السبت، 1 مارس 2014

ذكريات غائمة: جورج بتّاي

ترجمة: راجح مردان

 حكاية العين لـ Alex M. Bustillo
مقلبًا، ذات يوم، صفحات مجلّة أميريكية استوقفتني صورتان. الأولى هي صورة شارع في بلدة نائية تحدّرت منها أسرتي. والثانية، صورة خرائب قلعة مجاورة. لتلك الخرائب الجاثمة فوق صخرة عند قمّة جبل، صلة بحقبة من حقب حياتي. كنت في الحادية والعشرين، وكنت أقضي فصل الصيف في دارة أسرتي. وخطر لي ذات يوم أن أمضي ليلتي بين هذه الخرائب. فقصدتها مصحوبًا بأمي وبضع فتيات محتشمات (كنت مغرمًا بإحداهن التي تبادلني الحب، دون أن نأتي على ذكر الموضوع البتّة: فقد كانت تقية منصرفة لذكر الله خشية أن يستدعيها في أية لحظة). كانت الظلمة في تلك الليلة حالكة. ووصلنا بعد مسيرة ساعة. وكنّا نجتاز المساحة الوعرة أسفل أسوار القلعة عندما طلع علينا شبح أبيض مشعّ من أحد الصدوع الصخرية وقطع علينا الطريق. أُغمي على أمي وإحدى الفتيات. أمّا الأخريات فرحن يصرخن. برغم يقيني أنّ الأمر مجرد دعابة، أحسست بذعر شديد. لكني مشيت باتجاه الشبح طالبًا منه، بغصة الخوف، أن يكفّ عن مزاحه، تلاشى الشبح: لمحت خيال أخي الأكبر هاربًا وقد اتفق مع صديق له أن يسبقنا على الدرّاجة إلى هذا المكان وأن يخيفنا ملتحفًا بشرشف أبيض معرّض لضوء مصباح مخبأ: كان المكان ملائمًا لمثل هذه المسرحية، كما كان الإخراج ممتازًا.

في اليوم الذي جلست فيه أقلب صفحات المجلة كنت قد أنهيت، لتوّي، تأليف الفصل المتعلّق بالشرشف. تراءى لي الشرشف إلى الجهة اليسار تمامًا كما ظهر لي الشبح إلى يسار القلعة. كانت الصورتان متطابقتين.
ولكن المفاجئة التالية كانت أشدّ وقعًا.
كنت تخيلت، منذ ذلك الحين، وبأدق تفاصيله، مشهد الكنيسة، خصوصا مشهد اقتلاع العين. ومتنبهًا إلى صلة بين المشهد بحياتي الواقعية، عملت غلى ربطه بوصف لأحد عروض مصارعة الثيران الشهيرة، التي شاهدتها بالفعل –ذاكرًا الأسماء والتواريخ الحقّة، وتردّد ذكرها مرارًا في أحد كتب همنغواي- وللوهلة الأولى غاب عني أي شبه بينهما، ولكني حين رويت تفاصيل موت غرانيرو وقعت في حيرة وتشوش. فاقتلاع العين لم يكن اختراعًا محضًا بل هو تحوير لواقعة شهدتها بأم العين وحصلت لرجل من لحم ودم (إثر الحادث القاتل الوحيد الذي شهدته في حياتي). وهكذا انبثقت صورتان، هما الأكثر بروزا، من ذاكرتي التي حفظت أثرهما وأحييتهما على هيئة مختلفة ما أن سعيت وراء القدر الأكبر من الإباحة.
أمّا الشبه الثاني فتنبّهت إليه فور انتهائي من كتابة وصف "الكوريدا": وقرأت على أحد الأطباء من بين أصدقائي صيغة مختلفة عن الصيغة الواردة في الكتاب. إذ لم أكن قد شاهدت من قبل خصية ثور مسلوخة، وحسبت أنها لابدّ أن تكون حمراء بلون الدم. ولذلك بدا لي أن أي شبه بينهما وبين العين والبيضة سيكون مفتعلًا. فأظهر لي صديقي غلطتي. وفتحنا مصنفًا في علم التشريح حيث رأيت أن خصية الحيوان والإنسان ذات شكل بيضوي وأن لونهما يشبه لون المقلة.
ثمة ذكريات أخرى، من نوع آخر، تتصل بصورة من هواجسي.
لقد ولدت من أب مُسَفْلس (مسهوم)، لم يلبث أن أصيب بالعمى (كان أعمى حين حبلت بي أمي)، وعندما بلغت الثانية أو الثالثة من عمري أصابه هذا المرض بالشلل. وكنت في طفولتي، أعشق هذا الأب. والحال أن ما يترتب على الشلل والعمى من بين أمور أخرى، أنه كان عاجزًا عن الذهاب إلى المرحاض ليتبول. وكان يفعل جالسًا، وتحته وعاء. كان يبول أمام ناظري لأنه لا يحسن، لعماه، وضع الغطاء الساتر كما ينبغي. والأكثر حرجًا في تعاطينا معه كانت طريقته في التحديق بالأشياء. كان بؤبؤه لعماه التام، يختفي، في الليل، أعلى المقلة تحت باطن الجفن؛ وكان هذا يحدث عادة في أوقات الحقن بالعقاقير. كان أبي ذا عينين واسعتين مبحلقتين، في وجه نحيل على هيئة منقار نسر. وكان إذا بال استحالتا إلى بياض تام، فتبدوان عندئذ زائغتين، ساهمتين. لم يكن أمامهما سوى عالم لا يراه أحد سواه ويوحي له بتلك الضحكة الغائبة. والحال إن عينيه البيضاوين هاتين هما اللتان أوحيتا بحديثي عن البيض؛ وعندما يرد، في سياق السرد، ذكر العين أو البيض، يرد ذكر البول من تلقائه.
بعد أن لحظت أوجه الشبه هذه، أحسب أني تنبّهت إلى صلة ما تُرجع جوهر السرد (بمجمله) إلى الحادثة الأشدّ وطأة من صباي.
عند البلوغ، استحالت العاطفة التي كنت أكنّها لأبي إلى مَقْتٍ غير مُدرَك. إذ عاد يحزنني كثيرًا صُراخه الممزِّق الذي يسببه له السهام (ويصفه الأطباء بأنه المرض الأشدّ إيلامًا). وما عادت الروائح المنبعثة منه لعجزه (إذ يحدث أن يتبرّز أثناء تبوّله) لتثير فيَّ أي إشفاق. وفي كلّ أمر اتخذ موقفًا نقيضًا لموقفه:
ذات الليلة استيقظت أنا وأمي على نبرة خطاب كان العاجز يلقيه بصوت عال، في غرفته: لقد أصيب بجنون مباغت، فهرعت لإحضار الطبيب الذي اصطحبني بسرعة. وبفصاحته المشهودة كان أبي يتخيّل ما يحلو له من الحوادث. ولما اختلى الطبيب بأمي في غرفة مجاورة صاح المعتوه قائلاً:
- يا دكتور، متى انتهيت من مضاجعة زوجتي!
وكان يضحك، هذه العبارة التي قوّضت كلّ تأثير لتربيتي الصارمة، خلفت لدي، مصحوبة بالقهقهة، الإحساس المقيم بلاوعي بضرورة البحث في حياتي وأفكاري عن معادلاتها المعنوية. وربما سلّط هذا البحث المقيم بعض الضوء على فصة العين.
في ما يلي أنهي تعداد الذرى في سياق نزاعاتي الشخصية المؤلمة.
لم يكن ممكنًا أن أماثل بين مارسيل وأمي. مارسيل هي المجهولة ذات الأربعة عشر ربيعًا، التي رأيتها ذات يوم في المقهى جالسًا قبالتي. أو تقريبًا.
وبعد مضي أسابيع على جنون أبي، أصيبت أمي أيضاً، إثر مشادة حادة مع جدتي، بالجنون. وعاشت فترة طويلة من الاكتئاب. وكانت أفكار اللعنة التي تسيطر عليها تثير غضبي وترغمني على مراقبتها باستمرار. كان هذيانها يخبفني إلى حدّ جعلني، ذات مساء، أخفي شمعدانين بقاعدتين رخاميتين عن رفِّ المدفأة خشية أن تضربني أثناء نومي، بأحدهما على رأسي. وبلغ بي فقدان صبري عليها مبلغاً أجبرني على ضربها لاوياً ذراعيها إلى خلف ظهرها محاولاً أن أعيدها إلى رشدها.
ذات يوم اختفت أمي منتهزة سهوي عنها لبعض الوقت. بحثنا عنها طويلاً؛ إلى أن وجدها أخي، على رمق الأخير، وقد شنقت نفسها في العليّة لكنها لم تمت.
ثمّ اختفت للمرة الثانية: وبحثت عنها طويلاً عند ضفة الساقية حيث كان من المرجّح أن تغرق في مياهها. اجتزت المستنقعات راكضًا إلى أن وجدتها في إحدى الطرق، أمامي: كانت بثيابها مبلّلة حتى الحزام ومياه الساقية تقطر من أطرافها. فقد تمكنت، بنفسها، من الخروج من مياه الساقية المجمدة (كنا في عزّ الشتاء) التي لم تكن بالعمق الكافي لتغرقها.

مثل هذه الذكريات لا تستوقفني عادة. لقد فقدت، بمضيّ هذه السنوات الطويلة، كلّ تأثير ممكن عليّ: لقد جعلها الزمن محايدة، ولا يمكنها أن ترجع إلى الحياة إلا محوّرة، كأنها سواها، لشدّة ما اكتست، في سياق تحويرها، معنى إباحياً.

المصدر: جورج بتّاي، حكاية العين، ترجمة راجح مردان، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2001، صص 73-77

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق