حلقة البحث (سيمينار) التي أقامها ألكساندر كويْري (كويْرانسكي) في
المدرسة التطبيقية للدراسات العليا. وتتحدّث أوكسانا تيموفيِّفا عن هذا
الموضوع في كتابها أيضاً.
ثمّ
إنّ "الأثر" الروسي (بل الأوكراني، للدقّة) موجود كذلك في الحياة
الشخصية لـ باطاي صاحب كتاب "المستحيل". إذ تزوّج باطاي
في عام 1946 من الأميرة ديانا كوتشوبي دي بوغارنه وأنجبا من ذلك الزواج
ابنتهما جولي.
تلك
هي "الآثار" الروسية في الإيروسية الفرنسية.
المصدر: موقع جمعية الأوان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق