الأحد، 27 أبريل 2014

ما بعد الحداثة؟: جوليا كرستيفا

ترجمة: عبد الوهاب علوب


يمكن إعادة صياغة هذا السؤال في ما يلي: أولا، كيف يمكن الكتابة عن شيء في القرن العشرين؟ ثانيا، كيف يمكن أن نتحدث عن هذه الكتابات؟ وتتطلّب منا هذه الصيغة من السؤال أن نوضّح خصائص القرن العشرين المميزة التي كان لها تأثير على النشاط الأدبي. وعلى هذا الأساس، فإن أي بحث أدبي يتحوّل أولاً إلى بحث معرفي ثمّ إلى بحث اجتماعي تاريخي. وسأركز على هذين الجانبين من البحث.
أولا، أوضحت العلوم التي تتناول القدرات الرمزية (اللسانيات، السيمولوجيا، التحليل النفسي، علم الإنسان) والأبحاث العصبية البيولوجية أن وضع اللغة في نطاق التجربة الإنسانية يعدّ عاملا حاسما، إلا أنه هشّ.
واللغة عامل محدّد حاسم لأن كلّ الظواهر الاجتماعية رمزية. واكتشاف اللاوعي يفضحنا لا لأنه يأخذ الجبرية الجنسية مأخذ التسليم، بل لأنه يكشف عن أنّ الجنس يدخل في دائرة اللاوعي، وبالتالي يعدّ نظاما مبنيّا على نسق اللغة. ومن المهمّ أن يتمّ إيضاح الآليات الاجتماعية من خلال علم الانسان البنيوي، لا بسبب تأكيده على أن المرأة أداة تبادل، بل بسبب كشفه عن أن الأفراد ما هم إلا متغيرات زائلة في آلة تكرّر القبول والرفض والسلب والإيجاب والمحاكاة والعداونية وتسيطر على البنية الصوتية للغة ممّا يعدّ أمرا مرفوضا من وجهة نظر النرجسية الأنثروبولوجية.
وتعدّ اللغة كيانا هشّا لأن أية لغة ما هي إلاّ جزء ضئيل من إجمالي التجربة الرمزية باعتبارها أداة للتدقيق اللغوي إلى جانب تنويعات الحوار الخاصة بالاتصال اللغوي لتلك اللغة. ولا يقتصر تهديد المخزون البيولوجي الغريزي الشعوري على الشريط الرقيق للغة، بل يشمل ظاهرة الرمزية ذاتها؛ فهو يفرز أعراضا جسدية وكبتا وحزنا يتخذ فيه ما يعجز عن التحوّل إلى الرمزية شكل كتابة على أساس متغيّر لا يدوَن في الفراغ الخاص به، أي في نطاق الرمز، وبالتالي، فهو لا يدوَن على الإطلاق. فإمّا يصرخ أو يختنق.
كما أن اللغة كيان هش في وضعها كوسيلة اتصال حقيقة وضعت موضع الدراسة من جانب تلك العلوم التي ورثت منطق القرن التاسع عشر. وعندما يتهدّد المخزون البيولوجي النظام الرمزي، فإن الكيان المتكلّم يفضح عن نفسه قادرا على تركيب ما لا يمكن تصوره في اللغة. ألسنا إذن في حالة خلق متقلّب للغات والنظم الدلالية وما لا حصر له من التعبيرات التي تحاول أن تبق حيّة وأن تمدنا أيضًا بكيان جمالي متكامل؟!
وإذا كان صحيحا أن علوم الإنسان تستخدم اللغة كأداة لاختراق درع العقلانية الواقي، فصحيح أيضًا أن هذا البحث المعرفي، وهو سمة القرن الحالي، صاحبته واحدة من أكبر المحاولات لتوسيع "حدود المدلول"، أي توسيع نطاق التجربة الإنسانية من خلال إعادة تنظيم أشدّ عناصر تميزا، وهي اللغة.
ولنقل إن ما بعد الحداثة هي ذلك الأدب المدون بهدف توسيع نطاق المدلول، وبالتالي، النطاق الإنساني. ومن ثم، سأطلق على ممارسة عملية الكتابة اسم "تجربة الحدود". وإذا استخدمنا صيغة جورج باتاي، نقول حدود اللغة باعتبارها نظام اتصال وحدود الكيان الذاتي والجنسي وحدود الصبغة الاجتماعية. وتتفرد الكتابة كتجربة للحدود بالمقارنة بوسائل الإعلام التي تقتصر وظيفتها على تجميع كلّ نظم العلامات والرموز حتى اللاواعي منها. ويمتدّ هذا التفرّد إلى أعماق الآليات المكونة للتجربة الإنسانية كتجربة للمعاني. وتمتدّ إلى ذات النرجسية الأولية الغامضة التي تنشأ فيها الذات لكي تواجه ذاتا أخرى. وتعتبر الكتابة بصفتها تجربة للحدود بديلا عن العودة إلى هذه الآلية الخاصة بالتفرّد والتي تميز الذهان أو اضطراب الصلة بالواقع (Psychosis). لذا فهي أعجب وأغرب منافس للتحليل النفسي. فقد اتضح منذ عهد فرويد أن التحليل النفسي قد حلّ محل الأدب الذي يقوم على الخيال ويهبط إليه. ولو أن التحليل النفسي بدأ لتوّه وبصعوبة شديدة في إدراك أن الأدب باعتباره تجربة للحدود حرم التحليل النفسي من الذهان ومن كلّ ما يصاحبه ويؤدي إليه.
والنقطة الثانية التي يؤكّدها هذا البحث هي أن تاريخ القرن العشرين صاحبته سلسلة من الفورات في إطار التضاد بين الدولة والأخلاق أو الدين. ومنذ انفصال السياسة عن الدين في القرن التاسع عشر، ظهرت نتيجتان في مجالين مختلفين؛ أولاهما في مجال السياسة، حيث كان هناك تنظيم مفرط للعقلانية الاقتصادية وذروتها هي المركزية التكنوقراطية؛ والأخرى في مجال الأخلاق حيث ظهرت فجوة تعزى إلى النقص الحاد في المؤسسات (وقانا الله شره)، بل إلى نقص في اللغات التي يمكن التعبير بها عن الاستحالة والمخاطرة التي يشملها ذلك. وهناك ردَّا فعلٍ محتملان لهاتين النتيجيتين. فإمّا أن تدرك الدولة الامتيازات الأخلاقية وتدمجها في عقلانيتها الاقتصادية، ممّا يؤدي إلى شمولية فاشية أو ستالينية؛ أو أن تتخلّى الدولة عن هذا الدور وتلعب دورها بصورة غير مباشرة من خلال الليبرالية التكنوقراطية، ممّا يؤدي إلى زيادة الممارسات الجمالية على الصعيد الذي يهمّنا.
في أوربا على سبيل المثال، كان الأدب يحتلّ مكانته التي كانت تقليدية باعتباره الناصح الأمين أو الناقد السياسي. أمّا في القرن العشرين، فقد وجد نفسه أمام نزعة شمولية. وأتحدّث ها هنا عن باوند وسيلين وماياكوفسكي. ويقترب هؤلاء الأدباء في أعمالهم من حالتي المعنى والذاتية لكي يطوّرانهما ويصقلونهما ويطوعونهما لمسار الحياة؛ وبالتالي، ففي جوانب أخرى من أعمالهم، يصادفون ما أسميه "الشرك الإيجابي" أي الرغبة الجامحة في رؤية روح معينة، أي تلك الروح الإيجابية التأكيدية التجميعية والمدمّجة في أية آيديولوجيا أو حتى مؤسسة كالدولة أو الحزب. من ثم، فهم يستثمرون هذه الرغبة بصورة مضادة. وهذا التوازن المضادّ أمام تجربة الموت أو البعث، وهي الكتابة، أو بالأحرى الكتابة كتجربة للحدود، يتحوّل إلى ثقل يسقط فوقهم. وعندما يرفض الأدباء العباقرة الواعون بدروس التاريخ الإغراءات السياسية، ففي الغالب يكون الدين هو الذي يلعب دور من يمنح الحيطة والتعقل والأمان أو ما يبرر نشاطهم المغامر الذي لا مبرر له. وهكذا، فإن سولزينتسين (Solzhenitsyn) يقف على النقيض من سيلين (Céline).
السؤال هو ما إذا كانت هذه الكتابة المتفاوتة تغيرت في الهيئة والاقتصاد منذ مالارميه وجويس اللذين يعكسان معا هذه النوعية الراديكالية المعاصرة من الكتابة التي لها أشباه في الحضارات والعصور الأخرى في التراث الصوفي. وإذا أخذنا كلاًّ من آرتو وبوروز كمثالين، يتضح أن هذه الكتابة تواجه أكثر من أسلافها اللارمزية التي تميز حالة الذهان أو الانسياق المنطقي والصوتي الذي يسحق المعنى ويضاعفه، بينما يدّعي اللهو به أو الفرار منه. وإذا ركزنا الضوء على باتاي أو على نقيضه سيلين، نجد أن هذه الكتابة التي تعدّ تجربة للحدود تتعرض للتشويه أولاً ثم تثور وتتخذ مرة أخرى من الحافة الحادة لتلك "الملهاة" التي كان هيجل يعتبرها أساس العلاقة بين الذات وبين الهدف الأول أو الروح المشتركة وتعبر عن التناقض الحاد بينهما قبل ظهور الدين الموحى به. وتتحول الخسة عند باتاي وسيلين إلى كوميديا سوداء. ويبدو أنه لا يمكن تحقيق أي سمو إلا من خلال تلاعب ساخر باللغة، وهو ما لا تأثير له في حدّ ذاته إلا بنوع من التلقائية العشوائية.
تضاف إلى هذه الاتجاهات الكتابات بعد المستقبلية وبعد السريالية وجميعها تظهر نوعا من إعادة التنظيم الأساسي في الأسلوب، مما يمكن تفسيره على أنه استكشاف للعلاقة الوهمية –أي العلاقة بالأم- من خلال اللغة التي تعدّ أشدّ جوانب هذه العلاقة راديكالية وإشكالية. وتعود هذه العلاقة إلى ما قبل الرمزي، إلى ترتيب القوافي والجناس وهو ما يقف ضدّ المعنى أو يصيغه. أليس هذا هو ما نسمعه على خشبة المسرح وحتى بعد ظهور روبرت ويلسن وجون كيدج؟! إذ يعدّ تفريغ اللغة والدوران حولها ومسرحة الإيماءات والأصوات واللون، دعامات يرتكز إليها هذا الصراع المباشر ضدّ الذهان. وليس من الغريب أن تدّعى بعض المحاولات النسائية في الكتابة تميزها النسائي بفضل هذه الفجوات في المعنى. وهذه المحاولات النسائية التي تندفع باتجاه تجارب مالارميه وجويس ليست بها أية جدّة أسلوبية ولا أدبية بالتالي. إلاّ أنها تبين أن المرأة أيضًا يمكن أن تحاول التعبير عن حوارها الجسدي مع الأم.
إضافة إلى ذلك، فإن الكتابة بعد الحديثة كما يبدو في Tel Quel وفي كتابات سولرز بصورة خاصة تثير اهتماما متجدّدا ومتزايدا بالدلالة (significance) في مقابل فكرة الإبداع في القرن التاسع عشر عن المعنى. وتعيد الكتابة بعد الحديثة اكتشاف الشعر الغنائي والملحمي في ما يعدّ مشروعا لدانتي يشمل في داخله التجربة الشكلية لأسلافه. ومن خلال مناظرتها المستمرة مع الحدث ومع السياسة ومع المآزق السياسية والجنسية والفصامية، تعدّ هذه الكتابات ترياقا للكون ومقياسًا له. قارن مثلا بين Gulag لسولزينتسين وبين Paradise لسولرز.
إن الكتابة معرفة عملية في إطار الخيال أو تكنيك للخيال. ودائما تستثار وتحاكي بهذه الصورة. وفي إطار النزوة الخيالية، يمكن لها أن تكون تجربة طائفية، فتشارك الكتابة في تشكيل طائفة أو جماعة كعنصر رقيق أو فوضوي نوعا ما.
وعندما يواجه الخيال الكتابة الحدودية (borderline)، فإنه يصل إلى نقطة يغادر فيها المجتمع أو الجماعة. وتعبر هذه الكتابة بالرموز عما لا سبيل إلى اختزاله في الخيال إلى تجربة للآخرين. هناك مثلا العدوانية وأهدافها النهائية وألفاظها. فإذا كانت العدوانية سابقة للغة ولاحقة لها، فالشيء الوحيد الذي يمكن أن نقوله عنها يتعلّق بذلك الجزء من العدوانية (أو حافز الموت) الذي يعزل الأشياء لكي يخصّها بأسماء، أي ذلك الجزء الذي ينشئ الرموز ويبنيها. وهكذا، فإن الكتابة بعد الحديثة تستكشف هذه التبادلية بين الرموز والموت بمضامينها أو ببلاغتها، بخيالاتها أو بأسلوبها اللغوي، ويتدخلها السياسي المغمور في الخسة والضحك.
عند هذه الدرجة من الخصوصية والتفرّد، تواجهنا التعبيرات اللغوية التي تتكاثر بصورة تخرج عن السيطرة مع المخاطرة بأن تتحول إلى آثار مهجورة عملاقة لكنها غير مرئية، في نطاق مجتمع يتجه بصورة عامة نحو النقيض؛ أي نحو التوحّد والاتساق. ومن الواضح أننا لن يكون لدينا أمثال كوزيت أو الأب جوريو أو جوليان سوريل في الكتابة. فقد تحولت الفرقة الخلفية للخيال الغامض إلى شاشة التلفزيون. وفي ما يتعلّق بالكتابة، فقد انطلقت منذ ذلك الحين لتقود قافلة وسط المجهول. ويعدُّ بيكيت أفضل مثال على ذلك بشهادته الساخرة والشيطانية. والكتابة لا تختبئ بشكوكها في اللاوعي الذي يتمّ إنتاجه على نطاق واسع وبارتيابها في النزوة الخيالية الأثيرة لدى كلّ فرد. ورغم وساوسها، فإنها تقتحم أشدّ المناطق إظلاماً حيث ينبع الخوف والجنون وتحدّي الوضوح الشفاهي. ولم يحدث في تاريخ البشريّة من قبل مثل هذا الاستكشاف لحدود المعنى بهذه الطريقة العارية من أية حماية؛ وأقصدها هنا بدون أي مبرر ديني أو صوفي أو غيره.
هل ستسود إحدى هذه اللغات التعبيرية على غيرها؟ وأي اللغات ستسود؟ أما أنا فأراهن على أقربها وأشدّها تنوعاً وخروجاً على القياس واستعصاء على التعبير. ولكن ما هو الاستعصاء على التعبير (unrepresentability)؟ إنه ما لا يعدُّ جزءا من أية لغة بعينها كالإيقاع والموسيقى والشذى الغريزي؛ إنه ما لا يطاق وما لا سبيل للتفكير فيه من خلال المعنى كالشيء المخيف أو الدنيء. والكتابة الحديثة تعرف كيف "تضفي صبغة موسيقية" (حسب تعبير ديديرو) على ما يعتبر مخيفاً ودنيئاً بالنسبة لعصرنا، عصر الماسكارة والمسلسلات التلفزيونية. هذه الموسيقى الهابطة التي يمكن لنا أن نعيش فيها دون أن نغلق أعيننا أو نسدّ آذاننا. وهذا هو الشكل الحديث المختلف من الحقيقة.


المصدر: الحداثة وما بعد الحداثة، إعداد وتقديم بيتر بروكر، ترجمة د. عبد الوهاب علوب، مراجعة د. جابر عصفور، منشورات المجمع الثقافي أبو ظبي، الطبعة الأولى 1995، صص 311-318

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق