تمهيد جورج باتاي للكتاب
يقدم
كتاب "نظرية الدين " عملاً من شأنه أن يكون ناجزًا: لقد حاولت التعبير
عن فكر متحرك، من دون أن أبحث له عن صياغة نهائية.
إن
فلسفةً ما، هي مجموع مترابط أو لا تكون، لكنها تعبر عن الفرد وليس عن البشرية بما
هي كلٌّ متماسك. لذلك يتوجب عليها أن تكون منفتحة على التطورات اللاحقة للفكر
الإنساني… حيث يكون المفكرون، الذين
يستبعدون "غَيْريَّتَهم" وكل ما لا يخصهم، قد غرقوا في النسيان. الفلسفة
ليست بيتًا أبدًا، إنها ورشة. لكن عدم اكتمالها ليس ما يميز العلم. ذلك أن العلم
يهيئ العديد من الأجزاء أو الميادين الناجزة، ولا تظهر النواقص إلا في مجمله. أما
فيما يخص الجهد المبذول، من أجل الترابط والتماسك، فإن النقص لا يقتصر على ثغرات
الفكر بل يشمل كل النقاط، نقطة نقطة؛ الأمر الذي يبرهن على استحالة الحالة
النهائية المكتملة.
وليس
مبدأ الاستحالة هذا، مجرد مبرر لنقص يصعب إنكاره، بل هو مبدأ يحدّ كل فلسفة
حقيقية. فالعالم هو الذي يسلِّم بالانتظار. أما الفيلسوف فإنه ينتظر بدوره، لكنه
لا يفعل ذلك بحق. إذْ أن الفلسفة تستجيب رأسًا لمطلب لا يُحلل إلى عناصره الأولية.
ولا يمكن أن يكون ثمة "وجود" مستقل عن جواب السؤال الذي تطرحه الفلسفة. وهكذا
فإن إجابة الفيلسوف تكون معطاة بالضرورة قبل إعداده لفلسفة ما، وإذا تغيرت الإجابة أثناء
الإعداد والصياغة، بسبب النتائج التي يتوصل إليها أحيانا، فليس من الممكن أن تكون
خاضعة لتلك النتائج حتما. لا يمكن لجواب الفلسفة أن يكون نتيجةً لأعمال فلسفية،
وإذا تمكن الجواب من الابتعاد عن الاعتباطية والتعسف فإنه يفترض التسليم بعدم
الرضى وعدم اكتمال الفكر، خصوصا إذا سلمنا بإنكار الموقف الفردي وبالحركية القصوى
للفكر المنفتح على جميع الحركات السابقة أو اللاحقة.
عندئذ
يكون عدم البحث عن حالة نهائية للفكر فعلَ وعيٍ، ولا يعني ذلك طبعا عدم الوصول
بالوضوح إلى حدود الإمكانات المباشرة. ولاشك أنه من الضروري بناءُ فكرٍ يتحرك ضمن
مجالات سبقت معرفتها على صعيد المعارف المكتوبة. وفي الواقع ليس للإجابة من معنى
إلا باعتبارها صادرة عن إنسان متطور فكريًّا. وإذا كان ينبغي تحقق الشرط الثاني
مسبقًا فليس بوسع أيٍّ كان الإجابة عن الشرط الثاني إلا بشكل تقريبي: وذلك باتباع
طريقة رجال العلم في جعل تحرك الفعل مقتصرًا على مجالات محدودة وضيقة. ومن دون ذلك
لا يمكن لأحد أن يدعي تمثُّل المعارف المكتسبة. وهذا يضيف إلى عدم الاكتمال
الأساسي الذي يتصف به الفكر، عدمَ اكتمال آخر محتومًا. والدقة تتطلب اعترافا
متزايدًا بهذين الشرطين.
هذه
المبادئ بعيدة جدا عن طريقة التفلسف التي يرحب بها الجمهور اليوم، سواء بالتقبل أو
من باب الفضول. بل إنها تتعارض بقوة مع الإصرار المعاصر المتعلق بالفرد وبعزلته.
ولا يمكن أن يكون ثمة تفكير متعلق بالفرد كما لا يمكن لممارسة الفكر أن تجد منافذ
أخرى عدا نفي المنظورات والآفاق الفردية. ثمة مشكلة ذات أولوية ترتبط بفكرة
الفلسفة ذاتها: كيف الخروج من الوضع البشري؟ كيف يمكن الانزلاق من التفكير الخاضع
للعمل الضروري، والمرصود للتمييز النفعي، نحو وعي الذات ووعي الوجود من دون
جوهر-على أن يكون واعيًا؟
إن عدم
الاكتمال المحتوم، على أية حال، لا يعيق الإجابة التي هي حركة-وإن كانت بمعنى ما، غيابًا
للجواب. وعلى العكس من ذلك تماما فإن عدم الاكتمال هذا، هو الذي يهبها حقيقة كونها
صرخة المستحيل. والمفارقة الأساسية في كتاب "نظرية الدين" إذْ تقدِّم
الفرد باعتباره "الشيء" وباعتباره نفيًا للحميمية، إنما تسلط الأضواء
على عجزٍ، لكنّ صرخةَ هذا العجز تمهِّد لصمت عميق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق