الجمعة، 2 مايو 2014

تقديم كتاب "الرغبة والكتابة؛ قراءة جورج باتاي" لفرج الحوار: مارك غونتار


ترجمة: الشاعر محمد علي القارصي

تدُور أعمال جورج باتاي الأدبيّة حول موضوع فريد هو تَجْرٍبَةٌ تَنْفَلِتُ من سيطرة الكلمات، وَمِن ثمَّ، كان مَا لاَ يُقال منها مُشيراً إلى ضرب من المطلق. ذلك أَنَّ تجربة الرَّغبة تقتربُ من التجربة الصوفية في كونها تستدعي نزوعاً من الذات نحو موضوع مؤجَّل في اللانهاية. من هُنَا هذَا التقطُّع المنذهل للكائن الواقع فريسة التمزّق الدائِمِ بين أُفقِ انتشاء لا يُدرك أبداً، لكنه دوماً مُرتقب، وحالة الاستئناف الدّائم المُنبئ بعدم الرِّضا عن البحث فترتدُّ الرّغبة على ذاتها رغبة في الرّغبة. لكن، مع باتاي، على عكس شعراء التروبادور في العصر الوسيط، فإنّ متعة الذات مشروطة بوجود جسد الآخر، لذلك يستدعي البحث، تحت تهديد الإرهاق- المحظور والتجاوز والإفراط في حالة من العنف المهووس الغارق في معاودة مأساوية.
اهتمّ فرج الحوار بتجربة التخوم هذه باحثا في مؤلفات مجزّأة بالضرورة ومتعدّدة المواضيع، لأنها تُلاحق ما لا يُعبّر عنه، فهذا الوقوف على كيفية استواء شعريّة الرغبة في فكر الرغبة. لكن هذه الشعريّة التي تُركّب الخطاب على جسد راغب، تُشكلّ كتابة تتحوّل إلى "لا كتابة" صيغت في أجهزتها الشكليّة على مثال المفارقة وعدم التجانس. وبهذا المعنى يمكن اعتبار باتاي رائد المفكرين البعد نيتشاويين والتفكيكيين (دريدا، فوكو، دولوز، ليوتار) بحيث تُعتبر آثاره أقرب إلى الانفتاح على ما بعد الحداثة من كونها متصلة بالحداثة التي كثيرا ما يضاف (أو ينسب) إليها.
إنَّ عمَل فرَج لحْوَار، رغم كونه لا يُوغِلُ في هذه السَّبِيل، يُتيح لنا أن نفهم أحسَنَ كيفَ نَزَّلَ باتَاي الرّغْبَة المُتَّصلَة بالجنسَانيَّة وبالجُزء الأسفل منَ الجسد، قبل الفِكر العقلانِي الّذي محلُّهُ الدِّمَاغُ (العقل).
ومِن هُنا كانت نَزْعَتُهُ المُضادَّةُ للهِيجلِيَّة. تتحَوَّلُ الرَّغْبَة بهذا المَعنَى إلى طاقةٍ، إنْ هيَ تجاوزَتْ الحَدّ، ألحَقَتْ ضررًا بمبْدَأ العقلانِيَّة والهياكل المرَاتبيّة والأشكال الآحادِيَّةِ لتخْلقَ ضربًا منَ الاضطِراب والمُخالَفَةِ والدُّوَّار العنيفِ.
تظلُّ الرَّغبة كذلك في قلب مبدأ التَّبايُن (L’hérologie)، الّذي ابْتَدَعَهُ كلٌّ من باتاي وباختين، بَيْدَ أنَّ التَّبايُن يتنزَّل في جوْهَر فكْر ما بَعْدَ الحدَاثَةِ في نقده للحداثة ذلك أنّ غريزَة الرّغبة (باتاي) أو السُّلُطات الحِوَاريَّة (باختين) تُجْرَيَان، كلٌّ في مجالِها الخاصّ (اللِّسانيات والفلسفة)، زَحْزَحَةً للذَّات عن مركَزِها فتَفْتَحُهَا على الغيرِيَّة.
وُفْقَ هذه السّبيل ينتهي مبدأ التَّبايُن إلى مفهوم "الجذمور" (Rhizome) عند دولوز أو إلى مفهوم الهُجْنة (L’impureté) الّذي طوَّره غـي سكارباتا (Guy Scarpetta) في الفنّ. وفي هذا الأفُق الّذي يجعل من باتاي عامِلاً، عن بُعْد، في (مجال) ما بعْدَ الحدَاثة، نفْهَمُ بأكثَرِ وُضوح أبعاد مُناهضة باتاي فكرةَ الوِحْدَة والكُلِّيَّة ونقدَهُ للنَّسَق الهِيجْلِي وشغَفَهُ (من خلال الرّغبة) بغَيْرِ المُسْتَقِرّ وغير المُتجانِس وبِالهَجِين.
أخيرًا، يجدُ فلاسفة الغيرِيّة في باتاي رائِدَا (لهُم)، ذلك أنّه بِرُجوعِه من النِّظام الكُلياني والآحادي القُطب للنّازيّة إلى المعرفة المطلقة عند هيجل، قد استخْدَمَ آداب إلْغاء القُطبيّة والرّفض (المُطلق) الّذي يَجْعَلُ منَ الغياب الأجلَ النِّهائيَّ لتفْكيكِ أثرِ النَّسقِ: ندرِكُ (حينئذ) إلى أيِّ حدٍّ أسْهَمَ، فكرُ الاختلاف هذَا، القائمُ ضدَّ الفكر الجدَلِي، في الإعداد لمَوْلِدِ فكرٍ ما بعد حدَاثِيّ.
هذه مَزيّة الكتاب الّذي نقدّمُه لفرج الحوار، وهو الآخر، كاتب يسير في سياقات ما بعد الحداثة. ذلك أنَّ افتتان الحْوَار بِبَاتَايْ قد يحتاج كذلك إلى أنْ نُسائِلَهُ من خلال جُهْده الرِّوائي المُتمرِّد على الآداب "البَنَّاءَة" المَوْصُول "بالنَّسْغ الثّوري" أو "الهدَّام" (كائن الأغوار)(1)، المتحفِّزَ لمُمارسة الانعطَاف والتّحوُّل وسُخرِيَة النّصّ الواصف (حدّث سان أنطونيو، قال...)(2). إنَّ عمَلَهُ التّفكيكي الّذي يُحِلُّهُ منزلةَ الكاتب المُنْشَقِّ، يُنشِىء بذلك ضِمنيًّا نظرِيَّتَه الخاصّة داخل خِطابه حوْل باتاي.
إذا تحدَّثت الكتابة في موضوع ما فإنَّها دوْمًا تعني ذاتها.
   مارك غونتار
رئيس جامعة ران2 


(1)     La créature des abysses. Sahar Editions, Tunis, 1999.
(2)    Ainsi parlait San-Antonio, l'Or du Temps, Tunis, 1998.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق