السبت، 17 أكتوبر 2015

فلسفة جيل دولوز (1)

ترجمة: سعيد بوخليط

1.    مسافر، دائم الاستقرار:
النفاذ إلى فكره، يشبه الولوج إلى غابة كثيفة، فمثل كثير من الأنواع المتوحشة، يزخر فكر دولوز بمفاهيم عديدة وكلمات متميزة، بأقصى درجات غرابتها: "اللا- تجذر"، "اللا- إقليمية"، "جسد، بلا أعضاء"، "آلات راغبة"، "صيرورة حيوانية"، إلخ.
جيل دولوز
دولوز، الذي يمثل ظاهرة المشهد الفكري خلال القرن العشرين، ينظر إلى الفلسفة بمثابة نشاط لإبداع المفاهيم. مهمة، انكب عليها بإبداعية استثنائية، فجاء الكوكتيل مفرقعاً: جانبه الشعبي جداً، عضده اهتمامه بالفنون والارتباط بميتافيزيقا معقدة، تموضع الاختلاف والصيرورة في المقام الأول.
ضدّاً، على كل ما بوسعه،إعاقة أو منع الانبثاق ثانية، يدعو دولوز إلى تفريخ المتفردات، وتفعيل رغبة سينظر لها مثل تدفق مبدع وانقلابي. حيث، يتعلق الأمر دائماً بالنسبة إليه، التخلص من المعايير والهويات القائمة قبلياً، بغية تكثيف الوجود. دولوز، مؤرخ أصيل للفلسفة، ومفجر للفكر المعاصر، لم يتوقف عن اتباع مسارات للانفلات محرضة، لكن ماذا يعني هذا؟.
سؤال متكرر لازم دولوز، ويرضخ له محاوروه، بكيفية شبيهة بالقلق على صحة مريض، مضفياً إيقاعاً على تأمل يعيش حركة دائمة. دولوز، باحث لا يكلّ من رغبة إبداع المفاهيم، والمنخرط في تشعب الفكر، قيل عنه بأنه من: «بين آخر الأجيال التي اغتالها تقريباً، تاريخ الفلسفة». فكيف، سيتخلص تقريباً من هكذا ورطة؟ متبنياً سبيلاً للهروب، شكل مشروعاً للحياة، استند على مبدأ: إلحاق الأذى بالبلاهة.
«لم أكن طفلاً، ذا قيمة»، هكذا يخبرنا دولوز عن نفسه، وهو المزداد سنة 1925، بين أحضان أسرة "غير متعلمة" تنتمي إلى  البورجوازية، لكنه سيلغي من ذاكرته منذ فترة مبكرة، هذه الأسرة: أخ، ذهبت به الحرب وأب يعتبر من ضحايا الأزمة.
اكتشف الفلسفة بين حجرات ثانوية "كارنو"، في باريس كانت وقتها محتلة. لقاؤه، مع المفاهيم: «خلق لديه، انبهاراً نحو شخصيات أخرى، تضمرها الحكاية». سارتر، الوجه البارز إبان فترة الحرب، أذهل دولوز بعمله "الوجود والعدم"(1943).
دولوز الشاب، المعفى من الحرب، أسس سنة 1946 مجلة "فضاء"، كي يجابه: «ملح الفكر النتن»، لكنها وقفت عند حدود العدد الأول. مع ذلك، بقي يحتفظ بهذا الطموح المتمثل في: أن يهب هواء منعش، على الفلسفة البالية.
وضع الفيلسوف لنفسه، برنامجاً لمباراة التبريز، فصار برجسون رفيق دربه. بعد، نيل المدرس الشاب للشهادة، سيبوح لنا عبر دروسه الأولى في ثانوية "أميانز"، قائلاً: «وأنا أستاذ، أريد أن أقدم الدرس، مثلما يصنع ديلن (Daylan) مع أغنية، فهو منتج مدهش، أكثر من كونه مؤلف. وبنفس طريقته، يبدأ الأمر فجأة، بقناعه التهريجي، وفن لكل جزئية مخطط لها، لكنها مرتجلة مع ذلك». دولوز، مدرس للروك أندرول، يمارس اللازمة الموسيقية كي يشرح مفهوم التموج.
انتقل إلى "أورليان"، مرتباً شعره بقبعته الأسطورية، ومستطرداً في دروسه، متكلماً عن الرياضة والجنس، بذلك يكسر دولوز عن المألوف. فهذا المدخن المتكلف، نظراً لحساسيته المفرطة، بأصابع ذات أظافر طويلة كمخالب، بهدف تناوله الواقع دون أن يتألم، ستتم ترقيته إلى ثانوية "لويس الكبير"، فوضع في قلب برنامجه، سؤالاً كالتالي: «ما معنى أن نؤسس؟»، موجهاً تلامذته كي يشاهدوا أفلام جيري لويس أو إيريك فان ستروهايم، وقراءة روايات الرعب.
الحكاية العاطفية، التي نسج خيوطها مع "فاني" (Fanny)، وقد ألقى بها صديقه ميشيل تورنيي، بين ذراعيه متوخياً أن تموّه عن عجزه حيال قضايا اليومي، توجه زواج سنة 1956. في نفس اللحظة، صار دولوز محاضراً في تاريخ الفلسفة بالسوربون، مع اعتقاد مفاده بأنه قبل التفكير بالأسلوب، ينبغي التمرن على: «اللون الأبله، ألوان أرضية غير لامعة أبداً» حيث: «يتحتم خلق بورتريهات، لفترة طويلة». غير أن، البورتريهات التي يموضعها هنا تقوم على قراءة مهرطقة للكلاسيكيات: «لكن طريقتي، للتخلص من هذه الحقبة، تجسدت في تمثلي لتاريخ الفلسفة، مثل نوع من اللواط، أو بمعنى ثان، تطهير المفهوم. أتخيل نفسي، وقد امتطيت ظهر الكاتب، فترتب عن الأمر طفلاً، سيكون مع ذلك مشوهاً».
بين سنوات 1960 و1964، انفصل دولوز عن المركز الوطني للبحث العلمي، ثم وهو مدرس في ليون (lyon)، سيواصل شتائمه، منكباً بين سنوات 1963 و1968، على نصوص نيتشه وكانط وبرجسون وسبينوزا.


2- ثورة فليكس غتاري:
نهاية سنوات1960، كان دولوز، قد صقل ما يكفي اللون الأبله، كي يأخذ ألوانه، وينخرط في أنطولوجيا حيوية مع كتابه "الاختلاف والتكرار"، أطروحته الجوهرية التي دافع عنها في السوربون، تزامناً مع سياق مناخ موبوء بعد ثورة 1968. دولوز، الذي كان يحظى بشهرة تفوق شهرة أعضاء اللجنة التي ناقشته، صرّح بأنه لم يصادف من قبل نظرة رئيس-يقصد رئيس اللجنة العلمية- منشغلاً كلياً بترصد منافذ للنجاة، نتيجة ترقبه المفزوع من اقتحام قد تقدم عليه الجماعات التي تجوب الكلية.
هكذا، تفحص دولوز أحداث ماي بحسن التفات، لكن دون انخراط كبير. في أفضل حالاته، خول لأطفاله كي يعلقوا لافتات وأعلام حمراء على شرفة المنزل. لكن الثورة، تمثلت بالنسبة إليه أكثر، في لحظة لقائه مع فيليكس غتاري، شريك على مستوى الكتابة، لكن كذلك كملاذ لانتشال ذاته من المرض، حيث كان وقتها يعاني من آثار استئصال إحدى رئتيه، وإدمانه على الكحول.
غتاري، مكتئب مفرط النشاط، محلل نفساني يشتغل في عيادة "لابورد" للأمراض العقلية والنفسانية، التي جاء تأسيسها بمثابة بديل عن "المستشفى الزجري"، كان قد أثار الانتباه نحو غنى مايكتبه، حين ألف وقتها دراسة عنونها بــ: "آلة وبنية"، مستعيداً مفاهيم جيل دولوز المتضمنة في كتابه "الاختلاف والتكرار".
خلال نفس الفترة، أنهى دولوز عمله "منطق المعنى"، الذي هيأ فلسفة للحدث انطلاقاً، من لويس كارول والرواقيين. ارتوى، من سرديات حول الجنون، مصدرها غتاري ولابورد ولاكان.
غتاري، لم يكن بالكاتب القوي، بيد أنه أمدّ دولوز بتجربته، وأغناها الأخير أسلوبياً، فتمازجت إبداعية الاثنين. أبقيا، على مسافة للصداقة إبان فترة علاقتهما، بحيث ظل يخاطب أحدهما الثاني بصيغة الجمع، ويظلان معاً لأيام في قصر"دويزون" و"سولون" حيث يقيم غتاري: «الذي كان بمثابة مكتشف للجواهر»، ودولوز نحاتاً لها. الأول، يبعث بنصوص تمهيدية، بينما يعيد الثاني الاشتغال عليها، فأثمر لقاؤهما المصاغ بأربعة أيادي عن تأليفهما: ضد أوديب. الصادر سنة 1972.
هذا العمل الناجح، بدا بمثابة نتاج خام لأجواء ثورة 1968. منظور ثوري، دشنته الكلمات التالية: «إنها تشتغل في كل مكان، تارة بلا توقف ومرة ثانية بشكل منفصل. تتنفس، تتدفأ، تأكل، تتغوط ، تقبِّل (…)، هي آليات في كل مكان». إذن، تجلى الطعن في التحليل النفسي من خلال أطروحة قامت على ثلاث تصورات :
1-   اللاوعي، ليس مشهداً مسرحياً يهتز معه "هاملت" و"أوديب"، بل هو مصنع لإنتاج الرغبة.
2-   الهذيان، لا يستند على "أبي-أمي"، لكن على العالم.
3-   الرغبة، لا تعبر عن حرمان، لكنها تعكس حيوية. 
اعتبر غتاري ودولوز، أن التحليل النفسي تبلور كي يمنع الناس من التكلم: «قل لي، بأنه أوديب وإلا صفعتك!»، موقف أدى إلى اختناق الفرويدين واللاكانيين. في المقابل، أثار حماسة روني جيرار وجان فرانسوا ليوتار وميشيل فوكو. هكذا، وضع فوكو مقدمة الطبعة الأمريكية لكتاب دولوز وغتاري. بدوره، انضم دولوز سنة 1970، إلى فريق الاستخبار عن السجون. وقد حظي فوكو بتقدير كبير لدى دولوز، بحيث سعى إلى تأبينه بعد وفاته، بمؤلف حمل عنوان: فوكو.
إن كان دولوز وفوكو، يمثلان النظرية الفرنسية، فإنهما يتباعدان بخصوص كيفية رؤيتهما لـ "الفلاسفة الجدد". استهزأ دولوز، من «مفاهيم خشنة، كأسنان نخرة» لـ غلوكسمان وبرنار هنري ليفي وكونسور، وكذا معاركهم السياسية. أيضاً، يسارية دولوز ومواقفه المؤيدة للفلسطينيين، ثم ابتهاجه بفوز ميتران سنة 1981، منظورات تختلف عن ما ينزع إليه فوكو.
من جهة أخرى، وفيما وراء التباعد التدريجي، يقوم خط للالتقاء يجمع بينهما: تشخيص حيثيات تحليق، حيال ماسماه دولوز بـ "مجتمعات التفتيش". ثم، مقابل آليات المراقبة والسلطة، تصور دولوز وغتاري نظاماً لإعادة توزيع المعنى، بالإنصات إلى تعدد معاني اللغات و"التحولات"، بحيث شرحاً هذا السياق في الجزء الثاني، من كتاب: "الرأسمالية والشيزوفرينيا" الذي انتهيا منه في أقل من عشر سنوات بعد دراستهما الأخرى "ضد- أوديب". ثم، سنة 1980، أصدرا: ألف هضبة (mille plateaux). سياق، حتم ترتيب الاحتفاء بهم.

3- نجم في مدينة فانسين:
كتابهما "ألف هضبة"، باعتباره التفاتة إعجاب بالمنتزه الوطني "ميلفاش" المتواجد في منطقة "ليموزان"، سينقل الفيلسوفان بالمطلق نحو عالم من الخرائط والمناظر وكذا خطوط الانفلات، مع ذلك، يظل دولوز مقيماً: «تظل أسفار المثقفين، تهريجاً». هذا المسافر، غير المتحرك، صاحب دراسة عن فن الترحال، انتمى إلى هيئة التدريس في "فانسين" منذ سنة 1970.
كانت الجامعة، تتوهج جدة تحت تأثير أفكار فوكو، ميلر، باليبار، باديو أو رانسيير…، يمزق بعضها البعض، غير أن دولوز نأى بنفسه عن هاته الخصومات الجماعية، وقد وجد ملاذاً في الصداقة التي نسجها مع  فرانسوا شاتلي (châtelet)، رئيس شعبة الفلسفة بفانسين.
منحت دروس دولوز، السعادة. كان يكررها، مثلما يراجع درساً. يشتغل على العرض، مترصداً "المهارة" التي تموضع إشكالاً ما: «مع غياب الانفعال، لن يكون هناك ذكاء». هكذا، نعاين موسيقيين ومهندسين وفنانين تشكيليين وأساتذة وأشخاص ينتمون إلى مستشفيات الأمراض النفسية ومتعاطين للمخدرات، جميعهم قدموا من أقاصي الأرض، كي يتقاسموا هاته اللحظات من التأثر: «لقد منحت فانسين هذا الشعب المتباين، وحدة». يحتشد حول الأستاذ الكبير، الذي يكره مع ذلك المنصات والمدرجات، حضور غزير يلتئم داخل قاعة يغطيها الدخان. يستيقظ بعضهم مع مطلع الفجر، قصد العثور على مقعد متميز، وأغلبهم يضع الآلات المسجلة.
غالباً، ما يقطع كلامه مناضلون أو زملاء له يتوخون مساجلته، لكن دولوز يستعيد ثانية كلامه برصانة. أما الطلبة، الذين يرفعون عقيرتهم بالدعوة إلى الإضراب، فإنه يرد عليهم برنته التي تغلب عليها الغنغنة، قائلاً: «نحن أيضاً مضربون، لكن طريقتنا في خوض الإضراب، تتمثل في الاشتغال حد العثور، على مفاهيم إجرائية من أجل نضالات ملتزمة».
دولوز، الذي يصارع بكل ما لديه قصد تفعيل فكرة: أن الفلسفة تتجه إلى الجميع، سواء الفلاسفة أو غيرهم، كان يخط مسالك تتجه به نحو الفن والتشكيل والأدب الأنجلو-أمريكي: «فلا يتوقف عن عرض هذه القطائع وتلك الشخصيات، التي تخلق مسارها الفالت». كتّاب غير معروفين، يثيرون شغفه، أمثال: ريستيف دولا بروتون، فيليي دو ليزل أدم، ليسكوف. بل، تسحره كل الأقليات.
دعوته إلى: «أن يحتفظ على التكلم، بلغته كأجنبي»، ويثير الاختلاف، ثم باعثاً لأشكال المقاومة، كان جوابه على سؤال: «ماهو الفعل الإبداعي؟»، لما طرح عليه بخصوص السينما. حقل تأملي، دشنه سنة 1981.  فقد صاحب، دولوز مجلة "دفاتر السينما"، مما مكنه من تغذية شغفه نحو فن الحركة هذا، بل ذهب به الأمر، حد الوقوف أمام كاميرا صديقه ميشيل روزير في فيلم: George qui?.
أصدر دولوز، في هذا الاطار، جزأين:الصورة-الحركة (1983) والصورة-الزمان (1985)، مبتكراً مفهوم "الفلسفة الشعبية"، كي يشير إلى ممارسته، سواء بترقيع مفهومي يمزج الموضوعات والسجلات، مرتكزاً على الكلاسيكيات، لكن من أجل مناقشتها دون مرجعية تقليدية.
سنة 1987، هبت طراوة هذا التيار الهوائي، على دروسه الأخيرة حول ليبنتز، فترتب عن السياق عمله: Le pli (طية)، مشيراً إلى رسائل ودية نحو ممارسي رياضة متزلجي الأمواج، المعتادين على طية الموجة، وكذا الحركة الفنية المعروفة بتلفيف الورق!.
بيد أن، مستقبل دولوز من انثنى للأسف، بحيث أرغم المرض بكل ما لديه: «الصحة الواهية»، لهذا الفيلسوف كي ينضم إلى سلالة المفكرين، سقيمي الصحة. والحال أن كراهيته للأطباء، لا يماثله إلا الشعور الذي يختبره وهو ينفذ من خرم الإبرة، فتنفسه الضيق جداً، لا يمكنه من التسجيل. يقول، بهذا الخصوص ساخراً: «إنهم غاضبون، يصعب عليهم تقبل ألا تتمكن منا أجهزتهم». ثم يستطرد: «وأنا، ملتصق بقارورة للأوكسجين، مثل كلب». فقد ظل دولوز، رهيناً لخدماتها كي يستعيد نَفَسه وإشكالياته.
آخر قضية، واجهها دولوز تحيل على سؤال: ماهي الفلسفة؟ الصادر سنة1991، بمشاركة غتاري صديقه الوفي، الذي توفي مباشرة  بعد ذلك. أما دولوز، فقد كان داء السل ينخر الشيخوخة السعيدة التي تطلع إليها. ذلك، "السن الرائع"، المفعم بسعادة "إدراك المبتغى"، حيث لم يعد يتعلق الأمر بأي شيء: غير أن تكون.
بدأ دولوز، يكابد نوبات من الاختناق، حرمته من أداة الفكر، وبالتالي عبقريته، يلازمه هاجس صديقه فرانسوا شاتلي، الذي ذهب به مرض السرطان بعد معاناة. غير أن دولوز، سيتحدى الإكراه مانحاً مسار انفلاته منتهى اندفاعه. إنه التحليق الفلسفي الأخير، متمرداً على الحتمية العضوية، التي نسقها مفكر عمل: "جسد بلا عضو": هكذا، حلق في الأعالي، ملقياً بنفسه من نافذة يوم 4 نوفمبر 1995.
 
4 – جيل دولوز والتزلج على الأمواج:
ذات يوم، اكتشف جيبوس دو سولتري، اهتمام دولوز برياضة السرف (surf). بعد ذلك، حين اشترك في تأسيس مجلة متخصصة في هذا النوع من الرياضة، اتصل بـ دولوز قصد إجراء حوار معه. هكذا، سيحكي لنا، عن العلاقة التي جمعته بفيلسوف، منفتح بالتأكيد على نحو كبير.

اللقاء، شيء ينثني، ينتشر، يسافر ويحقق طفرة في حينه. لقد كان دولوز، أولاً وقبل كل شيء، صوتاً منشداً لمقطع من نيتشه على أسطوانة لفريق الروك الغنائي "هيلدون" [يرأسه ريشار بنحاس]، الذي كنت أستمع له سنة 1975، حقبة اجتيازي الباكلوريا.
ما إن بلغت سن  الثامنة عشر، حتى قررت  الذهاب  وحيداً، مسافراً عبر وسيلة توقيف السيارات على الطرقات، ونقلي مجاناً، وأيضا كعنصر ضمن تشكيلة فريق بواخر، تجوب العالم. لم أكن أنوي وجهة محددة، وحدها الظروف حددت تنقلاتي. بعد سنتين، رجعت بعد أن بلغت هدفي.
كنت طالباً عصامياً، أحضر دروس دولوز كل يوم ثلاثاء في "فانسين"، حيث تطرقت مفاهيمه إلى الفضاء اللانهائي، والفضاء المضلع والسرعة ورحّال الصحراء. سنوات بعد ذلك وبالضبط عام 1985، قرأت حواراً طويلاً مع دولوز، استحضر معه التحول الذي عرفته بعض الأنواع الرياضية، وذكر على الخصوص، التزلج على الأمواج. هذا: «الاختراق لموجة، موجودة قبلاً»، مضيفاً: «كيف يحدث، أن نصير في خضم حركة موجة كبيرة، ثم "نأتي بينها"، عوض أن نكون علة لمجهود. إنها، مسألة جوهرية». فأنا ممارس لرياضة التزلج على الأمواج، بالتالي، تبين لي على نحو مدهش صواب تحليل دولوز.
السرف (Surf)، ليس معناه أن تقف متماسكاً على نحو متوازن فوق لوحة، بل أساساً ولوجك موجة ما، خلال اللحظة المناسبة. ولأني، كنت مساهماً في إصدار مجلة تنصب على حيثيات هاته الرياضة، فقد اتصلت به كي أجري معه، مقابلة صحافية. لم يستجب، غير أننا بقينا نتبادل الرسائل. حصلت له على مقاعد، كي يذهب لرؤية أفلام ليالي التزلج بالقاعة السينمائية الباريسية "ريكس"، فأجابني: «يوجد بالتأكيد في هذا الإطار، تمازج جديد جداً لـ مادة-حركة. لكن، هناك كذلك طريقة أخرى في التفكير، أنا متيقن أن الفلسفة معنية بها». بل، خلال مرة، استضافني دولوز في منزله، فتحدثنا عن السفر ورياضة تزلج الأمواج، ثم أخبرني عن نقص معلوماته على هذا المستوى…، وكذا طموحه نحو مواصلته التطرق إلى السرف (Surf)،عبر نصوصه، مثل:
  الطية (le pli)، ماهي الفلسفة؟ (qu'est ce que la philosophie?) أو الفيلم التلفزيوني  "l abécédaire" (الأبجدي) [الذي تابع، أهم التيمات الفكرية لـ دولوز]
سنة 1992، أبرق لي دولوز الرسالة التالية: «صديقي العزيز، ليست صحتي على مايرام، لقد غادرت المستشفى، وأجد صعوبة كبيرة في القراءة. مع ذلك، غمرتني سعادة كبيرة وأنا أطلع على أخباركم وكذا مسودتكم -يتعلق الأمر بمؤلفي عن "معرفة الحركة"- طبعاً، عجزت عن الإلمام بتضميناته، لكن رغم ذلك يبدو لي، أننا نحتاج إلى عمل كهذا، وأنتم وحدكم أجدر بإنجازه». بصرف النظر، عن كون هذا الكلام اعتراف نفيس جداً في حق متزلج على الأمواج، فالرسالة تعكس بشكل لا لبس فيه دلالة الفلسفة عند دولوز، لا سيما حين قوله: «إن البقاء في إطار الفلسفة، هو أيضاً كيفية الخروج منها». لقد أدرك، كيفية اقتباس مادته التأملية من غير الفلاسفة، لدى الكتاب والموسيقيين والسينمائيين ثم متزلجي الأمواج، الذين سيثير عندهم في المقابل، الإبداعية.
هكذا، فيما يخص قضية الإيقاع الضروري عند متزلجي الأمواج، لازلت أستلهم نصه المعنون بـ "أسبح"،عندما يقول: «هناك تماثل بين الأمواج والعلاقات الغرامية…، أتحاشى الموجة التي تقترب أو على النقيض أضمها. أندفع، فأنا عارف بالسباحة وكذا التحليق…، مرة تصفعني الموجة ومرة تحتويني…، ينتابك فعلاً، إحساس غريب مفعم بالسعادة…، إنه نوع من دلالة الإيقاع والتناغم».
حقاً هو سياق رائع، البارحة كاليوم، أن تلتقي دولوز وتستمع إليه.

5- نظام دولوز المفهومي:
  أدرك دولوز، الكائن باعتباره صيرورة، والرغبة مثل خلق ثان، متصدياً لكل ما يحول دون انبثاق جديد. في بعده الميتافيزيقي والسياسي، دعانا فكر دولوز، كي نختبر ممكنات جديدة.

- الإبداع: فترة قليلة بعد إصداره لجزئين من دراسته عن السينما، ألقى دولوز محاضرة في الهيئة الأوروبية لمهن الصورة والصوت، تحت عنوان "ماهو الفعل الإبداعي؟". سؤال، جوهري في نظره، يحيل على تساؤل آخر متعلق بماهية الفكرة التالية: «مامعنى أن تكون لنا فكرة عن السينما؟ إذا أردنا الاشتغال عليها، ثم ماذا يعني تشكيل فكرة بهذا الخصوص؟ وماذا يحدث عندما تقول "طيب، لدي فكرة؟"». فأن تكون لك هاته الفكرة، يضيف دولوز، ليست حكرا على الفلسفة: «إننا لا نمتلك فكرة عامة. فكرة -تماماً كصاحبها- مكرسة سابقاً لهذا الحقل أو ذاك». منظور، يدل على أن كل ممارسة لها تصوراتها وبروتوكولاتها الخاصة، من أجل تفعيل تطويرها. ليس فقط الفلسفة، لكن أيضاً السينما والآداب والعلوم، إلخ. مع ذلك، ليست هاته الحقول شيئا معطى، قائماً بكيفية سابقة على الشروع في الممارسة، بل، يتحتم علينا اكتشافها بإبداعها: تبلور السينما صوراً، تجعل  العالم فريداً. الفن، لاسيما التشكيل، يفرط في كيفيات جديدة على مستوى الإدراك والإحساس. أما العلم، فيبتكر أدوات للمعرفة ووظائف مستجدة للحقيقة. في حين الفلسفة، تبقى الحقل النوعي بامتياز حسب دولوز، باعتباره: «النشاط الذي يخلق المفاهيم» بناء على تعريفه الشهير للفلسفة. لكنها مفاهيم، غير تلك المتعلقة بالإشهار أو الماركتينغ. إنها، سبل عملية تتوخى معانقة الواقع في تعدديته، ثم نرصد في إطاره ونلتقط، العناصر اللا-متجانسة، التي تفتح ممكنات نحو مغامرات فكرية لانهائية.

- الرغبة:
خلال سنوات السبعينات، كان النجاح الذي حققته مبيعات كتاب "ضد أوديب" المشترك بين دولوز وغيتاري، منبعاً لكثير من سوء الفهم، همت إحداها، قضية الرغبة. هكذا، طور دولوز وغيتاري، فكراً للرغبة، استمات في إظهارها بمثابة قوة "ثورية". ينمي المجتمع بسلطه المتعددة «الدولة، الأشكال الاقتصادية والاجتماعية للرأسمالية، إلخ»، استراتجيات متعددة كي يزيل مفعولها. لذلك، ابتغى الكاتبان: «إدخال الرغبة في الميكانيزم، والإنتاج ضمن إطار الرغبة». خلال تلك الفترة، رأى بعض المنتقصين من هذا الفهم، تحويلاً عن الفرويدية –الماركسية الذائعة الصيت، وتأشيرة تمنح لتحرير الاندفاعات. لقد اصطف دولوز وغتاري، حسب آلان باديو، ضمن زمرة "الراغبين - الفوضويين"، لكنه تأويل غير صحيح. فمن بين أكبر أساتذة دولوز، وأكثرهم أهمية، سنجد حتماً سبينوزا. بحيث، شكلت فلسفة الرغبة عند المفكر الهولندي، مصدراً أساسياً لفلسفته. بناء على هذا، حاول دولوز ومعه غتاري، العثور ثانية في الرغبة على قوتها الإبداعية، لأنها لا تحيل على اندفاعات جنسية أو تطلعات فردية، ولا تتعقب الملذات عبثاً. الرغبة، التي هي في الآن ذاته، ميتافيزيقية وجماعية،تعين هذا المسار، الذي تتجاوز عبره الذات نفسها، وتتموضع وفق تدفقات أخرى للكثافة، ثم تجد نفسها مأخوذة ضمن تجريب ممكنات جديدة للحياة.

 -الصيرورة(ات):
بجانب سبينوزا، كرس دولوز جل نصوصه إلى نيتشه، مستلهما خاصة من متنه، فكرة العود الأبدي. ففي كتابه "نيتشه والفيلسوف"، الذي كسر صدوره  صمتاً طويلاً، تلا عمله الأول "التجريبية والذاتية" المكرس لـ هيوم، سيقترح دولوز في هذا السياق قراءة جديدة. العود الأبدي، لم يعد يعني نفس المنحى، مثلما نظن ذلك غالباً، لكنه العود الأبدي للاختلاف: «إنه ليس بديمومة للشيء نفسه، ولا حالة التوازن أو الاستمرار الهوياتي. مع العود الأبدي، لا يعود الشيء، لكنه يقال فقط عن ما يتعدد وما يختلف». بيد أن اعتبار، العود الأبدي بمثابة حظ جديد، وإمكانية مفتوحة أمام كل شيء نحو التغير، تستتبعه كذلك نتائج، فيما يخص فكرة الوجود. دولوز، على منوال نيتشه تماماً، غير معتقد بفكرة الكائن بل يرى فيه مجرد فكرة لفلاسفة، عاجزين عن تبصر الكيفية التي لا تتوقف فيها الأشياء، عن التحول ثم اختلافها في تكرارها. لذلك، بدل الحديث عن الكائن يفضل دولوز "الصيرورة" بل "الصيرورات" بالجمع. مفهوم، يشير قاموسه إلى الخطوط المرسومة عبر سلسلة تحولات متفردة، يستمر كل كائن في تجريبها، فالذي أخذته مثلاً "صيرورة- حيوان"، لا يحاكي بدقة، الحيوان المقصود بالأمر، لكنه بالأحرى يلج معه منطقة "التجاور" أو "اللا-تميز". أيضاً، يتحدث دولوز عن "الصيرورة-المرأة" و"الصيرورة-غير المدركة" أو "الصيرورة-الجنون"، إلخ. وإذا كان من "وجود"، فليس الأخير غير سلسلة التحولات المتواصلة: لا هوية جامدة، لا ذات سرمدية، لا ماهية مطلقة، بوسعها التكفل به، كل شيء دائم الصيرورة.

 -التحليل النفسي:
مثل جميع فلاسفة جيله، استحضر دولوز دائماً التحليل النفسي. اهتمام تحول مع مرور السنين إلى انخراط بلا تحفظ تقريباً، جعله ينتقل من الاحتراس إلى النقد الصارم، تحت تأثير فيليكس غتاري. جاء بين طيات حواراته مع كلير بارني، أن إشكالية التحليل النفسي مزدوجة: «يكسر في نفس الآن كل نتاجات الرغبة، ومختلف تشكلات التعابير»، فخلف المشروع العلمي لتفسير اللاوعي، يختفي حقيقة خطاب للتنميط، مقترحاً فقط شرطة للرغبة واللغة. هاته الشرطة، حسب دولوز تتعلق بـ "العوز". بالتالي، يحدد التحليل النفسي الذات، بهذا العوز الذي يشكل محركاً للرغبة، والأخيرة تبقى مفعولاً له. تصور كهذا لدى دولوز، يتجاهل في الوقت ذاته أن الرغبة ليست معطاة لكنها نتاج، وبأنه إذا كانت هناك ذات فإنها ليست مأموراً للرغبة، لكنها منتجة لها. إجمالاً، لم ينتبه التحليل النفسي إلى دروس نيتشه وسبينوزا، المتعلقة بانتفاء الكينونة [إذن الذات]، بل لا توجد إلاّ صيرورات. إذن، الرغبة ليست جوهراً، لكنها آلة.

 -السياسة:
جرت محاولات كثيرة، لمخاصمة دولوز بالسياسة. لا يبدو، من الوهلة الأولى، أن السياسة تشكل قسماً مهما ضمن مشروعه: لا نعثر عن قراءة لـ ماركس، أو خطاب حول المضطهد ولا منظور للانعتاق. لكن مع ذلك، نقف لديه على بلاغة لـ "الثورة". بالنسبة لليبراليين، فقد كانت الأخيرة غير محتملة، مثلما هو رفضه لحقوق الإنسان كإيديولوجية مجردة وجوفاء. أما، في جهة الراديكاليين، فيظهر بأن صمته بل ازدراءه المعلن لـ"الانتهاك"، يثير نحوه أشكال الإدانة. مع هذا، توجد لدى دولوز سياسة أصيلة بعمق، نعتها فرانسوا زورا بيشفيلي (1965-2006)، أحد المختصين في فكره بــ: اللا-إرادية. فخلافاً، لإرادية الثوريين الراديكاليين أو إصلاحية الليبراليين، تبنى دولوز وضعاً شبيهاً بمذهب "الزن" (Zen) الصيني، لأن ما يهمه، ليس قضية التنظيم السياسي، ولا جهاز الدولة أو العنف الرمزي للقانون، لكن إمكانية التخلص من كل هذا. يتعلق تصوره، بمجابهة التجمعات الكبرى [الكتلوية] كما الشأن مثلاً مع الدولة أو المجتمع، انطلاقاً من ممارسات تشتغل [جزيئياً أو ذرياً]، قصد الانفلات أو القدرة على  المناوشة. مثلاً، يشكل القضاء استراتجيه "جزيئية"، تسمح للقضاة بالتخلص من النظام "الكتلوي" الجامد للقانون. السياسة، عند دولوز، هي سياسة مرتكزات للخصوصية [الفردية والجماعية]. تطور، صيرورة "أقلية" أو "سرية"، تتمكن جراء ذلك من الالتفاف على النظام القائم.

 - الواقعة:
على امتداد التقليد الفلسفي الغربي، اتخذت الواقعة دائما شكلاً مدوياً: حدث مفاجئ، وسط سماء هادئة، مثلاً، تحول القديس بول أو الثورة الفرنسية. تصور، بالنسبة إلى دولوز، يتعلق بتقويم سيئ، معتبراً أن الجلجلة والقطيعة أو التقويض، تبقى مجرد أوهام، فلا يمكننا تحطيم وتهشيم أو تكسير العالم، لكن هذا لا يعني أن العالم لا يعيش واقعة إلاّ خارجياً، مثل كثير من الطوارئ التي تهز سطحه، دون أن تقلب أوضاعه. كل أصالة فكرة الواقعة لدى دولوز، تدرك على النقيض، الانقلاب الكلي لكن بغير صخب، وليبنتز من وضعه ضمن هذا الإطار. مؤلف دولوز المعنون بـ "le pli" (الطية)، المخصص لـ ليبنتز، وصف الواقعة الطارئة باعتبارها طية جديدة في نسيج العالم. نسيج، منجهته، يبقى متماثلاً. ليست الواقعة بالفرقعة، التي تدخل بالقوة شيئاً جديداً في العالم، بل طريقة من أجل طي بكيفية ثانية، ما هو موجود أصلاً. بهذا المعنى، كل الوقائع متماثلة، وكل ما يصير فهو واقعة، لذلك كتب في عمله "منطق المعنى": «لاتوجد إلا واقعة واحدة، وهي نفسها».

 -الملازمة:
إن تاريخ الفلسفة، استقصاء في فكرة "المتسامي"، التي اعتبرت بأنها قد أخذت شكل"التعالي". ماذا يعني هذا؟ أن بعض الأشياء، أعظم بكثير مقارنة مع أخرى: الله، الفكرة، إلخ. لكن، دولوز الذي يقتفي أيضاً بهذا الخصوص أثر نيتشه، يؤكد بأن التماس التعالي قد أنهك الفلسفة، دون أن يقترح عليها شيئاً آخر غير بروتوكول للحكم. فاستناداً إلى الله أو الأفكار، أمكن الفلسفة رؤية العالم والأشخاص من أعلى، كي تمنح كل واحد منهم قيمة تعود إليها فقط: نظرة، تشرف من أعلى، تنطوي حسب دولوز على بعد "مقزز"، مفضلاً عنها تقويماً، ينتشر في إطار مثولية، تتموضع وفق نفس مستوى الأشياء، ثم تنبثق عنها: «ينبغي الخلق، وليس إصدار أحكام. إذا، كان منفّراً، إبداء حكم، فليس لأن كل شيء يمتلك قيمة. بل، على النقيض، كل شيء له قيمة، لا يمكنه أن يتبلور ويتميز إلا بتصديه للتقييم». إذن، عوض فلسفة مستندة على الحكم، وضع دولوز فكراً متمحوراً على الإبداع والخلق والابتكار. أن تفضل هذه الفلسفة المحايثة على التعالي، سنصل إلى النتيجة الضرورية: الأشياء ذاتها، هي التي يلزمها بعث قيمتها الخاصة بها.



المصدر:
للاطلاع على النص في لغته الأصلية، يرجى الرجوع إلى :
Philosophiemagazine; numéro 61;  été 2012 pp 81-91


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق