الخميس، 20 مارس 2014

الجنس والمطلق في رواية "أمي" لجورج باتايّ: إدوار الخراط

إدوار الخرّاط بريشة جمال الجرّاح
جورج باتايّ ناقد وشاعر وروائي فرنسي من ذلك الرعيل الذي تفجّرت به الحياة الأدبية في فرنسا على إثر الحرب العالمية الأولى. من أولئك الثوار، المتمردين، الذين لا يترددون في أن يمضوا بفكرهم، وحياتهم إلى آخر الشوط، مدفوعين بإخلاص كلّي وتفان كلّي، وقد كان قسمة بارزة من قسمات ذلك العالم الذي يموج بالتيارات والمذاهب الأدبية والسياسية الحادّة العنيفة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وحتى وفاته في 1962. وإذن فقد كان معاديا للدادية –لأنها لم تبلغ من التمرّد العقلي ما يريد لها أن تبلغ!- ومعاديا للسيريالية أيضا لأنه يراها عقلية أكثر ممّا ينبغي. وفي هذه الفترة أنشأ مجلة "وثائق" التي التف حولها مع ذلك بعض السورياليين، ثم اتجه إلى السياسة فاعتنق يسارية متطرفة مناهضة للستالينية، وعمل ضدّ الفاشية قبيل الحرب العالمية الثانية، ولكنه ظلّ ثوريا حتى آخر لحظة في حياته، وإن اكتسبت أفكاره دقة ووضوحا وتميّزا.
وقد كتب جورج باتايّ في الاقتصاد، وله في الفلسفة كتابه المعروف "الخبرة الداخلية" وكتاب آخر "منهج للتأمل" كما كتب الشعر والأقصوصة الشعرية "كراهية الشعر" وكتب روايات أبرزها "زرقة السماء" وآخرها رواية "أمي" Ma Mère وهي رواية متميزة نشرت بعد وفاته، وله في النقد كتاب "عن نيتشة" و"الأدب والشرّ" الذي يجمع مقالاته المنشورة في مجلة "نقد" Critique والذي نشره جاليمار.
وينبغي بداءة ذي بدء أن نؤكد السمة الأساسية لهذا الكاتب الثوري الذي كان مع ذلك على ثقافة عريضة عميقة معا، وهذه السمة الأساسية هي أنه –في رأي النقاد جميعا- كاتب الحياة الشبقية érotique ولعله أكثر الكتاب الشبقيين عنفا، وأغناهم إلهاما، وأصفاهم وضوحا ونقاء في القرن العشرين. هو إذن من قبيل الكاتب الانجليزي د. هـ. لورانس، وإن كان أقرب من لورنس إلى نوع من الربط الوثيق بين الجنس والميتافيزيقا.
رواية "أمي" تقع في تلك المنطقة الحيوية التي ما تزال مع ذلك مجهولة في كثير من نواحيها، تلك المنطقة في الإنسان التي توجد بين "الجنس" باعتباره إرادة للعطاء جامحة، وبين "الفكر" باعتباره إرادة للغزو والتملّك لا تحدّها حدود.
وهذه الرواية لا ترى في الحياة الشبقية جانبا معزولا عن الحياة جميعا، بعيدة عن الأفكار الرئيسية التي تتخذها الميتافيزيقا موضوعا لها وتدور حولها، على أي حال، حياة الناس. فالشبقية هنا هي عقدة وبؤرة الحياة، هي تتكشف وتتخذ مجراها في قلب وعي مرهف الحساسية صاف منير. ولعل أقرب ما يوضح لنا هذا المعنى، ما نعرفه عن الصلة الحميمة بين العشق الجسدي والعشق الإلهي في كتابات المتصوفين القدامى، من العرب وغيرهم. ولكن العشق الجسدي عند باتايّ وثيق الصلة بشيء هو أشبه بالحمى الساطعة بين الانكار الكلّي، والإيمان القدسي بالإنسان وحده. إن غياب كلّ شيء عنده إلاّ الإنسان، يفرض عليه فكرة من أفكاره المحورية: إن عربدة الحواس هي نوع من السيادة في عالم لا مملكة فيه ولا ملكوت، فقدان معنى كلّ شيء، بالنسبة إلى المعايير الميتافيزيقية المطلقة الماثلة خارج الإنسان، يعني عنده أن الخبرة الحية المعيشة هي وحدها التسامي المطلق، والخبرة المعيشة عنده لا تنفصل عن الجوانب الكوميدية، المبتذلة، والشاعرية معا في الحياة، ولكن أهم هذه الجوانب هو التجربة الشبقية. وما دام ينتمي إلى المتشككين الذين لا يعرفون في الحياة إلاّ الإنسان، فإن التجربة الجنسية أو الشبقية تقوم عنده مقام القربان عند المؤمنين، إنها تكشف القدسي، وتتصل بالسرّ وتتجاوز حدود الممكن إلى تخوم المستحيل، إلى عتبات المطلق.
هذا القربان، أو هذه الذبيحة التي تقدّم على شكل عربدة حسية، تدور عنده في جو كأنّه طقوس وشعائر العبادة، فإن البذاءة الجنسية ليست ابتذالا للحواس بل هي تكشف بشاعة الفجور المستنفد، ومضض الشهوة التي لا جدوى منها، وغثيان الإشباع الذي تتولد في عقبه الشهوة من جديد، أكثر استشاطة وتوقّدا، أكثر تطلّبا ومغالاة، في نطاق من تصوّر ميتافيزيقي محدّد واضح: ليس هناك من مقدّس إلاّ الإنسان.
وهو يقول: "إنني أفكر، كما تخلع البنت فستانها" أو "إن الفكر في غاية حركته، هو انعدام كلّ حياء، هو البذاءة بعينها".
وفي رواية "أمي" نجد الراوي، فتى في العشرين من عمره بيير، الذي يستيقظ على سماع صوت يناديه، صوت أمه الذي طالما ناداه في ليالي المرض والقلق والخوف، ولكنه صوت ينبعث الآن من داخله، بكل نعومته وشحنته من الحنان والخطر. وموضوع الرواية، كموضوعات المركيز دي ساد، جريء مقتحم لا يبالي بالمواضعات الاجتماعية التي تكاد تبلغ التقديس الورع عند الناس. فالأم هنا، بعد وفاة زوجها تلقّن ابنها دروس الإغراق في الحسية والشبقية، والثمل الفعلي بالخمر، والسكر الجنسي في جموح من العربدة والفجور. ولكنّها تدور مع ذلك في ضوء رقيق رومانتيكي من الحب. إن الأم هنا تلقن بيير وعيا جديدا بإمكانيات لا حدود لها من المتعة والخوف. ودرجة فدرجة، فيعرف الحقيقة المخيفة الباهرة التي لا تطاق: إنها لا تعيش ولا تنبض ولا تهتز إلاّ من أجل المتعة، والسرور، واللذة الحسية، وأن ما فيها من شرّ وخبث إنما يتأتى عن علّة واحدة: إنها تتطلب المزيد من السعادة، بلا توقف. وهو يقبل الحب الذي تعلّمه أمه إياه، حب صديقاته: ريا، وولو، وهانسي، يعرف جنون الحب الشبقي بين أحضانهن، فالحب الذي يقع على حافة الدموع والضحك ليس منفصلا لحظة واحدة عن الشبق عند جورج باتايّ، الصلة بينه وبين الأم، صلة تكاد تشفى من الإثم بالمحارم ولكنها لا تبلغه قط، ولا شكّ أن في هذه الصلة ما يوحي بالطقوس الدينية البدائية التي يمتزج فيها الجنس بالعبادة، والتي تحيي فيها الأم الإلاهة نوعا من العربدة الباخوسية المقدسة.
وإذن فإن التجربة التي يشعلها لنا جورج باتايّ في روايته، هي على النقيض من تجربة "الزهد" والنسك، ولكنها تنتهي إلى نفس المصبّ. فالتنسك أو التزهّد هو الحد الأقصى للعزوف والتجرّد والتنازل، أمّا العربدة الحسيّة فهي الحدّ الأقصى للقبول، والانفجار والإقبال الملهوف على الحياة، والأخذ منها بأيد مليئة، والعطاء لها بملء الجسد والوعي. ولكن الحقيقة الداخلية التي يدور حول محورها كلّ من النسك والعربدة حقيقة واحدة: التسامى من الجزئي إلى الكلّي، الانطلاق من المحدود إلى المطلق، البحث عن المعنى في رفض القوانين الخارجية للعالم وتلمّس القانون الداخلي للحياة الإنسانية.
وجوج باتايّ يقول لنا، في هذا الصدد: "إنني لست فيلسوفا، بل قديسا، ولعلني مجنون... إن منهجي على طرف نقيض من أفكار الخلاص الصوفية، ومن كلّ صوفية".
وإذن فإن فكرة الحب القدسي هي الفكرة التي تلهم هذه الرواية الغريبة الصافية مع ذلك، والجديد فيها أن هناك علاجا روائيا فذّا لموضوع الشبقية الحسية التي ما تزال مع ذلك شبقية العاطفة الرومانتيكية "شبقية القلوب".
وفي الرواية صفحات يمتزج فيها الألم، والمتعة، والفرح والدوار معا، وحوار يصل إلى أستاذية رائعة في إمكان الانصهار بين الحسية والذكاء والفكر معا. بحيث نجد أن المقاييس التقليدية المعروفة في الجنس تتلاشى، وتتكشف أمامنا آفاق وأراض جديدة حقّا في داخل النفس الإنسانية.
هذه إذن هي رؤيا صادقة وجديدة، وتلك حقّا هي علاقة الفنان الأصيل، والفكر الأصيل معا. فإن نقاء جديدا يتضح لنا في هذه الرؤيا التي ينصب فيها الفكر والحس على تطلب اللامتناهى في كلّ شيء، وتلمّس المطلق في كلّ إشارة، وإيماءة، وكلمة. فالأم هنا تكشف عن الإغراق الحسّي العميق الذي لا يكفّ عن تجاوز الحدود الإنسانية إلى أبواب القدسي المطلق الموجود في نطاق الإنسان. فهي نمط من أنماط الأدب العالمي يمكن مقارنته بمخلوقات الإغراء والغواية الشهيرة في الأدب وفي الأسطورة، نحن هنا لسنا بإزاء رسم واقعي للشخصية، بل بإزاء غوص وراء النمط والنموذج الذي يصور فكرة، ومذهبا، وأسطورة، الأم –الإلاهة الباخوسية- هي المخرج من الوحدة الإنسانية، من ضرورة الموت، من فقدان المعنى. هي الضياع عن طريق العطاء والأخذ الحسّي المحكوم بوعي حاد للموقف الإنساني الهش.
في ذلك بالطبع أصداء وجودية واضحة، لكنها فرديّة متميزة خاصة بالكاتب لا بمدرسة ما، والمهم في ذلك كلّه أنه في الحقيقة كشف لرؤيا جديدة وعميقة في قلب مناطق ظلّت حتى الآن مظلمة أو معتمة. ولعلنا نقترب من فهم هذه الرؤيا إذا استمعنا إلى جورج باتايّ يقول: "في هذه الوحدة والوحشة التي أدخل فيها، فإن حدود هذا العالم –إذا ما ظلت الحدود باقية- إنما توحي إلينا بإحساس من الدوّار، إحساس بأنه ليس للعالم حدود. هذه الوحدة هي الله وهذا النور في السماء الذي يطوح بنا، هو نور الموت نفسه."


المصدر: إدوار الخراط، من الصمت إلى التمرد: دراسات ومحاورات في الأدب العالمي، سلسلة كتابات نقدية إصدار الهيئة العامة لقصور الثقافة، وزارة القافة المصرية 1994، صص 355-362

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق