الثلاثاء، 10 مايو 2016

هندسة، فضاء: جورج باتاي (المعجم النقدي)



ترجمة ميلود خيزار
هندسة
 الهندسة هي التّعبير ذاته عن كيان المجتمعات، تماما مثلما هي الملامحُ البشريّة تعبيرٌ عن كيان الأفراد. إلا أنّ هذه المقارنة، و خصوصا لدى الشّخصيات الرّسميّة (رهبان، قضاة، أمراء البحار)، هي ما يجب الحديث عنه.
غربة، نصر سامي
بالفعل، وحده الكائن المثاليّ بالنّسبة للمجتمع، أي الذي يملك سلطة الأمر والنّهي، هو مَن يُعبّر، حصريّا، في التّشكيلات الهندسيّة. هكذا ترتفع المباني كسدود، واضعةً منطقَ الفخامة والسّلطة في مواجهةٍ مع عناصر الاضطراب: أنه في صورة الكاتدرائيّات والقصور تُخاطِبُ الكنيسةُ أو الدّولةُ التعدّدياتِ وتَفرض عليها الصّمت. ومع ذلك، فمن الواضح، فعلا، أنّ المباني تُلهمُ التعقّلَ الاجتماعيّ وحتّى الهيبةَ في أحيان كثيرة، احتلال "لاباستي" يُعتبر رمزيّا في هذه الحال: فمن الصّعب تفسير حركة الحشود هذه بغير نقمة الشّعب من هذه المباني التي تمثّل سادته الحقيقيّين. وكذلك كلما تواجدت التشكيلة الهندسية في مكان آخر غير المَعلَم. سواء كان ذلك في المظهر، في اللباس، في الموسيقى أو في الفنون التشكيلية. يمكننا أن نستشفّ من خلاله ذوقا مهيمنا للسلطة البشرية أو المقدّسة، الأعمال التشكيلية الكبرى لبعض الفنّانين تعبّر عن إرادة إكراه العقل على مثال رسميّ. زوال البناء الأكاديمي في الفنّ التشكيلي هو، بعكس ذلك، السبيل المفتوحة على تعبير (ومنه حتّى إلى إثارة) المسارات السيكولوجية الأكثر تنافرا مع الاستقرار الاجتماعي. هذا ما يفسّر، في جزء كبير، ردود الأفعال الحادّة المثارة منذ أكثر من نصف قرن. عن طريق التحوّل التّدريجي للفنّ إلى غاية تجسيده في شكل هيكل عظمي هندسي متنكّر. من البدهي طبعاً أن لا يكون التنظيم الرّياضيّ المفروض على الحجر سوى استكمالٍ لتطوّر الأشكال الأرضية. والذي أُعطِيَ معناه، في النظام البيولوجي، عَبر الانتقال من الشّكل القِردي إلى الشّكل البشريّ. ويكون هذا الأخير قد تضمّن سلفا كل العناصر الهندسية. البشر لا يمثّلون، على ما يبدو، بالنسبة للمسار الشكلي، سوى مرحلة انتقالية بين القرد والصّروح الضّخمة. صارت الأشكال أكثر فأكثر ثباتًا، وأكثر فأكثر هيمنةً، مع ذلك، هل كان النظام البشري في بدايته متضامناً مع النظام الهندسي، والذي لم يكن سوى تطوّرٍ له؟ حتّى لو ألقينا المسؤولية على الهندسة، التي صارت منتجاتُها الضّخمةُ السيّد الحقيقيّ على كل الأرض. جامعةً في ظلّها عبيدا متعدّدين، فارضةً عليهم الإعجابَ والدّهشةَ، النّظامَ والإكراه. سنلقي المسؤوليّة بشكل ما على الإنسان. حالياً، نشاط أرضيّ كامل، بدون شكّ الأكثر تألّقاً في النّسق الفكري، يتّخذ مساراً كهذا، مندّداً بعدم كفاية الأكثرية البشرية: هكذا وكما يبدو غريباً حدوثه، عندما يتعلق الأمر بكائن ذي أناقة عالية مثل الإنسان – ينفتح مسارٌ ما - بإشارة من الفنانين – باتّجاه الفظاعة البَهيميّة، كما لو لم تكن هناك فرصةٌ أخرى للإفلات من مصير السجناء المؤبّدين للهندسة.


فضاء
 مسائل في الملاءمة. لن نستغرب كون مجرد منطوق عبارة "فضاء" وحده، يستدعي الصّيغة الفلسفية. الفلاسفة، باعتبارهم رؤساء حفل العالَم المجرّد، أشاروا إلى "كيف" يجب أن يتصرّف الفضاءُ، في مختلف الظروف. للأسف، ظلّ الفضاءُ وغْدا ومن الصّعب عدُّ ما يترتّب عنه. إنه متقطّع كما أنّنا نصّابون، إزاء اليأس الكبير لأبيه - الفيلسوف. سألوم نفسي لأنني لم أذكّر بعض الأشخاص الذين، بحكم المهنة أو الفراغ، الالتباس أو الضحك، يهتمّون بسلوك العاصي الذي يعاني نقصاً في الإشهار: أي كيف يقطع الفضاء الاستمراريّة الضروريّة تحت أنظارنا المُحوَّلة باستحياء، دون أن نتمكّن من التساؤل لماذا، لا يبدو مجرّد قرد في زيّ امرأة كجزء من الفضاء. في الواقع، إن مقام الفضاء هو بهذا القدر من النظام، مرتبطٌ بالنجوم. لدرجة أنه من غير الملائم تأكيد أنّ الفضاء يمكنه أن يكون سمكة تأكل أخرى، يخيّبُ الفضاءُ أيضاً بصورة أكثر فظاعة حين يقال إنّه يأخذ شكل طقس تدريبيّ دنيء يمارسه بعضُ الزّنوج، اليائسين بشكل عبثي... إلخ. سيفعل الفضاءُ الكثيرَ والأفضل، بالطبع، للقيام بواجبه ووضع الفكرة الفلسفية في شُقق الأساتذة. بالتأكيد، لن يدور في ذهن أحد حبسُ الأساتذة في السجن لتعليمهم ما الفضاء (حين، مثلاً، تنهار الجدران أمام قضبان زنزاناتهم).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق