الأربعاء، 4 سبتمبر 2013

جورج باتاي: جون ليشته


ترجمة فاتن البستاني

من المناسب أن نبدأ شرحنا لعمل جورج باتاي بشذرات من سيرة حياته، لأنه من ناحية مهمة تقف كتابة باتاي على مفترق الطرق بين القصة الخيالية والسيرة الحياتية.
ولد باتاي في مدينة بيّن في فرنسا عام 1897م. فقد والده بصره قبل ولادته ثمّ أصيب بشلل جزئي في عام 1900 ولم يكن جورج بلغ الثالثة بعد، ويزعم باتاي في شذرات من سيرته الذاتية أن حالة والده كانت نتيجة لمرض الزهري. غير أنّ أخاه فنّد ذلك. ومهما تكن حقيقة الأمر يدّعي باتاي أنه استبقى من تجربة طفولته صورا مرعبة استخدمها في كتابته الخيالية. وعلى وجه الخصوص، هناك ذكرى لبياض عيني والده وهما مفتوحتان باتساع، بينما كان يقضي حاجته. ويقول باتاي أنه استخدم هذه الذكرى كأساس لنقل خيالي من موضوع لآخر. وهكذا، في قصّة العين بقلم لورد آوتش يتحوّل بياض العين وخصي الثور، ويصبح مقترنا بعملية التبول والموت –بالتحديد، موت مصارع الثيران، غرانيرو، الذي كان الثور قد فقأ عينه بقرنه.
إن الرعب الذي يبرز كثيرا في قصص باتاي الخيالية يعود بجذوره إلى ذكريات الطفولة المتعلّقة بموت والده البطيء والمؤلم وإلى جنون أمه الدوري. وسواء صدق ذلك أو لا، فإن كتابة باتاي، الخيالية والعلمية، كثيرا ما تركز على الرعب والفحش. على سبيل المثال في كتابه الشبق، يشير إلى أنّ المثير للشهوة الجنسية هو في الأساس انتهاك للنفس الطاهرة، وهو بالتالي مرتبط (بصورة غير واعية) بالموت. وعلى غرار ذلك، في كتابه دموع إيروس (إله الحب عند الإغريق)، يجادل باتاي أن تاريخ الفن يبيّن أن الفن يرتبط على الدوام بالرعب. ولهذا السبب فهو قد نشأ في الكهوف، كتلك التي تمّ اكتشافها في لاسكو في فرنسا.
يرى البعض أن تركيز باتاي على الرعب والفحش، أو حتى استحواذهما عليه، في بعض أعماله النظرية الرئيسية يبدو أنه يُرجع صدى الاختلال العقلي (عدم الاستقرار النفسي). وعلى أي حال، يبدو أن هذا هو رأي أندريه بريتون في كتابه الإعلان السريالي الثاني، حيث أشار إلى باتاي باعتباره "حالة"(1). وبالفعل خضع باتاي للتحليل النفسي –خلال عام 1927 وربما لفترة أطول – تحت إشراف المحلل النفسي المتحرّر الدكتور أدريان بوريل. وقد شجع بوريل باتاي على أن يدوّن ما يسيطر عليه من استحواذات، فكان ذلك بمثابة نقر بطرف أصابعه أثار باتاي الرغبة ونبّهه إلى مهنة الكتابة.
هل بقي باتاي على حافة الجنون لفترة طويلة من حياته؟ هل استحوذ عليه الرعب والموت؟ مهما يكن من أمر، فقد خلّف وراءه مجموعة أعمال كاملة يتفق النقاد عموما أنها تتصف بالعمق والكثافة والحدّة بشكل كبير من الناحية النظريّة. ذلك لأن باتاي تمكّن في الواقع من أن ينظّر المواضيع الأساسيّة لهواجسه، كما استطاع أيضا أن يستفيد من تدريبه في الحقل النمّي= علم النمّيات(*) في مشاريعه الفكرية التي كان أحدها تأسيس جريدة للفن والإثنوغرافيا، اسمها "وثائق" وحررها بنفسه بين 1929 و1930م. وفي عام 1946م أسس باتاي جريدة "النقد" التي أصبحت من أشهر صحف فرنسا. وقد قدمت هذه الصحيفة الأعمال المبكرة لكل من بلانشو وبارت وفوكو ودريدا إلى جمهور أوسع.
ومن الناحية الفكرية، درس باتاي في كلية رايمز، ثمّ في عام 1913م تركها والتحق بكلية إبرناي حيث حصل على شهادة الباكالوريا الأولى عام 1914، ثمّ الباكالوريا الثانية عام 1915. وبعد تسريحه من الخدمة العسكرية في عام 1917، دخل كليّة "إيكول دي شارت" في باريس لدراسة تاريخ القرون الوسطى، وتخرج منها عام 1922 حائزا على المرتبة الثانية. في العام نفسه سافر إلى مدريد ملتحقا "بمدرسة الدراسات العليا الهسبانية". في عام 1923م قرأ نيتشه وفرويد لأول مرّة، وفي عام 1924م حصل على وظيفة في قسم الميداليات في المكتبة الوطنية في باريس.
بالنسبة لباتاي، كان نيتشه كاتبا بقدر ما هو فيلسوف، وذلك أولا، لأنه لا يستبعد السيرة الذاتية (سواء أكانت خياليّة أم لا) من كتاباته الفلسفية، ثانيا، لأنه في رفضه إعطاء صوته لتأييد أي قضيّة، قد حكم على نفسه بالعزلة. وهكذا تصبح فلسفة نيتشه صرخة في البريّة. إن فكرة "الصراخ" بالذات، إضافة إلى الدموع، والكرب والضحك، تتخذ مكانة أساسية في نظرة باتاي الفلسفيّة الخاصة، فالصرخة جزء من سلسلة المصطلحات التي تحدد حضور المحور الافقي (محور الاختلاف) في فكر باتاي. إن تفسير باتاي الخاص بالمحور الأفقي نجده في مقالته التي كتبها عام 1930 وعنوانها "العين الصنوبرية".
يقول فيها باتاي إن النبات يشغل مكانا حصريّا على المحور العمودي، في حين أن الحياة الحيوانيّة تميل نحو المحور الأفقي، مع أن الحيوانات تسعى إلى النهوض بنفسها، وبذلك تتخذ نوعا من العمودية الحرفية.
ولكي نصور القوة الكاملة للتفاعل المعقّد بين الأفقي والعمودي في فكر باتاي علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أثر هيغل. وعلى غرار عدد من المفكرين المهمين الآخرين، تعلم باتاي هيغل من محاضرات ألكساندر كوجيف، ذات الخاصية الغريبة، حول هيغل المعنون فنومينولوجيا العقل (أو الروح)، والتي حضرها بشكل متقطع بين 1933 و1939م. بالنسبة إلى باتاي، إن نظام هيغل المتعلّق بالمعرفة المطلقة –وفيه يُنسب حتى الموت إلى الوعي- يمثل النقطة النهائية لنوع من هذيان العقل. إن أقصى نقطة للإضاءة تكون مضيئة إلى درجة تفتح فيها طريقا إلى نوع من العمى، مثلما أن المرء قد يصاب بالعمى إذا نظر مباشرة إلى قرص الشمس مع أن الشمس هي مصدر الإضاءة. إن توجه باتاي نحو هيغل، بلا شكّ، قد جرى توقعه –استباقيّا- في مقالته في الثلاثينات عن بيكاسو، عنوانها "الشمس النتنة"، حيث يستخدم أسطورة إيكاروس (الذي سقط إلى الأرض بعد تحليقه عاليا جدّا في السماء لأن الشمس أذابت الشمع في جناحيه) لتوضيح خطورة التنوير المفرط (الإضاءة). إن هيغل بنظامه المثالي العظيم يحلّق عاليا مثل إيكاروس. وفلسفته هي تجسيد للمحور العمودي، ولربما تكون أكثر مظاهره تطرّفا. ولكن هناك نقطة عمى في النظام الهيغلي، كما يقول باتاي: وهي أن الإضاءة الكلية تخفي الإبهام الحقيقي في اللامعرفة، والمادية الوضيعة، والجنون الذي كان هيغل نفسه يخشى أن يصيبه في عام 1800م بعد موت والده. إن الشيء الذي لا يستطيع نظام هيغل أن يقوله، ولا أن يدمجه فيه، هو ذلك العنصر الموجود فيه والذي يعادل نقطة العمى التي فيه، العمى الذي ينذر بسقوط الفيلسوف المطّلع على كلّ شيء. وهناك طريقة أخرى للتعبير عن ذلك وهي القول بأن نظام هيغل، باعتباره تجسيدا للمحور العمودي المتعالي (الترنسندنتالي)، لا يبقى مكانا للأفقية. ومثلما أن المسلة التي جلبت من مصر وأقيمت في ساحة الكونكوردا في باريس عام 1836م، تحدد موضع أداة الموت الثورية -المقصلة- كذلك فإن نظام هيغل المتجانس يخفي دناءة مادية متغايرة.
إن جزءا كبيرا من كتابات باتاي يعني بالدناءة المادية –التي تظهر في الفحش في حالة قصصه الخيالية، وفي سلسلة من الممارسات في حالة كتاباته النظريّة. هذه الممارسات تفتح باب المحور الأفقي باعتباره محور التضحية والخسارة والصدفة والشهوة الجنسيّة. وسنفحص بإيجاز كلا منها في دوره.
إن حرص باتاي على إظهاره كيف أن الإنتاج الفكري الرفيع كثيرا ما يخبئ عنصرا حقيرا لا يمكن دمجه قاده إلى دراسة إثنوغرافيا المجتمعات التي تقوم عراها الاجتماعية كما يبدو على ممارسات مرعبة تماما للحسّ الغربي الحديث، ففي كتابه "الحصة الملعونة" يحاجج باتاي (وهو صاحب نظرية أن الإنفاق يعادل الإفراط) بأن عظمة الأدوات الثقافية لحضارة الآزتك يجب أن تفهم بالارتباط مع ممارسة التضحية البشرية: يجب ربط الجميل بالدناءة. وكانت الحروب تزودهم بالضحايا لاستخدامهم في ذلك الطقس الدموي، حيث كان الكاهن يغرس سكينا مصنوعة من الزجاج البركاني الأسود في صدر الضحية وينتزع القلب الذي توقف عن النبض للتوّ ويقدمه قربانا للشمس، الإله الأكبر لدى شعب الآزتك. ومن دون أن يصفح عن التضحية الآزتكيّة بأي حال من الأحوال يبيّن باتاي أنها تتفق مع منطق معيّن. في المكان الأول، التضحية البشرية هي طريقة لإدخال عدم التوازن في مجتمع تسوده قيم التبادل النفعي. إن تحقير العلاقات النفعية يتجسد في العبودية حيث إن العبد لا يزيد عن كونه موضوعا يستخدم من قبل الأحرار من الناس. خلافا لذلك، كانت الضحيّة المعدّة للتضحية الآزتكية تعامل في كثير من الأحيان بطريقة إنسانيّة، حتى أنها تحصل على معاملة خاصة، لأن هناك علاقة حميمية بين الضحيّة وآسرها. الضحية في الواقع تموت بدلا عن جلادها، فالضحيّة سواء أكانت رجلا أم إمرأة هي تجربة آسريها المتعلقة بالموت، تجربة تظهر في الألم المبرح حيث يندمج الجلادون في معاناة الضحيّة، فالتضحية "تعيد إلى العالم ذلك المقدّس الذي جرى تحقيره وتدنيسه من قبل الاستخدام الذليل"(3). إن المقدس إذا يقع في ما وراء قيمة التبادل، وليس له ما يعادله، ونتيجة ذلك لاشيء يمكن أن يكون بديلا لفعل التضحية. غير أنه ما زال لها صدى في التشويه الجسدي (كما فعل فان كوخ مثلا)، حيث أن الفعل يمزق تجانس الذات ويدخل التغيير في الحياة الاجتماعية.
وفي انعطاف ينطوي على شيء من المفارقة، يتحوّل التمزق الحاصل نتيجة التضحية والتشويه إلى لحظة من الاتصالية. ذلك لأنّ المشاهد الذي يمرّ بتجربة الألم المبرح الناتج عن الاندماج مع الضحية (شعوريّا) ينقل هذا إلى الآخرين ويتواصل فيه معهم، وبذلك يثبت اتصاليته مع الآخرين. ونتيجة لذلك، يكون "المقدس هو فقط لحظة مميزة من الوحدة الجماعية –شكل تشنجي- فيه انتفاضة عنيفة- لما هو مخنوق عادة"(4).
وترتبط فكرة الخسارة ارتباطا وثيقا بالتضحية والمقدس. بالنسبة لباتاي، فإنّ نظرية مارسيل موس الخاصة بمهرجان الشتاء لا تبيّن أن التبادل هو أساسا نظام للمقابلة بالمثل. وبدلا من ذلك –ينبغي النظر إلى مهرجان الشتاء على أنّه مثال للاقتصاد العام يشكّل فيه الإفراط والترف الجانبين الرئيسيين. والاقتصاد العام هو اقتصاد الخسارة، واللاتوازن، والإنفاق من دون عائد. ولا يمكن تحليله من خلال ما يسميه باتاي "اقتصاد الإنتاج المقيد" والتوازن وسجلات الموازنة: أي اقتصاد "المنفعة الكلاسيكيّة". وجميع أشكال الإسراف –وهي بالتعريف ليس لها ما يعادلها- تقع ضمن الاقتصاد العام. أمّا الإسراف والخسارة فليس لهما وظيفة واضحة في الحياة الاجتماعية، إنهما يمثلان العناصر التي هي بالضرورة مختلّة وظيفيّا ومتغايرة.
يناقش باتاي الصدفة في نصّين على وجه الخصوص(5). غير أن الصدفة أكثر من مجرد مفهوم في كتاباته، فهي أيضا جزء من ممارسة. وهكذا فإن النص الذي كتبه باتاي عن نيتشه هو أيضا نظير للصدفة، كما أنّ السيرياليّة كثيرا ما ترمي إلى محاكاة الجنون –فتكون نظيرا له(6). إنّ عنصر الصدفة يجب أن يدخل في أي تحليل لممارسة باتاي للكتابة، ذلك لأن الصدفة تتخذ مكانها على المحور الأفقي بصورة تامة باعتبارها ممارسة. ولكي نقدّر الصدفة في كتابات باتاي النظرية، نستذكر أنه منذ "لابلاس" اعتُبرت الصدفة في كثير من الأحيان عرضا يشير إلى محدوديّة المعرفة البشريّة. باختصار، إن طبيعة الصدفة ذاتية أكثر من كونها موضوعيّة. إضافة إلى ذلك اعتبرت السببيّة، وفكرة الحتميّة المصاحبة لها، الأساس الذي يقوم عليه التفسير العلمي. والمعرفة قد جعلت من الصدفة استثناء على الدوام. وبقي هذا الرأي حتى ظهور ميكانيكا الكم في العشرينيات، عندها نسخ هذا الرأي [وحل محله رأي آخر].
إن ثلاثة من أهم كتب باتاي – "التجربة الداخلية"، "المذنب" و"عن نيتشه"- تمت كتابتها بين 1941 م و1944م، أي خلال فترة الاحتلال الألماني لفرنسا. وفي كلّ منها تظهر الصدفة، أولا وقبل كلّ شيء، على سبيل المحاكاة. كلّ منها له طابع المذكرات اليومية – طابع العرضيّة والطروء المتأتي من مزيج مكوّن من تسجيل لأحداث يومية وذكريات شخصية. وهكذا فإن شكل كلّ نصّ منها تصادفي بدلا من كونه محدد مسبقا. في مقدمته لوميات المذنب يكرر دنيس هولير أن ما يقدّم له ليس في الواقع كتابا، "لأن باتاي غير مهتم بإعطاء الأفكار شكلا منهجيّا، ولا بتطوير قصّة"(7). ومع ذلك، هناك منطق معيّن يعطي كتابة باتاي هنا شكلا، وهو منطق يقوم على رغبة في الاسترسال في نوع من اللعب مما يمكّن من إلقاء نظرة خاطفة على الصدفة. في كتابته عن نيتشه يظهر هذا بصورة أوضح: فالكتابة جزئيّا، هو عبارة عن سرد يوم بيوم يتناول "رمي النرد". إن الصدفة تصبح حقيقة الحياة، وتعادل اللاتوازن الذي جيء به للمحور العمودي. وبصورة أقوى، ترتبط الصدفة بالكرب والألم المبرح بشكل صريح، فالكرب والألم المبرّح، كالصدفة، عبارة عن غموض مستحيل. "يقول الكرب:  "مستحيل": ويبقى المستحيل تحت رحمة الصدفة"(8). إضافة إلى ذلك: الكرب وحده يعرّف الصدفة بصورة تامة: الصدفة هي ذلك الذي يعتبره الكرب الذي فيّ (أنا) أمرا مستحيلا، فالكرب هو تفنيد الصدفة وإعلان الإرتياب"(9). الصراخ والضحك والدموع، والبراز (فضلات النظام) والشعر- كلّ هذه الأمور تؤدي إلى ظهور الصدفة. لا يمكن للصدفة أن تندمج في أي نظام، ذلك لأنها "الآخر" بالنسبة للنظام. لهذا السبب لا وجود للصدفة بالنسبة إلى هيغل، الصدفة بالنسبة إلى نيتشه هي "حبّ القدر"، وهي مضادة للتوازن الرفيع في الصرح الهيغلي. والصدفة مرتبطة بالتضحية، لأنها مثل هذه الأخيرة تشكل أيضا انقطاعا عن الهويّة والتجربة النفعيّة المستندة إلى حتميّة الأحداث.
في موضوع الشهوة الجنسيّة، فإنّ الرغبة الجنسية البشريّة تبلغ ذروتها بصفتها تجاوزا مضبوطا للمحرمات(10). والشهوة الجنسيّة تصبح في نظريّة باتاي، طريقا لاتصاليّة الكينونة بالموت. كلّ شخص بصفته فردا، يكون منفصلا [عبارة عن انفصالية = لا اتصالية]. والشهوة الجنسيّة باعتبارها أيضا انتهاكا أو تجاوزا لهذه الانفصاليّة، هي مصدر رئيس من مصادر الكرب، فهذا هو أيضا انتهاكا أو تجاوزا لهذه الانفصالية، هي مصدر رئيس من مصادر الكرب، فهذا هو أيضا الانتهاك أو التجاوز للمحرمات، والمحرّم يصبح معروفا بواسطة التجاوز، فالشهوة الجنسية إذا تثبت تمزق الحدود والتخوم وتقود إلى اندماج يؤدي إلى تواصل الكرب القائم على فقدان السلامة والاستقامة. ولهذا السبب تمت مصادرة الحافز الجنسي لغايات دينية. وهكذا، بدلا من ان تكون نقيض المقدس، فإن الشهوة الجنسيّة كانفتاح على الآخرية هي أساسه بالذات. ومن خلال الدموع والجروح وانتهاك الحدود، يجري توحيد البشر. وواضح أن الشهوة الجنسيّة تقع على المحور الأفقي، غير أنّ نظام المحرمات –المحور العمودي- هو شرط إمكانية هذه الأفقية.
إن الأطروحة التي تنبثق تدريجيا من قراءة باتاي هي أن العمى عنصر أساسي في المعرفة –إن الذرى الشاهقة للتنوير تتلازم مع أعماق اللامعرفة والضحك الماجن. الإبصار وبالتالي النظريّة لا يستطيع أن يستوعب الآخر الخاص به، كما يشير دنيس هولير وهو مصيب في ذلك(11). ويبيّن باتاي أن الإبصار، وكلّ العمل النظري يستدعي عنصرا حيويّا: الطاقة الفكرية المطلوب لاستدامته. وهكذا، فإنّ الإرهاق والتعب اللذين تشير إليهما نصوص باتاي باستمرار يجدان نظيرهما في الطبيعة المبعثرة نسبيّا لأعماله: في التفجّر الشعري، والعدد الوفير للقطع العرضيّة التي تكتب في المناسبات، وأسلوب المقالة. هذه المؤشرات لإنفاق الطاقة ربما تكون أقرب ما يمكن أن يصل إليه القارئ لنظير العمى الخاص به.

المراجع:

(1) André Breton, « Second Surrealist Manifesto, » in: André Breton, Manifestoes of Surrealism = Manifestes du surréalime, Translated from the French by Richard Seaver and Helen R. Lane (Ann Arbor: University of Michigan Press, 1972), p.184.
 (2)      Goerges Bataille, The Accursed Share: An Essay on General Economy, 3 vols, Translated by Robert Hurley (New York: Zone Books, 1988-1991), vol.1.
(3)  المصدر نفسه، ص 55.
(4)       Goerges Bataille, «The sacred, » in : Goerges Bataille, Visions of Excess : Selected Writings, 1927-1939, Theory and History of Literature; vol. 14, Edited and with an Introduction by Allan Stoekl; Translated by Allan Stoekl, with Carl R. Lovitt and Donald M. Leslie, Jr. (Minneapolis: University of Minnesota Press, 1985), p.242.
(5)       أنظر: George Bataille : Guilly = Coupable, Translated by Bruce Boone ; Introduction by Denis Hollier (Venice, Calif. : Lapis Press, 1988), pp. 69-86, and On Nietzche; European Sources, Translated by Bruce Boone; Introduction by Sylvère Lotringer (New York: Paragon House, 1992).
(6)       Elisabeth Roudinesco, Jacque Lacan and Co.: A History of Psychoanalysis in France, 1925-1985, Translated with a Foreword by Jeffrey Mehlman (Chicago: University of Chicago Press, 1990), p. 26.
(7)       Denis Hollier, “A Tale of Unsatisfied Desire,” in; Goerges Bataille, Guilty = Coupable, p. 7.
(8)       Goerges Bataille: “Sur Nietzsche,” in: Oeuvre complètes, 12 vols., présentation de Michel Foucault (Paris : Gallimard, 1970-1988), vol. 6, p. 134, and On Nietzsche, p. 114.
(9)       المصدر نفسه.
(10)     Georges Bataille, Eroticism, Translated From the French by Mary Dalwood (London ; New York :Boyars, 1987), pp. 63-70.
(11)     Denis Hollier, Against Architecture : The Writings of Goerges Bataille = Prise de la Concorde, Translated by Bestsy Wing (Cambridge, Mass. : MIT Press, 1989), pp. 87-88

(*) ما له علاقة بدراسة أو جمع القطع النقدية والميداليات... إلخ.

المصدر: جون ليشته، خمسون مفكرا أساسيّا معاصرا؛ من البنيوية إلى ما بعد الحداثة، ترجمة د.فاتن البستاني، مراجعة محمد بدوي، المنظمة العربية للنشر، بيروت، الطبعة الأولى 2008، ص203-210

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق