الأربعاء، 23 مارس 2016

السوريالية؛ الجنس وحدود الرغبة: مارتن جايفورد



ترجمة محمد عيد إبراهيم

مارتن جايفورد ناقد أدبي إنجليزي، والمقال نقلاً عن صحيفة "ديلي تلجراف" عدد 15 سبتمبر 2001، يقتطف من ذكريات الفنان البريطاني العجوز كونري مادوكس عن السورياليين موضحاً علاقتهم بالجنس والرغبة.
********


Conroy Maddox, The Strange Country 1940
في عام 1920 قام الفنان مارسيل دو شامب بتلفيق نفس ثانية أنثوية لنفسه، "رروز سيلا في". كما أنتج عدداً من الأعمال الفنية باسمها، منها قصائد كانت تُمتع دو شامب يلعب فيها بالكلمات. لكن ما حكاية هذا الاسم الغريب؟ به تنغيم صوتي فرنسي كأنه "إيروس، سيلا في" أي "إيروس، هذه الحياة". بالنسبة لمعاصرين أصغر من دو شامب أو معجبين به، فالحب يعني جوهر الحياة حتى النهاية.
لم تكن السوريالية تشبه الحركات الفنية الأخرى التي شاعت بالقرن العشرين: الدادية، التكعيبية، الفوفيزم، إلخ حيث عمد البعض إلى تكوين جماعات فوضوية بينما عمد آخرون لادعاء مظهرية ثورية وغيرها من حالات الفن. لكن السوريالية على الجانب الآخر كانت أكثر من تجمع سياسي، فقد تأسست في فرنسا، لكن سرعان ما تكاثرت في العالم كله. لقد اتحدت بقوّة معاً، قبل أن تشقها العداوات وعمليات الطرد المتبادل.
في حالة كونري مادوكس، سوريالي بريطاني عمره 89 سنة، فهو يتذكر ذهابه إلى فرنسا 1936 واتصاله بمؤسسي السوريالية الباريسيين «ولا أزال على صلة بمن بقي منهم أحياء!».
كانت السوريالية عند منشئها حركة أدبية غير عادية بدأها شعراء، رغم وجود عدد لا بأس به من الفنانين التشكيليين والنحاتين المؤسسين معهم: دالي، ميرو، إرنست، ماجريت. رائدها المعروف الشاعر أندريه بروتون، يشار إليه دائماً على أنه «بابا السوريالية»، رغم أنه كان في بعض الأحيان مجرد مفوّض باسم الحركة، وقد انحرفت عن برنامجه الثوري في النهاية. كان هدف الحركة الشعار الذي حفره الشبان على كثير من الجدران في الستينيات «الحرية الآن!». أمّا بالنسبة للسورياليين وشبان الستينيات أيضاً، فقد كان هذا التحرّر سياسياً وجنسياً متلازمين معاً.
من وجهة نظر بروتون، نجد الرغبة (تعني بالمقام الأول الرغبة الجنسية) هي «المبدأ المحرّك الأول للعالم كله، الوجود الوحيد الذي يتعرف عليه الكائن البشري من البداية». بالنسبة إلى بول إيلوار أحد الشعراء المؤسسين للسوريالية، فكان هدفه النبيل يتمثل في «مقاومة كل العوائق التي يضعها المجتمع البورجوازي أمام رغبات الإنسان الحيوية، رغبات الجسد ورغبات الخيال». من هذه الحرية، كما يُعتقد، تنبع حريات أخرى.
أضاف هذا الاحتفال الحماسي الكثير إلى مناقشات السورياليين عن الجنس، وثار جدل عنيف بين العادات والرغبات. كانت عشاءات السورياليين تعقد في أحد مطاعم شارع الدوق في لندن أول الأربعينيات. يتذكر مادوكس «كانت هناك أسئلة من قبيل: كيف تؤثر الحرب عليك جنسياً؟»، ويتوجب على الجميع الإجابة على هذا الاستفسار العجيب.
كانت منشورات السورياليين ممتلئة بهذه النوعية من الاستفسارات. مثلاً، في عام 1932، طرحت صحيفة "السورياليين اليوغسلاف" على عدد من نجوم الحركة في باريس سلسلة من الاستفسارات، من قبيل: «هل لديك أية رغبات سريّة يمكن اعتبارها خطيئة أو غير أخلاقية أو حقيرة أو فاحشة؟ ماذا تفعل عندئذ؟ هل تجاهد ضدّها أو تشبعها في خيالك؟ أو بحياتك الواقعية؟».

أما الفنان ذو الحس الاستعراضي سلفادور دالي فكان يعربد بهذه التعاليم الشفهية مفاخراً «عندي رغبات سريّة لا أعرف عنها شيئاً حتى أنني أكتشف كل يوم منها الجديد». كما أعلن في مناسبة أخرى أن الانحراف والرذيلة «أكثر أشكال التفكير والنشاط ثورية».
قصد دالي الذهاب لأبعد من ذلك، حتى بالنسبة للسورياليين، ففصلوه أخيراً بعد تمثّله عبادة هتلر "المازوخي الأعظم". لكن كثيراً من السورياليين عاش حياة جنسية غير مقيدة إطلاقاً حتى بمقاييس هذه الأيام.
كان بول إيلوار مثلاً وزوجته الروسية جالا يعيشان فترة من الزمن داخل "سكن ثلاثي" مع الفنان ماكس إرنست. بعد زيارة روما دعوا جورجيو دي شيريكو، رائد السورياليين الأشد احتراماً، لمشاركتهم ثلاثتهم في الفراش. يبدو أن الفكرة لم ترُق لـ شيريكو، لكنه أُجبر عليها بأدب. فقد كان للسوريالية واجباتها الخاصة.
كانت جالا معروفة باتصالاتها الجنسية الاستعراضية غير المشروعة، منها علاقتها مع مان راي، وبعد هجرها إيلوار تزوجت سلفادور دالي. كانت تعتقد أنهم جميعا «بورجوازيون في النهاية».
في الحقيقة، أدى إصرار السورياليين على الأهمية القصوى للرغبة والحب إلى مزيد من الفوضى، من الجهتين الشخصية والإيديولوجية. ويمكن الادعاء أن السورياليين تميزوا بأنهم أصحاب اتجاهات رجعية بالنسبة للنساء.
أما أندريه بروتون فهو يتخذ وجهة نظر تقول إن الخيانات المفتوحة لا حساب لها. نتيجة ذلك كان يبلغ زوجته بضمير يقظ عمّا يفعله، لكنه هجرها بعد أن أقامت علاقة مع سوريالي آخر، على أرض غير مقنعة تؤذيها أن تكون سرية. رحل ماكس إرنست مع إيلوار وزوجته، وعلق بوضوح إلى زوجته: «عمرك 28 سنة، تعرفين كل شيء عن الحب، ولديك ابن... فماذا تريدين أيضاً؟»
بينما تسجل الفنانة التشكيلية ليونورا كارنجتون، وهي نفسها عشيقة ماكس إرنست أواخر الثلاثينيات «لدى السورياليين الذكور الاتجاهات المعتادة بالنسبة للنساء. فكانوا يريدونهن لجلب القهوة والإلهام في الفراش. من هذا المنطلق لم يكونوا مختلفين عن سواهم من الرجال في ذلك الوقت، رغم اعتقادهم أنهم متقدمون للغاية في أفكارهم عن الجنس ونحو ذلك».
أما كارنجتون، ابنة أحد رجال الصناعة الأثرياء في لانكشير، فقد قابلت إرنست  1936، عمره 46 وهي 19. في بداية الحرب، تم اعتقال إرنست فأصابها انهيار عصبي. حين تقابلا من جديد في نيويورك، كان كل منهما زوجاً لآخر، إرنست تزوج بيجي جوجنهايم.
تعيش كارنجتون الآن في المكسيك مع ميريت أوبنهايم وإيلين آجار ودوروثيا تاننج، تزوجت إرنست في النهاية، وكانت واحدة من النساء القلائل المقبولات لدى السورياليين كفنانة. فالأمر بالنسبة للسورياليين، الذين يعتبرون من عدّة نواحٍ ورثة رومانسية القرن التاسع عشر، أن النساء مجرد عرائس إلهام. كما تلحظ كارنجتون «كل ذلك يعني أن تصبح موضوعاً لشخص آخر».
هناك مسألة خلافية أخرى، أن السورياليين كرّسوا أنفسهم بإخلاص لفكرة الحرية مجردة، رغم أن بروتون كان يقود السوريالية بصلابة طاغية. كما يتذكر كونري مادوكس «كان شديد التهذيب، متسامحاً في كثير من النواحي، لكن لو تشاجر مع أحد ينفصلان. وقد تمرّ عدة أشهر قبل التصافي ثانية. هناك صراع دائم. يحبون قتال بعضهم البعض. أشبه ما تكون بحركة سياسية. وانظر إلى المحافظين اليوم. هناك القليل ممن لا يريدون الكلام مع آخرين معينين ضمن دائرة السورياليين».
يضيف مادوكس «كانوا أشبه بفكاهة معينة». لكن الأمر كان غالباً في حالة استعجال عاطفيّ لأولئك المعنيين. تحدث يوماً أحد المبعدين عن «المرارة واليأس من الوصال السابق».
كانت البغضاء تجري عميقاً. كتب بروتون عن الأديب لويس أراجون «سيموت أراجون فجراً بالرصاص». بعد ثلاثين عاماً من الفراق بينهما، كان لا يزال مصرّاً على أنه لو تواجد مع أراجون في جزيرة قاحلة وحدهما فلن يتكلم معه.
نظام صارم. فبعد ظهور فيلم "كلب أندلسي"، تم إبلاغ صانع الفيلم المخرج لويس بونويل «فضيحة لو نجح فيلمك. لو نجح بشكل باهر. لو نال إعجاب البورجوازيين. لو تقبّلت هذا النجاح. الأمر بسيط. عليك أن تقرّر: في أي صف تقف». قال بونويل «يبدو الأمر كأنّه نكتة. لكنها كانت مأساة عندئذ. فقد ظللت أفكر في الانتحار بعد ذلك عدّة أيام».
لكن ما مصدر سيطرة بروتون؟ يبدو ذلك كان متوقفاً على السحر والدفء المشعّين منه. تتذكر ليونورا كارنجتون «كان طاغية. لكنه كريم حقاً فيما كان الآخرون منغمسين فيه من اهتمامات. كنت شخصياً على وفاق معه. أعتقد كان ينظر لي على أنني جزء من نكتة». (كان بروتون مأخوذاً باندفاعات شخصيتها السوريالية، التي قادتها على المثال لأن ترش الخردل على قدميها بمطعم في نيويورك).
وطبقا لشاعر سوريالي آخر، روبرت دينوس، كان بروتون نوعاً من العبقرية التي مكّنته أن «يتنفس من صَدَفة على وعي بالسحر الكافي والموهبة المزعومة لشاعر لحظيّ خارج من دمية».
يظهر ذلك كله صادراً عن مسألة "العقاب". فسيتم استدعاء السورياليين الآثمين أمام المحاكم التعسفية، ويطردون لو ثبتت إدانتهم. يبدو أن وجه السوريالية مثل محاكاة ساخرة بوهيمية لصراعات أكثر يأساً وأشدّ ظلمة في العقيدة الحزبية داخل روسيا السوفييتية. تطورت العلاقة بين السوريالية والشيوعية إلى نوع من الكوميديا السوداء التي تواكب علاقة من الحب الفكري العاجز مع الشيوعية. هل كان يتوجب على هذين الشكلين من الحرية الثورية أن يمتزجا؟
أُنفق الكثير من هذه النباهة الفرنسية لمحاولة تطويق الدائرة، لكن الشيوعيين ظلوا متشككين بعمق (كانت المحاكم التعسفية الماركسية قد استدعت بروتون بدوره). أخيراً كان الاختيار ضرورياً. فاختار أراجون أن يصبح الناطق بلسان الستالينية الباريسية، من ثم تحتم الانفصال.
لكن المشكلة الفكرية الأعمق في السوريالية تقع على عاتق المشروع المتعلق بتحرير الرغبة. فالرغبة الجنسية المفتوحة وعالم الخيال شيء واحد، رغم التدمير الذي يمكن أن يحققاه بالمصطلحات الإنسانية. لكن ماذا لو تحولت الرغبة إلى عنف وجريمة ووحشية؟
بنوع من المزاج أحس السورياليون أن الأمر في غاية الروعة هكذا. فاتجهوا لعبادة الماركيز دو ساد لاعتقادهم أنه شخص فظّ، كما تخيله بونويل «الشيء الهام الوحيد هو حرية التفكير القصوى وأنه لا يوجد ما هو حسن أو رديء». أعطانا بروتون مرة مثالاً «أبسط فعل سوريالي هو الانطلاق في الشوارع ومسدس في يدك، ثم إطلاق النار بصورة عشوائية على المارة».
لحسن الحظ، كانت الممارسة شيئاً مختلفاً. عندما جاء صديق بروتون، جاك فوشيه، شاب لكن غير متزن، ولوّح بمسدسه في مسرح، اندفع بروتون على ما يبدو ليثنيه عن إطلاق النار. حينما سئل بونويل عن الفرق بين فلسفة صنمه دو ساد وفلسفة هتلر، رد «لقد ارتكب ساد جرائمه فقط في الخيال. وتلك طريقة لتحرير نفسه من رغباته الإجرامية. لأن الخيال يسمح لنفسه بكل أنواع الحرية فالخيال حرّ، والإنسان ليس كذلك».
حسنا، كان ذلك الاتجاه ضبابياً. يمكنك أن تدعوه «تشوشاً ذهنياً» (بتعبيرات السوريالية، فأنّى لرغبات دو ساد أن تكون إجرامية؟). يجعلنا هذا نتعرف ضمنيا على استحالة وضع الرغبة موضع التحرر دائماً. بهذا وغيره نرى أن السورياليين هم أسلاف الحداثة في عالمنا اليوم.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق