الثلاثاء، 3 سبتمبر 2013

جورج باتاي: أكتب بدافع الخوف من الجنون


ترجمة وتقديم: أمين صالح

جورج باتاي: روائي، ناقد، كاتب مقالات، مفكر، منظّر فلسفي. في كتاباته يولي اهتماماً خاصاً بموضوعات الجنس، الموت، الانحطاط في المجال الأدبي والاجتماعي والديني. كتاباته نالت اهتمام عدد من الكتّاب والنقاد البارزين مثل: رولان بارت، جوليا كريستيفا، فيليب سولير. واعترف بتأثيره كل من: ميشيل فوكو، سولير، جاك دريدا، جان بودريار.
ولد في بيلون بوسط فرنسا، في العاشر من سبتمبر 1897.
عاش طفولة رهيبة وشاقة. أمه حاولت الانتحار عدّة مرات، ولم تنجح في أية محاولة منها. كان باتاي يحب والده الذي أصيب بالعمى (قبل ولادة جورج)، وعانى من شلل عام نتيجة إصابته بمرض الزهري (السفْلس) وتوفى في نوفمبر 1915 بينما كان يهذي ويهتاج ويرفض رؤية قسيس.
كان جورج تلميذاً سيئاً جداً، طُرد من المدرسة في يناير من العام 1913، وقد رفض إكمال دراسته إلا أنه عاد في أواخر ذلك العام ليلتحق بالمدرسة الثانوية، وليصبح تلميذاً مجتهداً ومتفوقاً.
هو الذي نشأ دون أي توجيه ديني، بدأ يميل برأيه وعاطفته نحو الكاثوليكية، وتحوّل رسمياً في أغسطس 1914. وعلى حد زعمه فإنه من العام 1914 إلى 1920 قلما يمر أسبوع عليه دون أن يذهب إلى الكنيسة ويعترف بآثامه.
في يناير من العام 1916 استدعي لتأدية الخدمة العسكرية لكن مرضه الشديد أدى إلى إعفائه في العام التالي. وظل طوال حياته يعاني من اعتلال في الصحة.
في 1917 فكر أن يصبح قسيساً أو راهباً، فالتحق بمعهد لاهوتي في سانت فلور.
في نوفمبر 1918 التحق بمدرسة البليوغرافيا (دراسة الكتابة والنقوش القديمة) وعلم تنظيم دور الكتب بباريس، وكان دائم التفوّق.
في العام 1920، أثناء رحلة قصيرة إلى إنجلترا، استغرقت شهرين، فقد إيمانه لأن كاثوليكيته الصارمة جعلت المرأة التي أحبها تذرف الدموع.
عند تخرجه من مدرسة البليوغرافيا في العام 1922، عيّن عضواً في مدرسة الدراسات الإسبانية العليا في مدريد. هناك كان شديد الحماسة تجاه مصارعة الثيران.
في يوليو 1922 التحق بالمكتبة الوطنية في وظيفة أمين المكتبة.
منذ العام 1914 اقتنع بأن الكتابة هي اهتمامه الرئيسي في هذا العالم، وبالتحديد في الكتابات الفلسفية. قراءته لمؤلفات نيتشه في العام 1923 كانت حاسمة في تقرير هذا التوجه.
مع نزوعه إلى السفر، بدأ في دراسة اللغة الروسية والصينية، وحتى لغة التبت التي تخلى عنها سريعاً. من الروسية ترجم، مع زميل له، كتاب ليون شيستوف.
كوّن صداقات مع ميشيل ليريه، أندريه ماسون، ثيودور فرانكل. اتصل بالسورياليين لكن النتيجة كانت حالة عداء متبادلة مع أندريه بروتون، وكان هو أحد الذين هاجمهم بروتون بعنف في بيانه السوريالي الثاني الصادر في 1929. وصف باتاي نفسه بـ "عدو السوريالية من الداخل".
في 1926 ألّف كتاباً صغيراً لم ينشر على الإطلاق لأن باتاي لم يكن راضياً عنه فمزّقه. في 1927 كتب "الشرج الشمسي" والذي طبع بعد أربعة أعوام.
تزوج في 1928. في العام التالي ساهم في تحرير مجلة "وثائق" التي كانت تعنى بشؤون الفن، لكنها توقفت عن الصدور في 1930، بعد إصدار 15 عدد منها. في هذه المجلة كانت "البدائية" و"الحداثة" تتجاوران عبر نقد ثقافي – حر أيديولوجياً –  للكتابة والشعر والفن والأركيولوجيا.
بعد ذلك بفترة قصيرة، ساهم في الكتابة على نحو منتظم في مطبوعة الحلقة الشيوعية الديمقراطية، التي توقف نشاطها في 1934.
بعد شهور من المرض، تعرّض باتاي لأزمة نفسية حادة، وانفصل عن زوجته في 1935.
شكّل تجمعاً سياسياً صغيراً حمل اسم "الهجوم المضاد"، ضمّ أغلب أصدقائه وبعض أعضاء الحلقة الشيوعية الديمقراطية، إضافة إلى المجموعة السوريالية بعد تصالحه مع أندريه بروتون. لكن هذا التجمع لم يستمر إلا شهوراً قصيرة. ومباشرة شكّل باتاي "الجمعية السريّة" التي أدارت ظهرها للسياسة واهتمت بالدين، وفق مفاهيم وتصورات نيتشه. أيضاً لم يُكتب لهذه الجمعية الاستمرار نتيجة انعدام الانسجام من جهة، واندلاع الحرب العالمية الثانية من جهة أخرى.
في أبريل 1942، وبعد إصابته بداء في الرئة، أجبر على ترك المكتبة الوطنية.
بعد انتهاء الحرب، عانى باتاي من البطالة لفترة طويلة، فساءت أحواله المادية.
في 1946، أسّس مجلة شهرية بعنوان "نقد"، التي نشر فيها الكتابات الأولى لـ رولان بارت، موريس بلانشو، جاك دريدا، ميشيل فوكو.
من 1949 إلى 1951 اشتغل أميناً لمكتبة عامة.
في 1961 قام بيكاسو وماكس إرنست وخوان ميرو وهنري ميشو بعرض لوحاتهم في مزاد علني بحيث يخصص الريع إلى باتاي من أجل مساعدته في تجاوز مشاكله المالية.
في 8 يوليو من العام 1962 توفى باتاي في باريس بعد ذبول قواه البدنية، وفقدانه المؤقت للذاكرة، واعتقال ابنته بسبب نشاطاتها السياسية ودفاعها عن استقلال الجزائر.
من مؤلفاته: قصة العين (1928) زرقة الظهيرة (1945) دموع إيروس (1961)..

مجلة October الأمريكية أصدرت في ربيع 1986 عدداً خاصاً عن جورج باتاي ضمّ تعريفاً به، ومقالات نقدية عنه. كما ضمّ مختارات من كتاباته القصيرة والطويلة نسبياً. من هذا العدد اخترت أن أترجم النصوص التالية..

الضحك

هناك ضرب هام وبارز من الاتصال الذي معه كل شيء يُستدعى للاستجواب بعنف. فقط عندما يكون الموت على المحك، يبدو أن الحياة تصل إلى التوهّج الشديد للضوء. مع ذلك فإن البحث الصارم، المتوتر دوماً، عن لحظات كهذه، تفضي إلى ثقل الروح. الإصرار على الأرجح يذهب عكس الحاجة الملطّفة لأن يفقد المرء نفسه. عندما يهيمن على حياتي ذلك الاهتمام الاستحواذي بالنشوة أو الوجْد، فلربما أتساءل إن لم يكن ذلك الوجد، الذي لا يمكن إحرازه أو بلوغه إلا عبر فقدان الذات، هو هدف مشيئتي لامتلاك ذلك مثلما يمتلك المرء سلطةً تستحق الإعجاب. عندما تكون الحاجة إلى الاتصال عبر فقدان الذات مختزلة إلى الحاجة إلى امتلاك ما هو أكثر، عندئذ ندرك أن لا شيء رفيع وجليل يمكن أن يوجد في الإنسان من دون أن يثير الضحك بالضرورة.
الآن، من بين جميع ضروب الاتصال الانفعالي والعاطفي، ليس هناك ما هو أكثر عمومية وشيوعاً من الضحك الذي يهيّجنا في رفقة بعضنا البعض. في ضحكنا تنعتق حيواتنا باستمرار في شكل سهل من الاتصال.. على الرغم من التأثير العازل ربما لاهتمامنا بالأشكال السامية من الاتصال.
ها هنا نصل إلى اللغز: ما الذي يحدث داخل أولئك الذين ينفجرون ضحكاً لدى رؤيتهم شخصاً ما يقع أرضاً؟ هل يمكن أن يكون ذلك لأن بليّة جارهم، الواقع أرضاً، تجلب لهم مثل هذا الابتهاج؟
نحن جميعاً نضحك على منظر وقوع إنسان مثلنا. حتى لو قيل لنا، ونحن أطفال، أن ليس هناك ما يدعو إلى الضحك، إلا أننا مع ذلك ننفجر في الضحك. مبرراتنا ليست وجيهة. العنصر الوحيد الواضح هو اختبارنا لنوبة معدية من الضحك. إننا نضحك كفرد واحد – ضحكاً جهورياً، وحشياً، عديم الرحمة– والذي فيه، معاً، نحن نتغلغل في الأماكن السريّة للأشياء. بهجة الضحك تصبح منسجمة مع بهجة العيش. الشرارة الساحرة للضحك الهادر تحدث لتعني، بطريقة والتي كانت حاسمة، ضرباً من البزوغ، وَعْداً غريباً بالبهاء.
يجب أن نحرص دائماً على أن نبيّن الإشعاع المكتشَف في الضحك.. ذلك الثَمَل يفتح نافذة من الضوء والتي تمنح عالماً من الفرح الفاضح. في الواقع، إن تألق هذا العالم شديد إلى حد أن البشر يحولون أبصارهم عنه بسرعة ورشاقة. وذلك الذي يرغب أن يبقي انتباهه مركّزاً على هذا الموضع المنزلق، المدوّخ، يحتاج إلى قوة عظيمة.

في البحوث العلمية، يُنظر إلى الضحك بوصفه آلية. في ضجر، وعلى نحو لا نهائي، يفككون هذا الجهاز الدقيق، كما لو أن الضحك شيء غريب، دخيل وخارجي، بالنسبة إليهم. إنهم يتفادون الكشف المباشر عن طبيعة الأشياء وعن حيواتهم في ضحكهم الخاص.
بوابات الضحك مفتوحة دوماً داخل روح رجل العلْم الكهل مثلما هي في روح طفل ساذج. حتى عندما يصبح الضحك متعباً وبالياً (فيما يتجهم الإنسان ويرتد بمرارة داخل ذاته) فإنه يجلب، إلى أولئك الذين يضحكون، حركة من المشاركة الفجائية إلى حد أنهم يتوقفون في خجل وارتباك. هذا السحر المشعّ للضحك، الذي فيه نحن نفقد ذواتنا، لا يملك موقعاً دقيقاً، لا نقطة انطلاق محددة، لا وجهة واضحة، لكن حين يحدث، يتوقف فوراً انفصال الفرد المنطوي على ذاته عن عالم ذي حركة متوهجة وفجائية.
كان على وقوع الفرد أرضاً أن يكشف الطبيعة الخادعة للثبات والرسوخ، والشهود على ذلك الوقوع كان عليهم أن ينتقلوا، معه، من عالم فيه كل شيء راسخ ومستقر إلى عالم من الانزلاقات والهفوات. الحواجز تنهار. اللحظات التشنجية لذلك الضحك تنعتق وتدوّي في انسجام.
الفرد لا يشارك فحسب في التدفق اللامحدود للكون، بل أن ضحكه يمتزج مع ضحك الآخرين، بحيث أن الغرفة سوف لن تحتوي على ضحكات عديدة إنما موجة واحدة من الجذل الصاخب. العزلة الجليدية لكل فرد ضاحك تكون، إذا جاز التعبير، منقاة ومشذبة. كل الحيوات هي مياه تتدفق وتفيض في سيْل.
قوي جداً هو انتقال الجماعة إلى حد أن الأكثر إنسانية بينهم لا يستطيع، بمشيئته الخاصة، أن يتصرف بطريقة ظاهرية التناقض أكثر، أو عميقة أكثر. الجميع مدركون أن وضعهم هو، في مظهره الأكثر غرابة والأكثر إثارة، مرتبط بالوقوع التعس.
حتى ذلك الذي يأتي متأخراً، ولم يشاهد الوقوع، سوف يخضع للعدوى! للضحك خاصية إثارة الضحك.
حين أصادف فجأة شخصاً أعرفه لكنني قلما أراه، فإننا نضحك في تعرّف متبادل، في انعتاق مفاجئ من العزلة، في اتصال، مع إننا نظل معزولين وسط أولئك الذين لا نعرفهم ولا نألفهم والذين معهم ليس لدينا أي نقطة التقاء.
في طفولتي، عندما يقوم شخص ما بدغدغة بطني، فإن الدغدغة، التي تنقل حركات لا إرادية ومفاجئة إلى ذلك البطن، تجعلني أضحك عالياً. ومثلما تتحرّر تلك الحركات مني، أتحرّر أنا من انطوائيتي. ومعاً، أنا وذلك الذي يدغدغني، ندخل في نوبة ضحك مشتركة في اللحظة التي يفلت البطن الصغير من الثبات والاستقرار اللذين كنت أؤمن بهما. الضحك يزداد مع تزايد الدغدغة ذاتها إلى درجة الإيذاء، وكلما دنوت أكثر من الصياح في وجع، ضحكت أكثر.
في الضحك، لحظة الانعتاق لا تكمن كثيراً في بدايته بقدر ما تكمن في تزايده إلى درجة من الكثافة المدهشة. في تلك اللحظة، الوجع الذي عادةً يشلّ الفعل يضاعف عنف الاهتياج الذي لا يعود بالإمكان إيقافه وتعطيله.
ضحك تعرّف المرء على الآخر ليس له رد فعل مباشر وتلقائي، ذلك لأن اللقاء التصادفي، المقبول، ليس له سوى فرصة ضئيلة من التنامي المقلق والمكشوف، الذي يجعل الضحك يزداد. الألم ليس هو سبب الضحك، وإذا كنت أضحك عند التقائي بصديق فذلك، على العكس، بسبب نشوء التوتر القريب من الألم. المرء أحياناً يضحك بحيوية وانتعاش إذا تم اللقاء بعد ألم حقيقي، وإذا أمكن تفادي خطر مهدّد لفترة طويلة. بجلاء، الألم لا يحرّر الضحك، لكنه ضروري في شكل ما: حين ينشأ الألم، يبدأ الضحك.
"الإجراءات" من أجل تبديد الألم لا تفرض تعقيدات على الضحك. إذا كنت أضحك فيما أقود السيارة بسرعة قصوى فذلك لأن متعة القيادة السريعة تكون أعظم من القلق المشروع إزاء الخطر (حتماً سوف لن أضحك لو أني معتاد على السرعة أو كنت قريباً جداً من حالة الخوف). ربما أضحك أكثر إذا كان الأمر لا يتعلق بخوفي إنما بخوف شخص آخر، لنقل خوف امرأة عجوز مدّعية لا تنسجم مع العالم الذي يروق لي والمتسم بالحركة الحادة. كلما ازدادت هي احتجاجاً، ضاعفتُ سرعة السيارة. إنه ليس ألمي بل ألم شخص آخر، قد أشعر به لكن عدوانيتي تدفعني إلى تجاهله.
في أوضاع اعتيادية يمكن للمتعة أن تبدّد الألم الضئيل، غير المدرَك. الأطفال يضحكون في جذل عند وقوع شخص يخافون منه. وعندما يسرقون التفاح فإنهم يضحكون على المالك الذي يزعق فيما يلاحقهم. إن ما يتبدّد هو احتمالية الألم أكثر من اختباره الفعلي. مع ذلك، لو لم يكن الأطفال واعين للوقوع كسقوط مفاجئ، فإنهم سوف لن يضحكوا.
السقوط المفاجئ عادةً لا يثير ضحك الشخص الذي يقع، لأنه لا يكسب شيئاً من وراء ذلك. بينما الطفل الذي يشهد الوقوع يكسب لأنه يرى نفسه ككائن متفوّق وأرفع منزلةً.. إذ أنه يبقى منتصباً وثابتاً. هذا يساعد في تبديد ذلك الألم الذي قد يجعله يرى تماثلاً بينه وبين الرجل الواقع أرضاً، وإمكانية أن يتعرّض هو للوقوع.
امرأة شابة تتلقى، بضحك مرَضي (باثولوجي)، أنباءً عن موت أشخاص كانت تعرفهم. هذا السلوك – الشاذ، غير السوي، بالنظر إلى تربيتها وطبعها المهذب – يؤكد بوضوح ما يتكشف عنه في ضحكنا: الانسجام الجوهري بين بهجتنا والباعث إلى التدمير الذاتي. من جهة أخرى، صعوبة ذلك الانسجام هي أيضاً مؤكدة. إن ضحك هذه المرأة موجّه، حسب ظني، إلى الموت المعلن بدرجة أقل مما هو موجّه إلى الألم الذي تسببه فكرة أن عليها، مهما كلّف الأمر، أن تكفّ عن الضحك، في حين أنها عاجزة تماماً عن فعل ذلك. (1940)

العجوز والبحر

قرأت، قبل أيام قليلة، رواية لابد أن بعضكم قرأها، بعنوان "العجوز والبحر" للكاتب إرنست همنجواي. كنت مفتوناً، لدى قراءتي لها، بالإحساس أن أخلاقية همنجواي هي، إجمالاً، مألوفة جداً. أقول أخلاقية همنجواي لأن لديه، على نحو بيّن، انشغالات أخلاقية، وسيكون من الخطأ عدم إدراك أخلاقية عمله. هي، جوهرياً، بسيطة جداً.. إنها أخلاقية السيد، المعلّم.. حسب المفهوم الهيجلي وليس النيتشوي.
همنجواي، باختصار، لا يهتم إلا بما يهتم به البشر، هؤلاء الذين تبنّوا موقف السيد المعلّم.. هذا الإنسان الذي قد يمارس الصيد، الذي قد يصطاد السمك، العاطل عن العمل. السيد يواجه الموت بوصفه لعبةً، مباراة. ذلك هو ما يثير اهتمام همنجواي دوماً. نحن لا نراه أبداً يصور، على سبيل المثال، البطل وهو يعمل. هو دائماً يقدّم الرجال الذين يأخذون على عاتقهم المجازفة، ليست المجازفة التي يدخل فيها الألم كقوة مهلكة. في شخصيات همنجواي ثمة دائماً شيء يتم تخطيه. هذا النمط من التخطي يكون أوضح في كتابه الأخير "العجوز والبحر".
إلى أولئك الذين لم يقرأوها، أقول أن الرواية تقدم رجلاً عجوزاً يلازمه سوء الحظ في محاولاته لاصطياد سمكة "سيّاف البحر"، وهي ذات حجم ضخم جداً. كل مرّة يخرج في قاربه ليصطادها تبوء محاولته بالإخفاق، وباستمرار يعود خائباً، فارغ اليدين. أخيراً، يدخل البحر، من جديد، لكن وحده هذه المرّة، دون رفيق يساعده، إذ بسبب حظه العاثر، وإخفاقاته الدائمة، يتجنبه الآخرون ويرفضون مرافقته.
هذه المرّة يصادف حسن الطالع ويبتسم له الحظ، لكن ضمن شروط سرعان ما تجعل الأمر ينقلب إلى سوء حظ في مداه الأقصى. في البداية، هو يتمكن بمشقة فائقة من التغلب على السمكة الكبيرة وإخضاعها، وذلك بعد صراع مرير.. إذ قادته بعيداً جداً عن مساره، وراحت تعرّضه إلى تعذيب حقيقي بسبب افتقاره إلى القوة اللازمة للتحكم في هذه السمكة الكبيرة والسيطرة عليها.
الآن، وهو في طريق العودة، بعد أن نجح في إخضاعها، تبدأ أسماك القرش، التي تلاحقه، في التهام أجزاء من السمكة التي من طعامها ظن أنه سوف يتغذى لفترة من الوقت. على الرغم من الجهود المضنية واليائسة التي يبذلها هذا الصياد العجوز لطرد أسماك القرش، وقتل أكبر عدد منها، إلا أنه يعود فارغ اليدين.. من جديد.
من وجهة النظر التي تبنيتها، ثمة شيء لافت للنظر في هذا العجوز الذي يظل جوهرياً، من البداية إلى النهاية، سيداً. ليس بلا مغزى أو دلالة أن يكون هذا الرجل صياد سمك وليس عاملاً بالمعنى الضيق للكلمة. صيد السمك ليس عملاً حقاً. إنه، إذا شئنا، عمل رجل بدائي، لكنه العمل الذي لا يخلق ذلك الانسلاب الذي يميّز عمل العبد في زمننا. مع ذلك، أي واحد يعتبر نفسه سيداً بوسعه أن يصيد السمك. صيد السمك لا يزال خاصية للسيد.
الآن، الاحتمال الذي يقدمه همنجواي هنا يبدو لي جديراً بالملاحظة. إنه يكمن في معرفة كيف تبقى صامتاً، معرفة كيف تتحمل أي شيء.. باختصار، في العيش ضمن الإمكانية الوحيدة المقترحة في الصدفة، في القدرة على إيجاد المرء لنفسه في موضع الهيمنة، على الرغم من كل سوء حظ يمكن تخيله.
يتوجب عليّ أن أقول بأن لدي تحفظات. لقد وجدت أن الرواية موفقة تماماً في تمثيل الأشياء، لكن مع ذلك فثمة شيء مقلق ومعكر في شخصيات همنجواي. ربما مصدر انزعاجي يعود إلى ذلك الحين عندما علمت أن همنجواي، في تاريخ غير معلوم، كان قد تحوّل إلى الكاثوليكية. ربما، على العكس تماماً، يكون هذا مقبولاً لدى الكثيرين. لكن من ناحيتي، شعوري بخيبة الأمل هو عميق جداً. وأنا أربط ذلك بالأشياء الأخرى التي ربما تكون مخيبة في هذا الرجل.
إن كراهيته العميقة للمذهب العقلي هي معروفة للجميع، وأظن أن هذه الكراهية تعلل ذلك الذي هو أساساً محدود جداً، ومنطو على مفارقة تاريخية، في توكيد أخلاقية السيد التي يلاحقها طوال أعماله. هذا الزعم بتوكيد أخلاقية السيد هو من عندي، لكن ثمة أسساً وأسباباً لذلك.
أرغب، مع ذلك، أن أؤكد الإحساس الموجع، إلى حد ما، الذي توصله كراهية همنجواي لمحاولة الإنسان العقلية. هذا لا يعني أنني لا أدرك، بل وأتقاسم، الشعور المحتمل بالتعارض الحاد للعقلي، غير أني أعتقد بأن هذا التعارض يجب أن يتم تخطيه.
العالم اليوم يطرح علينا معضلات عديدة، والتي هي مرتبطة، على سبيل المثال، بالعمل وبكل الأسئلة المثارة في ما يتصل بذلك. على أية حال، أعتقد أننا، كأفراد خاضعين لقوانينه، لا نستطيع الإفلات منه، لا نستطيع التظاهر بأننا صيادو سمك، صيادو طيور أو حيوانات، ومحبون لمصارعة الثيران، وليس لدينا شيء آخر نفعله.. وعلى نحو معكوس، نحن لا نستطيع أن نتجاهل ما هو ممثّل في مسعى الإنسان اليائسة للمضي إلى حدود قدراته الفكرية. (فبراير 1953)

عن نيتشه.. الميل إلى الصدفة

"هل ترغب في أن تدفئ نفسك بالتواجد
على مقربة مني؟ أنصحك بعدم الاقتراب
مني أكثر مما ينبغي، فلربما أحرق يديك..
ذلك لأني ملتهب جدا. وبالكاد أقدر أن أمنع
جسدي من الاندلاع والتحول إلى لهب".
نيتشه

1

أكتب، على ما أعتقد، بدافع الخوف من الجنون.
أعاني من اشتياق موجع، متّقد، والذي يلحّ بعناد، مثل رغبة مضطرمة ولا تخمد، بداخلي.
توتري هو، من بعض النواحي، يشبه توتر باعثٍ هائج للضحك. إنه يختلف بعض الشيء عن الأهواء التي ألهبت أبطال المركيز دو ساد، مع ذلك هو يضاهي توتر الشهداء أو القديسين.
أنا على يقين من أن ما هو إنساني في طبيعتي تؤكده هذه النشوة. لكن يجب أن أعترف بأن هذا يفضي إلى اختلال التوازن والقلق الموجع. أنا أحترق، أضلّ سبيلي، وفي النهاية أبقى خاوياً. أستطيع أن أعيّن لنفسي مهمات كبيرة، ضرورية، لكن ولا واحدة منها تكون متناسبة مع انفعالي، مع ما يعتريني من حمّى. أنا أتحدث عن همّ أخلاقي، عن البحث عن هدف يتخطى كل الأهداف الأخرى في القيمة والأهمية.

2

نيتشه هو أول من عبّر عن توق الإنسان غير المشروط، المتطرف، وعلى نحو مستقل عن أية غاية أخلاقية أو لخدمة الخالق. نيتشه غير قادر على تعريف هذا التوق بدقة، لكن هذا التوق هو الذي يقوده، وهو ينتحله تماماً.
هذا الاحتراق بلا أي علاقة بالالتزام الأخلاقي، المعبّر عنه درامياً، هو بالتأكيد متناقض ظاهرياً. هذا لا يمكن أن يخدم كنقطة انطلاق للوعظ أو للفعل.. نتائجه تكون مربكة.
لابد أن نيتشه أدرك بأنه قد أخفق. كان يعرف، في النهاية، أنه يعظ في البريّة. بتدمير الواجب، الخير، بشجب الخواء وحياة الفضيلة، هو دمّر القيمة المؤثرة للغة.
الشهرة جاءت متأخرة. وعندما جاءت، كان يتعيّن عليه أن يغلق الدكان. لا أحد بلغ توقعاته. ينبغي أن نقول الآن: أولئك الذين يقرأونه أو يعجبون به، إنما يهزأون به (وهو كان يعلم ذلك). إن أي محاولة لإتباعه تعني تسليم المرء نفسه إلى الاختبار ذاته، إلى الفوضى ذاتها.
التحرّر الكامل، كما حدّده هو، للإمكانية الإنسانية، لكل إمكانية، هو بالتأكيد الشيء الوحيد الذي لم يحاوله أحد بعد.
في هذه المرحلة الراهنة من التاريخ، أعتقد أن خارج كل التعاليم والعقائد الممكن تصوّرها، والتي تم التبشير بها، كانت لتعاليمه نتائج إلى حد ما. نيتشه، بدوره، تصوّر عقيدة جديدة وبشّر بها.. ومضى باحثاً عن أتباع ومريدين. لقد حلم بإيجاد جماعة، أخوية.. وكره ما حصل عليه: الإطراء العام المبتذل.

3

هناك، في جوهر الإنسان، حركة عنيفة، شهوة إلى الاستقلال، إلى الحرية. الحرية، بالتأكيد، يمكن أن تكون مفهومة بطرائق متعددة، لكن من، في الوقت الحاضر، سوف يتفاجأ من حقيقة أن المرء قد يموت من أجل هذه الحرية؟

4

أعترف الآن، في لحظة الكتابة هذه، أن البحث الأخلاقي الذي يتخذ كهدف له ذلك الذي يكون وراء نطاق الإرادة الطيبة، هذا البحث قد أجهض. والمرء ليس لديه أي ضمان لاجتياز الامتحان بنجاح. هذا الاعتراف، الناشئ عن تجربة موجعة، يبرّر ضحكي على أولئك الذين، سواء بمهاجمة ذلك أو بتبني ذلك، يخلطون بين وضع نيتشه ووضع هتلر. "كم هو شاهق مسكني! أبداً لم أحص خطواتي فيما أصعد إلى هناك: حيث كل الخطى تنتهي، هناك سقفي ومقرّي".
هكذا كان التعبير عن مطالبة لا تركّز بؤرتها على أي "خير" قابل للتمييز، والذي يستهلكه ذاك الذي يمارس تلك المطالبة.
أتمنى أن أضع حداً لسوء الفهم الشائع والسوقي هذا. أن أرى تلك الفكرة التي بقيت مهمَلة على نحو مضحك، والتي – بالنسبة لأولئك الذين ألهمتهم الفكرة وتأثروا بها – لا تنفتح إلا على الفراغ، هذه الفكرة تم اختزالها الآن إلى مستوى الدعاية (البروباغندا). أن أرى هذا هو أمر رهيب.
يقال أن نيتشه مارس التأثير الأعظم على زمننا. هذا غير مؤكد، ومشكوك فيه. العبث بالقواعد والمبادئ الأخلاقية كان قد بوشر به، على نحو جيد، قبل وصوله. هو، قبل كل شيء، لم يكن لديه أي موقف سياسي. كان يشعر بالسخط والغضب عندما يسألونه عن انتمائه السياسي وما إذا كان ينتمي إلى اليمين أم اليسار. وإزاء إلحاحهم، كان يرفض أن يختار حزباً معيناً أياً كان. لقد كان ينفر من فكرة الخضوع إلى أي قضية.
آراؤه الثابتة في السياسة مؤرخة من لحظة قطع صلته بصديقه الموسيقار فاجنر، من خيبة أمله في كشف فاجنر للسوقية الألمانية.. فاجنر الاشتراكي، الكاره لفرنسا، المعادي للسامية.. روح الرايخ الثاني. قبل كل شيء، كانت ميوله في فترة ما قبل الهتلرية ملخصة في معاداة السامية، وهذا ما كان نيتشه يكرهه ويحتقره أكثر من أي شيء آخر.
على المستوى السياسي، كان نيتشه النبي، الرائي الذي حذّر من قرب تعرّض ألمانيا لبليّة فاضحة.. وهو أول من شجب ذلك. كان يشمئز من الأفكار الحمقاء، من الاعتداد بالنفس، المفعم بالبغض والكراهية، الذي – بعد 1870 – استحوذ على عقل ألمانيا، والذي هو الآن يستنزف نفسه في الجنون الهتلري.
أبداً لم يحدث من قبل أن اقتيد شعب بأكمله نحو الضلالة ليرتكب إثماً رهيباً ومهلكاً، كما حدث للشعب الألماني.
أبداً لم يحدث من قبل أن اقتيد شعب، بهذه الدرجة من القسوة والوحشية البالغة، نحو الهاوية.
عن هذه الجماهير، المحكوم عليها سلفاً، عزل نيتشه نفسه، رافضاً أن يشارك في عربدة "الغرور والرضا عن النفس". لكن كان لصلابته وعناده عواقب، فقد قررت ألمانيا أن تتجاهل هذا العبقري الذي رفض أن يتملقها ويداهنها. فقط شهرته خارج حدود بلاده هي التي جذبت، على نحو متأخر، انتباه واهتمام أبناء بلده.
شخصياً لا أعرف أي مثال سابق للتجاهل وعدم الاكتراث الحاصل بين رجل وبلده أفضل من هذا المثال: أمة بأسرها ظلت –لمدة خمسة عشر سنة- متصامية، غير راغبة في الإصغاء إلى هذا الصوت.. أليس ذلك أمراً خطيراً؟
اليوم، فيما نشهد خراب ألمانيا، يحق لنا العجب والتساؤل بشأن ما حدث آنذاك: في لحظة دخول ألمانيا الطريق المؤدية إلى الكارثة، كان الأكثر حكمة والأكثر توهجاً، من بين كل الألمان، يستدير معطياً ظهره لبلاده، ويبتعد عنها في رعب لم يستطع كبحه.
نيتشه وألمانيا، عداء متبادل، لكن في النهاية سوف يشملهما المصير ذاته. كلاهما كانا مدفوعيْن –عبثاً- من قِبل أمل مجنون، غير منطقي. بصرف النظر عن هذا الدافع العبثي على نحو مأساوي، فإن كل ما بينهما هو البغض والتدمير. التماثلات غير ذات دلالة أو مغزى.

5

نيتشه كان يكتب "بدمه". من أجل انتقاده، أو بالأحرى، اختباره، يتوجب على المرء بدوره أن ينزف دماً.
نيتشه، كما هو مفترض، فيلسوف "إرادة القوة".. هكذا قدّم نفسه، هكذا تم استقباله.
أنا أعتقد أنه فيلسوف الشر. ذلك السحر والفتنة، "قيمة" الشر التي فيها هو، حسب ما أظن، رأى معنى هدفه في التحدث عن القوة.
لقد برّر كراهيته للخير باعتباره الشرط الفعلي للحرية. شخصياً، ومع أنني غير واقع تحت أية أوهام تتصل بعواقب موقفي، أشعر بنفسي معارضاً حقيقياً لكل أشكال الكبح، ذلك لأن الشر هو ضد الكبح، والذي يمارَس، نظرياً، من أجل الخير.
يقيناً، الشر ليس هو ما حاول سوء الفهم الريائي أن يصنع منه. إنها حقاً حرية مادية، ملموسة، تلك التي نجدها في الانتهاك المقلق للتابو.

6

المعضلة التي كان نيتشه يسعى إلى حلها في أعماله، هي معضلة الإنسان الكامل. في "إرادة القوة" هو يكتب:
"أغلب البشر يمثلون أجزاء وشظايا من الإنسان: على المرء أن يجمعها قطعةً قطعةً من أجل أن يظهر الإنسان الكامل. إن عصوراً كاملة، شعوباً كاملة هي، بهذا المعنى، مجزأة ومتشظية. ربما جزء من اقتصاد التطور البشري هو أن على الإنسان أن ينمو ويتطور قطعة قطعة. لكن هذا لا ينبغي أن يجعل المرء ينسى للحظةٍ أن المسألة الحقيقية هي إنتاج إنسان تركيبي، وأن البشر الأدنى، الأغلبية الهائلة، هم مجرد مقدمة وبروفات، والذي من خارج خليطه يظهر الإنسان الكامل هنا وهناك.. الإنسان المَعْلَم الذي يشير إلى كيفية تقدّم البشرية حتى الآن".
لكن ما الذي يعنيه هذا التشظي أو، بالأحرى، ما هو سببه، إن لم تكن هذه الحاجة للفعل الذي يخصص ويحدد الأفق لفعالية معينة؟
حتى لو أنجزت تلك الفعالية للمصلحة العامة (وهذا أمر نادر الحدوث) فإن هذه الفعالية، التي تُخضع كل لحظة من حياتنا إلى نتيجة دقيقة، تطمس شخصية الفرد كلها.
لا أستطيع أن أوجد كلياً إلا بتخطي، بطريقة ما، مرحلة الفعل. وإلا فسوف أصبح جندياً، ثورياً محترفاً، تلميذاً.. وليس الإنسان الكامل. إن حالة الإنسان المتشظية هي، جوهرياً، تشبه اختيار هدف ما. عندما يحصر الإنسان رغباته، على سبيل المثال، في امتلاك السلطة ضمن الدولة فإنه بذلك يمارس فعلاً، ويعرف ما ينبغي فعله. إخفاقه لا يهم إلا بدرجة قليلة.. هو يستفيد من البداية. إنه يولج نفسه على نحو مفيد داخل الزمن. كل لحظة من لحظاته تصبح نافعة. ويصير ممكناً له أن يتقدّم، مع كل لحظة عابرة، نحو هدفه المختار. زمنه يصبح تقدماً نحو هذا الهدف (ذلك هو ما نسميه عادةً الحياة). بالمثل، إذا كان هدفه هو خلاصه. كل فعل يجعل من الإنسان كائناً مؤلفاً من شظايا. فقط برفض ممارسة الفعل، أو على الأقل بإنكار تفوّق الوقت المدّخر للفعل، أستطيع أن أحافظ على خاصية الوحدة الكاملة داخل نفسي.
الحياة تبقى وحدة كاملة فقط عندما لا تكون خاضعة إلى هدف محدّد والذي يتجاوزها. الوحدة الكاملة، بهذا المعنى، هي جوهرياً حرية. أنا لا أستطيع أن أقوم بمحاولة لبلوغ الكمال ببساطة عبر القتال من أجل الحرية: حتى لو كانت تلك المعركة هي أفضل من أي فعل آخر، يجب ألا أخلط بين نضالي والوحدة الكليّة الداخلية. إنها الممارسة الإيجابية للحرية، وليس الصراع السلبي ضد شكل معيّن من أشكال الاضطهاد، التي رفعتني فوق وجود مشوّه. كل واحد منا يتعلّم الدرس الموجع: لكي يقاتل المرء في سبيل حريته يعني، قبل كل شيء، أن يبعدها، يتحوّل عنها.
كما ذكرت، ممارسة الحرية لها مكانها في جهة الشر، بينما القتال في سبيل الحرية هو قهر للخير. بقدر ما تكون الحياة وحدة كاملة بداخلي، فإنني لا أستطيع، بدون تقسيمها، إغراءها بالمشاركة في خدمة الخير، سواء خدمة خير شخص آخر، أو الرب، أو خدمة خير نفسي. أنا لا أستطيع أن أنال، لكن أقدر فقط أن أمنح، أمنح بلا حساب، بدون أن تكون المنحة، كهدف لها، لأخذ خير شخص آخر.

7

الوحدة الكاملة، المجهضة بداخلنا بفعل الحاجة إلى العمل، هي مع ذلك من تزويد هذا العمل. ليس كهدف (الهدف هو تغيير العالم، تكييفه وفقاً لمقياس الإنسان) لكن كنتيجة يتعذّر اجتنابها أو تغييرها. في نهاية هذا التغيير، الإنسان مرتبط بمهمة تغيير العالم، الذي هو ليس إلا شظية من الإنسان، وهو نفسه سوف يتغيّر إلى إنسان كامل. هذه النتيجة تبدو بعيدة بالنسبة للبشرية، لكنها مخصصة في المهمة المحددة. إنها ليست كائنة فوق الوجود المادي، مثل الآلهة، أو بقاء النفس.
جوهرياً، الإنسان مجرد كائن والذي فيه يكون التسامي ملغياً، ولا يعود منفصلاً عن أي شيء: جزء منه دمية، جزء منه إله، وجزء منه مجنون.. هذه هي الشفافية.

8

إتمام الوحدة الكاملة، الخاصة بي، في الوعي، يتطلب صلتي بالتشنج الهائل، الهزلي، الموجع، والذي هو تشنج كل البشر. هذه حركة في كل الاتجاهات وكل الحواس. هذا التفكك هو بلا ريب متخلّل بواسطة فعل ذي معنى في اتجاه محدّد، لكن هذا بالضبط هو المسؤول عن الصفة المتشظية للبشرية في زمني (كما في الماضي).
متغاضياً للحظة عن هذا الحس المحدّد، أرى بالأحرى الخلاصة الشكسبيرية، التراجيكوميدي، للأهواء، الجنون، الأكاذيب، الألم والضحك. أبدأ في فهم الوحدة الكاملة، لكن كحركة متمزقة. كل وجود هو الآن وراء نطاق المعقول. إنه الحضور الواعي للإنسان في العالم بقدر ما هو هراء، بلا شيء لفعله بل أن يكون كما هو، عاجزاً عن تجاوز نفسه لتبني حس أو اتجاه في الفعل.
(مقتطفات من مقالة طويلة)

جنون نيتشه

في الثالث من يناير 1889، استسلم نيتشه إلى الجنون: في ميدان كارلو - ألبرتو، في تورين، ارتمى نيتشه على رقبة حصان، كان وقتذاك يتعرّض للضرب، ثم انهار وهو ينشج. عندما صحا من إغماءته، حسب نفسه ديونيسوس، إله الخمر عند الإغريق، أو "ذاك المصلوب".. هذا الحدث ينبغي إحياء ذكراه بوصفه مأساة (تراجيديا).
قال زرادشت: "عندما يكون ذلك الذي يعيش مسيطراً على ذاته، فإن ذلك الذي يعيش يجب أن يكفّر عن سلطانه ويصبح قاضياً، منتقماً، وضحية قوانينه الخاصة".

* * * * *

إنها رغبتنا في إحياء ذكرى حدث مأساوي، ونحن نقف هنا الآن.. فوق رؤوسنا تمتد السماء المضاءة بالنجوم، وتحت أقدامنا تدور الأرض. داخل أجسامنا ثمة حياة، لكن داخل أجسامنا أيضاً، الموت يشقّ طريقه. (بوسع الإنسان دوماً أن يشعر، حتى عن بُعد، اقتراب الشهقة الأخيرة).
فوقنا النهار سوف يعقب الليل، والليل سوف يعقب النهار. ولا نزال نتحدث، نتحدث بصوت عالٍ، غير واعين جميعاً لتلك الكائنات التي نكونها. وعن ذلك الذي لا يتحدث وفق قوانين وقواعد اللغة، علينا نحن الراشدين، العقلاء، أن نجزم بأنه مجنون.
نحن نخشى أن نصير مجانين. إننا نتقيّد بالقوانين في قلق شديد. وفوق ذلك، محظور إطلاع الآخرين على جنون المجانين، هذا الجنون الذي يكرّر نفسه برتابة تثير الضجر. افتقار المجنون للجاذبية يكفل الصرامة الوقورة للمنطق. مع ذلك، الفيلسوف من خلال خطابه "يعكس صورة السماء الخالية بأمانة أقل من المجنون، وفي هذه الحالة، ألا ينبغي إقصاءه؟".
هذا الاستفهام لا يمكن أن يؤخذ بجدية، بما أنه سوف يفقد فوراً معناه. مع ذلك، هو دخيل بالنسبة لروح الهزل، ذلك لأن من الضروري، أيضاً، أن نفرز ألماً شديداً. تحت أي ذريعة بإمكاننا أن نرفض الحرج أو الارتباك الذي ينتج العرق؟
ذاك الذي نعتبره "حكيماً" هو الفيلسوف. لكنه لا يوجد على نحو مستقل عن البشر ككل. ذلك الكل مؤلَف من بضع فلاسفة مشغولين في الهدم المتبادل، ومؤلَف من جماهير في حالة عطالة وكسل واضطراب، جماهير لا تعرف الفلاسفة.
إذا أغلبية البشر، أو ببساطة أكثر، إذا كينونتهم بأسرها، ينبغي أن تكون متجسدة في كائن مفرد – معتزل ومهجور، كما الأغلبية بالطبع – فإن رأس ذلك "التجسيد" سيكون موقعاً لنزاع غير قابل للتهدئة، لعنف خطير، إلى حد أنه، عاجلاً أم آجلاً، سوف يتهشم.
بالكاد يمكننا أن نتصوّر كثافة العاصفة أو كثافة انعتاق متحقق في رؤى هذا الكائن المتجسد. هو سوف ينظر إلى الخالق فقط لكي يقتله في تلك اللحظة ذاتها ليصبح هو نفسه الخالق، إلا أنه وقتذاك لن يجد أمامه غير أن يثب على الفور نحو العدم. عندئذ سيجد نفسه كما كان من قبل، رجلاً غير ذي شأن، مثله مثل أي عابر سبيل، لكن بلا أي احتمال على الإطلاق لأخذ قسط من الراحة.
هو بالتأكيد سوف لن يكون مرتاح البال ومكتفياً بالتفكير والكلام، ذلك لأن الضرورة الباطنية سوف تجبره على أن يعمل وفق تفكيره وكلامه. الكائن المتجسّد من هذا النوع سوف يعرف حرية عظيمة جداً إلى حد أنه لن يجد أي لغة قادرة أن تعيد إنتاج حركتها.
هذا يفضي إلى التسليم المحتوم بأن "الإنسان المتجسّد" يجب أيضاً أن يمسّه الجنون.

كم هو عنيف دوران الأرض في رأسه!
كم هو متطرّفٌ صلبه.. وشديدٌ عذابه!
كم سيكون شبيهاً بالعربيد، إله الخمر!
(تقهقروا يا من تخشون النظر إلى.......)

لكنه سوف يكبر وحيداً، كلّي القدرة ومقدّساً، إلى حد أن أحداً قد لا يراه أو يتصوره من دون أن يذوب من الانفعال.

* * * * *

هذا التعبير عن العنف لا يمضي إلى حد أبعد. هذه الجُمل تخون الباعث الأصلي إن لم تكن مرتبطة بتلك الرغبات والقرارات التي هي مبرّر حياتها.
الآن، من الواضح أن تمثيل الجنون عند القمة لا يمكن أن يكون له أي تأثير مباشر. لا أحد يستطيع طوعاً، وبطيبة خاطر، أن يدمّر داخل نفسه الأدوات التعبيرية التي تربطه برفاقه.. مثل العظم إلى العظم.
يخبرنا بليك، في صيغة مَثَل: " لو أن الجنون لا يمسّ الآخرين، لتوجّب علينا نحن أن نُجنّ".
لا يمكن للجنون أن يُقصى من العمومية البشرية، نظراً لأن إتمامه يقتضي وجود المجنون. بالتالي فإن ذهاب نيتشه إلى الجنون جعل تلك العمومية ممكنة. وأولئك الذين فقدوا في السابق رشدهم لم يفعلوها بالدرجة نفسها من البراعة. لكن هل يمكن لـ هبة جنون رجل إلى رفاقه أن تكون مقبولة بدون عائد، إضافة إلى الفائدة؟ وإذا لم تكن تلك الفائدة هي جنون ذاك الذي تلقى تلك الهبة الملكية، فما الذي سيكونه العائد؟
هناك مَثَل آخر: ذلك الذي يرغب لكن لا يفعل شيئاً، ينتج الوباء.
بالتأكيد أن أكثر الأشكال تطرفاً من أشكال الوباء هو الذي يتحقق عندما يكون ثمة خلط بين التعبير عن الرغبة والفعل.
ذلك الذي فهم ذات مرّة أن في الجنون وحده يكمن اكتمال الإنسان، يجد نفسه مدفوعاً لأن يتخّذ خياراً واضحاً ليس بين الجنون والعقل بل بين أكذوبة "الكابوس الذي يبرّر الاستغراق في النوم" والإرادة في ضبط النفس والنصر. حالما اكتشف تألق وآلام القمة، وجد أن لا تضليلاً ولا خداعاً يحتوي على كم من البغض أكثر من الهذيان الزائف للفن. إذا كان لابد أن يصبح ضحية قوانينه الخاصة، إذا كان إنجاز قدره يقتضي دماره هو، إذا كان للموت أو للجنون، بالنسبة له، جواً من الاحتفال، فإن حبه للحياة والقدر يقتضي منه أن يرتكب داخل نفسه جناية السلطة تلك والتي سوف يكفّر عنها. هذا هو مطلب القدر الذي إليه هو مقيّد بواسطة إحساس بمصادفة متطرفة.
بالتقدّم، أولاً، من حالة السعار الشديد في الحاجة إلى السلطة – تماماً مثلما هو في أزمة حياته يجب أن يتقدم في الاتجاه المعاكس من السلطة إلى الانهيار، سواء أكان بطيئاً أم مفاجئاً – يتوجب عليه من الآن فصاعداً أن يكرّس وقته للبحث (المجرّد) عن القوة.
في تلك اللحظة، حيث كليّة الحياة تظهر بوصفها مرتبطة بالتراجيديا التي هي إنجازه النهائي، هو قد رأى مدى الضعف والوهن الذي يمكن أن تعتري هذه العلاقة.

الانمساخ

السلوك الملتبس للإنسان تجاه الحيوان الضاري هو عادة مناف للعقل. الكرامة الإنسانية موجودة ولا يمكن إنكارها (هي، على نحو ظاهر، فوق كل الشبهات) لكن ليس عند زيارة المرء إلى حديقة الحيوان عندما – على سبيل المثال – تراقب الحيوانات حشوداً مقتربة من الأطفال يتبعهم الآباء والأمهات.
على الإنسان، برغم مظهره، أن يعرف أنه حين يتكلم عن الكرامة والنبل الإنساني في حضور الحيوانات فإنه يكذب مثل الكلب. إذ في حضور كائنات غير شرعية وحرّة جوهرياً (الكائنات الوحيدة الخارجة على القانون بشكل حقيقي) فإن الإحساس الأحمق بالتفوق العملي يفسح المجال لحسد غير مريح وغير محتمل إلى أبعد حد.
يوجد الكثير جداً من الحيوانات في هذا العالم. القسوة البريئة، التوحش المبهم لأعين بالكاد يمكن تمييزها عن الفقاعات الصغيرة التي تتشكّل على سطح وحْل. الرعب بوصفه متمماً للحياة مثلما الضوء للشجرة.
استحواذية الانمساخ يمكن تحديدها كحاجة عنيفة – متماثلةً مع كل حاجاتنا الحيوانية – والتي تجبرنا فجأة على نبذ الإيماءات والأوضاع الأساسية بالنسبة للطبيعة البشرية.
ثمة، في كل إنسان، حيوان سجين. وثمة بوابة: إذا فتحنا البوابة فإن الحيوان سوف يندفع خارجاً مثل العبد الذي يجد سبيله إلى الهرب.
الإنسان يخرّ ميتاً، والحيوان يتصرف كحيوان، دون أي اهتمام بالدهشة الشعرية للإنسان الميت.   (1929)

المسلخ

المسلخ مرتبط بالدين طالما أن معابد العهود الماضية (فضلاً عن معابد الهندوس في أيامنا) كانت تخدم غايتين: كانت تستخدم للصلاة وللقتل معاً. النتيجة (وهذا الحكم يؤكده المظهر الهيولي، الفوضوي، لمسالخ الوقت الحاضر) كانت بلا ريب نقطة التقاء، مقلقة ومزعجة، لألغاز الأسطورة والفخامة المشؤومة النموذجية لتلك الأماكن التي فيها يفيض الدم.
في زمننا، المسلخ ملعون ويستوجب الحجر الصحي مثل سفينة ابتلت بوباء الطاعون. الآن، ضحايا هذه اللعنة ليسوا الجزارين ولا البهائم، بل أولئك الناس الطيبين الذين رزانتهم وهدوءهم، الآن، متناسبة أو متكافئة مع حاجة غير صحية للنظافة، مع وضاعة سريعة الغضب، وضجر.
اللعنة (المخيفة فقط لأولئك الذين يلفظونها) تفضي بهم إلى الابتعاد بأقصى ما يمكن عن المسلخ، إلى نفي أنفسهم خارج اللياقة والاحتشام، إلى عالم رخو، مترهل، فيه لا شيء مخيف يبقى، وفيه يتحوّل –هؤلاء الذين يستحوذ عليهم خزي متعذر استئصاله– إلى تناول الجبن والزبدة. (1929)

العزلة والاتصال

داخلياً، ماذا أكون؟
الفعالية التي توحّد العناصر العديدة التي منها أنا مركّب، الاتصال الباطني المستمر لهذه العناصر.
حياتي المتناسقة الأجزاء عبارة عن انتقالات من الطاقة، من الحركة، أو من الحرارة. ولا يمكن أن تتوقف عند موضع معيّن. إنها منتجة بواسطة المرور السريع من نقطة إلى أخرى (أو من نقاط متعددة إلى أخرى لا تُحصى) تماماً كما لو ضمن شبكة من القوى الكهربائية. ما إن أحاول الإمساك بجوهري، حتى أشعر به ينزلق.
إذا تأملتُ الآن حياتي بأسرها، فإني أرى بأنها ليست مقتصرة على هذه الحركة الداخلية، فتياراتها المتخلّلة تتدفق ليس في الداخل فحسب، إنما في الخارج أيضاً. هي مفتوحة كذلك على قوى موجهة نحوها، قادمة من كائنات أخرى.
أستطيع أن أعاين حياتي هذه بوصفها دوامة مستقرة نسبياً، هذه الدوامة تتصادم باستمرار مع أخرى مماثلة، والتي تخفّف حركتها مثلما تخفّف حركة الدوامات الأخرى. إن تبادل القوة أو الضوء بين ذاتي والآخرين ليس أقل أهمية من التشنج الداخلي للوجود. الكلام، الحركة، الموسيقى، الرموز، الطقوس، الإيماءة، المواقف هي سبل عديدة لهذا العدوى بين الأفراد.
الشخص المعزول لا يؤخذ بعين الاعتبار (وجهة نظره ليست مقبولة) إلى جانب الحركات التي تصبح ذات معنى للعديدين. شخصياً، لا أكون شيئاً بالمقارنة مع الكتاب الذي أكتبه: لو يقدر الكتاب أن يوصل ما يستهلكني ويستنزفني، فسوف أعيش من أجل أن أكتبه. لكن الكتاب نفسه، إذا اقتصر على حقل معزول كالسياسة أو العلم أو الفن، فسيكون ذا شأن أقل.
إذا نحن تأملنا، من بين أنماط أخرى من الاتصال، تلك التي تشكّل علاقات بين الأفراد، خصوصاً علاقة الحب بين إيزولد وتريستان، فإن كلاً من العاشقيْن، حين يُنظر إليه خارج العاطفة التي تربطهما معاً، لن يبدو على الأرجح أكثر أهمية من أفراد آخرين. إنه من عشقهما، وليس من هويتهما، يستمد العاشقان تلك القوة والسلطة، ويستمد اسميهما ذلك الحضور البارز. هذا الاتصال المتبادل لكينونتهما ربما يحمل معنى أقل لو أننا لم ندرك أن من خلال ذلك كانت حياتهما في خطر، وأنهما كانا يذوبان حتى الموت. الاتصال ذو شأن أقل طالما هو محدود، وحتى اتصال تريستان وإيزولد، مع تشنجه، يبدو ضيقاً عند مقارنته بالانجذاب الصوفي للفرد المعتزل أو بالأهواء التي توحّد كل الناس.
كل منا، في الحركة اللامحدودة لكل العوالم، هو مجرد نقطة صد والتي تسمح بالارتداد. عزلتنا تبيح الصد، لكن الصد يجد معناه فقط في الكثافة المتزايدة للحركة المستأنفة. الوجود المنعزل، المنفصل، هو مجرد حالة من الاتصال المعوق لكن سريع الانفجار. لو لم يكن هناك سوى اتصال غير معوق، لو لم تكن هناك أية تيارات معاكسة تبطئ وتوقف التيارات السريعة والمفاجئة، لما كان ممكناً ذلك الارتداد المركّب، المتعدد، نحو الذات.
كثافة حركة الاتصال، حين تستأنف ثانية، ليست ناشئة فقط عن الشكل المتفجر المفروض بواسطة العائق المؤقت للعزلة: الصد يمنح، عند الاتصال، معنى عميقاً للوعي المكروب عند إنسان منعزل. إننا نكتشف، في لحظات الاتصال التي توحدنا مع أشباهنا، ألماً بطيئاً، متعمداً، ورهيباً. وتكون مبرحة أكثر حين يوحّد الاتصال كل وجود، وحين ترتبط بها حياة الناس وحضور الكون. (1939)

القربان

أنا، فحسب، أجهّز المعنى لعادات غابرة.
الأعمال الوحشية والشنيعة التي ارتكبت في الماضي قد سدّت الحاجات التي نستطيع إشباعها بأساليب غير أساليب البدائيين المتوحشين. مع ذلك، أقول أن الحياة جديرة بهبة النفس، وأن الهبة تفضي إلى ألم مهلك.
المجازر التي يتعرض لها البشر والحيوانات هي لغز يتعيّن على "الإنسان الهادئ العاقل" أن يحلّه إذا هو يملك الرغبة في البقاء، ويشتهي أن يظل كما هو: إنساناً هادئاً عاقلاً. كيف يمكن أن يجد البشر أنفسهم في كل مكان، من غير اتفاق مشترك سابق، في توافق وائتلاف على ارتكاب فعل ملغز ومبهم، وأن يشعروا جميعاً بالحاجة أو الواجب لأن يعدموا الكائنات الحيّة طقسياً؟
"الإنسان الهادئ"، قبل أن يرد، يتعيّن عليه فقط أن يسمعني جيداً. يجب أن يشعر بوطأة هذا اللغز بالقوة نفسها التي أشعرها. يجب أن يدرك، معي، أن لديه صلة بالموت، بالذعر التراجيدي، بالنشوة المقدّسة: يجب أن يعترف بأن البشر ظلوا جاهلين بحقيقة كينونتهم.
لا يجب أن نتوقف عند أجوبة تلقيناها سابقاً. الأسلاف ظنوا أن الإرادة الخيّرة للعالم السماوي يمكن إحرازها عن طريق الجزاء أو العطايا، ومن هؤلاء استمدّت المسيحية هذه النظرة. البريطاني جيمس فريزر وضّح فكرة أولئك الذين رأوا في القرابين سبيلاً للحصول على حصاد وافر. علماء الاجتماع الفرنسيون رأوا أن طقوس التضحية شكّلت صلة اجتماعية وأوجدت وحدة مشاعية (كوميونية) بين البشر. هذه التفسيرات علّلت مظاهر ووقائع التضحية، لكنها لم تخبرنا عن السبب الذي يرغم البشر على قتل أشباههم في شعائر دينية.
هذه الشعائر، تحديداً، هي التي تعيّن موقعاً للغز، الذي هو المفتاح إلى كل الوجود الإنساني.
ينبغي تجاهل كل تفسير فرعي يُرجع سبب حدوث هذه الأشياء إلى المصادفة. مسألة القربان يجب أن تُعرض بوصفها السؤال الجوهري. على نحو متلازم، أية محاولة للإجابة على هذا السؤال الجوهري يجب أن تحل بوضوح لغز القربان أيضاً. وأي حديث عن الوجود والغيبيات سيكون بلا معنى إذا تجاهل لعبة الحياة الضرورية مع الموت.
معضلة القتل الطقسي لكائنات حيّة يجب أن تكون متصلة بمعضلة بنائها. لقد حان الوقت للذهاب إلى قاع الأشياء، بلا خوف من صعوبةٍ أو تثبيط. أنا، على نحو متعمد، أتبنى، كنقطة انطلاق لي، المفاهيم التي صاغتها "السوسيولوجيا الفرنسية".
السوسيولوجيا (علم الاجتماع) الفرنسية، التي تؤكد على أهمية دراسة وتأويل القربان، تربط ذلك العمل بمفهوم "الكائن الاجتماعي". هذا المفهوم مجفل ومروّع بوجه عام، لكنه مقبول بيسر وعن طيب خاطر ما إن نتفق على أن هذا الكائن هو مركّب. العشيرة، المدينة، الدولة، هي أشبه بأفراد، كائنات تمتلك وعياً واحداً. إن فكرة "الوعي الجمعي" تعمل ضد مبادئ كينونة سيكولوجية موحّدة. لكن تلك المبادئ ليس ممكناً الدفاع عنها بسهولة. الوعي هو بالتأكيد مجرد حقل تركيز، حقل تركيز محدّد على نحو سيء، والذي هو أبداً لا يكتمل، أبداً لا ينغلق، هو فحسب تجمّع لانعكاسات في مرايا الحياة المتعددة.
أو على نحو أكثر دقة، إنه يظهر كفعل متعدد، كل انعكاس يتولّد عندما هذا الانعكاس، لعبة المرايا هذه، يمرّ من موضع إلى آخر، من إنسان إلى آخر، أو من خلية حساسة إلى أخرى. نقطة الكبح في هذه اللعبة لا يمكن أبداً الإمساك بها وإدراكها. هناك حركة متواصلة، نشاط، انتقال. الكينونة، في تعريف الإنسان، لا تكون أبداً حاضرة في شكل بلور صخري في النهر، بل بالأحرى كتدفق ماء أو جريان تيار كهربائي. إن كانت توجد هناك وحدة ما ضمن حضور ما، فإنها وحدة تيارات معاكسة، دوائر تتجه نحو الاستقرار والانغلاق.
أي تغيير داخلي للحالة هو مدرَك بسهولة عندما أحقق الاتصال بآخر.. عندما أتكلم أو أضحك، أو أفقد نفسي داخل جماعة مشاكسة وهائجة. يعرف ذلك كل رجل يعانق المرأة التي يعشق. هذا التغيير سببه مرور تيّار حي من واحد إلى آخر. لكن في أغلب الأحوال، هذه الانتقالات تحدث من غير أن تشكّل دوائر مستقرة مثل العشيرة، المدينة، أو الدولة. الآن، لا نستطيع أن نتحدث عن الوجود إلا عندما يكون البقاء عبر الزمن مؤكداً ومضموناً، كما في حالة التشكّل الاجتماعي الذي يوحّد أفراداً عديدين (بالطريقة نفسها تقريباً كما يكون الحيوان وحدةً من خلايا عديدة).
من ناحية أخرى، إذا نحن نتابع بانتباه الحالات المتغيّرة للوجود، إذا نحن نراقب الجماعات التي تشكّل هذه الحالات، وهي تركّب ثم تفكك، تؤلف ثم تلغي، عندئذ سوف نكتشف الطريق الذي اقتفته تلك الممارسات الدينية التي تبلغ الذروة في لحظة التضحية وتقديم القرابين.
ليس فقط الطريق لكن تلك الضرورة للمرور من خلال هذه النقطة أو الموضع وليس من موضع آخر. ليس ثمة أي داع للمفاجأة والدهشة. عندما يبلغ تأمل الإنسان في ذاته والكون مداه الأقصى فإنه يستعيد الحركة السديدة، تلك التي لا تحيّرها تعقيدات العقل. وفي تخمة المعرفة، يتوصّل الإنسان إلى التعرّف على نفسه في أسلافه البعيدين.

* * * * *

كل واحد منا يبدو غارقاً في عزلة ضيقة. لا شيء يهمنا غير أنفسنا. كل ما هو قادم من الخارج مختزل غالباً إلى الانطباع السار أو البائس الذي نتلقاه. الموت هو التخم الجذري الوحيد لهذه العزلة الأساسية، إنه الإنكار الجاد الوحيد للوهم، لأنني إذا متّ فإن العالم لا يعود قابلاً للاختزال إلى روحي التي تعكسه.
كل شيء دفعني لأن أفهم بأنني وحدي المهم. لكن الموت يحذرني من هذه الأكذوبة، ذلك لأنني لا أساوي شيئاً، وأن العالم فقط هو الذي يظل ذا شأن وأهمية. إن أهميتي تكمن في وجودي في هذا العالم، ليس كغريب يعيش في حبس أو عزلة اختيارية، لكن كذرّة من الطاقة المتمازجة في الضوء.
هكذا أفهم أنه إذا كان يتعيّن علي أن أعيش، فذلك بالشرط التراجيدي التالي: أن أتخلى عن حياتي هذه وأهب نفسي إلى ذلك الذي لا يعرف شيئاً عني، ذلك الذي هو خارج نفسي. مع ذلك، وفي الوقت ذاته، أشعر بعبثية الفقد الذي (كما أراه من موضعي في العزلة المحتومة، المتعذر اجتنابها) يعادل إلغاء الكون بأسره.
إذن على كل إنسان أن يدرس مسألة احتجاز نفسه داخل العزلة والهرب من ذلك السجن معاً. في الجانب الذي يمثّل الأساس والذي بدونه لا شيء يمكن أن يوجد، هو يرى وجوداً خاصاً، أنانياً وخاوياً. في الجانب الآخر، يرى عالماً يستمد إشراقه وبهاءه من العناصر الاتصالية التي تتلاحم مع بعضها مثل لهب الموقد أو أمواج البحر.
عميقاً داخل ذاته يتوارى إدراك راسخ: ثمة في الخارج اندفاع من الحركة العمياء والانغماس في الحياة. بين هذين القطبين المتناقضين يتمزق الإنسان بالضرورة، بما أنه لا يستطيع أن يقرر أي اتجاه يسلك. هو لا يستطيع أن ينكر وجوده المعزول ولا وفرة وحيوية عالم لا يكترث على الإطلاق بذلك الوجود، بل أنه مهيأ لإلغائه وإبادته.
ويستمر النزاع اليومي بين حبس مسيّج صغير وفضاء حر: قبل كل شيء، بين الآخرين وذات المرء، بين السخاء والجشع. لكن للخروج من الداخل إلى الخارج، يجب على الإنسان أن يجتاز ذلك الممر الضيق الذي يسمى الألم.

عالم العزلة يمكن مقارنته بالسجن الذي يحمي من الخطر الخارجي، حتى وإن كانت وظيفته أن يسجن. هذا السجن ليس مغلقاً تماماً. ثمة قناة ضيقة محفورة، متوارية، في الجدار. لكن هذه القناة ليست منفذاً للخروج، إنها غير سالكة ويتعذر اجتيازها. السجين الذي يحاول الخروج سوف ينجرح بوحشية: في الخارج حراس مسلحون متأهبون للقتل، وعاصفة تحتدم. الطريق الضيق، الذي يصل الكينونة الداخلية بالفضاء الحر، قلما يكون الموت ذاته، لكنه دائماً يكون إشارة الموت، صورته، بدايته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق