الجمعة، 18 أكتوبر 2013

باتاي ضدّ الهيغليّة؟ برونو كارزنتي

ترجمة: فريق العمل في مركز الإنماء القومي

في إطار معارضته لهيغل سيشعر باتاي تدريجيًّا بمفارقة الاقتراب من خصمه

يشكل تطوّر فكر باتاي نموذجًا رائعًا لوصف تقبل هيغل في فرنسا عبر تردده وشكوكه وانجذابه. غير أن الأمر مع ذلك يتعلّق بنموذج مقلوب: لأنه منذ مقالاته في العشرينات لمجلة Documents وحتى مقاله في العام 1955 حول "هيغل، الموت والتضحية"، كان القصد معارضًا لهيغل وإن كان مسكونا بالشك تجاه معنى تلك المعارضة لنظام يحوي التناقض في مسيرة تطوره بالذات. ولكن، هناك أشكال لمعارضة هيغل. لقد تأثر باتاي باكرًا بقراءة نيتشه مختبرًا كثيرين غيره، وأحسّ تدرجيًّا بمفارقة أن يكون أقرب للعدو كلما أصبحت المعركة أكثر شراسة والمعارضة أكثر دقة وحسمًا. فيما سيدعوه دولوز Deleuze لا حقا "بمعارضة الهيغليّة المُعمّمة"(1)؛ وهكذا علينا أن نقبل إرثا كاملا من التغيرات والفوارق في المواقع واختيار زاوية الهجوم –وفيما يتعلّق بباتاي علينا أن نقبل مواقفه المتراجعة لدرجة أن تتماهى أحيانًا مع نقاط اتصال معينة.
أن يكون المرء ضد الهيغليّة يعني أولًا بالنسبة لباتاي، وعلى الأرضيتين المشتركتين للأدب والفلسفة، إعادة بناء خطاب الواقع المعتبر في كينونته الخام والضاغطة بشكل نهائي. فمن أجل تلافي واقعًا حاولت النظرة العقلانوية المنجزة إخفاءه بشكل نهائي. فمن أجل تلافي "البناء" الهيغلي و"نظامه الرائع والكامل في التحويل"(**).اعتراض المادي أن يعثر على ركائز فريدة ويقوم ببناء منطق جديد، طابعه المفارق في كونه يتموضع عمدا فيما دون أي شكل من أشكال العقلانية. ولكن، خلافا لأيّ توقُّع، وفيما يشبه التواطؤ الغريب تجري استعارة الأسلحة المحاربة لهذا النظام من لدن الخصم. إذ يقوم باتاي بانتزاع هيغل عن قاعدته الميتافيزيقية ومن ثم بربطه بالعقائد الغنوصية (العرفانية) التي تطرح الانقسام الأساسي للكينونة ويعيد تقييم الديالكتية الهيغلية، ويعطينا إياها بحالتها المعطلة، كحركة حقيقة "للمادية الدونية"(2). لعل هيغل قد فتح الطريق الذي عمل مباشرة على إغلاقه: الطريق الذي يلزمنا باعتبار الواقع، ليس كمثنّى، وإنما كإنتاج مستديم للثنائيات والتمزقات، فهو عنف خفي يولّد الصراعات بدل أن يحلها. إذا كانت القراءة هنا متأثرة بالاكتشاف التحليلي لظواهر التناقض، وبالدراسة التي قام بها موس Mauss للمعطى المعتبرة كعلاقة غنوصية أساسيّة، فمن الضروري أن نشير إلى الواقع العجيب الذي تعمل به هذه القراءة على جعل هيغل ضدّ نفسه وتجبره أن يقبل في نظامه الفكري وكأنه نتاج دينامية الخاصة، (أن يقبل) وظيفة خلق عدم الاستقرار بشكل دائم. وهكذا فالسلبي، أبعد من أن يكون حركة رسولية قد تنتهي إلى شمولية مقفلة وساكنة، يكتسب بحسب وجهة نظر باتاي قيمة خاصة: فهو يصوّر الجرح الذي لا يلتئم أبدًا والذي تَخْفُق النظريات الميتافيزيائية في التعبير عنه، ويرسم، كما بالمبضع، السبيل للوصول إلى هذا العالم الدوني المصنوع من الإفراط والمغالاة، من القوى المتنافرة ومن المعارك التي لا تتوقف. وبالاختصار، إن السلبي هو قلق هيغل.
هل كان هيغل قلقًا؟ فالسؤال يتجاوز الطرفة المحضة. أو بالأحرى يجب علينا إن الطرفة هي التي سوف تصبح هنا مسألة فلسفية. "إليكم استعادة ساخرة (لوضع هيغل). أتصور إن هيغل وصل إلى الحد الأقصى. كان لا يزال شابًا عندما اعتقد بأنه أصبح مجنونا (...) وفي النهاية بلغ هيغل الرضى، فأدار ظهره للحد الأقصى. "لقد مات فيه الرجاء"(3) هذا الجنون الذي يشبه التوتر الصامت وسط النظام الهيغلي سوف ينتظر دروس كوجيف وترجماته التفسيرية لظواهرية الروح، لكي يؤخذ بالاعتبار في كل مداه. إذا قبلنا بالفعل أن نجعل من الفصل الرابع مفتاح المؤلف بكامله –أي في النهاية مفتاح النظام الهيغلي، لأن العملية التي تتم بها الروح بشكل ملموس لا تُلْتقط أو تُدرك بمجملها إلا في الظواهرية- عندها ترى التاريخ البشري ودلالته العقلانية التي يُشحن بها يتخذان شكل رواية تدور أحداثها بين شخصين، تتخللها الصراعات والتعارضات والثورات إلى جانب اللحظة الصراعية الأولى، أي المظهر الأول للمحنة التي تجعل رغبتين تتعارضان في إرادتهما في سبيل حصول الواحدة منهما على اعتراف من الأخرى بأنها القيمة الأسمى.
في هذا الصراع حتى الموت من أجل الاعتراف، فإن السيد هو ذاك الذي لا يخاف من تعريض حياته، ومَنْ يتحمل خطر الموت حتى النهاية. وإن كان الأمر على العكس أي عندما يكون احتراز العبد للمحافظة على بقائه هو الذي يؤدي إلى خضوعه، فإن العملية الديالكتية لا يمكن أن تكتمل إلا يتجاور اللحظة السلبية للصراع وتحويلها إلى علاقة سيطرة –علاقة تتضمن مجددًا في داخلها شروط انقلابها. ولكن هل يُعتبر السلبي لذاته في هذه الدينامية؟ هل يجري التأمل فيه "مواجهة"؟ أم أنه ما تجري مقاربته حتى يكبت عندما يدرك، ويجري استعباده من خلال استيعاب شمولي أو لقاء ما يعتبره باتاي على أنه نوع من "البتر"؟ لقد هرب هيغل من الخطر الذي ينطوي عليه مساره الخاص، لكونه خائفًا أكثر من كونه قلقًا، ولأنه على حافة الجنون الذي انفتح أمام اختراق السلبي. فإذا ما بلغ الحد الأقصى عندما يمنح إلى رؤيا الموت الممزقة المكانة الجذرية التي هي مكانته في مجرى الحياة البشرية، فذلك لأنه لا يلبث حتى يدير له ظهره بعد ذلك مباشرة ويحرّف هذا المجرى لاستخدامه في قضية عامة تسير نحو الإنجاز في الحقبة النهائية لتحقق الإرضاء. ولكن أليس هناك موقع أسمى من السيادة. موقف لا تحفّظ فيه حقًّا، حيث تقع مخالطة الموت عن كثب دون أن يرتسم أي خلاص لاحقًا ودون أن يُسكت الأمل بالإيجابية المستعادة القلق الحقيقي عند من كان قد رأى؟ فالسيدة تحدّد بلا شك بالنسبة لباتاي، "الالتماس" الحي للهيغلية غير المبتورة حيث تنجرف الديالكتية وكأنها مأخوذة بحركتها الذاتية نحو نقطة الاضطراب. ولكن هذا –التجسيد للمعرفة المرفوعة إلى "مستوى الموت"- لا يمكن أن يأتي إلا مع هيغل. وعندما نأخذ هيغل على محمل الجد علينا أن نتبع مجمل مساره ونرافقه حتى حتى النهاية لنعرف أخيرًا أن عظمته هي أيضًا فشله الذي لا ينفصل عن هذه العظمة.
فنهاية التاريخ، لحظة الحكمة الكوجيفية والإقفال النهائي للنظام الهيغلي الذي جعل كتابة ظواهرية الروح ممكنة، تطبع الحالة التي يتحقق فيها الإنسان باعتباره فردًا، تركيبا للشمولي والخاص، وللسيد والعبد، إنها لحظة زوال الرغبة، لحظة الرضى الذي يوقِّع على زوال السلبية الإنسانية. ولكن هل نستطيع فعلا أن نتكلّم على الزوال؟ عندما لا يعود الفعل ينفتح على عمل السلبي، هل يجب القول إن هذا الأخير لن يعود يبرز، أو بالأحرى إنه يبرز بشكل مختلف، لم يُعرف سابقًا؟ قد يمكن لنهاية التاريخ، غير المتطابقة مع القلق الذي استكان، أن تحرر مجال السلبية المتفاقمة المجردة من أي محتوى والواعية لذاتها، والمواجهة من الآن وصاعدًا لنحافة كينونتها الخاصة. فمن الأفضل القول عندئذ إنه بعد الإنسان لا يأتي الحكيم، وإنما "إنسان السلبية المعترف بها"(4). المُدرك للسلبي على أنه شرط وجوده وفي الوقت نفسه اُفُقُه الوحيد، وهو يعيِّنه في ذاته على أنه انشطار مجرد لا ينتظر الالتئام في وثبة الديالكتية المراقبة.
ليس هناك مفهوم غير مفهوم "السلبية بلا استخدام" ليبرز بشكل أفضل البادرة الصعبة التي يعارض بها باتاي هيغل، وما يحويه من تجربة مزدوجة. تجربة معاشة: أنا إنسان السلبية بلا استخدام، يقول باتاي لكوجيف، وأتصور بأن حياتي –أو إجهاضها، وأفضل من ذلك أيضًا، الجرح المفتوح الذي هو حياتي –لوحدها تشكل دحضا لنظام هيغل المقفل(5). تجربة داخلية: ليس بالمعنى الذي يُحال فيه الفرد إلى القاعدة الإيجابية لحضور الذات، وإنما بالأحرى بالمعنى الذي يختبر فيه نفسه كفرد منقسم يخترقه من جانب لآخر حدٌّ لا يمكن اجتيازه بدقة لأنه لا يوجد شيء خارجه ولأنه كينونة الفرد. وإذا كان إنسان السلبية بلا استخدام هو الذي يلتقي للمرة الأولى نهائيته ويتعرّف إليها كنهائية، فذلك لأن اللامحدود قد بَطُل أن يكون بالنسبة له النقطة التي يدرك نفسه انطلاقًا منها، كما في الانعكاس، ليترك المكان لفخ الحد ولسيطرته المطلقة إلى ما لا نهاية.
لقد أشار فوكو في تكرمه لباتاي إلى أن هذا التفسير النقدي للفكر الديالكتيكي يكتمل في سياق إعلان نيتشه عن موت الإله -فهو كلام أساسي وبنائي يرسم "الخط الهيكلي العريض" لعصرنا، كما يرسم "الفضاء الذي سيبقى ثابتا لتجربتنا"(6). ولكن هذا السياق الجديد هو قبل أي شيء مجال لانقلاب فريد: فحد اللامحدود يُستبدل بلا محدود الحد. وإذا تابعنا قراءة باتاي، فإننا من داخل النظام الهيغلي نرى تجربة التناقض تتحلل لتتحول إلى تجربة –حد- أي في النهاية إلى شيء آخر غير التناقض، إلى تأكيد مصمِّم للسلبية كسلبية، منقطعة عن وعودها وتحقيقاتها. قد تكون ساعة موت الإله إذًا هي ايضا ساعة الصوفي الجديد الذي لا يقدِّم له ما يسميه هيغل "التمزق المطلق" أي مخرج: "هو الصوفي الملحد، الواعي لذاته، والواعي بأنه يجب أن يموت ويزول"(7).




(*) برونو كارزنتي: أستاذ في جامعة أكس- إن بروفانس
(**) La réduction، والمقصود من التحويل عند هيغل هو ترابط أنساق المفاهيم واستخلاصها جدليا من بعضها بحيث يقترن تقدم الأنساق المنطقية تجريدها بتجليات حركة الواقع. (المترجم)
(1) Différence et repétition, p. 1.
(2) انظر: المادية الدونية والعرفان في الأعمال الكاملة –الجزء الأول ص 220-226
(3) L’expérience intérieure, P. 160. gallimard
(4) انظر: رسالة باتاي لكوجيف المنشورة عند Denis Hollier. Le Collège de Sociologie, P.170.
(5) المرجع السابق، ص 171
(6) فوكو Préface à la transgression في مجلة Critique 1963، ص 753.
(7) باتاي، الأعمال الكاملة –الجزء 12، ص 333.


المصدر: برونو كارزنتي، باتاي ضدّ الهيغلية؟، مجلة العرب والفكر العالمي، العددان الخامس عشر والسادس عشر، خريف 1991، ص116-118

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق