الثلاثاء، 8 مارس 2016

كوليت بينيو: باتريك بيرجرون



ترجمة رويدة سالم

LAURE-COLETTE PEIGNOT
هي شاعرة وكاتبة مذكرات ورسائل ونصوص قصيرة لكن لم تدخل الساحة الأدبية إلا بعد وفاتها. هي كوليت بينيو (Colette Peignot) كاتبة فرنسية ولدت في "مودون" (Meudon) "هوت دو سان" (Hauts-de-Seine) سنة 1903 وتوفيت بمرض السل في "سان جرمان أون لاي" (Saint-Germain-en-Laye) "ايفلين" ((Yvelines سنة 1938. وقد تركت وراءها سلسلة من الكتابات النثرية التي تمتاز بطابعها القلق والانفعالي مثل "قصة فتاة صغيرة" و"صرخة ثورية ضد القيم البرجوازية". منذ 1934 صارت رفيقة جورج باتاي الذي أطلق عليها اسم "لور" (Laure).
لم تبدِ كوليت بينيو أية رغبة في نشر نصوصها خلال حياتها على رغم أنها عملت عليها بعناية فعلى سبيل المثال لديها سبع مخطوطات لـ "قصة فتاة صغيرة" وبرغم أن مجموع كتاباتها لا يتجاوز مائتي صفحة فإنها «كلها تقريباً من نار» على حد تعبير موريس نادو(Maurice Nadeau).

ثمة ثلاث مراحل مهمة طبعت إنتاجها الأدبي:
تتركز الأولى سنة 1939 بعد سنة من وفاتها عندما نشر لها جورج باتاي (Georges bataille) وميشيل ليريس (Michel Leiris) بدون غاية تجارية ربحية "المقدس، مرفق بقصائد وكتابات متفرقة" وقد تميزت هذه المبادرة بطابعها الحميم.
أما المرحلة الثانية الهامة ففي بداية السبعينيات، قام ابن أخيها جيورم بينيو (Jérôme Peignot) -والذي كان عمره عند وفاتها 12 سنة ويقول عنها «أمه غير المباشرة»- بتجميع أول طبعة كاملة لكتاباتها سنة 1971 وكانت "غاليمار" هي الناشر المحتمل فقد جمعت هذه المؤسسة منذ 1970 الأعمال الكاملة لـ باتاي وكان جيروم بينيو ذاته قد نشر فيها بعض كتبه مثل "عظمة ساعٍ وبؤسه" سنة 1965 لكنها رفضت نشره فتولت مؤسسة "بوفار" بدلاً عنها نشر مختلف كتابات لور [نصوصاً ومقتطفات ورسائل] وكان النجاح مذهلاً فأُعيد النشر في شكل كتاب للجيب سنة 1976 وظهرت طبعة مضافة بعد ذلك سنة 1977.
خلال هذه السنوات ظهرت جمعية "أصدقاء لور" يرأسها ليريس وتضم بين أعضائها الأوائل: مارغريت دوراس (Marguerite Duras) وميشيل فوكو (Michel Foucault) وكلود مورياك (Claude Mauriac). وكان ذلك رعاية راقية لشخصية تشبه النيزك في سماء (اللاأدب) الفرنسية.
ثم كانت المرحلة الثالثة هي الفارقة في تقبّل كتابات لور من بداية جانفي 2013 مع تدشين "كراسات لور" ضمن منشورات "مؤسسة لي كايي" (Les Cahiers) إذ بدل التعامل مع لور في إطار علاقتها بـ باتاي اقترح الناشرون معالجة نصوصها «بما هي ذاتها عليه: كتابة عظيمة».


تنتمي كوليت بينيو لعائلة من الصناعيين. كان أبوها وجهاً مهماً في صناعة الورق الفرنسية حيث يدير مسبك "بينيو وأبناؤه" هذه الشركة التي ستحمل سنة 1923 اسم "ديبارني وبينيو".
أمّا جوستاف بينيو، جد كوليت، فقد كوّن ثروة عبر هذه الشركة العائلية وبرغم ذلك لم يجعل هذا الرخاء العائلة بمنأى عن ضربات القدر حيث توفي والدها وثلاثة من أعمامها أثناء خدمة بلادهم بين 1914ـ1916. صدمت هذه التضحية الرباعية العقول وقد حمل شارع في الدائرة الخامسة عشرة بباريس اسم "شارع الإخوة بينيو الأربعة" محافظاً على هذه الذكرى.
باستثناء أخيها شارل كبرت كوليت في محيط نسائي أساساً محافظ ومتزمت. وكانت البروتوكولات الأسرية صارمة فلم يكن من حق كوليت أن تتكلم مع بقية الأطفال ولا أن تقاسمهم ألعابهم بدون موافقة أمها كما لم يكن يحق لها أن تقول «صباح الخير سيدي» للعمّال ولا أن تقاسم مظلتها في يوم ممطر مع أناس من مستوى مادي أقل وبرغم صغر سنها خبرت الظلم في ذلك فشعرت بسرعة بالاختناق بسبب هذاالسلوك المقنن. وعبرت عن ذلك قائلة: «في سن الثامنة لم أعد كائناً بشرياً».
أثرت بها بشكل خاص حادثة مأساوية تمثلت في قيام كريستين ابنة إحدى الخادمات بإلقاء نفسها من النافذة لما اكتُشِفت وهي تسرق الفحم. وكذا صدمت صرامة السيدة بينيو حتى عديمي الإحساس. تقول كوليت حول الحادثة: «طلبت شرحاً عن هذه المأساة لكن الأمر لم يكن ممّا يُحكى فيه، حيث يتم تغيير الخادمة وكفى».
بعد اختفاء أبيها وأعمامها رأت كوليت وجهاً آخر للسلطة الذكورية يحتّل مكاناً في بيت آل بينيو: إنه الراهب بيراتي (Pératé). كان أحد الرهبان البرجوازيين الذين وضعتهم الكنيسة ضمن العائلات الموسرة الباريسية لتجنب أن ينسى الناس في نشوة انتصارهم واجباتهم المسيحية وعلى رغم ذلك فقد زكّى رجل الدين هذا مشاعر عدم الإيمان عند كوليت. «هذا الراسبوتين الحقير» كما تسميه كوليت وضع يده على أموال العائلة وحاول الاعتداء على كوليت وأختها مادلين، تقول: «كان معتاداً أن يجذب أختي إلى ركن ويضغط على صدرها قائلاً كوني بسلام وأن يلمس مؤخرتها حاشراً ثوبها بين الفلقتين ثم يسحبه».
لم تحتمل كوليت هذه التربية الكاثوليكية والبرجوازية التي قرّرت مسبقاً التخلّص منها فبدأت بتعلم الروسية واللغات الشرقية ومراقبة تشكّل ثورة 1917 باهتمام.
في بدايات العشرينيات قرأت باراس (Barrès) وجيد (Gide) ودانونزيو (D’annunzio) وهم المعلمون التحرريون الذين عبدوا الطريق للمرشِديْن المستقبلييْن أمثال نيتشه وساد.
وجدت كوليت نفسها سنة 24 في حاجة للعلاج بالمياه المعدنية فأقامت في "فرون رومو" (Font-Romeu) في جبال "البريني" الشرقية (Pyrénées-Orientales). لم تكن تلك المرّة الأولى ولا الأخيرة التي يُظهر فيها المرض أنيابه إذ اضطرت في الثانية عشرة لمصارعة عصيّات السل.
في مساء من شهر جويلية 1925 جعلتها سوزان ريفير، صديقتها وزوجة أخيها شارل، تقابل أثناء عشاء اجتماعي الرجل الذي سيصير عشيقها الأول. هذا الصحفي الفوضوي جون بيرنييه (Jean Bernier) وعمره وقتها 31 سنة، وقد نشر سنة 1917 رواية "الاختراق" وهي سيرة ذاتية بالغة الدقّة لشاب برجوازي شارك في الحرب كما توثّق مذبحة المشاة الفرنسية وكان صديقاً لـ دريو لا روشال (Drieu la Rochelle) ومحرراً في مجلة "كلارتي" (Clarté) التي شارك في تأسيسها هنري باربوس (Henri Barbusse)، وقد مثَّل لـ كوليت الحب الجنوني لكن هذه العلاقة بإنسان ذي فكر اشتراكي أفزعت عائلتها.
عاد داء السل إلى جسدها بقوّة عام 26 وفي جانفي 1927 حين ظنت كوليت أن جون تركها، حاولت الانتحار حيث وُجدت غارقة في دمائها وبجانبها المسدس الذي أطلقت منه رصاصة على القلب لكن الرصاصة حادت عن مسارها وارتدت على الضلع. في الأشهر التالية وبدلاً من أن تذوي كمسلولة رومانسية اختارت الصراع قائلة: «لا أقدر أن أتوقف عن الحياة» وتعهدت بالاهتمام بصحتها لكن الشفاء كان عصيّاً عليها على رغم أنها أقامت سنة 28 في "ليسين" (Leysin) في جبال "الألب فودواز"  (Alpes vadoises) لتلقي أفضل علاج في عصرها.
كانت تحلم متنقلة بين قصائد رامبو و"هكذا تحدث زرادشت" لـ نيتشه بموسكو "قدس البروليتاريا" لذلك سافرت 1930 إلى الاتحاد السوفيتي للمشاركة في حياة الفلاحين في تلك "التعاونيات" وعند عودتها انضمت إلى الحزب الشيوعي الديمقراطي الذي أسسه بوريس سوفارين (Boris Souvarine) وهو ماركسي متعصب أصبح عشيقها حتى عام 34 وكان الحزب يضم أيضاً سيمون  ويل (Simone Weil) الفيلسوفة والكاتبة والمناضلة السياسية الفرنسية التي جمعتها بها صداقة قوية.

الساذجة الخليعة
كان سوفارين من اقترح عليها أول أسمائها المستعارة كلود أراكس (Claude Arexe) والذي نشرت عبره سنة 33 مقالات في مجلة "النقد الاجتماعي". وهي المجلة التي تدين التجاوزات الستالينية وكانت كوليت تساهم جزئياً في تمويلها و"أراكس" هو نهر في "أذربيجان" ذكره فيرجيل في ملحمته "الإنيادة" ويفسر ميشيل سوريا (Michel Surya) معناه قائلاً: «نهر غزير لا يحتمل أن يُفرض عليه جسر يسهّل عبوره». في هذه المجلة تكفلت كوليت أيضاً بترجمة مقالات من روسيا. وهكذا تأكّد فكرها الثوري الجذري: كانت مستعدة كما تقول: «لتجريب كل شيء والمخاطرة بكل شيء» و«الاستجابة لكل الدعوات الأشدّ ظلمة وقول نعم لكافة الخيالات والهواجس» وبذلك مضت من التجاوزات إلى التدنيس.
في برلين، وقبل ذلك ببضع سنوات، عاشت حياة مهدرة مع الطبيب والشاعر التعبيري ادوارد تروتنير (Edouard Trautner)، المولع بقراءة ساد وساشر مازوخ وكان يفرض عليها أن تضع طوق كلب في رقبتها وهي معه كما يستمتع بضربها وإهانتها. وكان هذا الطقس المازوخي، بالنسبة لـ كوليت، وسيلة لتعزيز تمرّدها الاجتماعي. ودون أن تدرك، كانت على استعداد لتصبح صديقة لكاتب "حكاية العين" سيئ السمعة.
أول لقاء لها مع جورج باتاي كان 1931 في "مقهى ليب" (brasserie Lipp) في "سان جرمان دي بري" (Saint-Germain-des-Prés). انبهر خلاله بجمالها، ذاك الجمال الذي لا يدركه «إلاّ من يقدرون على الرؤية» كما يقول ميشال سوريا. التقيا كثيراً بعد ذلك بين سنوات 1931 ـ 1932 والتي تمثل سنوات نشاطها في مجلة "النقد الاجتماعي" ثم بدأت علاقتهما الشهيرة.
شاركت، بداية من 36، في تجربة مجلة "آسيفال" (بدون رأس) التي يديرها كل من باتاي وكايوا (Caillois) وكلوسوفسكي (Klossowski) و رولان (Rollin).
لم تكن كوليت بالنسبة لـ باتاي مجرد عشيقة أو صديقة بل مصدراً للوحي فعندما التقى بها لم يكن قد كتب غير "حكاية العين" و"الشرْج الشمسي" وهي نصوص نشرها سرّاً وبأسماء مستعارة.
لقب لور الذي منحه لها كان أحد أسماء معموديتها "كوليت لور ليسيان بينيو" (Colette Laure Lucienne Peignot) وبنظرة سريعة إلى لور دو ساد (1310-1348) مصدر الوحي لـ بترارك (Pétrarque) وجدة "الماركيز الإلهي" نجد اختيار اسم لـ كوليت لم يكن اعتباطياً.

كلمات وشظايا وصرخات
يقول ليريس عن كتابات لور: «ما كتبته أكثر أدبية من أي أدب» كما يضيف جيروم بينيو: «كوليت لا تكتب الأدب بل ترمي على الورقة جملاً كلمات شظايا وصرخات». يمكن اعتبار لور إحدى الكتاب الكليشيهات الذين يرى فيهم باتريك تيلار (Patrick Tillard) تجسيداً لـ "بارثلبي" (Bartleby) الكاتب في أقصوصة لـ مالفيل (Melville) والذي ميز الأدب عبر صرامة رفضه: «لا أودّ أن أفضل» الجملة التي يصرّ على ترديدها لمن يطلبونه.
وبرغم الصدى الذي سببه نشر كتابات لور سنة 70 من المثير ملاحظة أن ذلك لم يوسع بعد دائرة قرائها فمثل رامبو وآرتو أو في "رسائل اللورد شاندو" (1902) للكاتب هوفمنستال (Hofmannsthal) التي يُنظر إليها على أنها تعبير عن أشياء تتجاوز التجربة الأدبية، فثمة تشابه بين كتابات لور والنثر في "فصل في الجحيم" لـ رامبو لافت للانتباه. تؤكد كوليت: «هل سأظل أتأرجح بين الدنيء والسامي على مدى سنوات طويلة لا توجد فيها حياة حقيقية دوماً» وتضيف: «أعتقد أن الحياة الحقيقية غائبة بالمعنى الذي أفهم به الحياة الحقيقية فإذا كنت أؤمن بوعي أنها قد توجد في مكان ما من العالم... فهي لن توجد إلاّ في كائنات خيالية».
توفيت لور 1935. استسلمت للسل في سرير باتاي، وهو يذكر يوميات احتضارها في كتابه "المذنب" وكـ "هيثكليف" (لورنس اوليفيه) في "مرتفعات ويذرينج" (1939) لـ ويليام ويلير (William Wyler)، فأحس أنه سيعيش مسكوناً بخيالها إلى الأبد.
كلّ من يقرأ كتابات لور سيفهم كما يقول جيروم بينيو إن: «التعرف عليها أكثر هو احتراق بتلك النار التي التهمتها».


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق