الجمعة، 20 سبتمبر 2013

مختارات من شعر وليام بليك قدم لها وترجمها إلى الفرنسية جورج باتاي

ترجمة: أنطوان جوكي

في السبعينات من القرن الماضي، وأثناء جمع أعمال جورج باتاي (1897ـ 1962) الشعرية والأدبية والنقدية الكاملة التي صدرت عام 1979 في اثني عشر مجلّداً لدى دار "غاليمار" الباريسية، عثر الناقد الفرنسي دومينيك لومان بين أوراق الشاعر على مختارات من قصائد ويليام بليك (1757ـ 1827) كان قد ترجمها باتاي وخصّها بمقدمة بدون أن ينشرها. وقد صدرت هذه الترجمات والمقدّمة في المجلّد التاسع من أعماله، لكنها بقيت شبه مجهولة نظراً إلى وقوعها داخل آلاف الصفحات التي تتألف منها الأعمال المذكورة، من جهة، ونظراً إلى ثمن هذه الأخيرة الباهظ، من جهة أخرى. وهذا ما دفع بدار "فاتا مورغانا" إلى شراء حقوق نشرها لوحدها وإلى تزيينها برسومٍ للفنان السرّيالي الكبير أندريه ماسون خصّ بها قصائد بليك عند نهاية الثلاثينات. مناسبة نستغلها بدورنا لترجمة مقدمة باتاي لهذه المختارات وبعض القصائد التي يتضمّنها الكتاب:




مقدمة جورج باتاي:

"اسم ويليام بليك ليس معروفاً ولكن يجب أن يكون. من مواليد لندن عام 1757، بليك ليس فقط أحد كبار روّاد الرومنطيقية، بل أن حياته تبشّر بعنفٍ بدخول روح التمرّد إلى العالم.
الحاضر يدير ظهره للماضي كما يدير زمن التمرّد ظهره لزمن الخضوع. أظهرت المسيحية المعنى الذي أعطاه البشر لرغبة الإفلات من العبء، الذي يبدو من لعنةٍ، والذي زجّه في معركةٍ مميتة ضد محدوديته: في المسيحية، كان الإنسان يهرب عبر الطاعة. لكن لم يكن بإمكاننا الهروب إلى ما لا نهاية من القوى التي كانت تثيرنا ضد جميع مكابحنا. كنا ملزمين بهدم حواجز ضعيفة جداً مقاومةً لعنفنا. وقد حصل ذلك في البداية بارتباك: كان رفض الخضوع الأكثر وضوحاً مشروطاً بطاعةٍ عميقةٍ جداً لمبادئ خضوعٍ جديد، يقود إلى انحناء البشر بشكلٍ أكبر. لكن لروح التمرّد سبيلين يبدو كل منهما عادةً نقيض الآخر، وقد تبعهما بليك سوية. السبيل الأول هو الأكثر شيوعاً، لا يمكن أبداً إهماله، بل يبدو غالباً السبيل الوحيد الذي يمكن الدفاع عنه: والمقصود به هو عدم التسامح مع الظلم الأكثر بداهة دون محاولة كسر الحواجز الأساسية. ولا يغرب عن بالنا أبداً في السبيل الثاني هاجس التخلص ضرورياً من العبودية. والمقصود، من جهة، هو تقديم العقل على تعسّف الماضي، ومن جهة أخرى، طبع شخصيةٍ مستعبَدة بسلوكٍ عقلاني. ويمنح الموقف الثوري الكلاسيكي السيادة المطلقة للعقل الذي تعترض عليه وحدها الحمّى الرومنطيقية: الحمّى التي هي أصلاً شبه غير عقلانية.
بليك قاوم ثوريي زمنه وحارب أيضاً استبداد العقل واستبداد الملوك. وبذلك سجّل قطيعة مع كامل التقليد الثوري للقرن الثامن عشر. (الماركيز دو) ساد نفسه تكلّم، على الأقل مبدئياً، لغة العقلاني المبتذلة. لكن بليك تميّز بذلك الموقف المتناقض ظاهرياً: فقد كره فولتير واحتقر روسو ولم يدعم الثوريين الفرنسيين إلا لأسبابٍ شعرية. وقد قام بذلك بشغف: موقفه كان فضائحياً، ومع أنه ليس أكيداً أنه وضع على رأسه، كما قيل، القلسونة الحمراء في شوارع لندن، كان سلوكه صادماً لدرجة تحوّلت هذه الأسطورة إلى حقيقة. ومع أنه لم يكن عنيفاً مثل صديقه توم بين، الإنكليزي الوحيد الذي شارك شخصياً بالثورة الفرنسية، لكنه نصحه بالرحيل وساعده على الاختباء ثم على السفر إلى فرنسا.
وخلافاً للرأي الشائع، لا شيء أكثر ملاءمة من تقديم نصوصٍ مختارة لكاتبٍ. التحفّظ الوحيد هو أن قيمة هذه المختارات هو من قيمة نية صاحبها: فغاية المختارات التي لا يمكنها أن تلغي أعمال الكاتب الكاملة، هي فتح سبيلٍ لها وإليها. وفيما يتعلق ببليك، يمكننا أن نقول على أي حال بأنه يتطلّب نشراً مجتزأ: بتخلّصها من الأشجار التي تحجبها، تكشف الغابة الكثيفة عن بساطتها الهندسية. طبعاً، من العبث محاولة تغطية أعمالٍ شعرية ضخمة ببضع صفحات. فهذا التبسيط يتضمّن شيئاً من الخطأ. لكن في حال استمرارنا على رؤية، في نصوصٍ معزولة، حركةٍ تمحي صورة هذه النصوص الحقيقية، يجوز لنا، عندئذ، أن نتوقف ونصغي فقط، في الصمت الذي تستحقّه، إلى تلك الكلمات البشرية التي ربما تتمتع بأكبر قدر من الحقيقة والقوة.
حاولتُ هنا تقديم هذه الكلمات الجدّ جديرة بالذكر؛ لكني أردتُ قدر الإمكان المحافظة على سياقٍ يربطها أحياناً بعضها ببعض بدون إبعادها عن الأعمال الشعرية كاملةً.
تفتح قصيدتان غريبتان هذه السلسلة وتُظهران بدون شك جيداً الحركة التي هي، منذ مهد الشاعر، ثورة على كل سلطة.
وتمثّل قصيدة "رؤى فتيات ألبيون" لوحدها ضخامة أعمال بليك الأسطورية: لكن من المفروض فيها، في مُستهلّ هذه الأعمال الضخمة، منحنا الانطباع بعالمٍ لا يُخترَق من شدّة ثرائه".


القصائد الأولى

حزنٌ طفولي

أميّ تأوّهت، أبي بكى؛
قفزتُ في هذا العالم الخطير،
أعزل، عارياً، مزقزقاً بأعلى صوتي
كشيطانٍ مختبئ في سحابة.

متخبطاً بين يديّ أبي
هائجاً في قِماطي
مربوطاً ومتعباً، كنتُ أفضّل
الحَرَد على ثدي أمي.

حين رأيتُ أن الغيظ عبثٌ
والحَرَد لا طائل له
بعد كثيرٍ من العفرتة والتحايل
بدأتُ أهدأ وأبتسم.

هدأتُ يوماً بعد يوم.
جاءت اللحظة التي وقفتُ فيها على الأرض
وابتسمتُ ليلةً بعد ليلة
لا هدف لي إلا المتعة.

رأيتُ أمامي عناقيد
من كرمةٍ برّية تلمع
وأشجارٌ وزهورٌ جميلة
نشرت فوقي إزهارها الربيعي.

عندها تفوّه أبي، بعينيّ قديسٍ،
وفي يديه كتابٌ مقدّس
بلعناتٍ فوق رأسي
وربطني بظلِّ ريحانة.

في ظل ريحانة
لماذا أنا مربوط بك،
يا ريحانتي الجميلة؟
لا يمكن للحب، للحب الحر، أن يكون مربوطاً
بأي شجرة مزروعة في الأرض.

آه كم كنتُ مريضاً ومتعباً
وأنا ممددٌ تحت ريحانتي
أشبه برَوث البقر على الأرض
مربوطاً بريحانتي.

غالباً ما تأوّهت ريحانتي عبثاً،
وهي تتأمّل قيدي الثقيل؛
غالباً ما رآنا أبي نتأوّه
وضحك من سذاجتنا.

هكذا صرعته فلوّن
دمه الجذور المنبثقة من الريحانة.
لكن زمن الشباب ولّى
والشعر الأبيض غطّى رأسي.

الحجّة

زأر "رينتراه" وحرّك نيرانه في الهواء الثقيل؛
تتسكّع غيومٌ جائعة فوق الهاوية.

هادئٌ، وفي ممرٍّ ضيقٍ،
كان العادل يسير على طريق
وادي الموت.
ورودٌ مزروعةٌ حيث ينبت الشوك
ونحلٌ يغنّي
على أرضٍ بائرة قاحلة.

عندها اخضرّ الممر الخطير،
سالت ساقية وتفجّر ينبوعٌ
من كل صخرةٍ ومن كل مقبرةٍ
وعلى العظام المبيَضّة
أنجب الطين الأحمر؛

إلى أن تخلّى الماكر
عن ممرّات السهولة
لصالح ممرّات الخطر وقاد
العادل إلى بلادٍ عاقرة.

الآن الثعبان يزحف
بتواضعٍ وديع،
والعادل يغتاظ في صحارٍ
تشرُد فيها الأسود.

زأر "رينتراه" وحرّك نيرانه في الهواء الثقيل؛
تتسكّع غيومٌ جائعة فوق الهاوية.

رؤية جديرة بالذكر

كنتُ أتنزّه داخل نيران الجحيم، متمتّعاً بملذات الجنّي، التي تبدو للملائكة عذاباً وجنون. جمعتُ بعضاً من أمثالهم. كنتُ أعتقد بأنه، كما تطبع الأقوال المأثورة المستخدمة في وطنٍ الطِباعَ، تُظهر أمثال الجحيم طبيعة وحكمة الجحيم أكثر من وصف الصروح والملابس.
حين عدتُ إلى داري، فوق هاوية الحواس الخمس، حيث منحدرٍ بجوانب ملساء يفرغ بشكلٍ مخيف فوق العالم الحاضر، رأيتُ شيطاناً قوياً مغلّفاً بغيومٍ سوداء يطير على طول جوانب الصخرة؛ بلهبٍ أكّالة، كتب الجملة التالية التي تراها أرواح البشر الآن وتقرأها على الأرض:
ألا تعلم أن كل عصفور يشقّ الهواء
هو عالماً من الفرح تغلقه حواسك الخمس؟

أمثال من الجحيم 
ـ مرِّر عربتك ومحراثك على عظام الأموات
ـ يقود درب الإسراف إلى قصر الحكمة
ـ تغفر الدودة المقطوعة للمحراث
ـ الأبله والحكيم لا يران الشجرة ذاتها
ـ مَن وجهه بلا نور، لن يصبح أبداً نجمة
ـ الأبدية تعشق إنجازات الزمن
ـ النحلة المنشغلة لا وقت لها للحزن
ـ إن استمر الأبله بعبثيته لأصبح حكيماً
ـ السجون مشيّدة بحجارة القانون، بيوت الدعارة، بآجُر رجال الايمان
ـ الأفراح تخصِّب. الآلام تُنجِب.
ـ النمور الغاضبة أكثر حكمةً من الخيول المدرّبة
ـ لن تعلم أبداً ما يكفي، إن كنتَ تجهل ما هو أكثر من كافٍ
ـ مَن يتلقّى بامتنان، يحمل حصاداً وفيراً
ـ مثل السُرفة (chenille) التي تختار أفضل الأوراق كي تضع بيضها، يضع الكاهن لعناته على أجمل أفراحنا
ـ الصلوات لا تحرُث! المدائح لا تحصُد!
ـ أقتل طفلاً في مهده ولا تؤجِّج رغبة بلا إرضائها

المصدر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق