الأحد، 8 مايو 2016

رواية المحاكمة؛ الجميع مذنب: ميلان كونديرا



ترجمة: سعيد بوخليط


كافكا ورواية المحاكمة 
فرانز كافكا (1883-1924)، ولد في براغ وسط عائلة يهودية بورجوازية .أنهى، دراساته بالحصول على دكتوراه في القانون، ثم اشتغل في قطاع التأمين، لكنه سيكرس وقته الشاغر للكتابة .أنجز القسم الأكبر، من كتاباته باللغة الألمانية، لن تصدر إلا بعد وفاته، من بينها رواياته: أمريكا، المحاكمة، ثم القصر. على الرغم من رغبته التي أوصت، بحرق جميع مسوداته.
ترصد رواية "المحاكمة"، حكاية شخص اسمه "جوزيف ك" (joseph.K)، اعتقل ذات صباح، بسبب جريمة يجهلها ولا يعرف عنها شيئاً. بعد نهاية وقائع المحاكمة، سيقتل «مثل كلب».
نص روائي، يبدو للوهلة الأولى عبثياً، استمر دائماً في إثارة تأويلات جد متنوعة. قد يكون تبليغاً، عن لا-إنسانية البيروقراطية، وتحذيراً من التوتاليتارية، أو تعبيراً مجازياً عن مناهضة السامية .بين هذا وذاك، سيتم النظر أكثر لرواية ''المحاكمة" باعتبارها رافعة للمزاج العبثي، بل السوريالي.
بالنسبة لـ ميلان كونديرا، فـ "جوزيف ك" ليس بريئاً ولا متهماً. ما يفصح عنه كافكا، من خلال هذه النزوة "فوق-الواقعية"، أن "الشعور بالذنب"، يشكل جزءاً من الوضع البشري. 
     
جوزيف "ك"، بطل على غير المعتاد
تراكمت صفحات عديدة حول فرانز كافكا، مع ذلك، بقي [ربما بالضبط نتيجة لهذا الكم الهائل من الصفحات] الأقل فهماً من بين كل الكتاب الكبار المنتمين للقرن الماضي. المحاكمة، روايته الأكثر شهرة، شرع في كتابتها سنة 1914، بمعنى عشر سنوات بالضبط، قبل صدور أول بيان للسورياليين، لم يكن له أدنى فكرة عن هاجس يتجاوز الواقع، لكاتب مجهول يسمى كافكا، ستصدر رواياته بعد مرور فترة على وفاته.
من الواضح، أن رواياته تلك التي لا تشبه شيئاً، ستظهر بمثابة نصوص خارج روزنامة التاريخ الأدبي، متوارية داخل حيز ينتمي فقط إلى مؤلفه. مع ذلك، وبالرغم من هذا التفرد، فمستجداتها الجمالية، التي نضجت قبل موعدها، تعكس حدثاً لايمكنه إلا التأثير [ولو متأخراً] في تاريخ الرواية. بهذا الخصوص، أخبرني ذات مرة غابريل غارسيا ماركيز، قائلاً: «لقد جعلني كافكا، أفهم أن رواية ما، يمكننا كتابتها بكيفية أخرى».
اختبر كافكا أبطال رواياته، بطريقة خاصة جداً، مثلما يمكننا ملاحظة ذلك بوضوح في "المحاكمة": لم يقل كلمة واحدة عن المظهر الفيزيائي لـ"ك"، وحياته قبل وقائع الرواية، بل ولم يشر إلى اسمه، وجعلنا نكتفي منه بحرف واحد. في المقابل، سيركز كافكا كليّاً ابتداء من الفقرة الأولى وحتى نهاية العمل، على الوضعية الوجودية لشخصية "ك".
تشير رواية "المحاكمة"، إلى وضعية متهم. اتهام، تجلى أولاً بطريقة غريبة: شخصان عاديان جداً، يأتيان ذات صباح عند "ك" الذي لازال مستلقياً على سريره، كي يخبرانه عبر سجال ممتع حقيقة، أنه متهم وينبغي له أن يتوقع فيما يخص الاستقصاء حول حيثيات قضيته، فترة لن تكون هينة. سجال عبثي، بقدر عجائبيته، لذلك عندما قرأ كافكا هذا الفصل للمرة الأولى، على مسامع زملائه انتابتهم جميعا موجة من الضحك.
الجريمة والعقاب؟ آه لا، مفهوما ديستويفسكي، لامكان لهما هنا. وإن ظنها شراح كافكاويون، بمثابة التيمة الأساسية لرواية المحاكمة. ماكس برود، صديق كافكا الوفي، لم يكن له أدنى شك، بخصوص حضور خطأ مهول، يخفيه "ك"، معتقداً بأن الأخير، متهم بـ «العجز عن الحب».
بدوره، إدوارد غولدستوكر، كافكاوي آخر مشهور، يدين "ك": «لأنه سمح لحياته، الاتصاف بالميكانيكية والآلية، وجعلها بالتالي مستلبة»، فاعتدى على القاعدة: «التي خضعت لها البشرية قاطبة، وتقول لنا: كن إنساناً».
أيضاً، التأويل الأكثر تواتراً –وأضيف كذلك أكثر بلاهة- هو تفسير لـ كافكا مخالف تماماً، يستند على مرجعية تستحضر أورويل تحسب أن: "ك" اضطهد، قبل الآداب، من طرف مجرمي سلطة توتاليتارية، موقف جسده مثلاً الإخراج السينمائي للرواية، الذي قام به أورسون ويلز سنة 1962.
لكن "ك" ليس بريئاً ولا متهماً. إنه شخص يشعر بالذنب، وهو وضع مختلف جداً. عندما أتصفح المعجم، أجد أن فعل: "أذنب"، قد استعمل لأول مرة سنة 1946، أما وصف "شعور بالذنب"، فتأخر تداوله كثيراً وبالضبط انتظرنا إلى غاية 1968. النشأة المتأخرة، لهاته الكلمات، يؤكد أنها لم تكن مبتذلة: تفهمنا بأن كل شخص [إذا أمكنني أيضا التلاعب بالألفاظ الجديدة]، هو مذنب، وأن الإحساس بالذنب، يشكل جزءاً من الوضع الإنساني.

إذن، سواء بسبب طيبوبتنا، التي تأبى أن تجرح الضعفاء، أو نتيجة لجبننا الذي يتحاشى إثارة غضب من هم أقوى منا، فالشعور بالإثم، يصاحبنا باستمرار.
كافكا، لم يبلور قط تأملات مجردة، حول قضايا الحياة الإنسانية، لأنه رفض دائماً خلق نظريات، والقيام بدور الفيلسوف، بحيث لايشبه سواء سارتر أو كامو. ملاحظاته الحياتية، تروم على الفور نحو تخيل شعري، وقصيدة نثرية.
ذات يوم، استدعي "ك" هاتفياً من طرف مجهول، كي يحضر الأحد المقبل إلى إحدى منازل أطراف المدينة، بهدف إجراء تحقيق صغير معه. وحتى لا يعقد مجريات محاكمته، متوخياً عدم إطالتها بدون جدوى، قرر الإذعان وبالتالي الذهاب مسرعاً، وإن لم تقيده الدعوة بساعة محددة. فكر أولاً، في ركوب التراموي، ثم تراجع ثانية عن الفكرة كي لا يتعرض لسخرية قضاته، بسبب امتثاله الطيع جداً لدقة الموعد. لكنه في الآن ذاته، يتمنى عدم إطالة مسار محاكمته، هكذا شرع يجري ويجري ثم يجري، لأنه يريد المحافظة على كرامته، وإدراك الموعد في لحظته، مع أن ساعة الحضور غير محددة.
هذا التداخل بين الجسيم والطفيف، الكوميدي والمأساوي، المعنى واللا-معنى، سيصاحب النص الروائي، حتى صدور حكم الإدانة في حق "ك"، فتجلت إيستيتيقا غريبة لامثيل لها، أبتغي حقاً تبين ملامحها، لكني أعترف بعجزي على هذا المستوى.  


مصدر النص الأصلي:

Le nouvel observateur :Hors-série.juin-juillet.2013.PP53- 54
 ينشر بالتنسيق مع موقع الباحث المغربي سعيد بوخليط

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق